الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة

إذا كنت تفكّر في زيارة أرخبيل قرقنة الواقع في محافظة صفاقس للسياحة والتمتّع بمناظر خلاّبة لواحدة من أجمل المناطق الساحليّة في الجمهوريّة التونسيّة أو الاستثمار أو زيارة قريب.ة أو صديق.ة سواء تعلّق الأمر بحفل زواج أو مأتم عزاء، فعليك بالضرورة أن تتمهلّ وتقرأ ألف حساب لفرضيّة منعك من ركوب البواخر الناقلة التي تتبع شركة النّقل البحري الوحيدة الرابطة بين صفاقس المدينة وقرقنة.

في الحقيقة، هذا الوضع القائم على سياسة الحدّ من حريّة التنقل والحريّات الاقتصاديّة تحت ذريعة المخاوف الأمنية من الهجرة غير النظامية ليس بجديد فهو معلوم منذ سنوات قليلة.

بيد أنّ ما يمكن ملاحظته في الآونة الأخيرة هو تفاقم وتعدّد هذه الممارسات الأمنيّة التي طالت حتّى مواطنين.ات أصيلي قرقنة، وهو ما تسبّب في خنق المنطقة بشكل غير مسبوق أضرّ بالاقتصاد وحياة الناس عموما ما دفع بالعديد من النشطاء في المجتمع المدني والفاعلين السياسيين إلى إطلاق حملة تحت شعار مجازي باللهجة المحلّية “سيّب اللود، سيّب قرقنة” (أي اتركوا الباخرة تنقل المواطنين في حريّة، أطلقوا سراح قرقنة)، فضلا عن تنظيم وقفات احتجاجية و تجميع توقيعات على عرائض تطالب بإعادة نسق الحياة إلى ما كان عليه قبل سنوات خلت.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة

إذا كنت تفكّر في زيارة أرخبيل قرقنة الواقع في محافظة صفاقس للسياحة والتمتّع بمناظر خلاّبة لواحدة من أجمل المناطق الساحليّة في الجمهوريّة التونسيّة أو الاستثمار أو زيارة قريب.ة أو صديق.ة سواء تعلّق الأمر بحفل زواج أو مأتم عزاء، فعليك بالضرورة أن تتمهلّ وتقرأ ألف حساب لفرضيّة منعك من ركوب البواخر الناقلة التي تتبع شركة النّقل البحري الوحيدة الرابطة بين صفاقس المدينة وقرقنة.

في الحقيقة، هذا الوضع القائم على سياسة الحدّ من حريّة التنقل والحريّات الاقتصاديّة تحت ذريعة المخاوف الأمنية من الهجرة غير النظامية ليس بجديد فهو معلوم منذ سنوات قليلة.

بيد أنّ ما يمكن ملاحظته في الآونة الأخيرة هو تفاقم وتعدّد هذه الممارسات الأمنيّة التي طالت حتّى مواطنين.ات أصيلي قرقنة، وهو ما تسبّب في خنق المنطقة بشكل غير مسبوق أضرّ بالاقتصاد وحياة الناس عموما ما دفع بالعديد من النشطاء في المجتمع المدني والفاعلين السياسيين إلى إطلاق حملة تحت شعار مجازي باللهجة المحلّية “سيّب اللود، سيّب قرقنة” (أي اتركوا الباخرة تنقل المواطنين في حريّة، أطلقوا سراح قرقنة)، فضلا عن تنظيم وقفات احتجاجية و تجميع توقيعات على عرائض تطالب بإعادة نسق الحياة إلى ما كان عليه قبل سنوات خلت.

