الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
” انقطعت عن الدراسة في مرحلة التعليم الابتدائي. أنتمي إلى قرية جاب اللّه من ولاية جندوبة المتاخمة للجزائر في الشمال الغربي التونسي. غير أنّي اضطررت إلى الانتقال قسريّا للعيش في منطقة الخذائريّة جرّاء بناء سدّ في مسقط رأسي. منذ ذلك الحين انقلبت حياتي رأسا على عقب.”
بنبرة حزينة، استجمعت “هدى” ( اسم مستعار) التي تبلغ من العمر 53 سنة شذرات من جراح الذاكرة، مستحضرة فصولا أخرى من التقلّبات التي رافقت حياتها في مرحلة الشباب التي امتهنت خلالها النشاط الفلاحي.
كانت “هدى” تُمارس الفلاحة العائلية المتمثّلة في زراعة الخضر وتربية الماشية واستغلال مواردها اقتصاديا، لتجد نفسها عاطلة عن العمل دون أرض أو حرفة أخرى تُجيد ممارستها وهي في الأربعين من عمرها.
تضيف هدى قائلة: “لجأت العديد من نساء القرية مثلي إلى تغيير نشاط العمل الذي أصبح يتمثّل في جلب السلع من المدن الجزائرية وإدخالها إلى مدينة طبرقة عبر الحدود. هذا العمل بدا مُغريا ومُربحا بالنسبة لي ولا يتطلّب مني الاشتغال تحت ربّ عمل يقوم باستغلالي وهضم حقوقي الاجتماعيّة والاقتصاديّة. لقد شرعت في امتهان هذا النشاط قبيل الثورة التي اندلعت في تونس بين سنتي 2010 و2011.”
الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
” انقطعت عن الدراسة في مرحلة التعليم الابتدائي. أنتمي إلى قرية جاب اللّه من ولاية جندوبة المتاخمة للجزائر في الشمال الغربي التونسي. غير أنّي اضطررت إلى الانتقال قسريّا للعيش في منطقة الخذائريّة جرّاء بناء سدّ في مسقط رأسي. منذ ذلك الحين انقلبت حياتي رأسا على عقب.”
بنبرة حزينة، استجمعت “هدى” ( اسم مستعار) التي تبلغ من العمر 53 سنة شذرات من جراح الذاكرة، مستحضرة فصولا أخرى من التقلّبات التي رافقت حياتها في مرحلة الشباب التي امتهنت خلالها النشاط الفلاحي.
كانت “هدى” تُمارس الفلاحة العائلية المتمثّلة في زراعة الخضر وتربية الماشية واستغلال مواردها اقتصاديا، لتجد نفسها عاطلة عن العمل دون أرض أو حرفة أخرى تُجيد ممارستها وهي في الأربعين من عمرها.
تضيف هدى قائلة: “لجأت العديد من نساء القرية مثلي إلى تغيير نشاط العمل الذي أصبح يتمثّل في جلب السلع من المدن الجزائرية وإدخالها إلى مدينة طبرقة عبر الحدود. هذا العمل بدا مُغريا ومُربحا بالنسبة لي ولا يتطلّب مني الاشتغال تحت ربّ عمل يقوم باستغلالي وهضم حقوقي الاجتماعيّة والاقتصاديّة. لقد شرعت في امتهان هذا النشاط قبيل الثورة التي اندلعت في تونس بين سنتي 2010 و2011.”
تعتبر “تجارة الشنطة” مهنة قديمة وهي ليست فقط وليدة السياق التونسي في المناطق الحدوديّة فهي تقريبا موجودة في جلّ دول العالم خاصة النامي.
وقد أصطلحت عليها تسمية “تجارة الشنطة” نسبة للحقائب التي يتمّ من خلالها شراء ونقل السلع بعيدا عن متاهات الطرق التي تشتد فيها الرقابة الجمركيّة والجبائيّة. وهي من هذا المنطلق تدّر أرباحا ماليّة قيّمة تساعد على العيش الكريم وفي بعض الحالات تمكنّ حتّى من تحقيق ثروات بالمراكمة.
