الكاتب : سماح غرسلي
صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستار صحافة استقصائية بجامعة منوبة
“في يوم ما قد نُسجن بسبب تراكم الديون نتيجة تواصل طلب قروض من البنوك أو أخذ سلفة من المقرّبين والأصدقاء بهدف تجهيز مراكبنا وتهيئتها تحضيرا لموسم صيد التنّ الأحمر”.
بهذه العبارات التي تنمّ عن هواجس في علاقة بالمستقبل، تحدّث عبد القادر النقبي، وهو واحد من بحّارة منطقة طبلبة الساحليّة من محافظة المنستير ( تبعد 170 كلم عن العاصمة تونس) إلى موقع الكتيبة، منبّها من خطورة ما أسماه “السرطان الذي ينخر قطاع التنّ الأحمر بسبب المنظومة الفاسدة التي أحكمت قبضتها على هذا المجال منذ عقود من الزمن”.
يضيف النقبي والغضب يسيطر على ملامح وجهه متحسّرا على الحالة الكارثية التي أصبحت عليها بعض مراكب البحّارة لعدم توفر الإمكانات لإعادة تهيئتها قائلا:
“أفلس البعض والبعض الآخر على حافة الإفلاس وأُجبر البعض الآخر على بيع ممتلكاتهم أو رهن عقاراتهم من أجل تسديد ديونهم. وإلى حدّ اللحظة، لا نعلم مصيرنا خاصّة أنّنا نمتهن الصيد منذ سنوات وقد ورثنا هذه المهنة عن آبائنا. إلاّ أنّ الوضع أصبح لا يُحتمل نتيجة سياسة التسويف والمماطلة التي تنتهجها الدولة في عدم فتح ملف صيد التنّ الأحمر بجديّة”.
وأردف المتحدّث ذاته بالقول: “للأسف نحن على يقين أنّ حصص صيد التنّ الأحمر تمنح دائما لأفراد دون غيرهم حيث يحرم العديد من البحّارة الصغار من حقّهم في التمتع بحصص صيد. من المحزن أنّه لا مفر من السجن إن تجرّأ أحدنا واصطاد ولو سمكة تنّ واحدة حتى عن غير قصد نظرا لأنّ القانون يمنع ذلك”.
الكاتب : سماح غرسلي
صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستار صحافة استقصائية بجامعة منوبة
“في يوم ما قد نُسجن بسبب تراكم الديون نتيجة تواصل طلب قروض من البنوك أو أخذ سلفة من المقرّبين والأصدقاء بهدف تجهيز مراكبنا وتهيئتها تحضيرا لموسم صيد التنّ الأحمر”.
بهذه العبارات التي تنمّ عن هواجس في علاقة بالمستقبل، تحدّث عبد القادر النقبي، وهو واحد من بحّارة منطقة طبلبة الساحليّة من محافظة المنستير ( تبعد 170 كلم عن العاصمة تونس) إلى موقع الكتيبة، منبّها من خطورة ما أسماه “السرطان الذي ينخر قطاع التنّ الأحمر بسبب المنظومة الفاسدة التي أحكمت قبضتها على هذا المجال منذ عقود من الزمن”.
يضيف النقبي والغضب يسيطر على ملامح وجهه متحسّرا على الحالة الكارثية التي أصبحت عليها بعض مراكب البحّارة لعدم توفر الإمكانيات لإعادة تهيئتها قائلا:
“أفلس البعض والبعض الآخر على حافة الإفلاس وأُجبر البعض الآخر على بيع ممتلكاتهم أو رهن عقاراتهم من أجل تسديد ديونهم. وإلى حدّ اللحظة، لا نعلم مصيرنا خاصّة أنّنا نمتهن الصيد منذ سنوات وقد ورثنا هذه المهنة عن آبائنا. إلاّ أنّ الوضع أصبح لا يُحتمل نتيجة سياسة التسويف والمماطلة التي تنتهجها الدولة في عدم فتح ملف صيد التنّ الأحمر بجديّة”.
وأردف المتحدّث ذاته بالقول: “للأسف نحن على يقين أنّ حصص صيد التنّ الأحمر تمنح دائما لأفراد دون غيرهم حيث يحرم العديد من البحّارة الصغار من حقّهم في التمتع بحصص صيد. من المحزن أنّه لا مفر من السجن إن تجرّأ أحدنا واصطاد ولو سمكة تنّ واحدة حتى عن غير قصد نظرا لأنّ القانون يمنع ذلك”.
على الرغم من الوقفات الاحتجاجية العديدة التي نظّمها صغار البحّارة دفاعا عن الشفافية والإنصاف في هذا القطاع الريعي الذي تهيمن عليه عائلات بعينها من فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987-2011)، فإنّ ملف صيد وتسمين وتصدير التنّ الأحمر ظلّ واحدا من المحرّمات التي سنحاول البحث في كواليسها في هذا التحقيق من خلال محاولة سبر أغوار المنظومة المهيمنة على القطاع وتحديد مواطن الخلل والمسؤولين عنه لا سيّما في مؤسسات الدولة التونسيّة التي لا تستفيد بشكل جليّ من عائدات هذا القطاع كما هو الحال بالنسبة للمواطن التونسي الذي لا يستفيد هو الآخر من هذه الثروة البحريّة التي تصدّر تقريبا بشكل كلّي إلى الخارج بوصفها من أجود الأنواع في حين تستورد مصانع تعليب التنّ الموزّع في السوق المحلّية أنواعا محدودة الجودة لتعليبها وبيعها في تونس.
قطاع ريعي تكتنفه منظومة غامضة
منذ قرون من الزّمن، وحتّى قبل بناء دولة الاستقلال، استفادت تونس من موقعها الجغرافي المتوسّطي لتكون بذلك واحدة من أهمّ البلدان التي يتمّ فيها صيد التنّ الأحمر.
من خلال النّبش في الأرشيف، نتبيّن أنّ سنة 1997 كانت مفصليّة في علاقة بتاريخ صيد التنّ الأحمر في البلاد التونسيّة حيث انضمّت تونس خلال هذا العام إلى باقي الدول المنضوية تحت المنظمة الدّولية لصون التنيّات “الايكات“.