فماذا يمكن أن نعرف عن الإجراءات الأمنيّة المتّخدة لمكافحة الهجرة غير النظامية في قرقنة؟ ما مدى دستوريّة وقانونّية هذه الإجراءات؟ كيف أثّرت هذه السياسة على حياة عموم المواطنين سواء من السكّان الأصليين أو القادمين إلى الأرخبيل؟ ولماذا يطالب المجتمع المدني في المنطقة وفي ولاية صفاقس عموما برفع الحصار عن قرقنة التي تعاني بدورها من مشاكل جمّة أكثر أهميّة وذات أولوية لا سيما على الصعيد التنموي، وفق تقدير عديد الشخصيات التي التقاها موقع الكتيبة؟

إجراءات غير دستوريّة حسب مزاج أعوان وزارة الداخليّة

كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا حينما وصلنا إلى محطة النقل البحري الذي يربط بين مدينة صفاقس وأرخبيل قرقنة. كان لزاما الانتظار أكثر من ساعة من أجل التنقّل إلى وجهتنا عبر “اللود” الذي تنظّم رحلاته وفق روزنامة أوقات سفر بحسب ما توفّر من بواخر.

منذ الوهلة الأولى، لاحظنا الحضور البارز لرجال الشرطة. ما لا يقلّ عن 10 عناصر من الأمن (بالزي الأسود و الحرس الوطني بالزي الأخضر فضلا عن الزيّ المدني) كانوا في المحطّة سواء في قاعة الاستقبال أو في حافة الرصيف قبالة البواخر.

على الرغم من نجاحنا في تخطي الرقابة الأمنية على اعتبار حملنا لصفة صحفي في بطاقة التعريف الوطنيّة، فضلا عن كون أنّنا كنّا على متن سيارتنا الخاصّة وهو ما يضعف شبهة إمكانية أن يكون الهدف من التنقل إلى قرقنة بغرض “الحرقة” (أي الهجرة بشكل غير نظامي)، فإنّ العديد من الشبّان المترجّلين الذين كانوا يفترض أن يمتطوا الباخرة مُنعوا من السفر بعد محادثات عاينّاها وقد جرت بينهم وبين بعض عناصر الأمن الذين كانوا في عين المكان خاصّة في مدخل الباخرة.

خلال المعاينة الميدانية التي قمنا بها من أعلى الباخرة، رصدنا بالعين المجرّدة عمليّة منع لما لا يقّل عن 7 شبّان (من بينهم امرأة) كانوا يعتزمون ركوب الناقلة البحريّة التي كنّا على متنها في إجراء احترازي لا يخضع لأيّ قواعد دستوريّة أو قانونية فهو قرار فردي من الأمنيين يتخّذ بناء على مجرّد محادثات مع المعنيين بالأمر، وفق عديد الشهادات.

في الواقع، تكثّف استعمال هذا الإجراء خاصة في السنتين الأخيرتين والذي تتكتّم وزارة الداخلية حول تفاصيله والمعايير الموضوعة لتطبيقه.

من المهم الإشارة إلى أنّ هذا الإجراء الأمني الاحتياطي يستعمل طيلة أيّام السّنة فالأمر لا يتعلّق فقط بفصل الصيف الذي تتنامى فيه ظاهرة الهجرة غير النظامية عدديّا.

ينصّ الدستور التونسي لسنة 2022 في فصله عدد 23 على أنّ المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون دون أي تمييز. كما ينصّ الفصل 30 من الدستور على:

“لكلّ مواطن الحريّة في اختيار مقر إقامته وفي التنقّل داخل الوطن وله الحقّ في مغادرته”

نظريا من الناحية القانونية والدستوريّة، يخضع المنع من السفر والحدّ من حريّة التنقل داخل تراب الجمهورية التونسيّة وخارجها بالضرورة إلى جملة من الاجراءات التي هي من صلاحيّات القضاء، حيث يتطلّب الأمر صدور قرار قضائي معلّل ومبرّر وقابل للطعن.غير أنّه في واقع الحال في علاقة بالتنقل إلى قرقنة لا يخضع لأيّة مرجعية دستورية.

يوضح “أحمد”ـ طلب عدم نشر هويته لأسباب أمنيّةـ وهو تاجر ومقاول في مجال البناء والعقارات أنّ “حرّية التنقّل ليست وحدها من ضُربت بل إنّ الحريات الاقتصادية بدورها تمّ ضربها بسبب الرقابة الأمنية”، وفق تقديره.

