الكاتب : محسن الخوني

أستاذ التعليم العالي في الفلسفة السياسية والاجتماعية

“أصبحت فنزويلا موضوعا أساسيا وثابتا للإعلام العالمي الصادر من نيويورك ولندن منذ انتخاب هوغو تشافيز سنة 1998 رئيسا لها” هذا الإقرار الذي يعود إلى نص منشور سنة 2018 يصح أيضا على انتخابات 2024 التي فاز فيها مادورو بالرئاسة لفترة جديدة. ورغم أنّ العملية الانتخابية قد تمّت في كنف النزاهة والشفافية فقد شكّكت المعارضة اليمينية في فنزويلا في صحّتها بل اعتبرتها مزيفة وهي تحضى في ذلك بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وتمثل ذراعها في الداخل.

أسعى في هذه الورقة إلى بيان السياقات التاريخية والرهانات الاستراتيجية المحيطة بهذه المسألة من جوانب عديدة ولا أتوخّى الحياد المشبوه عندما يتعلق الأمر بقضايا العدالة والحرية.

جمهورية فنزويلا البوليفارية هي خامس دولة في جنوب أمريكا من حيث الكثافة السكانية (قرابة الثلاثين مليون نسمة) بعد البرازيل ومكسيكو وكولومبيا والأرجنتين. ولا يمكن استيعاب حاضرها دون الإلمام ببعض من تاريخها الحديث والمعاصر.

الكاتب : محسن الخوني

أستاذ التعليم العالي في الفلسفة السياسية والاجتماعية

“أصبحت فنزويلا موضوعا أساسيا وثابتا للإعلام العالمي الصادر من نيويورك ولندن منذ انتخاب هوغو تشافيز سنة 1998 رئيسا لها” هذا الإقرار الذي يعود إلى نص منشور سنة 2018 يصح أيضا على انتخابات 2024 التي فاز فيها مادورو بالرئاسة لفترة جديدة. ورغم أنّ العملية الانتخابية قد تمّت في كنف النزاهة والشفافية فقد شكّكت المعارضة اليمينية في فنزويلا في صحّتها بل اعتبرتها مزيفة وهي تحضى في ذلك بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وتمثل ذراعها في الداخل.

أسعى في هذه الورقة إلى بيان السياقات التاريخية والرهانات الاستراتيجية المحيطة بهذه المسألة من جوانب عديدة ولا أتوخّى الحياد المشبوه عندما يتعلق الأمر بقضايا العدالة والحرية.

جمهورية فنزويلا البوليفارية هي خامس دولة في جنوب أمريكا من حيث الكثافة السكانية (قرابة الثلاثين مليون نسمة) بعد البرازيل ومكسيكو وكولومبيا والأرجنتين. ولا يمكن استيعاب حاضرها دون الإلمام ببعض من تاريخها الحديث والمعاصر.

الاستعمار الإسباني والتحرر من الاستعمار

ارتبط تاريخ فينزويلا مثل تاريخ أمريكا اللاتينية/ الجنوبية بالاستعمار الحديث. لقد وطأت قدما كولمبوس أرض فنزويلا خلال رحلته الثالثة أي سنة 1498 م وما لبث أن حوّلها الأسبان منذ بداية القرن السابع عشر إلى مستعمرات تضمّ مزارع قهوة وتبغ وكاكاو،أبادوا كل من قاومهم وشردوا من قدروا على تشريدهم من السكان الأصليين وجلبوا إليها منذ القرن الثامن عشر سود إفريقيا عبيدا لاستعمالهم في الحقول. وكان عدد العبيد في فنزويلا إلى حدود إلغاء العبودية سنة 1854 قرابة المائة ألف شخص.

انطلقت حرب التحرر من إسبانيا سنة 1810 بقيادة سيمون بوليفار (1783-1830) الذي عاش في باريس أيام الثورة الفرنسية. وسرعان ما التحق بفنزويلا وقاد كضابط عسكري حرب تحرير من المستعمر الإسباني. ونجح في طرد الأسبان من فنزويلا التي استقلت سنة 1829. وقاد سيمون بوليفار، الذي سميت بوليفيا باسمه تكريما له، حملات بطولية ناجحة لطرد الإسبان من جنوب أمريكا وكان مؤمنا بضرورة توحيد دول الجنوب للتصدي للخطر الداهم من الولايات المتحدة الأمريكية، هذه القوة الصاعدة والساعية إلى إغراق أمريكا اللاتينية في بؤس دائم ومنعها من حكم نفسها بنفسها. سعى إلى توحيد فنزويلا والإكوادور وكولومبيا وبنما مع أجزاء من البيرو والبرازيل وغيانا في دولة واحدة، لكنّه لم يفلح في ذلك ومكث هذا الحلم في أعماق أحرار جنوب القارة إلى أن أحياه شافيز. وفعلا كانت رؤية بوليفار الاستباقية صحيحة حول رغبة الولايات المتحدة في تنصيب حكّام موالين لها للتحكم في شعوبهم. لهذا فإنّ استراتيجيا الولايات المتحدة في سياستها الخارجية مع جيرانها بالأمس تتأكّد اليوم وهي زعزعة أمن فينزويلا وإغراقها بالتضليل الإعلامي حول الانتخابات والوضع السياسي والاجتماعي.

فينزويلا راهنا

تحوّلت فنزويلا منذ سنة 1940 إلى أكبر دولة مصدرة للبترول. وعلى عكس البلدان المجاورة وبفضل

الطفرة البترولية حافظت على نوع من الاستقرار مقارنة بجيرانها في الجنوب. وكانت تتمتع بمؤسسات ديمقراطية شبه مستقرة. ومع أزمة 1974 وارتفاع أسعار البترول شرع الرئيس كارلوس بيريز من حزب العمل الديمقراطي في تأميم النفط وصناعات الفولاذ. وبعد سقوطه عام 1958، حُكمت فنزويلا لمدة 40 عامًا من قبل حزبين: AD وCOPEI وقّعا اتفاقا في مقر إقامة رفائيل كالديرا في بونتو فيخو، على تحالف سياسي وتقاسم السلطة فيما بينهما. وأصبحت الفترة منذ ذلك الحين تُعرف باسم فترة بونتو فيخو.

ومن الأيام التي يحفظها القاموس السياسي الفنزويلي “الجمعة السوداء” وهي إشارة إلى يوم 18 فيفري سنة 1983، تاريخ صدور قرار تخفيض أسعار النفط الذي أدّى إلى تزايد الديون وانخفاض قيمة العملة. ومنذ ذلك التاريخ تحوّل وضع فنزويلا من بلد ثريّ يُشبّه بالسعودية إلى بلد مسّ الفقرُ فيه الطبقات الدنيا والوسطى. هكذا ما لبثت أن اندلعت ثورة “كاراكازو”، يومي 27 و 28 فيفري سنة 1989 ، ردًا على ارتفاع أسعار الوقود الذي كان استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي التي شرع الرئيس كارلوس أندريس بيريز منذ بداية فترة ولايته الثانية في تنفيذها مخالفا بذلك الشعارات الاشتراكية التي رفعها في حملته الانتخابية. ولفرض الأمن أمر الجيش بقمع التحركات الرافضة لهذا الإجراء ما أدى إلى سقوط كثير من القتلى. ويرى العديد وخصوصا اليساريون منهم أن ثورة كاراكازو هي ولادة جديدة للثورة البوليفارية حيث أدّى الوضع المتردّي إلى تمرّد شريحة من الضباط الشباب على أوامر القمع ضد المدنيين، ومن بينهم هوغو تشافيز الذي قاد في شهر فيفري 1992 محاولة انقلابية فاشلة ضدّ بيريز وقضى سنتين في السجن. وقد ساهم عدم رضاء المواطنين على المؤسسة السياسية في ترسيخ صورته كبطل شعبي وزعيم سياسي.

أنشأ تشافيز بعد خروجه من السجن حزبا سياسيا وترشح سنة 1997 للانتخابات الرئاسية التي خاضها تحت شعار حركة الجمهورية الخامسة. وفاز في انتخابات ديسمبر 1998 في الجولة الأولى بنسبة 56% من الأصوات ومن ثمة أنشأ مجلسا تأسيسيا جديدا بناء على استفتاء وأصدر دستورا جديدا كان مادورو خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يستشهد به ويرفعه أمام الجماهير في شكل كتيب صغير.

الولايات المتحدة وتشافيز

صرح مادورو، إثر وفاة تشافيز، أن الولايات المتحدة كانت وراء موته الذي قارنه بموت ياسر عرفات. وفي الوقت الذي أعلنت فيه دول تضامنها مع الشعب الفنزويلي في مصابها الجلل وحزنها على فقدان زعيم يصعب تعويضه استبشرت صحف أمريكية وبريطانية بالخبر واعتبرته فرصة لصالح فينزويلا للخروج من الأزمة التي تتخبط فيها وتقصد نمط الحكم الشافيزي. ووصف وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد تشافيز بأنه “هتلر جديد، وأعلن الرئيس أوباما حالة الطوارئ في الولايات المتحدة بسبب “التهديد الاستثنائي” الذي تشكله فنزويلا. كما أنفقت الإدارات الأميركية المتعاقبة أموالا طائلة في محاولة الإطاحة بالحكومات الشافيزية وتنصيب حكومات مطيعة لها مثل حكومتي كارلوس أندريس بيريز ورافائيل كالديرا. وبعد أن قبلت بريطانيا دورها كشريك أصغر في “العلاقة الخاصة”، سارعت إلى اتباع الخط الأميركي.” وعلى الفور لم يعترف البيت الأبيض بنتائج الانتخابات. هذا رغم تأكيد مركز كارتر بوصفه شاهد عيان على الانتخابات بأن الشعب الفنزويلي قد مارس فيها كلّ مواطنته وبحرية.

لقد كانت الولايات المتحدة وراء الانقلاب الفاشل لسنة 2002. وعن سؤال: “ألا يكون خطابكم الثوري مساهما في مناخ عدم التسامح الراهن؟” وجهته آنذاك صحيفة لوموند الفرنسية إلى شافاز: أجاب:” أعتقد اليوم أن أعظم عوامل عدم التسامح هي وسائل الاعلام”. وفي سنة 2006 رغم الادعاءات القارة لوسائل الاعلام بأن الانتخابات مزيفة فإن 56% من المستجوبين كانوا يعتقدون بأنها نزيهة في حين وافق 30 % فقط على ما تدعيه وسائل الاعلام.

سياسة تشافيز

انتُخب تشافيز رئيسا في دورتين، وظلّ في الحكم من سنة 1999 إلى حدود وفاته في 5 مارس 2013. أسس سنة 2007 الحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا PSUV. وكانت سياسته تقوم على مبدإ الانتماء إلى المذهب البوليفاري والانخراط في الثورة البوليفارية. وفي عهده سميت “جمهورية فنزويلا البوليفارية” ورسم لسياسته هدفا وهو إرساء اشتراكية القرن الواحد والعشرين وشرع في إنجاز عدة إصلاحات تحت شعار الثورة البوليفارية، وأهمها اتباع سياسة ديمقراطية تشاركية وتأميم الصناعات الأساسية. وهذا ما سبب له نقدا سلبيا من قبل الليبراليين لأنهم تأكدوا من أن مصالحهم أصبحت مهدّدة فكوّنوا معارضة يمينية راديكالية وقد تبنّتهم الولايات المتحدة الأمريكية وظلت تتعهدهم وتستعملهم إلى اليوم لزعزعة الأوضاع ونشر الفوضى في فينزويلا. ومن الصفات التي ركزت عليها المعارضة في نقدها للنظام ومحاولة إضعافه أنه شعبوي وأنه يعمل على إضعاف الديمقراطية التمثيلية وأنه ينمّي حكما استبداديا ويدعم الأنظمة الدكتاتورية في العالم (مثل نظامي صدام حسين والقذافي).وقد أعلن شافاز بكل وضوح منذ سنة 2005 تبنيه للاشتراكية وكان معارضا شرسا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ونجح في تكوين تحالف بين أمم جنوب أمريكا.

وعموما لم تهدأ الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الثورة البوليفارية عن تقويض أمن فينزويلا باتباع شتى أنواع التهديدات والمحاولات الانقلابية والإعلامية والدبلوماسية والعقوبات الزجرية الاقتصادية والمالية.

البروباغندا الإمبراطورية

بيّن صاحب كتاب أخبار سيئة من فينزويلا، اعتمادا على عينات من صحف عالمية مثل الغارديان والتايمز والدايلي تلغراف والإندبندنت والنيويورك تايمز والواشنطن بوست اقتطفها قبل وبعد انتخاب تشافيز كيف أنّ هذه الصحف تتبع خطا تحريريا واحدا يتناغم مع السياسة الرسمية للدولة العظمى وتابعتها المملكة المتحدة وهو تجميع الأخبار السيئة وغير المتحقق منها ونشرها على أوسع نطاق وتقديمها للقراء في شكل بديهيات لا يرقى إليها الشك. ومن القوالب التي جهزها هذا الإعلام أن فنزويلا كانت تعيش في نظام ديمقراطي قبل شافاز وتحولت تدريجيا معه إلى نظام استبدادي يزيف الانتخابات ويعادي الديمقراطية، والحال أن الواقع يؤكد عكس ذلك تماما.

لقد استنتجت شخصيا كملاحظ لانتخابات 2024 أنّ نفس البروباغندا المتبعة سابقا تعاد اليوم وبنفس المنهج إذ تتغير الأسماء والتواريخ ولكن المضمون يبقى هو نفسه وكذلك الهدف الاستراتيجي ألا وهو إفشال التهديد الاشتراكي للولايات المتحدة الأمريكية في المحيط القارّي. وأدوات تحقيقه لم تتغير وهي البروباغندا والغسيل المستمر للأدمغة.

إنّ الاطلاع على الخلفيات التاريخية يسهل مهمّة الملاحظ غير المنحاز قبليا كي لا يقع فريسة لمجموعة من “البديهيات” وهي في الحقيقة تضليلات تغذي الحملة المسعورة التي تؤججها المعارضة اليمينية هذه الأيام وتؤطرها وترعاها الولايات المتحدة بوصفها إمبراطورية قامت سياستها الخارجية منذ صعود شافاز إلى الحكم على معاداته والعمل على القضاء عليه حتى إن اقتضى الأمر تجويع شعبه ومحاصرة بلاده. هذه الإمبراطورية التي قامت سياستها ولا تزال قائمة على طمس التاريخ الموضوعي للشعوب التي مرّت بها أو التي أبادتها وسارت على أنقاضها بتزييف الوقائع الفعلية وتعويضها بسردية تخدم استراتيجيتها التوسعية وقاعدتها في ذلك استعمال آلتها الإعلامية الضخمة للإمعان في طمس الحقائق وإظهار مصالحها على أنها مصالح البشرية جمعاء وتلبيس أطماعها بقميص حقوق الإنسان والاتفاقيات والمعاهدات الدولية ودسّ عملائها في مختلف الجمعيات والمنظمات شبه الحكومية وغير الحكومية.

ودون تزويق للكلام يتمثل المعيار الفعلي لنزاهة الانتخابات في بلد ما وفق السياسة الواقعية للولايات المتحدة الأمريكية في بسط وصايتها عليه سواء بالطرق الخشنة أو الناعمة أي بالحرب المباشرة أو بالوكالة وإشعال نار الفتن والانقلابات أو بتحريك آلتها الإعلامية والمنظمات الحقوقية وتسليط العقوبات على البلد المقصود. ووفق المنطق نفسه الذي يتحكم في سياسة الولايات المتحدة الإمريكية تكون الانتخابات في بلد ما نزيهة بقدر تدخلها فيه وطاعته لمشيئتها. وكل منع لها من التدخل في سيادة الدول وفي حق الشعوب في تقرير مصيرها تعتبره دليلا ثابتا على أن الانتخابات مزورة والمسار مجانب للديمقراطية ولمدونات حقوق الإنسان. وتاريخها مليء بالأمثلة : باسم الديمقراطية تدخلت واشنطن سنة 1996 بكل قوة مع حلفائها في الانتخابات الروسية لإنقاذ رئيس مريض وفاقد لمصداقيته.

كما صرح مسؤول سابق في جهاز الدولة الامريكية بأنّ وكالة المخابرات المركزية ” قد تلاعبت بالانتخابات الإيطالية في العقد الرابع من القرن الماضي وفي ألمانيا خلال السنوات الخمسين من نفس القرن. وبقطع النظر عن التلاعب بالانتخابات أطاحت سريا بالقادة المنتخبين في إيران وغواتيمالا في السنوات الخمسين ونظرا إلى هذا التاريخ الملطخ بالدماء والتضليل لا يمكن لعاقل أن يصدق ما تصرح به الأجهزة الرسمية ووسائل إعلامها بأن الانتخابات في فنزويلا مزوّرة تماما كما لا يمكن تصديق أن الولايات المتحدة الأمريكية راعية للديمقراطية والسلم في العالم ومدافعة عن حقوق الشعوب.

وما يؤكد عدم صدق الولايات المتحدة في ادعاءاتها حول الانتخابات الحالية ادعاؤها في حزمة العقوبات التي سلطتها على فنزويلا بأنّها جمدت مخزون عملتها في حين أنها تستعمله في أسواق المال وتجني منه العائدات. ومعلوم أنها سلطت على فنزويلا أكثر من 930 عقوبة مالية وتجارية واقتصادية كما سلطت عقوبات على الدول التي تتعامل معها. وشجعت المملكة المتحدة على سرقة ما قيمته مليار دولار من مدخرات فينزويلا من الذهب. إن امبراطورية هذه سياستها لا يمكن أن تكون راعية للديمقراطية أو حريصة على السلم في العالم ولا مدافعة على شعب تمنع عنه الغذاء والدواء وتمنعه من استغلال ثرواته الطبيعية وفق ما تقتضيه مصلحته. وهذا صحيح من غزة إلى كراكاس، الأسباب هي نفسها والمقاومة ذات توجه مشترك.

الانتخابات الرئاسية الحالية

قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية ليوم 28 جويلية 2024 رددت وسائل الإعلام ذات الانتشار العالمي والموالية للسياسة الرسمية للولايات المتحدة الإمريكية ادعاء المعارضة الراديكالية بأن الانتخابات في فنزويلا مزورة وأن منافسة مادورو ماريا كورينا ماتشادو (رئيسة التحالف المناهض لتشافيستا والذي يضم مجموعات تتراوح بين اليمين المتطرف والديمقراطية الاجتماعية) هي الفائزة فعليا بالانتخابات.

وفي الساعة الأولى من اليوم الموالي للانتخابات (29 جويلية 2024 ) أعلن الـ CNE (المجلس الوطني للانتخابات) رسميا عن نتيجة انتخابات اليوم السابق وهي فوز الرئيس مادورو المنتهية ولايته بولاية ثالثة مدتها ست سنوات بنسبة 51.2% وبفارق مريح مع منافسه الأول.

والملاحظ أنّ ماتشادو التّي تمّ استبدالها خلال شهر افريل 2024 بالدبلوماسي السابق ادموندو خوانزاليس أورتيا كانت تترأس جزءا من المعارضة التي رفضت قبل الانتخابات التوقيع على مقترح اتفاقية بين جميع الأطراف المتنافسة حول الاعتراف بنتائج العملية الانتخابية مهما كانت نتيجتها. وأعلنت قبل الانتخابات أنّ التحالف الذي تترأّسه لن يعترف بالنتائج في حال الهزيمة أمام الرئيس مادورو. وهذا ما وقع فعلا إذ بمجرد إعلان النتائج والتصريح بفوز مادورو بالانتخابات دعت المعارضة إلى النزول إلى الشارع رفضا لقرار المجلس الوطني للانتخابات. وجاء في التقرير الذي رفعته نائبة الرئيس مادورو أنّ الهدف من أعمال الشغب هو جرّ الأمن نحو ردود فعل مبالغ فيها ونشر الفوضى في البلاد وفي التقرير إحصاء لنتائج العنف وهي:

  1. خمسة وعشرون قتيلا في كركاس وولاية أراغوا (59% تتراوح أعمارهم بين 15 و 19سنة) ويعني ذلك الزج بالأطفال والشباب ليكونوا أداة نشر للفوضى.
  2. مائة وواحد وثلاثون جريحا (88 % رجال ومنهم 74 % منهم رجال أمن).
  3. مهاجمة 253 مركز أمن.
  4. الاعتداء على ممتلكات عمومية وخاصة وعلى مؤسسات تعليم وصحة.

وقدمت وزيرة العلوم والتكنولوجيا إضافة إلى ذلك تقريرا حول الهجمات السيبرانية والرقمية التي استهدفت مؤسسات عمومية منها مؤسسات حكومية وبلديات ومكاتب ولاة ووسائل إعلام. وكان موقع المجلس الوطني للانتخابات المستهدف الأساسي في هذه الأفعال التخريبية. وكانت العمليات تدار حسب الرواية الرسمية من الدول المجاورة وذكرت من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والأرجنتين والمكسيك وكذلك إسبانيا.

وفي الوقت الذي اعترفت فيه دول بنتائج الانتخابات (بوليفيا- كوبا- الهندوراس-نيكاراغوا) سارعت أخرى بقيادة الولايات المتحدة (الأرجنتين- البيرو- كولومبيا- بنما) إلى رفض النتائج والدعوة إلى تنحي مادورو عن الحكم وإعادة الانتخابات الرئاسية. وذهبت زعيمة المعارضة إلى مزيد من التصعيد والتصلب عندما رفضت هذا المقترح معتبرة أن إعادة الانتخابات تعدُّ إهانة للشعب الفينزويلي الذي عبر عن موقفه وأنه على مادورو أن يسلمها الحكم.

إحكام العملية الانتخابية

وبصفتي ملاحظا على عين المكان لعملية الانتخاب وبناء على ما رأيته يجدر بي التنويه بأنها تمت في مكاتب اقتراع بواسطة آلات الكترونية. وتعدّ الانتخابات الأخيرة رقم 31 خلال ربع القرن المنقضي. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ مراكمة التجربة الانتخابية في الجمهورية البوليفارية الفنزويلية ورقمنتها يجعلها من أكثر الدول تقدما وشفافية في المنطقة بل في العالم ككل.

وقد تمّت العملية يوم 28 جويلية 2024 على النحو التالي: لاحظت في مراكز عديدة صفوفا طويلة جدّا تحت حرّ الشمس ينتظر فيها الناخبون أدوارهم في كنف الهدوء. وعندما يحين دور الناخب أمام مكتب الاقتراع يتجه إلى القاعة المعنية به. وعند الدخول يستظهر الناخب ببطاقة تعريفه للعون المكلف بهذه المهمة. وبعد أن يتثبت من هويته في سجل الناخبين ويصادق على ذلك إلكترونيا يمكنه من وضع بصمته أمام اسمه في السجل. عندها يتجه الناخب بمفرده إلى الخلوة المجهزة بشاشة حاسوب يجد عليها صور المترشحين وأحزابهم. وتطلب منه الآلة وضع إصبعه على صورة المترشح الذي يختاره ويؤكد ذلك مرة ثانية. وبمجرد انتهائه من ذلك تُخرج له الآلة الطابعة المرتبطة بالشاشة التي أمامه جذاذة توثّق اختياره، يطّلع عليها للتثبت ثم يضعها في الصندوق الموجود وسط مكتب الاقتراع الموضوع أمام أنظار المراقبين والملاحظين ويغادر القاعة ليحل آخر محلّه.

وقد أغلقت المكاتب أبوابها بعد دخول آخر ناخب. إثر ذلك يجتمع جميع أعضاء كل قاعة اقتراع ويحصون الأصوات انطلاقا من الجذاذات الورقية ومقارنتها بما هو مسجل في الآلة الإلكترونية ويحصلون على نسخة منه. ويتم توثيق ذلك في محضر جلسة يمضي عليه جميع الحاضرين. ويدونون في المحضر أيضا الإشكالات التي اعترضتهم وكيفية حلها ويرفعون الملف كاملا إلى هيئة الانتخابات.

هذا ما حدث في جميع المراكز ولكن الإشكال الذي حدث وبنت عليه المعارضة والولايات المتحدة مواقفها تمثّل في تعرض الشبكات الاتصالية إلى محاولات قرصنة نجحت أخيرا في إسقاط الصفحة التي تظهر فيها النتائج وكان ذلك مسبوقا بمحاولات فاشلة لقطع التيار الكهربائي كما وقع في دورات انتخابية سابقة. ولكن عملية القرصنة كما أكدت على ذلك الهيئة الانتخابية لم تمس جوهر العملية الانتخابية ولم تخترق الشبكة المغلقة والمحصنة للانتخابات. على إثر ذلك ادعت المعارضة الراديكالية وجود تزوير وطالبت بإعادة الفرز اليدوي في جميع المراكز والمكاتب. والمقصد من ذلك واضح وهو بث الفوضى والاستفادة من فترة الانتظار وتأخير موعد الإعلان عن النتائج وتحريك الشارع. ويدخل ذلك في مخطط كامل تناغم فيه أداء الإعلام الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها في الخارج والمعارضة اليمينية المتطرفة في الداخل.

الرهان الجيوسياسي و إعلام الدعاية والتضليل

يمثل الإعلام الأمريكي كما وصفه تشومسكي وهرمان (2002) مصنعا لفبركة الإجماع. ويكوّن منظومة وظيفتها أن تبلّغ إلى المتلقّي صورة تريده أن يتمثل بها العالم فتصبح ببساطة تصوره للعالم. وهذا صحيح فيما يتعلق بالرأي العام الذي تكونه وسائل الإعلام التي ذكرناها حول فنزويلا منذ ما يزيد عن الربع قرن. ولفهم كيفية عملها يمكن الإشارة إلى عناصر هذه المنظومة في علاقة بالنخبة التي تتحكم في شكل ومضمون هذا الإعلام الدعائي والتضليلي:

  • ملكية النخبة لوسائل الإعلام وهذا ما دعا الرئيس مادورو إلى ذكر أسماء تتحكم في شبكات الإعلام العالمي وهي متورطة مباشرة في الدعاية المضادة لفنزويلا مثل زوكربرج (الفايسبوك) وماسك (منصة X).
  • وسائل الإعلام بقاؤها رهن عائدات الإعلانات المتأتية من المؤسسات الكبرى الاقتصادية والتجارية والمالية، وهي المورد الأساسي لبقائها لذلك يكون بحث مؤسسات الإعلام عن وسائل البقاء أكثر أهمية من البحث عن الحقيقة والعدل في العالم.
  • وسائل الإعلام تعتمد في ترويج الأخبار على المصادر الرسمية والتي هي في موضوع الحال البيت الأبيض ووكالة المخابرات الأمريكية وبالتنسيق الوثيق مع اليمين المتطرف الفنزويلي.
  • الهجوم والتحيز المناهض للاشتراكية: فنزويلا الاشتراكية هي أخطر أعداء أمريكا معقل الليبرالية المتوحشة خصوصا بعد عودة اليمين المتطرف إلى الحكم في البلدان المجاورة مثل الأرجنتين التي بذلت حسب وسائل الإعلام الفنزويلية الكثير من المال لخدمة المعارضة في هذه الانتخابات الرئاسية.
  • علاقات فينزويلا الطيبة مع الصين وروسيا وإيران والتعويل عليهم بحثا عن متنفس من الحصار أمر يقضّ مضجع أمريكا الحالمة بعالم أحادي القطب ويوقظ لديها ردود الفعل الشرطية للحرب الباردة. وتصور نظامها السياسي بأنه استبدادي ومناصر للأنظمة الاستبدادية مثل العراق وليبيا لقد” قدمت وسائل الإعلام إرث هوغو شافيز على أنه انحلال وخلل” جلبه شافيز “الفوضوي”، الذي دمر الاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية في البلاد والسوق الحرة في محاولة “لفرض الماركسية الزائفة”.”
  • التغطية المفرطة في السلبية لواقع البلاد، مثل وضع العدالة الاجتماعية في البلاد وواقع الأقليات والتعايش السلمي بين الأجناس وتحرر المرأة والتمسك بالسيادة وتأميم الثروات الطبيعية والتداول السلمي على السلطة وإنتاج تقريبا كل الحاجيات من المواد الفلاحية وتحقيق نسبة محترمة من النمو الاقتصادي رغم العقوبات المسلطة، وصرف أكثر من 70 بالمائة من الميزانية في الاستثمار الاجتماعي هذه أخبار يهملها الإعلام الموجّه نكاية في الاشتراكية الفنزويلية وتكريسا للصورة السلبية التي صنعتها آلة الدعاية والتعتيم الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وترسيخا لاشمئزاز من هذا النظام لإقناع الرأي العام العالمي بضرورة معاقبتها وإرجاعها إلى “الجادة”، والجادة هنا هي الرضوخ للمصالح الأمريكية والشركات الكبرى.

الخاتمة

إن الحملة الشرسة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية على فينزويلا وعلى رئيسها مادورو لا أساس لها من الصحة وهي تتعارض مع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش في سلم اجتماعية والتمتع بثرواتها الطبيعية. وفي الحصار والعقوبات التي تسلطها الولايات المتحدة على فينزويلا شعبا وحكومة خرق صارخ لمبدأ السيادة. وما تتعرض له فينزويلا، هذا البلد الجميل والثري، يخضع للمنطق نفسه الذي تتعرض له فلسطين وإيران لأن العدو واحد واسترتيجيته رغم أنها مركبة عناصرها متجانسة، لذلك فإن وجود فنزويلا في محور مقاومة الهيمنة الأمريكية هو السبب الرئيسي لتشويه صورتها على مستوى عالمي وادعاء تزييف الانتخابات الرئاسية. ولهذا يعد وقوف الأنظمة والشعوب والأفراد إلى جانب فنزويلا تعزيزا للمعسكر المقاوم للعولمة والليبرالية المتوحشة. وأضعف الإيمان في التضامن مع فنزويلا هو الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أفرّت المحكمة العليا سلامتها. وقد انقسم العالم اليوم إلى قسمين قسم اصطف وراء الولايات المتحدة واليمين المتطرف الموالي لها ونفى سلامة نتائج الانتخابات الرئاسية في فنزويلا وقسم اعترف بسلامة العملية الانتخابية ونتائجها. ونحن نترقب من الجمهورية التونسية الالتحاق بالقسم الثاني والاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية في فنزويلا لأنّ التضامن موقف تحتاج إليه كل الدول التي تدافع عن قضايا عادلة.

كلمة الكتيبة:

انّ الآراء والمواقف الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الكتيبة، بل هي نتاج أعمال ملاحظة وتحليل قام بها كاتب المقال.

كلمة الكتيبة:
انّ الآراء والمواقف الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الكتيبة، بل هي نتاج أعمال ملاحظة وتحليل قام بها كاتب المقال.

الكاتب : محسن الخوني

أستاذ التعليم العالي في الفلسفة السياسية والاجتماعية رئيس مخبر "بحوث في التنوير والحداثة والتنوع الثقافي" بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس جامعة تونس المنار

تطوير تقني: بلال الشارني
تطوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : محسن الخوني

أستاذ التعليم العالي في الفلسفة السياسية والاجتماعية
رئيس مخبر “بحوث في التنوير والحداثة والتنوع الثقافي” بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس جامعة تونس المنار

mohsen