الكاتب : شكري بن عيسى

باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة والقانون العام

شكلت تصريحات رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر الملمّحة لعدم تنفيذ قرارات المحكمة الادارية الباتة، التي أعادت مترشحين للانتخابات الرئاسية كانت قد أقصتهم هيئة الانتخابات من القائمة الأولية، صدمة واسعة لدى الرأي العام والمختصين القانونيين، ما أثار موجة من التعاليق أغلبها مستهجنة، وذلك لما مثّلته من ضبابية ولبس حول محطات مسار انتخابي يستوجب أن يكون واضحا ودقيقا وشفافا في تواريخه ومراحله والمتداخلين فيه وسلطات كل منهم، وهي الشروط المحورية لنزاهة كل انتخابات. فهل يجوز قانونيا لهيئة الانتخابات التملّص من الأحكام الادارية الباتة التي اكتسبت حجية الأمر المقضي وإقرار ما يناقضها ؟

الحقيقة أنّه من حيث الامكانية الواقعية وحتى القانونية توجد فرضية عدم الامتثال لقرارات المحكمة الادارية الباتة. فالادارة يمكن أن تجد استحالة مادية في تنفيذ منطوق حكم إداري لسبب أو لآخر. وفي كل الحالات فقد تم ترك امكانية للادارة لمخالفة ما قضى به الحكم الاداري البات. فلا توجد على غرار الأحكام الجزائية آليات لإكراه الإدارة المعنية على التنفيذ بالقوة العامة. ولذلك رتّب قانون المحكمة الإدارية، في المقابل، جزاءً من نوع آخر عن عدم التنفيذ المقصود لقرارات المحكمة الادارية، يقضي بـ”تعمير ذمة الادارة”، أي اقرار مسؤولية جبر الأضرار الناتجة عن عدم التنفيذ.

فما المختلف إذا في المادة الانتخابية حتى يستدعي كل ذلك الفزع ؟ وما الدواعي، في المقابل، التي جعلت بوعسكر يلمّح لإمكانية الاتجاه في مخالفة أحكام المحكمة الادارية بعد أن احتفت هيئته بأحكام نفس المحكمة في الطور الابتدائي لمّا كانت داعمة لقراراتها ؟ وبالتوازي ما هي الآثار الخصوصية لرفض الامتثال لقرارات المحكمة الإدارية ؟ وما مدى خطورتها ؟

الكاتب : شكري بن عيسى

باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة والقانون العام

شكلت تصريحات رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر الملمّحة لعدم تنفيذ قرارات المحكمة الادارية الباتة، التي أعادت مترشحين للانتخابات الرئاسية كانت قد أقصتهم هيئة الانتخابات من القائمة الأولية، صدمة واسعة لدى الرأي العام والمختصين القانونيين، ما أثار موجة من التعاليق أغلبها مستهجنة، وذلك لما مثّلته من ضبابية ولبس حول محطات مسار انتخابي يستوجب أن يكون واضحا ودقيقا وشفافا في تواريخه ومراحله والمتداخلين فيه وسلطات كل منهم، وهي الشروط المحورية لنزاهة كل انتخابات. فهل يجوز قانونيا لهيئة الانتخابات التملّص من الأحكام الادارية الباتة التي اكتسبت حجية الأمر المقضي وإقرار ما يناقضها ؟

الحقيقة أنّه من حيث الامكانية الواقعية وحتى القانونية توجد فرضية عدم الامتثال لقرارات المحكمة الادارية الباتة. فالادارة يمكن أن تجد استحالة مادية في تنفيذ منطوق حكم إداري لسبب أو لآخر. وفي كل الحالات فقد تم ترك امكانية للادارة لمخالفة ما قضى به الحكم الاداري البات. فلا توجد على غرار الأحكام الجزائية آليات لإكراه الإدارة المعنية على التنفيذ بالقوة العامة. ولذلك رتّب قانون المحكمة الإدارية، في المقابل، جزاءً من نوع آخر عن عدم التنفيذ المقصود لقرارات المحكمة الادارية، يقضي بـ”تعمير ذمة الادارة”، أي اقرار مسؤولية جبر الأضرار الناتجة عن عدم التنفيذ.