من هذا المنطق، ارتبطت “تجارة الشنطة” في صيغتها المؤنثة بالحقيبة التي تملؤها التاجرات بملابس النساء والعطورات وموادّ الاستحمام وكلّ مستلزمات العرائس، وهي بالتالي حقيبة ترتبط أساسا بالأفراح وطقوس الزواج. في أغلب الأحيان تكون هناك طريقتان للبيع إمّا البيع لزبونات تحت الطلب أو البيع في السوق الأسبوعي.
في الواقع، تُعاني العديد من النساء ذوات التعليم المحدود أو الأميّات من مشاكل تغيير العمل، إذ دائما ما تتهدّد حياواتهنّ وأمانهنّ بسبب الانقطاع عن ممارسة عمل معيّن خاصّة منه الفلاحي، فالانتماء إلى الأرض يُشكّل لهنّ أمانا وتأقلما اجتماعيّا تفقدنه كلّما تتغيّر ظروف الحياة.
تتهيأ المقبلات على الزواج في عادات الأعراس التونسية بتحضير “زهاز العروسة” (جهاز الزوجة) المتمثّل أساسا في ملء حقائب منذ الصغر تحتوي على مستلزمات المطبخ القماشية والأفرشة المطرّزة والملابس الداخلية والعطور وأدوات الزينة وكلّ ما تحتاجه العروس للتزيّن. هذا بالإضافة إلى ما يجهزّه لها والداها من أدوات المطبخ والديكور والكؤوس وغيرها من مستلزمات المنزل في الطهي والأكل والشرب ومختلف مناحي الحياة داخل البيت.
من خلال هذه العادات، تُصبح التاجرات عرّابات الفرح اللواتي يُساعدن النساء على اقتناء كلّ هذه الحاجيات بأسعار مُنخفضة وبطريقة دفع مُريحة (بالتقسيط)، فلا يحملن عبئ الزواج المتأخّر أو عار الجهاز المتواضع بسبب ضعف الإمكانيات الماديّة. كما أصبحت المحلاّت المٌتخصّصة في هذا الغرض مزارا للفرح والإقبال على الحياة الجديدة.
التجارة الحدودية: تضامن قبلي موغل في القدم
يُعتبر الاقتصاد الحدودي القلب النابض للمُدن الحدودية، فالتجارة الحدودية هي الأمان المُتبقّي للمُدن المُهمّشة والبديل الذي يخلق مواطن شُغل لمعطّليها. هي مهن موغلة في القدم مُنذ أن كانت القوافل التجارية تُمثّل دورا حضاريا وتُساهم في نشر الثقافات وتبادل الموارد بين المشرق والمغرب، حسب ما ذهبت إلى ذلك الدراسات التاريخية.
وعلى الرغم ممّا أصبح يُلاحق هذه التجارة من استهجان نتيجة تهريب بعض المواد الممنوعة والأسلحة عبر الحدود خاصّة إلاّ أنّها مازالت السبيل الوحيد للمُدن المهمّشة التي تعاني من ضعف المؤشرات التنمويّة وتنامي جحافل العاطلين.ات عن العمل.
يتحدّث الباحث في علم الاجتماع سفيان جاب اللّه عن هذا النشاط الاقتصادي قائلا: “بعد أن كانت القوافل التجارية قوافل عروشية أو قبلية في العهد القديم، ساهمت الحدود الاستعمارية بعد ذلك في تقسيم الاقتصاد القديم بطريقة غير مباشرة عبر تفريق بعض القبائل عن بعضها البعض وفرض الجمارك، وأصبحت كلّ منطقة تتقاسم اقتصادها الخاصّ بناء على وشائج القرابة والصلة القبلية، وقد أعادت بناء اقتصاد تأسّس على الجانب الثقافي والاجتماعي وخلق معايير وأدوار تتكيّف مع مُجتمعه المُصغّر.”