تهتمّ هذه المنظّمة بالتصرّف في مخزونات التنّ الأحمر في المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسّط وبإقرار التوصيات الهادفة إلى المحافظة عليها وتحديد حصص الدول المتعاقدة، فضلا عن تحديد مجهود الصيد الأمثل وضبط طرق المراقبة بمناطق الصيد وطرق استغلال الثروات من التنّ الأحمر.
منذ ذلك العام، أضحت السّلطات التونسيّة تنظم عملية صيد التنّ الأحمر وفق ضوابط المنظمة الآنف ذكرها والتي بدورها توزّع الحصص (الكوتا) بين الدّول المنضوية.
تجدر الإشارة إلى أنّ حصّة تونس كانت في حدود سنة 1999 تقدّر بـ2326 طنّا. وقد سجّل هذا الرقم ارتفاعا مطّردا ليبلغ حاليّا 3000 طنّا سنويّا.
مع العلم أنّ حصّة تونس من صيد التنّ الأحمر التي تمنحها “الايكات” سجّلت تراجعا ملحوظا بين سنتي 2011 و 2014 على وجه الخصوص حيث كانت تقدّر بما يعادل 1100 طنّا سنويّا نظرا لما تمّ تسجيله من أشكال للصيد العشوائي واستنزاف لهذه الثورة البحريّة من قبل الصيّادين ممّا تسبّب في توجيه توبيخ رسمي للسلطات التونسيّة.
يصنّف التنّ الأحمر في خانة الأسماك التي تدخل من المحيط الأطلسي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط للتكاثر في المناطق الدافئة (خليج قابس مثالا)، لاسيّما خلال الفترة الممتدّة بين أواخر فصل الربيع وبدايات فصل الصيف. وتُعرف هذه الأسماك بجودتها العالية سواء من حيث المذاق والقيمة الغذائية الغنيّة بالبروتينات لذلك تفضّل على التنّ الأبيض الذي يبقى عادة في المحيطات.
وتعدّ اليابان من أكثر البلدان على الصّعيد الدولي التي تقوم بتوريد أكبر الكمّيات من التنّ الأحمر بأسعار مغرية والذي يستعمل للأكل وفق عاداتهم الغذائية الأكثر شيوعا.
وينتظم عادة موسم صيد التنّ الأحمر في تونس خلال الفترة الممتدة بين 26 ماي/ أيار و غرّة جويليّة/ تمّوز. وأحيانا يتمّ التمديد في هذه الفترة بـ حوالي 10 أيّام، ويتطلّب الأمر ترخيصا استثنائيا لمواصلة الصيد في حال وجود عوائق مناخية خلال المدّة الأولى.
وقد بلغت التقديرات حول قيمة صادرات تونس من التنّ الأحمر خلال سنة 2023 ما يقارب 167.5 مليون دينار، وفق ما جاء على لسان المكلّف بمهمّة بديوان وزارة الفلاحة والصيد البحري في تونس ياسين اسكندراني خلال ندوة صحفيّة وذلك إجابة على سؤال كان قد توجّه به إليه موقع الكتيبة.
وقد أوضح نفس المصدر أنّ سعر الكلغ الواحد من التنّ الأحمر الموجّه كلّيا للتصدير بلغ 43 دينارا في سنة 2023.
وعلى الرغم من الارتفاع المسجّل في حصّة تونس السنوية لصيد التنّ الأحمر (3000 طنّ حاليا)، فإنّ الصّراع المحموم بين صغار البحّارة ومن يسمّون بالريعيّين المحتكرين للقطاع منذ عقود، مازال متواصلا حيث لم تشفع لاحتواء الأزمة الإجراءات التي تمّ اتخاذها بغرض توسيع قاعدة المنتفعين من الرخص في سنتي 2018 و 2019 خلال فترة إشراف سمير الطيب على وزارة الفلاحة.
في هذا الإطار، جدير بالذكر أنّ منظمة “الايكات” (ICCAT) كانت قد قامت خلال تلك الفترة بالترفيع في حصّة تونس ما سمح للوزارة بمنح رخص جديدة بلغ عددها 20 رخصة وذلك إثر مفاوضات عسيرة مع الفاعلين في القطاع وهياكل المهنة، تقرّر توزيعها بشكل تدريجي على امتداد 3 سنوات عبر نظام القرعة الذي عمّق الأزمة.
تضمّن هذا القرار الآنف ذكره وقتها، شرط تمتيع 4 مراكب شريكة لكلّ متحصّل على رخصة جديدة بجزء من المداخيل من صيد التنّ تقدّر بـ 10% لكلّ مركب، وبالتالي كلّ صاحب حصّة لصيد التنّ الأحمر حينها أصبح ملزما بدفع 40% من المرابيح لأصحاب المراكب غير المنتفعين من نظام القُرعة.
في الواقع، هذا الالتزام بقي حبرا على ورق، حيث عمّق الأزمة وأطلق العنان لحالة من الاحتقان صلب القطاع تجلّت خاصة في وقفات احتجاجية وعرائض والالتجاء إلى القضاء من أجل تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه.
يقرّ الوزير السابق للفلاحة والصيد البحري محمود الياس حمزة في مارس/ آذا2022 خلال جلسة عقدت تحت شعار تقييم الأداء والتنسيق لإحكام التصرف المستدام في المصائد السمكيّة بوجود ما أسماها “نقائص وإشكالات تعاني منها خطّة التصرّف في منظومة التنّ الأحمر”.