فما المختلف إذا في المادة الانتخابية حتى يستدعي كل ذلك الفزع ؟ وما الدواعي، في المقابل، التي جعلت بوعسكر يلمّح لإمكانية الاتجاه في مخالفة أحكام المحكمة الادارية بعد أن احتفت هيئته بأحكام نفس المحكمة في الطور الابتدائي لمّا كانت داعمة لقراراتها ؟ وبالتوازي ما هي الآثار الخصوصية لرفض الامتثال لقرارات المحكمة الإدارية ؟ وما مدى خطورتها ؟

استخفاف بالمحكمة الادارية وتضارب في التصريحات

لئن أثارت تصريحات بوعسكر حول الاحكام الباتة للمحكمة الإدارية الدهشة والاستياء لدى العديدين، فلأنها تضمنت نوعا من الاستخفاف بالقضاء الإداري، فضلا عن كونها كانت متضاربة مع اتجاهات سابقة في الصدد لمواقف هيئة الانتخابات أو لمواقف عدد من أعضائها. فتصريح رئيس “الايزي” المنقول عبر “وات” بتاريخ 29 أوت 2024، والذي جاء إثر تصريح الجلسة العامة القضائية للمحكمة الادارية باعادة مترشحين اثنين للسباق الانتخابي الرئاسي (عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي) قبل أن تضيف المترشح الثالث (عماد الدايمي)، أشار إلى امكانية عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية الباتة، موصّفا للأحكام القضائية الادارية بـ”النصوص” في مقابل التشديد على توصيفه بما يخص المادة الجزائية بـ”الأحكام”.

رئيس هيئة الانتخابات أكد أنّ مجلس هيئة الانتخابات سيأخذ بعين الاعتبار “النصوص” التي صدرت عن المحكمة الادارية، مستدعيا “احكاما” جزائية صادرة في المادة العدلية (في خصوص تدليس التزكيات) سيأخذها مجلس الهيئة، في خصوص “اتخاذ القرار” حول القائمة النهائية للمترشحين. وقد “أغرق” بذلك أحكام المحكمة الادارية التي وصفها بـ”النصوص” في خضم الأحكام الجزائية. وحتى المرّة الوحيدة التي ذكر فيها وصف ما صدر عن المحكمة الادارية بـ”الاحكام” فقد أشار إليها باستخفاف كبير وتعال غريب ناعتا إياها بـ”هذه الاحكام”، دون اشارة الى طبيعتها وقيمتها القانونية واعتبار ومقام الهيئة القضائية التي أصدرتها.

بل انّه أطنب في الحديث عن ضرورة اطلاع مجلس الهيئة على “حيثيات” هذه الأحكام و”تعليل” هذه الأحكام، معيدا الجملة مرة ثانية للتركيز على هذه الجزئية بالقول “فنطلع على التحييث وعلى التعليل”، لابتلاع أحكام المحكمة الادارية في التفاصيل حتى تفقد كل اعتبار. وما يؤكد ذلك هو اطنابه في إبراز دور الهيئة ومجلسها وإظهار سلطاته، لادعاء العلوية وحيازة الحسم في الوضعية. وجملة “مجلس الهيئة سوف يقرر في اجتماع الذي سيحدد القائمة النهائية للمترشحين المقبولين لخوض غمار الانتخابات الرئاسية”، لها دلالات بارزة في اعتبار أنّ المجلس هو من سـ”يقرر” وليس ما قضت به المحكمة الادارية من أحكام باتة غير قابلة لأي شكل من أشكال التعقيب عليها. وما يعزّز هذا المنحى الاحتكاري الاطلاقي هو تمهيده الأولي بعبارات “مجلس الهيئة هو الجهة الدستورية الوحيدة التي ائتمنها الدستور على سلامة المسار الانتخابي”.