يقول المصدر ذاته انّ :”الرقابة الأمنية لم تتركنا نعمل في سلام. العديد من العمّال تمّ منعهم من السفر. وحتى نقل المواد الأساسيّة للبناء أصبح صعبا، فضلا عن كلفته الباهظة”، مضيفا انّ الجهات الأمنية كانت قد طلبت منه القيام بـ”تصريح على الشرف” في علاقة بالغرض من استقدام العمّال الى قرقنة وحينما قام بذلك “طلبوا من العمّال قدومي أنا شخصيا كشرط لكي يسمحوا لهم بالمغادرة.”

لقد كرهت العمل في قرقنة. أنا صاحب مؤسّسة ومن حقّي أن أعمل وأستثمر في أيّ مكان. قرقنة جزيرة تتبع التراب التونسي وما يصدر عن قوات الأمن هو يدفع لشيء واحد وهو قتل السياحة وتدمير النسيج الاقتصادي.

أحمد تاجر ومقاول في مجال البناء والعقارات

وقد شدّد ذات المتحدّث على أنّ الإجراءات الأمنية المتّخذة في علاقة بحركة النقل والتنقل بين صفاقس وقرقنة لا تخضع لأيّ قواعد قانونية واضحة، بل هي تنتظم “وفق مزاج الأعوان الموجودين في عين المكان”، معتبرا أنّه “كان من الأجدى على قوّات الأمن حراسة الحدود البحرية لا منع المواطنين التونسيين من التنقل داخل بلادهم”، وفق تقديره.

من جهة أخرى، أوضح “أحمد” أنّ “مصالحه تعطّلت جّراء هذه الإجراءات التي أضّرت أيضا بقرقنة ومواطنيها ككّل وليس فقط بالمستثمرين القادمين من مدينة صفاقس أو غيرها”، مبرزا أنّ من تداعيات ذلك “استنكاف العديد من العمّال عن العمل في الأرخبيل بسبب الخوف من قوات الأمن” ما اضطرّ العديد من أصحاب المشاريع في مجال البناء إلى الترفيع في أجرة يوم العمل بالنسبة الى العامل العادي من 30 إلى 50 دينارا، زيادة عن الترفيع في أجرة يوم العمل بالنسبة الى العامل المؤهّل وصاحب الكفاءة من 50 أو 60 دينار إلى 100 دينار من أجل استقطاب اليد العاملة التي بقيت شحيحة نظرا لصعوبة النقل والتنقل، وفق ما أفادنا به محدّثنا.

وفي ظلّ غياب محكمة دستورّية يمكن الالتجاء إليها بالنسبة الى المتضررين، توجّه موقع الكتيبة بمكتوب إلى وزارة الداخلية من أجل الاستيضاح حول هذه الإجراءات ومدى احترامها لحقوق الإنسان والحريّات الاقتصاديّة والدستور، فضلا عن تداعياتها الاجتماعية والتنموية على قرقنة، غير أنّ الجهة المعنية اكتفت بعدم التفاعل والردّ.

بتاريخ 21 جوان/ حزيران 2024، كان النائب في البرلمان عن دائرة قرقنة محمود شلغاف قد تقدّم بمراسلة إلى وزير الداخلية تضمنت 3 عرائض، الأولى تهمّ المواطنين وقد شملت 782 إمضاء، والثانية تهمّ أصحاب المهن الحرّة والمستثمرين بقرقنة وقد شملت 111 إمضاء، والثالثة تهمّ الجمعيات والمنظمات وقد شملت 11 إمضاء.

بحسب هذه الوثائق التي تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منها، فإنّ جميع هذه الأطراف تطالب السلطات الرسميّة التونسيّة وفي مقدمتها وزارة الداخلية برفع القيود المفروضة على كلّ مواطن يودّ التنقل إلى قرقنة.