فضلا عن ذلك، شدّد الوزير حمزة على ضرورة “إدخال تعديلات على هذه المنظومة بصفة تشاركية مع جميع الأطراف وفق الاتفاقيات والقوانين الدولية في إطار رؤية شاملة يستفيد منها القطاع”، ما يؤكد حالة التخبّط السياسي وغياب رؤية إصلاحيّة مستدامة في إدارة هذا الملف المعقّد من قبل سلطة الإشراف، وهو ما جاء أيضا على لسان المكلّف بمهمة لدى ديوان وزارة الفلاحة ياسين اسكندراني بتاريخ 4 ماي/ أيار 2024 الذي صرّح قائلا:
ملفّ رخص سنة 2018 و2019 أثار عديد القضايا ونحن نرى أنّ هذه المقاربة لم تعد تستقيم بسبب تعدّد الشكاوى المرفوعة للقضاء بين البحّارة أنفسهم. والوزارة قطعت مع مثل هذه المقترحات وهي بصدد انتهاج سياسة جديدة.
المكلّف بمهمة لدى ديوان وزارة الفلاحة ياسين اسكندراني
على الرّغم من تعاقب عديد الوزراء على سلطة الإشراف على هذا القطاع في السنوات التي تلت الثورة في تونس سواء قبل أو بعد 25 جويلية/ تمّوز 2021، فإنّ غياب الشفافيّة وسوء الحوكمة ومظاهر التظلّم والاحتجاج مازالت تكتنف ملفّ صيد التنّ الأحمر في وزارة الفلاحة التونسيّة.
في وثيقة تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منها وتسنّى لهيئة التحرير التثبت من صحّتها، قام عدد من البحّارة ومجهّزي المراكب بتوجيه رسالة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتاريخ يوم 5 ماي/ أيار 2024، معربين عن غضبهم ممّا أسموه “حجم الفساد والالتفاف على رخص صيد التنّ الأحمر وحصصها وذلك بالتزوير والتهديد واستغلال النفوذ وتضارب المصالح”، محذّرين من خطورة ما اعتبروه “عمليّة سطو رخيصة ومقنّنة على استحقاقات شريحة ضعيفة من مجهّزي قطاع صيد التنّ الأحمر وعمّالهم لصالح أصحاب نفوذ بقرارات جديدة على مقاسهم تمكّنهم من الاستيلاء على حقوق الضعفاء بالتعسف على الدستور والقانون وبالمغالطات وفرض شروط خارج الموضوعية العادلة للعمليّة الانتاجيّة يستفيد منها الدخلاء على قطاع الصيد البحري بفضل نفوذهم”، وفق ما جاء في نصّ الرسالة الموجّهة إلى مؤسّسة رئاسة الجمهورية.
بتاريخ 2 ماي/ أيار 2024، وصف الخبير في الصّيد البحري نوفل حدّاد (موظف سابق لدى وزارة الفلاحة يعمل حاليا في القطاع الخاص) في لقاء تلفزي قرارات سلطة الإشراف بـ”المسقطة” و”التعسّفية”، معتبرا أنّها خلّفت أضرارا مازال يعاني منها البحّارة ومجهّزو المراكب.
بدوره، قال عضو المجلس المركزي للصيد البحري التابع للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أشرف الهمّامي لراديو ديوان إف إم بتاريخ 26 ماي/ أيار 2023 ، إنّ كلّ القرارات التي تهمّ قطاع صيد التنّ الأحمر تصدر عن المركز، ما عمّق الهوّة بين من يصدر القرار والمطالب بتطبيقه، مندّدا بتغييب الاتحاد عن عمليّات توزيع حصص التنّ الأحمر لسنة 2023 وعدم الإيفاء بالتعهدات المتّفق عليها سابقا لتوسيع حلقة الانتفاع التي اقتصرت على أفراد دون غيرهم وأن صغار البحارة تضرّروا من هذه المنظومة وسوء التصرّف في تسييرها.
هذه التصريحات الهجومية والاتهامات المتبادلة بين مختلف الأطراف والهياكل المعنيّة بالقطاع، تؤكّد بشكل لا مراء فيه أنّ نظام الرّخص الذي تمّ تكريسه طيلة عقود يعتريه الغموض وغياب الشفافية والعدل والانصاف رغم كلّ ما يتمّ التسويق إليه في الخطاب الإعلامي الرسمي عن بداية تفكيك المنظومة وبناء أسس جديدة تقطع مع الرّيع واللوبيات التي تمثّله، وذلك وفق خبراء مستقلّين إلتقى بهم موقع الكتيبة ضمن هذا التحقيق.
منذ ما يزيد عن سنة، أنجزت منظمة “آلرت” لمقاومة اقتصاد الريع (منظمة شبابيّة غير حكوميّة) بحثا ميدانيّا حول قطاع التنّ الأحمر في تونس.
يقول عضو المنظّمة حسام سعد انطلاقا من نتائج هذا البحث الميداني، في حوار لموقع الكتيبة، إنّ قطاع صيد التنّ الأحمر هو “قطاع ريعي بإمتياز لأنّه يخضع لنظام الرّخص كغيره من قطاعات أخرى تعتبر نموذجا للريع في تونس”.
ظاهرة الاحتكار في قطاع التنّ الأحمر تفاقمت بعد أن تمّ التفويت في رخص الصّيد ومراكب صيد التنّ الأحمر المصادرة لفائدة أشخاص لهم نفوذ في الدولة وقد زاد الوضع سوءا خلال فترة حكومة يوسف الشاهد عندما تحسنّ مخزون صيد التن الأحمر وقامت المنظّمة الدوليّة لصون التنيات بالترفيع في حصّة تونس.
عضو منظمة “آلرت” حسام سعد
وقد دعا حسام سعد إلى ضرورة “توزيع هذه الثروة بطريقة عادلة والتفكير بجدّية في الاقتصاد التّونسي وتحصيل موارد مهمّة من صيد الذهب الأحمر”، فضلا عن ضرورة “الكشف عن عائدات هذا القطاع المعدّ للتصدير بنسبة 100% و المقتصر على أشخاص محتكرين للقطاع.”
صيد التنّ الأحمر قطاع ريعي لأنّه محكوم برخص، و في تونس إذا تمّ القبض عليك وبحوزتك سمكة تنّ أحمر ستسجن وكأنك تحمل المخدّرات.