وبذلك لم يعلن عن التزام الهيئة بتنفيذ أحكام المحكمة الادارية الباتة، كما لم يعلن عن التزام الهيئة بإرجاع المترشحين الذين حصلوا على أحكام باتة لفائدتهم للسباق الانتخابي، وأغرق الأمر في الضبابية ليعلي صوت هيئته فوق كل الأصوات. ووضع الأحكام الصريحة الدقيقة التي اكتسبت حجية الأمر المقضي، مقابل تخمينات مرسلة بلا أساس سوى ما يظهر من خطابة لترسيخ سردية هشة للغاية، لم تتّسق حتى مع تصريحات بعض أعضاء الهيئة وناطقها الرسمي. هذا الأخير، كان تصريحه بقدر وضوحه ودقته ، مناقضا بالكامل لتصريح رئيس “الايزي”.

محمد التليلي المنصري، في تعليقه على أحكام المحكمة الإدارية الباتة، اعتبر (في تصريح منقول عبر عدد من وسائل الاعلام بتاريخ 28 أوت 2024) خلاف موقف بوعسكر أنّ “رقابة المحكمة الإدارية على أعمال الهيئة هي ضمانة من الضمانات الكبرى لقبول النتائج وكل المسارات الانتخابية”، مؤكدا في نفس السياق أنه “طبقا للقانون الانتخابي على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ترتيب الآثار القانونية اللازمة على ضوء منطوق أحكام المحكمة الادارية بعد الاطلاع عليها إذ قد تكون أحكاما معلقة على شرط أو توجه مباشر في الادراج”. ولم يذكر مثل رئيس الهيئة وجود “تقرير لمجلس الهيئة” ولم يستدع خلاف الأول “القضاء العدلي”، وأشار للمحكمة الادارية بإجلال كبير، معتبرا إياها صاحبة القول الفصل.

فهو قسّم فترة الترشحات إلى ثلاث مراحل، واعتبر انّ الهيئة “بلغت إلى غاية الآن المراحل الاخيرة من فترة الترشحات”، باعتبار بلوغ “النزاعات طورها الاستئنافي الأخير بعد انقضاء الطور الأول”. وفي بيانه لمراحل الترشحات الثلاث، رتب تباعا “القبول الاداري” و”البت” ثم “النزاعات لدى المحكمة الادارية”، معتبرا انّ مرحلة الفصل القضائي الإداري في النزاعات هي الأخيرة، ولم يشر مثل بوعسكر لوجود مرحلة رابعة تعيد فيها الهيئة النظر في أحكام المحكمة الادارية الباتة. فلا معقّب عنده على أحكام القضاء الإداري التي اكتسبت حجية الأمر المقضي، وهو نفس الاتجاه العام الذي شاركه فيه زميله بنفس الهيئة أيمن بوغطاس.

القاضي الإداري عضو الهيئة، أيمن بوغطاس، ذهب حتى أبعد من ذلك، معتبرا في ردّه على سؤال المنشط شاكر بسباس، في حوار بتاريخ على اذاعة “موزاييك” بتاريخ 2 أوت 2024، بأنّ السؤال (حول مدى التزام هيئة الانتخابات بقرارات المحكمة الإدارية المرتبطة بالطعون المتصلة بالترشحات)، “من المفروض […] لا يسأل لهيئة دستورية ولقاضي اداري لأن هذا الأمر التزام..”، مفصلا بأن هذه “حاجة لا تناقش ولا تسأل”. وهو يقصد بكلمة “لا يسأل” معنى الانكار، اذ بيّن في خلاصة كلامه أن “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ملتزمة بقرارات المحكمة الادارية منذ نشأتها”. وتضارب المواقف لافت في الصدد بين بوعسكر وبقية أعضاء الهيئة في موضوع واجب التزام “الايزي” بأحكام المحكمة الادارية.