لم يكُن على أجهزة الدولة سوى التكيّف مع هذا الاقتصاد القبلي الحديث مع المناطق الحدودية المنعدمة التنمية، والجاهزة دوما للانتفاض على ما يُعيق اقتصادهم الضارب في القدم والمتوارث توارث المنطقة كلّها. هذه التجارة غير النظامية هي بديل حيوي للدولة ودور تعديلي لا غنى عنه وتُمثّل سياسة لحوكمة مناطق يصعب ضمان استقرارها، وفق المصدر ذاته.
لقد شكّل “الخطّ” -حسب الدراسة التي نشرت تحت عنوان الوجه الخفي للتجارة غير الرسمية العابرة للحدود في تونس بعد العام 2011، على موقع مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط للباحث في العلوم السياسية حمزة المؤدّب- “طريقًا تجاريًا حيويًا منذ نهاية الثمانينيات، وكان ضباط الجمارك عند هذا “الخطّ” يتعمّدون تحديد تعريفة السّلع بأقلّ من قيمتها الفعلية مقابل عمولات يحصلون عليها من التجّار الذين يستوردون البضائع”.
وفي بعض الأحيان، لم تكن البضائع تُدوَّن في السجلّات إطلاقًا، من دون تحديد قيمتها، وبالتالي كانت المبالغ الوحيدة التي تُدفَع مقابل إدخالها إلى البلاد هي الرشاوى التي يسدّدها المستورِد للمسؤولين عند الحدود، بحسب نفس الدارسة.
وقد أدّى “الخطّ” دورًا مهمّا في تزويد الاقتصاد التونسي بمجموعة واسعة ومتنوّعة من البضائع، بما في ذلك الأدوات المنزليّة والملابس والمعدّات والأجهزة الالكترونية، علمًا بأنّ الوقود المستورَد من ليبيا المجاورة كان على الأرجح السلعة الأكثر أهمّية.
وقد كانت هذه البضائع تُشحَن عن طريق معبر رأس جدير الحدودي في شمال غرب ليبيا، على مقربة من البحر المتوسّط. ولم تكن التجارة غير الرسمية تقتصر على الحدود التونسية-الليبية. كما عرفت الحدود التونسية-الجزائرية ديناميكية مماثلة من خلال طرقات تجارية وعمليّات تهريب أصغر نطاقًا، وفق نفس الدراسة.
“ضرائب” من نوع خاص
” التجارة الحدودية تنوّعت وازدهرت أكثر بعد أحداث الثورة، كانت تقتصر مساحة الرّجال في السابق على تهريب المحروقات والسلع الغذائيّة والممنوعات لكنّهم أصبحوا الآن منافسين قارّين للنساء، ممّا جعلنا نتّفق مع مهرّب المازوط أو البنزين (المحروقات) ونذهب معه في سيارته المعدّة أساسا لنقل المحروقات طلبا للحماية وتحكّما منّا في كلفة التنقّل.”
هذاما أكدته لنا “هدى” في حديثها لموقع الكتيبة، مضيفة بالقول إنّ “دور تاجر الكونترا (مهرّب المحروقات) لا يقف على ضمان الحماية للنساء، بل هو أيضا وسيط الرشوة الذي يُسهّل دخول البضاعة دون مضايقة من قبل أعوان الديوانة أو الأمن الحدودي. يتقاضى أعوان الديوانة عشرة دينارات على كلّ سيّارة من الجانب التونسي ومن دينارين إلى خمسة دينارات من الجانب الجزائري”، وفق ما جاء على لسانها.