عضو منظمة “آلرت” حسام سعد
في نفس السياق، يشدّد حسام سعد على أنّ أغلب الأشخاص الذين يسيطرون على قطاع التنّ الأحمر صيدا و تسمينا وتصديرا يسيطرون على قطاعات مهمّة أخرى في الاقتصاد الريعي في تونس.
فماذا يمكن أن نعرف عن العائلات التي تسيطر تاريخيّا على هذا القطاع الذي لا يستفيد منه المواطن التونسي في علاقة بمسألة الاستهلاك المحلّي بتعلّة أولوية التّصدير لإدخال العملة الصعبة إلى البلاد؟ مع العلم أنّ بعض الفاعلين في القطاع يبرّرون عدم بيع التنّ الأحمر في تونس بتعلّة غلاء سعره حيث يقدّر الكلغ الواحد بـ43 دينارا.
يذكر أنّ سعر علبة تنّ المنار (الأكثر شهرة في تونس) المعلّب محليّا بتنّ مورّد وأقل جودة من التنّ الأحمر الذي يتمّ اصطياده من قبل البحّارة التونسيين ( فئة 2.050 كلغ) بلغ في بعض الفضاءات التجارية 91 دينارا.
من هي العائلات المهيمنة على القطاع منذ عقود؟
منذ ما قبل ثورة 2011، تهمين قلّة قليلة من العائلات على قطاع صيد التنّ الأحمر في تونس. وعلى الرّغم من تعدّد الحكومات التي حكمت البلاد في العشريّة الماضيّة، إلاّ أنّ هذا الملف بقي بمثابة صندوق أسود.
من خلال البحث في البيانات الأرشيفيّة لمنظمة “الايكات” ( ICCAT) في علاقة بهويّة الشّركات المتحصّلة على حصص صيد التنّ الأحمر منذ ما قبل 2011 وإلى غاية الموسم الحالي 2024، فضلا عن النّبش في السجلّ الوطني للمؤسّسات في تونس، نستشفّ أنّ أقلّ من 10 عائلات تهمين منذ أكثر من 30 سنة على رخص الصيد والحصص التي تمنح سنويّا من قبل وزارة الفلاحة والصيد البحري والموارد المائيّة.
من بين أبرز العائلات التي استأثرت بالقطاع، يمكن الإشارة إلى عائلة رشاد الحرشاني (صاحب ثاني أكبر ثورة في تونس وفق مجّلات اقتصاديّة متخصّصة تلاحقه تهمّ تهرّب ضريبي وغسيل أموال) وعائلة عبد الوهّاب بن رمضان ( بعد وفاته عوّضه ابنه حسّان) وعائلة رضا سلاّم وعائلة حامد سلاّم وعائلات شيحة والشعري والنيفر وبن حميدة وأبناؤه.
على سبيل الذّكر لا الحصر، تكشف بيانات منظمة “الايكات” أنّ من بين 1248 طنّا منحت كحصّة لتونس في سنة 2015، استأثرت هذه العائلات المذكورة آنفا بما يفوق 900 طنّ من خلال الحصص التي تحصّلت عليها عبر مراكب تعود بالملكيّة إليها.
في الحقيقة، لم يكن هذا القطاع قبل 2011 حكرا على العائلات المذكورة آنفا فقط، بل إنّه أسال أيضا لعاب أصهار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على غرار مراد الطرابلسي الذين كان يحتمي به أيضا عدد من الفاعلين في القطاع وقتها من أصحاب المراكب، وفق عديد الشهادات لمصادر مطّلعة وثّقها موقع الكتيبة.
مباشرة غداة الثورة، قامت السلطات التونسيّة بمصادرة مركب صيد التنّ الأحمر “جنّات1 ” مع الحصّة السنويّة المخصّصة له (قرابة 32 طنّا تقدّر قيمتها في السنة بـزهاء 900 ألف دينار) والذي كان على ملك مراد الطرابلسي. هذا الملك المصادر تمّ عرضه للبيع في سنة 2019.
في شهر فيفري/ شباط 2022، أعلنت شركة الكرامة القابضة (شركة تقوم بالتصرّف في الأملاك المصادرة بعد ثورة 2011) عن التفويت في شركة “ماد باش” (المتوسطيّة للصيد) المتخصّصة في تصدير كلّ أنواع الأسماك وغلال البحر والتنّ الأحمر، التي كانت هي الأخرى على ملك مراد الطرابلسي، وذلك لفائدة رجل الأعمال حسّان بن رمضان (نجل عبد الوهاب بن رمضان) صاحب شركة “تونيزيا تونة” بمبلغ قدّر بـ 20.8 مليون دينار.
يرى عضو منظمة “آلرت” حسام سعد في حديثه لموقع الكتيبة أنّ “سلطة الإشراف تتحمّل مسؤولية ما يكتنف قطاع التنّ الأحمر في تونس”، واصفا الوزارة بـ”العاجزة عن توفير آليّات الرّقابة والمتابعة لما يحصل في الكواليس”، و منتقدا في الآن ذاته “غياب الشفافيّة والتلكّؤ في طرح الملف على الطاولة لإنقاذه من براثن المحتكرين.”
أبرز مثال يتجسّد فيه غياب الشفافية هو التفويت في الأملاك المصادرة التي كانت على ملك عائلة الطرابلسية من مراكب ورخص صيد التنّ الأحمر دون الكشف في أكثر من حالة عمّن تمّ التفويت لهم فيها وبقيمة التفويت وكيف تمّ استغلال تلك المبالغ المالية الهامّة حينها.
عضو منظمة “آلرت” حسام سعد
على الرّغم من توجّه موقع الكتيبة بمطلب نفاذ إلى المعلومة لوزارة الفلاحة والصيد البحري، وفق ما يكفله القانون والدّستور، وذلك للاستفسار حول ملفّ الأملاك المصادرة بشكل خاصّ وخبايا عمليّة إسناد الرّخص طيلة السنوات الماضية، فإنّ الجهة المعنيّة لم تردّ على الطلب.