قبل ذلك، وبتاريخ 29 ماي/أيار 2024، كان النائب ذاته قد راسل وزير الداخلية عن طريق رئاسة البرلمان، متقدّما بعريضة قام بتوقيعها 120 نائبا في البرلمان، طالبوا فيها السلطات الأمنيّة باحترام الفصل 30 من الدستور التونسي الذي يؤكّد على الحقّ في حريّة التنقل داخل تراب الجمهورية.

نطالب بعدم خرق الدستور واحترام حقّ التونسيين في التنقل في كلّ ربوع الوطن دون قيود، وحماية كامل شريطنا الساحلي باستعمال الآليات المتطوّرة عوض التضييق على حريّة التنقل.

مقتطف من عريضة الـ120 نائبا إلى وزير الداخليّة

يؤكد رئيس المجلس المحلّي بقرقنة طارق الكرّاي في حديث لموقع الكتيبة، أنّ وزارة الداخلية لم تستجب إلى كلّ هذه العرائض المواطنية والسياسيّة والمدنيّة والنيابيّة حيث أضحى الأمر أكثر تعقيدا في قرقنة، مفيدا أنّ “وزارة الداخلية كانت في ردّها على النائب محمود شلغاف قد اعتبرت أنّ الاجراءات الأمنيّة التي تقوم بها في السنوات الأخيرة أثبتت نجاعة في الحدّ من الهجرة غير النظامية ما يعني عدم نيّتها التخلي عمّا تقوم به من خرق للدستور”، وفق تقديره.

في هذا الإطار، من المهمّ التذكير بأنّ هذه الاجراءات التي تقوم بها وزارة الداخلية التونسيّة في السنوات الأخيرة ارتبطت بتنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية التي باتت مقلقة لتونس ولشركائها الأوروبيين على وجه الخصوص.

في صائفة 2023، كشف وزير الداخلية السابق كمال الفقي في مقابلة مع قناة “العربيّة حدث” أنّ عدد الأفارقة في تونس يقدّر بحوالي 80 ألفا من بينهم زهاء 17 ألفا موجدون في صفاقس التي تعدّ من أكثر الولايات التي تتنامى فيها ظاهرة الهجرة غير النظامية نحو إيطاليا عبر البحر.

وفي شهر ماي/ أيار 2024، قام وزير الداخلية السابق كمال الفقي بتقديم معطيات إحصائيّة محيّنة حول ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس، حيث صرّح الأخير أمام البرلمان التونسي داخل لجنة العلاقات الخارجيّة أنّ عدد أفارقة جنوب الصحراء يقدّر بحوالي 23 ألف مهاجر غير نظامي من 27 جنسيّة مختلفة، فضلا عن 9 آلاف من المقيمين بشكل قانوني.

وأفاد كمال الفقي بأنّ الأرقام الرسميّة تؤكد أنّ” تونس ليست سوى منطقة عبور بالنسبة إلى هؤلاء”، نافيا فرضية التوطين، قائلا إنّ “السلطات التونسيّة تمكّنت خلال سنة 2023 من صدّ حوالي 130 ألف مهاجر غير نظامي حاولوا الدخول إلى التراب التونسي بطريقة غير قانونية.”

وكان الوزير السابق الفقي (أقيل مؤخرا) قد صرّح بأنّ السلطات التونسيّة “سجّلت خلال سنة 2023 محاولة 79 ألف مهاجر غير نظامي اجتياز الحدود البحرية التونسيّة نحو الفضاء الأوروبي”.

إزاء هذه المعطيات، هل تحوّلت تونس فعلا إلى حرس للحدود الإيطاليّة كما يقول منتقدون للسياسة التونسيّة في هذا المجال لا سيما في علاقة بما يجري في قرقنة؟

قرقنة ضحيّة التقارب التونسي مع اليمين المتطرّف الإيطالي

تبعد جزر قرقنة حوالي 140 كلم عن جزيرة لامبيدوزا الايطالية. وهي بالتالي تعدّ وجهة محبّذة للعديد من المهاجرين غير النظاميين الذين ينوون التحوّل إلى إيطاليا في “قوارب الموت” بحثا عن خيط من الأمل في الضفّة المقابلة الأوروبيّة سواء من التونسيين أو من أفارقة جنوب الصحراء.