ازدهرت الرشاوى أثناء حكم الرئيس زين العابدين بن علي، فـ”وفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2015، كانت فجوات التهرّب الضريبي خلال حكم بن علي وتعريفها هو الفارق بين قيمة الصادرات إلى تونس المبلَّغ عنها من جانب البلدان المصدِّرة وبين قيمة الواردات المبلَّغ عنها من جانب الجمارك التونسية، على صلة بالبضائع المستورَدة من شركات مدعومة سياسيًا.
كان هذا الرابط قويًا بصورة خاصّة في حالة البضائع التي تخضع لتعرفات جمركيّة عالية ويجري التلاعب بأسعارها التي تُدوَّن بأقلّ من قيمتها الحقيقية، مثل الأجهزة الإلكترونية ومعدّات السيارات ومنتجات التبغ. فالأسعار التي كانت هذه الشركات المدعومة سياسيًا تبلّغ عنها للسلطات الجمركية كانت أدنى من تلك التي صرّحت عنها الشركات الأخرى.
أظهرت تقديرات أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) في العام 2018 أن التدفقات الماليّة غير الشرعية مثّلت نسبة 16% من التّجارة الخارجية غير النفطية لتونس بين العامَين 2008 و 2015، وهي النسبة الأعلى في المنطقة العربية،” بحسب الدراسة السابق ذكرها.
بيد أنّ “هذه الرشوة الروتينيّة والمزدهرة لا تمنع في بعض الأحيان مصادرة بعض المواد الغذائية المدعّمة أو الأدوية أو علب الحليب من الجانب الجزائري، والتي تمرّ في أغلب الأحيان بشرط أن تكون الكمية مخصصّة للاستهلاك العائلي فقط”، بحسب تاجرة الشنطة “هدى”.
سامي (إسم مستعار)، مهرّب محروقات، يصف “معاملة الجانب الجزائري للتونسيين.ات واستغلالهم.ن استغلالا مجحفا في محطّات الوقود وأثناء المرور الديواني، ممّا جعل من مهرّبي المحروقات يُضاعفون مداخيلهم بتأجير أماكن في السيارة لنقل النساء اللواتي يمتهن تجارة الشنطة.”
تُصنّف التجارة الحدودية التي يُمارسها متساكنو.ات المناطق الحدودية كتجارة غير نظامية، فهي تتمثّل من خلال قوانين أو مبادئ تمّت إعادة صياغتها من قبل الفاعلين.ات فيها المتمثّلين في أجهزة الدولة كالحرس الحدودي أو الديواني أو الدرك من جانب، والتجّار الذين أُطلق عليهم نعت “المهرّبين” من الجانب الآخر، وفق الباحث في علم الاجتماع سفيان بن جاب الله.
“هناك معايير خاصّة بالاقتصاد الحدودي من الجانبين الجزائري والليبي أين تعٌمّ الفائدة على الأمن الحدودي والتاجر على حدّ السواء. يأخذ الديواني نصيبه عبر “الرشوة” مقابل دخول البضاعة المهرّبة. هكذا خُلقت صفقات غير نظامية بين الطرفين”. يضيف الباحث جاب اللّه في حديثه لموقع الكتيبة.
يتأسّس الاقتصاد غير النظامي حسب مُحدثّنا على خمس عناصر، “القوّة، الفقر أو الهشاشة، العلاقة القبلية أو العروشية، القُرب من المورد واحتكاره كالحدّ أو البحر، والحوز. ومن خلال هذه العناصر تلعب الدولة دورها التّعديلي عبر غضّ النظر عن دخول البضاعة المهرّبة بهدف ضمان صمود المقدرة الشرائية للمواطن.ة وخلق تنمية في الجهات، وتأسيس نموذج اقتصادي خاصّ بهم”،على حدّ تعبيره.