طيلة العقود الماضية، مثّل صيد وتصدير التنّ الأحمر مصدرا للثروة لبعض العائلات النافذة دون أن تكون هناك إرادة سياسية وتشريعيّة لتكريس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
خلال مناقشة قانون المالية لسنة 2024، تمكّن النائب في البرلمان عن دائرة سيدي علوان، ملولش والشابة (محافظة المهدية)، بلال المشري بدعم من عدد من زملائه، من تمرير فصل جديد أثار الكثير من الجدل داخل القطاع وخارجه في الأوساط السياسية والإعلاميّة.
ينصّ الفصل الجديد الذي ورد تحت عنوان “تعزيز موارد صندوق الرّاحة البيولوجية ” على إحداث ضريبة من شأنها توفير موارد “متأتّية من الحصة الوطنية السنوية لصيد التن الأحمر وخصم 40% من مرابيح السفن المتمتعة برخصة صيد التن الأحمر وكذلك خصم 40% من مرابيح ضيعات تربية وتسمين وتصدير التنّ الأحمر. وتخصّص هذه الموارد الإضافية المتأتية من صيد وتصدير التنّ الأحمر لفائدة صغار البحّارة في سفن الصيد بالشباك الدائرة وسفن الصّيد الساحلي بعنوان تعويض باعتبار تضرّرهم من التنّ الأحمر. وتضبط كيفيّة تحصيلها بقرار مشترك من الوزير المكلّف بالماليّة والوزير المكلّف بالصّيد البحري”، وفق ما ورد في قانون الماليّة للدولة التونسية لسنة 2024.
في هذا السياق، يقول عضو مجلس نوّاب الشعب بلال المشري، في حديثه لموقع الكتيبة، “إنّ القطاع يدرّ الكثير من الأموال على من يسيطرون عليه من عائلات تستحوذ على حصص صيد التنّ منذ عشرات السنوات خاصّة وأنّ التنّ الأحمر من الأنواع الأكثر طلبا في العالم.”
هذه العائلات لها نفوذ وعلاقات في الدولة لذلك تتحصّل على أكثر من حصّة صيد وتقوم أيضا باستئجار رخص بطريقة غير قانونية لتزيد من نصيبها من هذه الثروة، كما تمتلك شركات تحويل و تصدير و ضيعات تسمين.
عضو مجلس نوّاب الشعب بلال المشري
وقد استنكر المشري هذا الوضع القائم منذ عقود، معتبرا أنّه “خلّف توزيعا غير عادل لهذه الثروة جرّاء هيمنة بعض العائلات على الرّخص مقابل حرمان صغار البحّارة من فرص التمتع بحصص لصيد التنّ الأحمر.”
بحسب شهادات وثّقها موقع الكتيبة حول ظاهرة كراء حصص صيد التنّ الأحمر والتي حوّلت القطاع إلى ما يشبه “المقاولات الاحتكارية”، نتبيّن أنّ بعض المراكب المتحصّلة على الرّخصة لا تغادر الميناء ولا تبحر ولا تشارك في عمليّات الصيد خلال الفترة المحدّدة، بل يقوم أصحابها ببيع حصصهم أو كرائها بمقابل مادّي لعدد من الشخصيّات النافذة والتي لها الإمكانيّات وهو ما يعزّز حالة الهيمنة على القطاع.
في هذا الإطار، أقرّ المستشار المكلّف بمهمّة بديوان وزارة الفلاحة والصيد البحري ياسين الإسكندراني على إثر سؤال الكتيبة خلال الندوة الدورية للوزارة بتاريخ 4 ماي/ أيار 2024، والذي تمحور حول ظاهرة كراء الرّخص من قبل أصحابها بطرق غير قانونية، بأنّه تمّ تسجيل عدّة مخالفات في السنوات السابقة أرتكبت من قبل أصحاب الرخص وتتمثّل في عدم خروجهم للصيد طيلة الموسم وقد تمّ ضبط ذلك عبر الأقمار الاصطناعية، وفق تعبيره.
“قمنا برصد بعض المراكب التي لا تغادر الميناء البتّة وهي متحصّلة على حصص. هذا يعني أنّه تمّ تحويل نشاط الصيد البحري إلى نشاط تجاري من خلال بيع حصّة لم يبذل من أجلها جهد ولم يساهم صاحبها في خلق الثروة. لهذا اشترطنا مستقبلا أن يكون المركب المتحصّل على الحصّة ناشطا لمنع تحويل الحصص. خلال السنوات القادمة كل من ثبت عدم نشاطه سيحرم من الحصّة وقد وضعنا ذلك في أمر ترتيبي.” يوضح المستشار بديوان وزارة الفلاحة و الموارد المائية و الصيد البحري ياسين الإسكندراني خلال نفس الندوة الصحفية
يعلّق نفس المصدر الرسمي حول مسألة الهيمنة بالقول إنّ “الوزارة تتعامل مع مراكب ولا تتعامل مع أشخاص أو شركات وذلك وفق قاعدة احتساب”.
ويضيف اسكندراني أنّ “اللجنة تقوم بفرز المطالب وفق شروط مضبوطة من بينها القدرة على الصيد ليتسنى بذلك للمركب الصيد في عرض البحر (الطول والحجم والحمولة الخ) وفي حال تحصّل المركب على حصص خلال السنوات الخمس الأخيرة فهو لا يتحصّل على تنفيل في النقاط وإذا لم يتمّ صنع مركب خلال 10 سنوات فهو أيضا لا يتحصّل على تنفيل في النقاط.”
المتحدّث باسم الوزارة كان قد شدّد كذلك على أنّ “الدولة ترفض العمل الهشّ فهي حريصة على حقوق البحّارة الذين يعملون على متن هذه المراكب في عملية صيد التنّ الأحمر لذلك تمّ اشتراط التصريح بالأجور طيلة العام (4 ثلاثيات) والتسوية في الضمان الاجتماعي من أجل الحصول على الحصّة”.
من بين 249 ملفّا تقدّموا للحصول على حصص قمنا برفض 116 ملف بسبب غياب الوثيقة المتعلّقة باستيفاء شروط التسوية مع الضمان الاجتماعي بالنسبة الى البحارة العاملين.
المكلف بمهمة لدى ديوان وزارة الفلاحة ياسين إسكندراني
من المفارقات التي تلفت الانتباه، أنّ حصول موقع الكتيبة على قائمة المنتفعين بحصص صيد التنّ الأحمر لموسم 2024 والتي بلغ فيها عدد المراكب 54 مركبا، تطلّب انتظار نشر منظمة “الايكات” لهذه البيانات التي تغيّب في تونس عن الصحفيين.ـات وعموم المواطنين.ـات.
يعكس هذا الوضع مسألة غياب الشفافية، فضلا عن غلق الباب أمام جميع المطالب التي تقدّمنا بها للسّلط الرسميّة ممثّلة خاصّة في وزارة الفلاحة والصيد البحري لإجراء مقابلات صحفيّة على علاقة بهذا الموضوع.
في القائمة الجديدة تستأثر صفاقس والمنستير معا بـ 41 رخصة من إجمالي 54 حصّة تواجدت فيها جلّ العائلات التقليدية المستأثرة بالقطاع. وما يلفت الانتباه أيضا هو حصول طبلبة من ولاية المنستير على 22 رخصة صيد.
يعتبر خبير تونسي في المجال يعمل مراقبا معتمدا لدى المنظمة الدولية لصون التنيات -طلب عدم نشر اسمه- “أنّ هناك توزيعا غير عادل لهذه الثروة، فضلا عن غياب الشفافية وهو ما يعدّ مدخلا يثير عديد الشبهات حول فساد يعتري القطاع”، مؤكّدا من خلال تجربته “وجود العديد من شبهات التّلاعب في هذا المجال وهو ما يفسّر حالة الضيم التي يشعر بها عديد البحّارة المهتمين بصيد التنّ الأحمر.”
بتاريخ 15 ماي/ أيار 2024، انعقد اجتماع بين البحّارة المتحصّلين على حصص لصيد التنّ الأحمر في القائمة الجديدة حيث تمّ وفق تدوينة فايسبوكية نشرت على صفحة تحمل اسم “مجمع التنمية للصيد الساحلي بطبلبة” (حصّتهم الاجمالية تقدّر بـ1100 طنّا) ، الإعلان عن تأسيس شراكة بين المراكب في عمليّة الصّيد والبيع والتّي تهمّ كلّا من أصحاب مزارع التسمين والمصدّرين وتجّار الجملة ومصانع التحويل، داعين الراغبين في تقديم عروضهم إلى الاتّصال برقم هاتفي خصّص للغرض.
يقول الخبير الدولي ذاته إنّ “هذا المنشور يعكس صورة واضحة للسمسرة والمتاجرة بالحصص التي تمنح من الوزارة”، منبّها من خطورة “الوضع الضّبابي الذي مازال عليه القطاع والذي يساهم في تواصل الهيمنة بالنسبة إلى بعض اللوبيات.”
لاشكّ في أنّ قطاع التنّ يدرّ الكثير من العائدات الماليّة على الشركات والشخصيات النافذة فيه ولا أدلّ على هذا من حالة التهافت على الظّفر بالرخص، فضلا عن حجم الاستثمارات في مجال التسمين والتصدير. رغم ذلك لا تتوفّر إلى غاية اليوم بيانات رسميّة دقيقة حول حجم المرابيح من هذا القطاع والعائدات من الضرائب على وجه الخصوص.
يقول البنك المركزي في ردّ على طلب نفاذ إلى المعلومة كان قد توجّه به إليه موقع الكتيبة، إنّه يتعذّر عليه توفير معلومات حول قطاع الصيد البحري بما في ذلك المتعلقة بالتنّ الأحمر نظرا إلى أنّه ليس من مجال اختصاصه، داعيا إلى البحث عن المعطيات المطلوبة حول المسائل المالية المتعلّقة بالصّادرات في قاعدة بيانات المرصد التونسي للفلاحة.
من المهمّ الإشارة في هذا السياق إلى أنّ موقع المرصد التونسي للفلاحة لا يتوفّر على البيانات التفصيليّة والدقيقة المتعلقة بقيمة صادرات التنّ الأحمر وكلفة تسمين نفس المنتوج البحري في علاقة بالأعلاف الخاصّة التي يتمّ توريدها بالعملة الصعبة.
حول الجوانب المالية والضريبية الخاصة بقطاع التنّ الأحمر، صرّح حسام سعد عضو منظمة “آلرت” في حواره مع موقع الكتيبة قائلا:
“قطاع التنّ الأحمر في مختلف مجالاته من صيد وتسمين وتصدير يمثّل جسرا مهمّا وواضحا للتهرّب الضريبي وتهريب الأموال خصوصا أنّ هناك شبهات تلاعب بالأرقام في علاقة بأسعار بيع التنّ وضبابية تسود حول الموارد المالية وعائدات هذا القطاع بل يمكن القول إنّ القطاع أصبح يرتكز على أشخاص يضرّون بالاقتصاد التونسي في حين هم يعيشون رفاهية كبرى.”
الإدارة العميقة بوزارة الفلاحة: الثقب الأسود
لم يشفع قرار وزارة الفلاحة القاضي بتوسيع دائرة المنتفعين بحصص صيد التنّ الأحمر لحسم الخلافات والتراشق بالاتهامات والصّراعات المحتدمة التي وصلت حتّى إلى أروقة القضاء.
منذ عهد الرئيس بن علي، تشرف الوزارة على القطاع في ظلّ انتقادات تطالها بسبب غياب الشفافية وانعدام رؤية إصلاحية هيكليّة لمنظومة صيد التنّ الأحمر.
تدرس لجنة متخصّصة صلب الوزارة المطالب السنويّة المقدّمة من قبل مجهّزي وحدات الصيد البحري للحصول على حصّة فردية من التنّ الأحمر. ويتمّ تعيين أعضاء هذه اللجنة وضبط تنظيمها وطرق سيرها بمقتضى مقرّر من وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري.
يتمّ إسناد الحصص وفق مجموعة من الشروط والمعايير التي عرفت تغييرا في السنوات الأخيرة بالتزامن مع تطوّر القرارات والنصوص الصادرة بالرائد الرسمي الخاصّة بتنظيم القطاع لاسيّما منذ سنة 2008.
يعلّق الناشط في قطاع الصيد البحري عبد القادر النقبي على القائمة الجديدة للمنتفعين بحصص صيد التنّ الأحمر في موسم 2024 بالقول: “ما حصل هو تأسيس للفساد وليس تأسيسا لفكرة الإصلاح في القطاع. القائمة الجديدة يغيب فيها الالتزام بالقرارات والشّروط وما يشاع عن حصول تداول عادل على الحصص هو في الحقيقة تداول مغشوش وحتّى عملية التنقيط والقاعدة الحسابية الموضوعة للحصول على الرّخص تخدم الأشخاص نفسهم المسيطرين على القطاع.”
للأسف، الدّخلاء من رجال الأعمال والنافذين في القطاع هم من يحظون بالنّصيب الأكبر من الحصص. وزير الفلاحة يقول إنّه سيكافح الفساد ويقضي على الاحتكار بينما هناك أسماء تحصّلت على نصيب أكبر وبعض اللوبيات في اتحاد الفلاحة والصيد البحري تحصلت على حصّة بالوكالة عبر شقيق أحد المسؤولين الذين يوظّف نفوذه منذ فترة للحصول على امتيازات.
البحّار عبد القادر النقبي
ويشدّد نفس المصدر على “تواصل وجود تجاوزات ومغالطات رسميّة حول قطاع التنّ الأحمر”، منبّها من خطورة من أسماهم “أصحاب رؤوس الأموال المحتكرين للقطاع الذين لا يضعون أسماءهم الحقيقيّة في مطالب الحصول على الحصص بل يفوّضون أشخاصا آخرين يستعملونهم كواجهة فقط للتمعّش من ريْع القطاع.”
كما يرى عبد القادر النقبي أنّ “توزيع الرّخص مازال يتمّ عبر مقاييس موجّهة لفائدة أشخاص بعينهم”، معتبرا أنّ “الفساد مازال ينخر قطاع التنّ الأحمر”، متّهما ما أسماها “الإدارة العميقة بالتحكّم في العمليّة برمّتها على اعتبار أنّ الوزير ليس ابن قطاع الفلاحة والصّيد البحري في الأصل”، وداعيا “الرئيس التونسي قيس سعيّد والقضاء إلى التدقيق وفتح تحقيق في الغرض.”
رغم محاولاتنا الحثيثة، لم يتمكنّ موقع الكتيبة من إجراء لقاء مع رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري نور الدين بن عيّاد للردّ على ما سبق. كما لم نتمكّن من إجراء مقابلة مع وزير الفلاحة والصيد البحري عبد المنعم بلعاتي أو من يمثّله على غرار مدير الصّيد البحري بالوزارة، رغم الاتّصالات والمراسلات العديدة التي وجّهت للمكلّفة بالإعلام في الوزارة.
في المقابل، يوضّح المهندس في علوم البحار (خبير مستقل) حمدي حشاد في مقابلة مع موقع الكتيبة، أنّ قطاع التن الأحمر ينضوي تحت أطر قانونية وطنية و دولية وأنّ تزايد الطلب عليه في السوق العالمية أشعل فتيل التجاوزات و الإخلالات في القطاع وزاد في تكاثر مظاهر التناحر عليه لما يحمله معه من كسب مادي ضخم وسريع للمنتفعين منه، بينما يبقى البحّارة الصغار الحلقة الأضعف في هذه المنظومة.
ويضيف حشّاد أنّ “الثروة السمكية في تونس مستنزفة بشكل كبير خصوصا أنّ عدد الممارسين لمهنة صيد السّمك يتراوح بين 70 ألفا و 120 ألفا في واجهة بحرية تقدر بحوالي 2300 كم”، محذّرا من خطورة بقاء صيد التنّ الأحمر حكرا على من وصفهم بـ”الحيتان الكبيرة الناشطة بين تونس ودول أخرى على غرار مالطا”، وفق ما جاء على لسانه.
ودعا المصدر ذاته إلى ضرورة “دمقرطة منظومة صيد التنّ الأحمر وخلق فرص للبحّارة الصّغار لممارسة حقّهم في صيده وإلى أن تكون الإدارة وسلطة الإشراف أكثر شفافيّة مع منظوريها وعادلة في السياسة التي تعتمدها في توزيع الرّخص.”
“أقفاص الموت” أو ضيعات تسمين التنّ
على عكس ما يعتقد كثيرون، فإنّ التنّ الأحمر الذي يتمّ اصطياده في أعماق البحر طيلة الموسم كما يضبط ذلك القانون، لا يتمّ تصديره مباشرة فهو ينقل إلى ضيعات التربية والتسمين عبر أقفاص تكون على متن مراكب شحن ونقل.
يتمّ تسمين التنّ الأحمر في ضيعات مخصّصة للغرض طيلة أشهر قبل بيعه وتصديره بسعر أغلى من سعر البيع عند الصّيد وهو حيّ نظرا لازدياد وزنه.
يشدّد المشرّع التونسي على أنّه لا يمكن القيام بعمليّات تحويل التنّ الحيّ إلى الأقفاص ورفع التنّ في عملية التسمين إلاّ بحضور عون (موظّف) معاينة جرائم الصيد البحري، فضلا عن مراقب يرافق مراكب الصّيد طيلة الموسم بتعيين من منظمة “الايكات” (المنظمة الدولية لصون التنيّات).
بحسب بيانات منظمة “الايكات” (ICCAT)، فإنّ عدد ضيعات تسمين التنّ في تونس بلغ 6 ضيعات في السنوات الأخيرة من بينها ضيعتان متوقفتان عن النشاط . تتوزّع هذه الضيعات على صفاقس وهرقلة والمهديّة وقابس.
من المهم الإشارة إلى أنّ لشركة التسمين “حرّية بيع التنّ الأحمر في السوق الوطنيّة أو تصديره إذ يخضع التنّ الأحمر لسياسة العرض والطلب كما لا يوجد نصّ قانوني أو ترتيبي يمنعهم من ذلك (التصدير كليّا) خاصّة أمام كثرة الطلب من الأسواق العالمية”، وذلك وفق ما صرّح به المستشار بوزارة الفلاحة ياسين اسكندراني في الندوة الصحفيّة المذكورة آنفا ردّا على سؤال الكتيبة.
ومن المعلوم أنّ التنّ الأحمر الذي يتمّ صيده وتسمينه في تونس يوجّه تقريبا بشكل كلّي للتصدير نظرا إلى العائدات الماليّة التي يدرّها على “بارونات القطاع”، وفق خبراء في المجال.
وتشير دراسة أنجزها الباحث بالمعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار عبد الله حاتور حول صيد التنّ الأحمر وتسمينه إلى أنّ نشاط صيد وتسمين التنّ الأحمر بالمياه التونسيّة عرف اهتماما متزايدا منذ وسط السبعينات حيث بيّنت الدّراسات وقتها أنّ حجم إنزال التنّ الأحمر المستقبليّة لن تفي بحاجيات السوق اليابانية من هذه الأسماك. ومن ثمّ بدأ التّفكير في تربية وتسمين التنّ الأحمر.
انطلق نشاط تسمين التنّ الأحمر بتونس سنة 2003 حيث بعثت 4 ضيعات لتسمين التنّ بكلّ من هرقلة والمهدية تحتوي حوالي 28 قفصا وطاقة تسمين تفوق 2500 طنا.
وجاء في نفس الدراسة أنّ نشاط تسمين التنّ الأحمر يرتكز على صيده في أماكن تجمّعه وقت التكاثر بواسطة الشباك الدائرة ثم حجزه وتعليفه بالأقفاص لمدّة تقارب 6 أشهر قبل قتله وتصديره إلى الأسواق اليابانية ما بين شهري ديسمبر/ كانون الأوّل وجانفي/ كانون الثاني.
جدير بالذكر أنّ نسبة موت أسماك التنّ الأحمر بالأقفاص تقدّر بـ 3% الى 5% بينما لا تتعدّى هذه النسبة 10% وقت جرّه إلى الأقفاص أو عند فترة التأقلم. ويقدّر حجم الغذاء اليومي بين 5% و 10% من جملة كتلة الأسماك بالأقفاص، وفق دراسات موثوقة.
حول المسألة البيئيّة، يقول النائب في البرلمان بلال المشري إنّ “ضيعات التسمين تشكّل خطرا على الثروة السمكية وتساهم في تلوّث المحيط والبيئة في غياب تامّ للرقابة من قبل سلطة الإشراف رغم الاحتجاجات المتكرّرة للمتساكنين والجمعيّات المهتمّة بالشأن البيئي التي تطالب بضرورة إنقاذ المحيط والشواطئ من كارثة بيئية تسبّبها ضيعات التسمين”.
ويعتبر المشري أنّ “ضيعات التسمين هي مجرّد شركات تستحوذ على جزء هامّ من الشريط الساحلي والبحر مقابل سعر سنوي زهيد دون التصريح بشكل شفّاف بما تحصده هذه المؤسّسات من عائدات مالية بالعملة الصعبة وكيفية استغلالها من أجل النهوض بالاقتصاد التونسي خصوصا أنّ ضيعات التسمين تحتاج إلى استيراد علف تسمين أسماك التنّ من الخارج بأسعار مرتفعة ولا يتمّ التصريح بأيّة أرقام تتعلّق بذلك من قبل مالكيها أو الجهات الرسميّة”، وفق قوله.
على سبيل الذكر، بتاريخ يوم السبت 21 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، لفظت مياه البحرعلى مستوى سواحل مدينة المهدية سمكة تنّ أحمر كبيرة الحجم. كما يشتكي مواطنون في سواحل الولاية وخاصّة معتمديتي سلقطة ورجيش من روائح كريهة وأضرارا بيئيّة نتيجة نفوق بعض أسماك التنّ الأحمر الموجّه للتّصدير. وتتكرّر مثل هذه الحوادث بشكل لافت خاصّة قبالة سواحل سلقطة حسب ما تداولته وسائل إعلامية تونسيّة.
من جهة أخرى، يقول المهندس في علوم البحار والخبير البيئي حمدي حشّاد إنّ “ضيعات التسمين تؤثّر على الثروات البحرية ولها تداعيات إيكولوجية على المنطقة الجغرافية المتواجدة بها بسبب تكدّس المواد العضوية وتراكمها في محيط الضيعة أو حتّى في نطاق أوسع، إضافة إلى تحلّل الفضلات وتفكّكها في قاع البحر ما ينجم عنه عدم توازن المنظومة الإيكولوجية”، وفق ما جاء على لسانه.
و يضيف حشاد قائلا إنّ “دراسات علميّة أثبتت أنّ التربية المكثّفة لأي نوع من الحيوانات خصوصا الأسماك تتسبّب في تآكل المنظومة الإيكولوجية. ومن الطبيعي أن تكون هناك تأثيرات سلبيّة لضيعات التسمين، لذا لا بدّ من التوعية والتحسيس بضرورة احترام المعايير وكرّاس الشروط المنظّمة لعمل هذه الضيعات، فضلا عن تكثيف آليات الرقابة.”
يمثّل هذا المقال متعدّد الوسائط والمعزز بالبيانات جزءا أوّل من تحقيق صحفي معمّق يشتغل عليه موقع الكتيبة منذ أشهر حول قطاع التنّ في تونس.
يمثّل هذا المقال متعدّد الوسائط والمعزز بالبيانات جزءا أوّل من تحقيق صحفي معمّق يشتغل عليه موقع الكتيبة منذ أشهر حول قطاع التنّ في تونس.
الكاتب : سماح غرسلي
صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستار صحافة استقصائية بجامعة منوبة
الكاتب : سماح غرسلي
صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستار صحافة استقصائية بجامعة منوبة