وهذا ليس التضارب الوحيد في الصدد، فعندما أصدرت المحكمة الادارية أحكامها في الطور الأول لنزاع الترشحات، وكانت لفائدة الهيئة بعد أن وقع رفض كل الدعاوي شكلا أو أصلا، تم الاحتفاء بصوت عال بالمحكمة الادارية وقراراتها حينها، لابراز ما أسمته الهيئة “سلامة عمل الهيئة”، وأصدرت بالمناسبة بتاريخ 19 أوت 2024 بلاغا، واستندت الى أحكام المحكمة الادارية وعرّجت حتى على سلطاتها التحقيقية، مشيرة الى توجهها لمكاتب الهيئة ومعاينة احتساب التزكيات الشعبية التي اعتبرتها الهيئة مرفوضة، لتخلص الى تأكيد “صحة الأسباب التي اعتمدتها الهيئة لاسقاطها”، حينها كانت المحكمة مرجعا يعتدّ به وحجة يحتج بها !

سقوط مزاعم امكانية عدم تنفيذ القرارات القضائية الادارية في المادة الانتخابية

تناقض تصريحات رئيس الهيئة العميق، وتضاربها مع تصريحات بقية الأعضاء تفقد الموقف كل اعتبار قانوني في المركز، بل تجعله بلا معنى، فضلا عن افتقاده النزاهة المهنية والفكرية، باعتبار عدم تقدير مقامات مؤسسات الدولة وافتقاد حس وواجب التحفظ والتوازن في إطلاق الأحكام. رئيس الهيئة المعيّن من رئيس الجمهورية قيس سعيد وضع نفسه فوق كل الاعتبارات وجعل مجلس الهيئة التي يرأسها المعقّب على أحكام الجلسة العامة القضائية، هكذا دون أيّ مرجع يمنحه هذه الصلاحية ودون أيّ منطق، سوى إدعاءات أنّ الهيئة دستورية وأنّ لها “الولاية العامة” على المسار الانتخابي، مع استبطان امكانية عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية.

فهل يمكن أن يسري على الأحكام الادارية في المادة الانتخابية ما يسري على الأحكام الإدارية الاعتيادية ؟

هذا السؤال مهم لفهم خصوصية المادة الانتخابية، فخلاف المادة الإدارية الاعتيادية التي تخص قرارا في العادة فردي في عملية مخصوصة، تخصّ المادة الإدارية مرحلة مرتبطة بمسار كامل، مُحدّد الحلقات والأطوار ومضبوط الآجال والفترات، والمرحلة اللاحقة مرتبطة بنتائج ومخرجات المرحلة التي تسبقها، ولذلك استوجب في نهاية كل مرحلة تدخل القضاء لفصل التنازع، لإضفاء الانصاف وكذلك الفاعلية، حتى لا تنقطع الشرعية ولا ينقطع تسلسل الحلقات. ولذلك لا يمكن الاعتداد بالفصل العاشر لقانون المحكمة الادارية الذي أشار الى امكانية عدم التنفيذ، لأنه في وضعية الانتخابات عدم التنفيذ في مرحلة ما سيسقط المسار بأكمله، فضلا عن كونه يدوس على مبادئ الانتخابات الجوهرية من مساواة ومصداقية ونزاهة..

وامكانية عدم التنفيذ التي تركها الفصل العاشر، قرنها المشرع بجزائين: الأول أنه اعتبر كل عدم تنفيذ مقصود لقرارات المحكمة الادارية “خطأ فاحشا”، وهو الخطأ الذي تتجاوز فداحته الحدود الى حدّ أنّ الجميع يستنكره ويشجبه، وبالتالي فهو ليس خطأً ككل الأخطاء فهو من البشاعة بمكان، أما الجزاء الثاني فهو جبر ضرر الطرف المتضرر، وفي وضعية الحال المتضرر ليس شخص فقط وإنما مجموعة كاملة من المعنيين تفوق المترشح الى المزكين وتطال كل الناخبين المعنيين بالتصويت له، ما يجعل عملية جبر الضرر من الصعوبة إلى حد الاستحالة.