من خلال هذه النماذج الاقتصادية التي تُحدّدها المدن الحدودية من جهة وتُقسّمها الأدوار الجندرية من جهة ثانية، تكون النساء الحلقة الأضعف داخل هذا الاقتصاد الحدودي أين تتكبّدن عناء البحث عن البضاعة المتعدّدة والزهيدة الثمن في الآن ذاته، في حين يقتصر دور الرجال على تهريب المحروقات الأغلى سعرا داخل مجتمع ذكوري لا يعترف بالنساء داخل فضاء محطّات المحروقات،وفق عديد الشهادات التي وثقها موقع الكتيبة.
كما تُشكّل تجارة الشنطة خطرا مضاعفا عليهنّ. خطر اقتصاديّ إن تمّت مصادرة البضاعة المهرّبة عبر الحدود وخطر جسديّ إن تمّ الاعتداء على النساء من قبل مجهولين أو سائقين لا تربطهم قرابة أو معرفة بهنّ. وككلّ الأعمال الحدودية فإنّ مهنة تجارة الشنطة هي مهنة محفوفة بالمخاطر وليس من السهل الولوج إلى كواليسها، بحسب نفس الشهادات.
تتعرّض النساء التاجرات إلى “أنواع متعدّدة من العنف” حسب حياة الحليمي رئيسة جمعية تيقار مواطنة متناصفة، لكنّ “البطالة والهشاشة والمسؤوليات والأعباء العائلية تُجبرهن على مواصلة العمل الحدودي فيتكبّدن عناء التنقّل والإهانات والتحيّل والابتزاز الذي يتعرّضن له، هذا إلى جانب مشقّة البيع في الأسواق خاصّة وإن كُنّ يبعن بالانتصاب وليس داخل محلاّت يستأجرنها أو يملكنها”،وفق ذات المتحدثّة في مقابلة أجرتها مع الكتيبة.
تجارة الشنطة: نساء متقاطعات
“تدخل النساء إلى الجزائر بمعدّل 4 مرّات أسبوعيا ويصل مدخولهنّ الشهري إلى أكثر من 1500 دينار تونسي دون احتساب رأس مال البضاعة وتكاليف التنقّل”، وفق ما جاء على لسان “هدى”.
وتوضّح ذات المتحدثّة قائلة: “يرتبط استقرارنا الحدودي بعلاقة الوسيط مع أعوان الديوانة والأمن، هذه العلاقة من شأنها حمايتنا حتى من الاضطرابات السياسية”.
“أذكر أنّنا تعرّضنا للكثير من المضايقات في فترة الاضطراب السياسي بين تونس والجزائر وقد تمّثلت هذه المضايقات في مصادرة بضاعتنا خاصّة منها المواد الغذائية وأصبح التشديد علينا مُتواترا كلّ شهرين تقريبا.”
“هدى” تاجرة شنطة
ما يُعيق حركة “هدى” وغيرها من النساء هو نفاد صفحات جواز السّفر قبل انتهاء صلاحيّته (5 سنوات المدّة القانونيّة) وذلك لإمتلائه بأختام الدخول والخروج ممّا يجبرهنّ على تجديده في أسرع وقت ممكن، وهذا يعيقهنّ عن العمل طيلة أسبوعين على الأقل.
تجارة الشنطة حتّى وإن كانت غير نظاميّة إلاّ أنّها معروفة عند الجهات الرسمية ويتمّ التساهل معها في المناطق الحدودية لكن تبقى إجراءات تجديد جوازات السفر مستنزفة للوقت ولا تستثني تجّار/ تاجرات الحدود وبالتالي تُعيق نمط عملهم.ن.
هذا فضلا عن عدم اقتصار هذه التّجارة على متساكنات المناطق الحدودية، بل توجد نساء مُنافسات تأتين من المدن المُجاورة -على غرار مدينة نفزة- بسياراتهنّ الخاصّة للتبضّع حسب ما أدلت به “هدى” بامتعاض، لكنّ “المُريح بالنسبة إليها أنّهنّ لا يدخلن إلى الجزائر بنفس النسق الأسبوعي الذي يٌعتبر حكرا على متساكنات الحدود”، وفقا لما جاء على لسانها.