منذ وصول جورجيا ميلوني زعيمة اليمين المتطرّف إلى الحكم في إيطاليا في خريف سنة 2022، بدا من الواضح حصول تقارب سياسي ودبلوماسي وأمني كبير بينها وبين السلطات التونسيّة بقيادة الرئيس قيس سعيّد حيث تعدّدت الزيارات الرسميّة المتبادلة في علاقة بمسألة التعاون في ملف الهجرة غير النظامية التي تعتبر بمثابة قطب الرحى في البرنامج الانتخابي لرئيسة حزب إخوان إيطاليا الذي ينحدر فكريا من جذور فاشيّة.

في نهاية سنة 2023، أعرب وزير الداخليّة اليميني المتطرف ماتيو بيانتيدوزي في حوار مع صحيفة “إل تيمبو” عن ارتياحه للنتائج المحقّقة على المستوى الأمني في مجال مكافحة الهجرة غير النظاميّة بين تونس وإيطاليا، معلنا أنّ “السلطات التونسيّة تمكنت من منع أكثر من 83 ألف مهاجر غير نظامي من مغادرة سواحلها” في ذلك العام، مضيفا أنّ “المهاجرين الذين أعيدوا إلى الشواطئ أو أولئك الذين تمّ منعهم من الصعود على متن القوارب يناهز عددهم 192% من النّسبة المسجلة في سنة 2022 وهو ما يعطي فكرة عن الجهد الذي تبذله تونس”.

وكان الوزير الإيطالي قد شدّد في نفس الحوار على أنّ “إيطاليا ستواصل دعمها للتعاون مع تونس وليبيا من أجل اعتراض المهاجرين قبل دخولهم الأراضي الوطنيّة، وهو مشروع طالبت به كلا الدولتين ويمكن الاعتماد على التمويل الأوروبي ومساهمة المنظمات الإنسانية الدولية لإنجازه، مردفا بالقول: ” لقد بدأنا نرى آثار اتفاقيات التعاون بين تونس وإيطاليا”.

بتاريخ 17 جويلية/ تمّوز 2023، وبعد مفاوضات دبلوماسيّة حثيثة ساهمت فيها بشكل بارز رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وقّعت تونس مذكّرة تفاهم لشراكة استراتيجية وشاملة مع الاتحاد الأوروبي. وتتلخّص هذه المذكّرة في التزام أوروبي بدعم الاقتصاد التونسي مقابل التزام تونس بالتعاون في مجال الهجرة غير النظاميّة على وجه الخصوص.

خلال شهر أفريل/ نيسان 2024، أدّت ميلوني زيارتها الرابعة إلى الجمهوريّة التونسيّة في غضون أقلّ من سنة، حيث أعلنت توقيع ثلاث اتفاقيات مع تونس، مؤكدة أنّ “العلاقات مع الدولة التونسيّة هي من أهم أولويات إيطاليا”.

ومن المعلوم أنّ تونس تعاني أزمة مالية واقتصادية خانقة وهو ما يفسّر الاستنجاد بالشريك الأوروبي خاصة للبحث عن موارد لتمويل ميزانية الدولة.غير أنّ هذا الحراك الدبلوماسي التونسي الأوروبي والتونسي الإيطالي لم يسلم من النقد والتحذيرات الحقوقيّة، فضلا عن تساؤلات بخصوص مدى شفافيّة هذا التمشّي خاصّة من الجهة التونسيّة.

أمّا بخصوص طريقة معالجة الهجرة غير النظاميّة، استنكر النائب في البرلمان ياسين مامي ما أسماه “التعتيم”، مطالبا بضرورة “الاطلاّع على مذكرة التفاهم مع الجانب الإيطالي”، داعيا وزير الداخلية التونسي إلى “توضيح الأمر عدد 181 الصادر بتاريخ 5 أفريل/ نيسان 2024 الذي سميّ بنجدة وإنقاذ المكروبين في البحر الذي تلتزم الدولة التونسيّة بمقتضاه التجنّد لحراسة المتوسط ولذلك أنشأت إدارة عامة للغرض”، وفق إفادته.

وكانت منظمة العفو الدوليّة من بين المنظمات الحقوقيّة الدوليّة التي انتقدت صيغة هذا التقارب بين تونس وإيطاليا من جهة وبين تونس والاتحاد الأوروبي عموما.

واعتبرت المنظمة على لسان إيف غيدي مديرة مكتب المؤسّسات الأوروبيّة التابع للعفو الدوليّة أنّ ما تمّ توقيعه بين تونس والاتحاد الأوروبي الذي عرض مبلغ 105 مليون يورو “من أجل إدارة الحدود” ونحو مليار يورو كقروض ودعم مالي إضافي هو بمثابة “صفقة بدأت تلوح تكاليفها البشريّة في الأفق”، محذّرة ممّا أسمته “تعامي أوروبا عن القمع المستفحل لحقوق الإنسان في تونس بما في ذلك طالبو اللجوء واللاجئون وغيرهم من المهاجرين الذين يدفعون ثمنا باهظا”، وفق تعبيرها.

كما أعربت عن انتقادها لغياب الشفافيّة في علاقة بكلّ هذا المسار الذي حفّ بتوقيع مذكرة التفاهم بين تونس والمفوضيّة الأوروبيّة.

يقول النائب السابق في البرلمان عن التونسيين في ايطاليا و الناشط المدني المعارض مجدي الكرباعي إنّ “قرقنة تدفع ثمن الاتفاق بين تونس وايطاليا الذي أفضى إلى عسكرة الأرخبيل والذي أفضى إلى جعل السلطات التونسيّة تصبح حرس حدود بأتم معنى الكلمة”، موضّحا حدود هذه السياسة التي قال عنها “إنّها لم توقف نزيف الهجرة غير النظامية حيث مازالت القوارب تصل إلى السواحل الايطالية والتي هي تنطلق من المهدية وبنزرت و قربة وصفاقس وجرجيس وغيرها من المناطق التونسيّة.”

الشراكة الحالية بين تونس وايطاليا ليست لخدمة التعاون الاقتصادي بين البلدين بل هي فقط من أجل حماية الحدود ومحاربة الهجرة غير النظامية بأسلوب العسكرة.

مجدي الكرباعي ناشط مدني مقيم في إيطاليا

وقد أبدى المتحدث ذاته استنكاره للوضع الذي وصلت إليه قرقنة بفعل القبضة الأمنية، مؤكدا أنّ هذا “لم يحصل حتّى في جزر ايطالية يتواجد بها آلاف المهاجرين غير النظاميين مثل لامبيدوزا و بنتلاريا التي استمر نسق الحياة فيها بشكل عادي خاصة في الصيف حيث يتوافد عليها العديد من السياح وهو ما عاينته حينما زرت هذه المناطق”، وفق تأكيده.

مدخل جديد للاتّجار بالبشر والفساد

في الواقع، فإنّ ما يجري في قرقنة منذ أكثر من سنتين ليس بمنأى عن السياق الإقليمي والوطني الآنف ذكره. غير أنّ مدى نجاعة وفاعليّة هذا الخيار الأمني يبدو محلّ جدل سياسي وحقوقي، زيادة عن اعتباره غير دستوري وغير قانوني، وفق المدونة التشريعيّة التونسيّة.

يتساءل رئيس المجلس المحلّي المنتخب حديثا في قرقنة طارق الكرّاي بنبرة حادّة قائلا: “هل نحن تونسيّون أم لسنا تونسيين؟ هل قرقنة تتبع البلاد التونسيّة أم هي تتبع دولة أخرى؟. إنّ ما يجري في محطّة اللود بين صفاقس وقرقنة هو أشبه بما يحدث في معبر رفح”، وفق تعبيره.

يضيف الكرّاي بأنّ هذه الاجراءات الأمنية التي شملت قرقنة والتي تمّ فيها تسجيل تجاوزات  والتعسّف في المنع دون أيّ مبرّر بالنسبة إلى من ينحدرون من المنطقة”، لم تقض على ظاهرة الهجرة غير النظامية التي تواصلت من خلال خلق ما أسماها منظومة “حرقة داخل الحرقة”.

الإجراءات الأمنية التي تقوم على منع السفر إلى قرقنة فتحت باب الفساد واسعا أمام عصابات تقوم بمساعدة المهاجرين غير النظاميين على التنقل إلى الجزيرة مقابل دفع أموال.

طارق الكرّاي رئيس المجلس المحلّي بقرقنة

تكشف مصادر أمنيّة مطلّعة تسنّى لموقع الكتيبة التواصل معها في صفاقس أنّ العديد من المهاجرين غير النظاميين أصبحوا يلجؤون إلى الاعتماد على شبكات تقوم بنقلهم سرّا إلى قرقنة لاسيما انطلاقا من سواحل سيدي منصور بمبلغ قد يصل إلى 1000 دينار (حوالي 330 دولار أمريكي)، قبل أن يركبوا البحر في اتجاه إيطاليا بمبالغ مالية تناهز 6000 و 7000 دينار تونسي (أي أكثر من 2000 دولار أمريكي).

وتؤكد عديد الشهادات التي وثّقها موقع الكتيبة أنّ البعض من المهاجرين غير النظاميين من التونسيين تمكّنوا من المرور إلى قرقنة عبر أساليب خاصّة، في حين أنّ أفارقة جنوب الصحراء استغنوا نهائيا عن فكرة الذهاب إلى قرقنة عبر الباخرة العمومية حيث يتركّز عدد كبير منهم خاصة في معتمديتي العامرة وجبنيانة شمال ولاية (محافظة) صفاقس.

وتعدّ منطقتَا القراطن والعطايا من قرقنة من أكثر النقاط التي تمثّل منطلقا لعمليات “الحرقة” من الأرخبيل.

على هذا الأساس، اقترح رئيس المجلس المحلّي في قرقنة طارق الكرّاي تركيز نقطتين في سواحل قرقنة قبالة السواحل الايطاليّة من أجل التصدّي للمراكب التي تحاول اجتياز الحدود بشكل غير قانوني، مقابل رفع الحصار عن محطة “اللود” والأرخبيل عموما الذي بات يختنق، وفق تعبيره.

ويضيف طارق الكرّاي قائلا:” نحن لسنا ضدّ الأمن، ونحن نعرف أنّ الحرس البحري له من الإمكانات والكفاءة ما يكفي لحماية الحدود، لكنّ الإجراءات التي تطبّق حاليا لا يمكن أن تمثّل حلاّ جذريا، زيادة عن كونها غير دستورّية.”

الكرّاي كان قد دعا أيضا رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى التدخل العاجل لفكّ الحصار على قرقنة التي كانت تعاني من مشكل “الكيس” بالنسبة الى الصيد البحري الذي يخلّف أضرارا كارثيّة على القطاع انتاجيا وبيئيّا ومشكل الشركات النفطية التي لا تقوم بدورها على أحسن وجه في مجال المساهمات التنموية والاجتماعية، قبل أن ينضاف مشكل منع المواطنين من التنقل عبر “اللود”.

في نفس السياق، يؤكد حمّة حمّادي عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بصفاقس أنّ “حالة العسكرة والحصار التي باتت عليها قرقنة بعد منع مئات المواطنين من التنقل بتعلّة الحدّ من الهجرة غير النظامية تسبّبت في خلق طرق موازية للوصول إلى الأرخبيل عبر دفع مبالغ كبيرة”، موضّحا أنّه “من غير المعقول والمقبول جعل حريّة التنقل رهينة للسلطة التقديريّة لأعوان الأمن”، مستنكرا أساليب التعامل مع المواطنين في محطة النقل البحري.

كما أنّ المستثمر “أحمد” لا ينفي أنّ الوضع الذي باتت عليه حرّية التنقل من صفاقس إلى قرقنة يمثّل مدخلا للرشوة من أجل حلحلة مثل هذه المشاكل التي تعترض الكثير من الناس، مستغربا كيف تغفل قوات الأمن التونسيّة عن عمليات تهريب أفارقة جنوب الصحراء إلى مدينة صفاقس عن طريق منزل شاكر على وجه الخصوص على متن الدراجات النارية من نوع “فورزا” وسيارات “الايسوزو” والتي تشاهد يوميا بالعين المجردة في حين تقوم بتضييق الخناق على عموم المواطنين في محطّة “اللود” الذي يؤدي إلى قرقنة.

تعاني قرقنة منذ عقود من الزمن من مشاكل جمّة خاصة على الصعيد التنموي حيث تصل نسبة الفقر إلى حوالي 10%، كما أنّ نسبة بطالة الشباب خاصة من أصحاب الشهائد العليا تناهز حوالي 25%.

ويعدّ قطاع الصيد البحري أبرز قطاع في المنطقة من حيث الطاقة التشغيليّة وخلق الثورة. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ جزر قرقنة تتمتّع بآفاق واعدة لم تُستغلّ بالقدر الكافي في المجال السياحي نظرا لعديد العوائق التي تفاقمت خاصة مع حالة “الأمننة” المفرطة التي تجسّدت بشكل جلّي في خلق مجمع أمني متنوع الاختصاصات في السنوات الأخيرة وتزايد حالات المنع من التنقل عبر “اللود”.

ويعتبر”اللود” المنفذ الوحيد إلى الأرخبيل الذي يقيم فيه قرابة 16 ألف نسمة في فصل الشتاء في حين يصل عدد السكّان خلال فصل الصيف في بعض الحالات إلى ما يناهز 400 ألف بين ساكن وزائر.

كما تعاني قرقنة من تهديدات الاحتباس الحراري والتغيرات المناخيّة، فضلا عن أضرار الشركات البتروليّة.

في الوقت الذي يحتفي فيه اليمين المتطرف في إيطاليا بتحقيق وعوده الانتخابية المتمثلة في محاربة ظاهرة الهجرة غير النظاميّة وترحيل المهاجرين عبر التعاون مع السلطات التونسيّة، يزداد الوضع سوءا يوما بعد يوم في قرقنة، نتيجة السياسات الأمنية الخانقة وغياب تصوّرات تنموية للدولة المركزية للنهوض اقتصاديا واجتماعيا بالمنطقة التي حتّى في حال النجاح في الوصول إليها عبر “اللود”، فإنّك قد تضطر للانتظار ساعات وساعات في طوابير طويلة من أجل التمكنّ من العودة إلى مدينة صفاقس بسبب طاقة استيعاب البواخر الناقلة بالنسبة الى أصحاب السيّارات وهو ما حصل لنا في ختام زيارتنا الميدانية إلى الجهة.

كلمة الكتيبة:

كما هو الحال بالنسبة الى وزارة الداخلية، حاول موقع الكتيبة التواصل بشكل رسمي مع مسؤولين في الشركة الجديدة للنقل بقرقنة ووزارة النقل في تونس العاصمة للحصول على معطيات وتوضيحات لكن دون جدوى.

كلمة الكتيبة:
كما هو الحال بالنسبة الى وزارة الداخلية، حاول موقع الكتيبة التواصل بشكل رسمي مع مسؤولين في الشركة الجديدة للنقل بقرقنة ووزارة النقل في تونس العاصمة للحصول على معطيات وتوضيحات لكن دون جدوى.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة

تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
مونتاج: سامي شويّخ
تطوير تقني: بلال الشارني
مونتاج: سامي شويّخ
تطوير تقني : بلال الشارني
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب

الكاتب : محمد اليوسفي

Youssoufi