وعدم التنفيذ بالتالي ينتهك ليس حق الترشح فقط للمعنيين بل الحق الأساس الذي ترتبط به الديمقراطية والجمهورية وهو حق الاقتراع، من خلال السيادة الشعبية، وبالتالي فعدم التنفيذ أضراره تطال كل قيم الدولة باعتبار أن الأخيرة مرتكزها الارادة العامة، التي في افتقادها تنهار شرعيتها. والاضطراب هنا سيطال كل مؤسسات الدولة من دستور وقانون وسلطات فضلا عن قواعد العيش المشترك والعقد الاجتماعي. وبالمحصلة فان عدم تنفيذ القرار الإداري المتعلق بالانتخابات نطاق ضرره يفوق الفرد والحالات المخصوصة كما في القرارات القضائية الادارية، الى الدولة برمتها والشعب في عمومه.

انّ الحق في الترشح وفي الاقتراع كما الحق في مشاركة الأفراد في إدارة الشؤون العامة، هي حقوق أساسية تحميها كل الدساتير والمعاهدات الدولية والقوانين، ولا يمكن الحد منها الا لضرورات معلومة على أن لا يقع المساس بجوهر الحق وافراغه من مضمونه، واذ لا يكون الحد الا بقانون يضمن التناسب فالمؤسسات المنفذة مقيدة بالتقييد الدستوري الذي يستهدف التشريع، وفي كل الحالات فالقضاء وحده يبقى الفيصل في الصدد (سواء في دستور 2022: الفصل 55 أو دستور 2014: الفصل 49)، والدستور وضع رقابة تنفيذ كل ما يرتبط بالحقوق تحت رقابته، بل أناط بعهدته وألزمه بحماية الحقوق والحريات من كل انتهاك، وبالتالي فلا مّعقِّب لأحكامه خاصة القضاء الإداري المنوط بعهدته بالقانون الانتخابي التدخل في المادة الانتخابية مباشرة.

بوعسكر باشارته إلى أنّ مجلس هيئة الانتخابات هو من سيقرر، وسيأخذ بعين الاعتبار (هكذا !) ما صدر عن المحكمة الادارية، يضع نفسه وهيئته في موضع الحَكم وليس موضع الطرف (بعد أن أصدرت “الايزي” قرار قائمة المترشحين وتم الطعن فيه)، والأفدح أنه صار بذلك صاحب الكلمة الأخيرة والفصل، ليجعل من الهيئة “محكمة المحاكم”، متعللا بجمل من نوع “الولاية العامة على الانتخابات” و”الدستور منح الهيئة مهمة ضمان سلامة المسار الانتخابي”، وهي اعتبارات لا تصمد أمام المبدأ الوحيد الذي لا يمكن أن يمنح لطرف في قضية الحكم فيها فالطرف بطبعه غير محايد وله مصلحة في توجيه الحكم لفائدته، هذا فضلا عن أنه إزاء حكم قضائي إداري اعتبره القانون الانتخابي نافذا (الاذن على المسودة في الفصل 47) وبات وغير قابل لأي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب (نفس الفصل).

ومن حيث المنطق البسيط لو كانت ولاية الهيئة مطلقة ولو كانت الوحيدة في ضمان سلامة المسار الانتخابي لما أسند الدستور الرقابة على تنفيذ الحقوق والحريات وضمان عدم انتهاكها للقضاء، ولما أسند للقضاء الإداري رقابة كل مراحل الانتخابات بما فيها النتائج. فالهيئة مقيدة بالقانون وهذا يفرض ألّا تمنح لنفسها سلطة أو صلاحية لم يمنحها لها المشرع. فالاختصاص يهم النظام العام والاّ لاختل النظام والمؤسسات في البلد اذا ما كانت كل مؤسسة هي تمنح وتسند لنفسها السلطة التي ترغب فيها. وفي هذا الصدد فالقانون الانتخابي لم يمنح للهيئة امكانية تعديل أو إلغاء أو عدم تنفيذ أحكام المحكمة الادارية الباتة، فالفصل 48 منه منحها فقط سلطة “الاعلان عن أسماء المترشحين المقبولين نهائيا” ونشرها، بعد إصدار القضاء الاداري لاحكامه الباتة التي لا تقبل أي وجه من أوجه الطعن.

وهي (أي الهيئة) مقيّدة بهذه الاحكام، فالفصل 48 من القانون الانتخابي لم يشر الى مجلس الهيئة في الصدد وذلك لاعتبار عدم وجود مسألة للتداول فيها والتقرير في خصوصها مثلما تم التشديد على ذلك في الفصل 45 من نفس القانون، في وضعية النظر في الترشحات، حيث أوجب هذا هذا الفصل انعقاد مجلس الهيئة لاتخاذ قرار البت في مطالب الترشح. وفي حالة الاعلان عن أسماء المترشحين المقبولين نهائيا لم يشر القانون حتى مجرد اشارة لمجلس الهيئة لاعتبار المشرع المسألة اجرائية تقنية بالالتزام بأحكام المحكمة الادارية الباتة، باضافة المترشحين الذين قبلت المحكمة ترشحهم للانتخابات إلى المترشحين المقبولين أوليا من الهيئة، وبالتتابع ضبط القائمة النهائية للمترشحين.

الدوافع الحقيقية للتملص من الأحكام القضائية الإدارية

يستخلص من خلال التحليل أنّ هناك إشكالا أعمق يقف وراء توليد الإشكال الخطير الآني المتمثّل في إمكانية عدم إذعان هيئة الانتخابات للأحكام القضائية الإدارية الباتة. ففي وضعية عادية كما كانت الهيئة المستقلة للانتخابات بتركيبتها السابقة ونظامها القانوني السابق ما كانت لتطرح هذه الإشكاليات وتثير كل هذه الأزمة. فـ”الايزي” السابقة استجابت لكل القرارات القضائية الادارية التي لا تتضمن استحالة واقعية. ويظهر أنّ هناك مشكلا أصليا وهيكليا جعل الهيئة الحالية وخاصة رئيسها الذي اختزلها في شخصه هو الذي أوصلنا لهذا الانسداد.

فما الدوافع الكامنة وراء تصريح بوعسكر الموحي بعدم إذعان الهيئة للقضاء الإداري ؟ ولكن هناك سؤال أهم في نظرنا: هل الهيئة قادرة فعلا على عدم الإذعان ؟

يظهر أنّ استهانة بوعسكر بقرارات المحكمة الادارية الباتة القاضية بقبول المحكمة الادارية مطالب مترشحين للانتخابات الرئاسية بعد الغاء قرارات الهيئة التي حرمتهم من الترشح، شكّل صدمة مزعزعة للهيئة وخاصة لرئيسها بعد أن طالتهم سهام التشكيك بعدم الحيادية وعدم الاستقلالية. ما يجعل الرد “الطبيعي” هو محاولة التهوين من الواقع الجديد وان أمكن إنكاره والنظر في امكانية معارضته، حتى لا تترسّخ اتهامات التضييق والعرقلة وحتى الإقصاء، لشخصيات جدية معنية بالترشح، طالتها من هذه الشخصيات ومن عدة منظمات مدنية لها علاقة بالشأن الانتخابي والمجال الديمقراطي والحقوق والحريات.

مناطات التشكيك التي طالت الهيئة تتركز بالأساس حول فرض شروط معرقلة اعتبرها البعض تعجيزية وخاصة المتعلقة ببطاقة السوابق العدلية التي لاقى عدد من المتقدمين بطلبات ترشح صعوبات جمة ولم يحصلوا عليها وأيضا التنصيصات العديدة في وثيقة التزكية، وهما السببان الاكثر اعتمادا في رفض الهيئة لما اعتبر مطالب “جدية”. وإسقاط المحكمة الإدارية في أحكامها الباتة هذه الشروط واعتبارها في جزء منها غير شرعية ولا تتطابق مع الدستور الذي لا يمنح للهيئة سلطة إضافة شروط جديدة ولا يسمح باستيلائها على الوظيفة التشريعية في الصدد، زعزع مركز الهيئة في العمق وأضعفه إلى حدّ كبير خاصة بعد أن دخلت في مناكفات للرد على أصحاب طلبات الترشح. الهيئة في هذا الصدد وصلت على لسان رئيسها وبعض أعضائها باستعمال لفظ “تعلّة” البطاقة عدد 3، بعد أن أرجعت رفض الترشحات الى عدم توفر التزكيات المطلوبة عددا و نصابا، وأنّ عدم تقديم البطاقة عدد 3 لم يكن السبب الرئيس. الأمر الذي فندته المحكمة الادارية بجلستها العامة القضائية، وأسقطت معه سردية الهيئة بالكامل.

الهيئة كان من المستوجب ابتعادها على المناكفات واتهام المعنيين بالترشح بافتعال “التعلات” وعدم الدخول في تبادل النعوت، وقبل ذلك كان يستوجب أن لا تحل محل المشرّع في مجال ليس من اختصاصها، وبصفة جوهرية كان يستوجب أن تسهّل النفاذ للترشح ولا تتزيّد في المجالات التي تمثل استثناءً وتحديدا للحقوق والحريات، وتكون أمينة على أصوات المزكين، وهذا مفهوم ضمان حرية وحق الترشح الأساسي. والأمر صار مثيرا للشبهة بالعرقلة خاصة بعد اطلاق جملة من التتبعات الجزائية ضد ثلاثي المترشحين الذين أعادتهم المحكمة الإدارية للسباق الرئاسي. والرأي العام صار يعتبر بوجود استهداف مباشر لهاته المجموعة من المترشحين من مؤسسات الدولة حيث تم طرح افتقاد الحياد بما فيها “الايزي”.

واشارة بوعسكر الى امكانية عدم تنفيذ أحكام المحكمة الادارية الباتة باستدعاء أحكام القضاء الجزائي، يعزز هذا المنحى بالاتهام بعدم الحياد. والاّ فما الداعي لاستحضار قضايا جزائية لن تصدر فيها أحكام جزائية نهائية باتة قبل الأجل النهائي لاعلان الهيئة عن القائمة النهائية للمترشحين، المحدد يوم 3 سبتمبر 2024، وحتى ان صدرت بعد ذلك فلن يكون لها مفعول رجعي وفي غالب الحالات ستشمل ترشّحات لمواعيد انتخابية قادمة باستثناء ما أُسند للهيئة من سلطة قرار بنص قانوني واضح وهو ما لا يشمل وضعية الحال.

تكرار رئيس “الايزي” خاصية أن الهيئة “دستورية” هو أمر مشكوك في واقعيته وقانونيته، اذ الهيئة غير مطابقة أصلا للدستور في فصله 134 الذي ينص على تركيبة هيئة بتسعة أعضاء مستقلين يجدد ثلث أعضائها كل سنتين. وهو ما لا يتوفر في واقع الحال، من حيث التعيين (المباشر وغير المباشر) الذي ينفي الاستقلالية ومن حيث التداول (التجديد) الذي يضمن عدم تضارب المصالح. اللجنة القانونية الدولية المرموقة المسماة “لجنة البندقية” أكدت عدم توفر ركني الاستقلالية والحياد في هيئة الانتخابات في تقرير أصدرته سنة 2022 (فقرة 47). بل ذهبت الى أبعد من ذلك معتبرة أنّ اخضاعها للسلطة التنفيذية (الرئاسة) انتهاك خطير (فقرة 37)، وخلصت في رأيها إلى أنّ إلغاء المرسوم عدد 22 لسنة 2022 (الذي جاء بهيئة بوعسكر) هو أمر جوهري من أجل شرعية ومصداقية أي مسار انتخابي أو متعلق بالاستفتاء (فقرة 75)، ولعدم تلاؤمه (أي المرسوم) مع المعايير الدولية المتعلقة بالانتخابات والاستفتاء وحتى المنظومة القانونية الوطنية (فقرة 71)، وتجريحها في هيئة الانتخابات المنشأة بموجب المرسوم المذكور وصل لحد الدعوة لإعادة الهيئة السابقة التي يترأسها بافون (فقرة 73).

لا نظن حقيقة أنّ هيئة بهذه الهشاشة في تأسيسها الأصلي، تطالها سهام عدم الحياد وعدم الاستقلالية، وبهذا الوهن في موقف بوعسكر حول كيفية إعداد القائمة النهائية للمترشحين، قادرة على عدم الإذعان لأحكام المحكمة الادارية الباتة التي اكتسبت حجية الأمر وصارت حقيقة قضائية ثابتة. فلا مجلس الهيئة قادر على تحمّل منزع بوعسكر خطير التبعات، ولا الاكراهات الواقعية والقانونية تسمح بهكذا نزوع، وفضلا عن ذلك فالرقابة المواطنية الداخلية وأيضا الرقابة الدولية لن تجيزه. هذا اضافة الى أنّ الشوط الأخير سيعود لملعب المحكمة الادارية في رقابة النتائج النهائية.

وانتخابات في منطلقها مقدوح في شرعيتها، تعتريها ملابسات غريبة في كل طور، أن ترفض في جزء أو كل أحكام المحكمة الإدارية النافذة، ستفقد بالكامل كل عناصر المصداقية والمشروعية والنزاهة، ولن يترتب عنها أيّ أثر، إن لم تدخل البلاد في فوضى، لن تكون في فائدة أي طرف حتى صاحب حظوظ الفوز الذي هو في الحكم. والأمر سيتجاوز المس من مبادئ الدولة والجمهورية والارادة العامة والسيادة الشعبية الى تهديد العيش المشترك والسلم الأهلي وإسقاط المرتكز الذي يجمع الكل.

إنّ أخطر شيء على الإطلاق على مسار انتخابي هو المنازعة الحادة في شرعيته ونزاهته ونتائجه، وقد يقود الأمر للعنف والفوضى مثلما حذر الكثيرون، وفي كل الحالات فلن يظفر الطرف الفائز بالشرعية، المتمثلة في قبول الخصم بشفافية وحيادية وعدالة قواعد اللعبة وشروط التنافس. الأكثر من ذلك أنّ الفائز لن ينعم بفوزه اذ لازال للمحكمة الادارية تدخّل لحسم الامر قضائيا، ولا يمكن تصوّر أن تقبل بنتائج في صورة عدم الإذعان لاحكامها الباتة المتعلقة بالترشح، لأنها ببساطة في صورة قبولها ستكون صدّقت على انتخابات غير حرّة منعت الترشح الحر والحق في الاختيار، وكرّست دوس الشرعية التي هي حاميها الأول في دولة القانون.

إن القضاء الاداري ليس حارس الشكليات والاجراءات القانونية فحسب بل هو الضامن لنزاهة المسار الانتخابي، وبدونه ينهار كامل المسار ويفقد الاقتراع كل مشروعية.

الكاتب : شكري بن عيسى

باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة والقانون العام

تدقيق: وليد الماجري
تطوير تقني: بلال الشارني
تطوير تقني: بلال الشارني
تدقيق: وليد الماجري

الكاتب : شكري بن عيسى

باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة والقانون العام

chokri