في الطرف الآخر من الحدّ الجزائري، وتحديدا في ولاية القصرين، تُحدّثنا مريم فريقي عن امتهانها لتجارة الحدود بين الجزائر وبن قردان منذ قرابة 22 سنة مُتواصلة إلى اليوم. 22 سنة من التنقّل والتبضّع والانتصاب تحت برودة الطقس وحرّ الشمس بنسق متواتر ودون تقاعد.
“أقترض تارة وأسدّد تارة أخرى”. هذا هو الروتين العملي لمريم، فإن لم تتبضّع لن تتمكّن من “تسديد قروضها ومواصلة علاج زوجها وإكمال تعليم بناتها”، وفقا لما أفادت به في حوارها مع الكتيبة.
تضيف محدّثتنا قائلة: “كان زوجي يعمل في القطاع الخاصّ، وحالما أصبح طريح الفراش واستقال من عمله انقطع عنّا مدخوله ممّا اضطرّني على مواصلة هذه المهنة الشاقّة”.
“أنا أشعُر بعدم الانتماء إلى تونس، أشعُر بالظلم عندما أجد نساء تصلها مرتّبات دون أدنى حقّ، مرتّبات تسحبها من البنوك وهي نائمة في منازلها طول السنة. هذه هي ضريبة العمل الخاصّ أو الفردي في تونس. لو لا الجزائر لما عشت.
مريم الفريقي تاجرة في المناطق الحدودية
تقلّص الإقبال على البضاعة الجزائرية بعد أحداث الثورة التونسيّة، حيث “أصبحت أسعار البضاعة التي تقوم بتوريدها مكلفة وباهظة مُقارنة بالسابق، ممّا أدّى إلى تراجع الإقبال على شرائها في تونس، بالإضافة إلى أنّ أغلبية “القصارنية” (المنتمين.ات إلى ولاية القصرين) يتبضّعون من الجزائر، ممّا ساهم بشكل كبير في تزايد الأسعار من الطرف الجزائري”،وفق مريم الفريقي.
تؤيّد سامية (إسم مستعار)، بائعة مواد منزلية في ولاية القصرين، ما أدلت به مريم للكتيبة حول انعدام فرص العمل في تونس، قائلة في نفس السياق: “وجدنا في الجزائر رغيف العيش، ولو وجدت في بلادي فرصا لما تحمّلت شقاء التنقّل وانقسام الظهر”.
تُشير سامية إلى وضعية ابنتها العاطلة عن العمل منذ 5 سنوات بعد التخرّج وتطرح من خلال كلماته المختصرة وضعية الشباب والشّابات اليوم خاصّة المنتمين.ات منهم.ن إلى جهات المُهمّشة والذين يعرفون تجارة الحدّ أكثر من موارد البلاد التي ينتمون إليها.
تُثير كلمات هاته النساء وغيرهن ممّن رفضن إجراء حوار صحفي معهنّ، غضبا مضاعفا ومزدوجا على وضعية النساء داخل دولة طبقيّة. نساء يتعرّضن للعنف لأنّهن نساء، يتكبّدن عناء الحمل الثقيل لمواد مداخيلها لا تفي بالحاجة لأنّهن ينتمين إلى مجتمع ذكوري يعترف بالنساء في فضاء المطبخ والأعراس فقط. يتمّ استغلالهنّ لأنّهن ينتمين للحلقة الأضعف في التقسيم الجندري ويتعرّضن للتحرّش والابتزاز لأنّهن يبحثن عن مورد للرّزق في فضاء رجالي، وتزداد وضعيّتهن سوءا داخل دولة تعترف فقط بالمركز وتزيد الهامش هشاشة وفقرا و مستقبلا مظلما.
أنجز هذا المقال بالشراكة مع منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان
أنجز هذا المقال بالشراكة مع منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان
الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية