الكاتبة : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
كانت الساعة تُشير إلى الخامسة مساء حين سمعتُ امرأة أربعينية تتحدّث عبر الهاتف حول استعجالها من أجل الوصول مبكّرا إلى المنزل. كانت حجّتها هي ضرورة لحاقها بموعد بثّ سلسلة شوفلي حلّ، السلسلة ذاتها التي عُرض موسمها الأول في شهر رمضان من سنة 2005 على القناة الوطنية الأولى (تونس 7 سابقا) والتي يُعاد بثّها إلى اليوم على القناة الوطنية الثانيّة.
الكاتبة : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
كانت الساعة تُشير إلى الخامسة مساء حين سمعتُ امرأة أربعينية تتحدّث عبر الهاتف حول استعجالها من أجل الوصول مبكّرا إلى المنزل. كانت حجّتها هي ضرورة لحاقها بموعد بثّ سلسلة شوفلي حلّ، السلسلة ذاتها التي عُرض موسمها الأول في شهر رمضان من سنة 2005 على القناة الوطنية الأولى (تونس 7 سابقا) والتي يُعاد بثّها إلى اليوم على القناة الوطنية الثانيّة.
تُعتبر سلسلة شوفلي حلّ من إخراج صلاح الدين الصيد وسيناريو حاتم بالحاج، المتكوّنة من 166 حلقة والتي عُرضت بين سنتي 2005 و2009، السلسلة الأكثر شيوعا بين جميع الأجناس والفئات العمرية في تونس، إذ يتمّ الإقبال عليها وتكرارها عدّة مرّات في السنة، كما أصبحت أداة إشهارية للعديد من الشركات والمحلاّت التي تبيع مستلزمات الهواتف والتلفاز على وسائل التواصل الاجتماعي في إطار ما يُعرف بالتجارة الالكترونية.
إعادة المسلسلات التلفزيونية التي بثّت في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثانية هي سياسة اعتمدتها القناة الوطنية الثانية بُعيد اندلاع الثورة التونسية سنة 2011، لكن ما يجدر الإنتباه إليه هو الإقبال المكثّف على سلسلة “شوفلي حلّ” والذي يطغى جماهيريّا على بقية المسلسلات والسلسلات.
هذا الإقبال جعلنا نتساءل حول “ظاهرة سلسلة شوفلي حلّ” وما يتبعها من قراءات نقديّة سنحاول الإجابة عنها تباعا في هذا المقال.
فما سرّ الإقبال الجماهيري على البث المتكرّر والمسترسل لسلسلة “شوفلي حلّ”؟ وكيف تحوّلت من سلسلة هزليّة إلى أفيون للمجتمع التونسي؟
نظرية التّلقي منطلقا لتفكيك “ظاهرة شوفلي حلّ”
تُعرّف نظرية التّلقي سوسيولوجيًّا كحصيلة الأفكار والرؤى التي يستقبلها المتلّقي للعمل الإبداعي، وهي حسب معجم العلوم الاجتماعية لعالم الاجتماع الأمريكي كريغ كالهون “مناقشات نظرية مرتبطة في ما بينها تدور حول بناء المعنى الذي يقوم به القارئ أو، بشكل أعمّ، المراقبون أو المستهلكون للمعلومات والسلع الثقافية. تُعارض نظرية التلقي الآراء التقليدية حول المعنى التي تمنح امتيازا للمفاهيم القوية بشأن مقاصد المؤلف والرأي المتّصل بذلك والقائل إن المعنى ملازم للنصّ.”
ومن هذا المنطلق، يُحلّل الأستاذ في علم الاجتماع بالجامعة التونسية محمد الجويلي الطلب الاجتماعي الكبير -حسب قوله- على سلسلة شوفلي حلّ، ويتساءل عن أسباب هذا الطلب لسلسلة عمرها أكثر من 15 سنة، محلّلا ذلك بأنّ هذه السلسلة يُعاد في كلّ مرّة ابتكارها من خلال تكرارها و”هذا ما يندرج ضمن نظرية التّلقي التي تُعطي قيمة إضافية للمتلّقي الذي ينظر ويُشاهد ويؤوّل ويستقبل ويُعيد استقبال العمل من خلال تجاربه، إذ تنتفي سلطة النصّ وسلطة كاتب السيناريو أو العمل الفنّي بشكل عام حالما يستقبل المتلقّي هذا النصّ ويُعيد ابتكاره”،وفق تعبيره.
“هناك علاقة بين كاتب السيناريو والمتلّقي الذي أعاد إنتاج نفس السيناريو وأعاد ابتكاره من خلال سياقات متعدّدة ومن خلال حاجته إليها التي تمثّلت عبر هذه السلسلة في العلاقات العائلية والاجتماعية التي قدّمتها سلسلة شوفلي حل، فهي علاقات تُمثّل نموذجا للعائلة التونسية والتي قد تقلّصت نتيجة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية”، بحسب المتحدث ذاته.
نُلاحظ الحاجة إلى هذا النموذج من خلال عدّة تعبيرات اجتماعية أخرى على غرار الإقبال الذي شهده مسلسل النوبة لعبد الحميد بوشناق والذي تعود أحداثه إلى فترة التسعينات، أو إعادة مشاركة الإشهارات والانتاجات التلفزيونية القديمة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل أجيال مختلفة.
لكن ما يُضفي تميّزا على سلسلة “شوفلي حلّ” بالذات هو أيضا “بساطة النصّ، فسهولة فهمه وقراءته استقطب أجناسا مختلفة من “المتلّقي”، لاسيما الأطفال الذين يجدون في بساطة النصّ وهزليّته نوعا من الإمتاع يصعب تواجده في الأعمال الأخرى التي يُخاطب من خلالها النصّ أجناس نخبوية أو طبقات محدودة من المجتمع”، وفق تعبير الجويلي.
كما أنّه من تأثيرات هذه السلسلة الكوميديّة هو تعدّد الفئات العمرية أو الجيليّة التي تقبل على مشاهدة “شوفلي حلّ” حيث لم يبق هذا العمل من حيث المتلقّي أو المشاهد حبيس جيل واحد.
مركزيّة العائلة
تدور أحداث السلسلة داخل عمارة سكنيّة تجمع بين وجوه وملامح عديدة للشخصية التونسيّة، هي خليط تونسي تجتمع فيه طبقات اجتماعية مختلفة ولعلّ أبرز عائلة اهتمّ الكاتب بتفاصيلها، هي عائلة الأخصائي النفسي سليمان الأبيض (قام بدوره الممثّل كمال التواتي) الذي توجد عيادته داخل نفس العمارة. العمارة ذاتها تملكها “عرّافة” تُنافسه في استقطاب من هم.هنّ بحاجة إلى مساعدة نفسية.
من خلال هذا “الكارفور” التونسي متعدّد الوجوه، نجحت السلسلة في السفر بالمتلّقي بين تناقضات عدّة، العلم والخرافة، الكرم والبخل، الخير والشرّ -حتى وإن كان هزليا خفيفا-، الحبّ والحقد، وغيرها من المتناقضات التي عبّر عنها الأخصائيون في علم الاجتماع كثيرا محاولين فهم الشخصيّة /الهويّة التونسيّة.
إذ تراوح الأخصائي النفسي بين الطبيب (صاحب السلطة) والمريض (الذي يحتاج إلى عناية نفسية ومنعدم للسلطة)، هو سهل الاستفزاز وسهل الهدوء، مثله مثل العديد من التونسيين الذين عبّر عنهم الباحث التونسي في علم الاجتماع المنصف ونّاس في كتابه الشخصيّة التونسية قائلا:
“إنّ الشخصية التونسية ، وفق ما استطعنا التوصّل إلى بنائه، شخصيّة تُستنفر بسهولة فتستشيط غضبا بمجرّد الاستماع إلى بعض الكلمات، فتذهب إلى أقصى مدى العنف اللفظي والجسدي . ولكن اللافت للانتباه هو أنّ هذه الشخصية المتوتّرة يُمكن أن تهدأ وأن تُغادر العنف المفرط بمجرد الاستماع إلى اعتذار أو إلى كلمة طيبة أو مديح بسيط . فتنقلب بذلك الوضعية من النقيض إلى النقيض …وهي حريصة على المظهرية وعلى تجنّب الهزيمة حتى وإن كان في شكلها الرمزي “لا غالب ولا مغلوب”…ولعل ّهذا ما يساعدنا على الاستنتاج بأنّ هذه الشخصية مفارقية ومركّبة الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من الحذر المنهجي والعلمي في التعامل معها، فهي تسمح بأن يتعايش داخلها الأمر وضدّه والمنطوق ونقيضه.”
من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ سليمان الأبيض -الشخصية الرئيسية في السلسلة- كان نموذجا مصغّرا للإجابة عن سؤال “من هو التونسي؟”.
كلّ هذه التناقضات المذكورة، يُعاد تأويلها من قبل المتلقّي الذي يكتشفها كلّما أعاد السلسلة وكلّما تغيّرت من حوله البنى السياسية والثقافية والاجتماعية، يستقبلها ويقوم بمحاكاة للمحاكاة على واقعه، فإن كان حاتم بالحاج قد صنع محاكاة من واقع الشخصية التونسية في سلسلة شوفلي حلّ، فإنّ المتلقّي أعاد تلك المحاكاة وخلق منها محاكاة أخرى لواقعه المتغيّر بعد ثورة 2011 بحثا عن ذاته وعن مدى ثوابت شخصيّته.
مثّل مفهوم العائلة من خلال هذه السلسلة عنصرا هامّا وأساسيّا داخل أركان النصّ، فعائلة سليمان الأبيض هي عائلة نمطيّة جمعت بين الحياة التقليدية والحياة المعاصرة التي رافقت جيل التسعينات -الجيل ذاته الذي يعيش في حالة نوستالجيا متتالية-، أين يُحاول الأخصائيّ النفسي وربّ العائلة أن يُحافظ على توازنه الاجتماعي والثقافي بين الأمّ التي تُمثّل الحياة التقليدية وأصل الهوية والزوجة التي تُمثّل الحياة المعاصرة والانفتاح على هويّات كونية. للعائلة أيضا فتاتان تدرسان وتُجسّدان جيل المستقبل.
هذا الجيل ذاته أصبح فيما بعد له أبعاد رمزيّة حسب المتخيّل الجمعي، فقد ساهم في إسقاط الدكتاتورية وتشتّت بين الأيديولوجيات. فكيف انتقل بعد ثورة 2011 من حُضن العائلة الممتدّة إلى عائلات افتراضية تغيب ملامحها؟ هذا السؤال الذي يطرحه جيل الثمانينات والتسعينات، فهو الجيل الذي واكب ظواهر ومعايير وتقاليد مختلفة للحياة اليومية، وهو الجيل الذي انبنت أحلامه وطموحاته على الثنائيّات: ثنائية ما قبل التكنولوجيا وما بعدها، وثنائية الديكتاتورية والحرّية.
وبالعودة إلى شخصيّات السلسلة، نجد أنّ المتلقّي لم يتمثّل من خلال العائلة المصغّرة لسليمان الأبيض فقط، بل هناك شخصيّات محورية اندمج في تفاصيلها وأعاد تعريف السلسلة بأسمائهم.ن في بعض الأحيان، على غرار شخصيّة السبوعي وهو الأخ الأصغر لسليمان الأبيض ونقيضه، فهو لا يحظى بتعليم عال ولا بالذكاء والفطنة، كما أنّ بدانته وعفويته جعلت منه شخصية أشبه إلى الشخصية الكرتونية وبالتالي أقرب إلى الأطفال، وقد تابع المتلقّي رحلة زواجه من حبيبته عزّة -التي تكفّلت بها “جنّات العرّافة” البخيلة صاحبة العمارة- باهتمام كبير.
من خلال هذا التعريف الوجيز للشخصيّات المحورية، نجد أنّ كاتب النصّ حاتم بالحاج وضع المتلقّي في حلقة تبدأ من العائلة وتنتهي عندها، لكلّ عائلته الحاضرة دوما في حواراته وقصصه وأساطيره، لا يمرّ يوم من سلسلة “شوفلي حلّ” -والتي اختار كاتبها أن تكون حلقاتها منفصلة بعيدا عن الرتابة الدرامية- إلاّ وكان يوما عائليّا بامتياز، وهذا ما كانت تبحث عنه العائلة التونسية خوفا من الشتات السياسي والاجتماعي.
الحنين إلى الماضي: الوجه الآخر لأزمة الإنتاج في التلفزة التونسية
بدأ الانفتاح مجدّدا على سلسلة شوفلي حلّ حسب الأستاذ محمد الجويلي بداية من سنة 2014، وهذا يُشير إلى بداية الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد والتي رافقها قلق اجتماعي كبير، وتجدر الإشارة هنا إلى هيمنة البرامج السياسية في تلك الفترة وإنتاج ما يُسمّى بالمعرفة السياسيّة، وفق تعبيره.
كلّ هذه العوامل، نتج عنها انسحاب العائلة التونسية من التشنّجات السياسيّة في مقابل الشوق أو الحنين إلى مفهوم العائلة النّمطي الذي قدّمته سلسلة “شوفلي حلّ” كغيرها من الإنتاجات التلفزيونية البسيطة التي كانت تُبثّ قبل الثورة وقبل الطفرة الخطابية السياسيّة، حسب محدثنا.
يقول الباحث محمد الجويلي في هذا الإطار:
“خلقت سلسلة “شوفلي حلّ” طلبا اجتماعيّا مرفوقا بالحماية من الارتباك والقلق السياسي ومن المفاهيم المعقّدة التي تبُثّ في العائلة خوفا من التفكّك الأسري. مشاهدة السلسلة وتجمّع العائلة حولها خلق توازنا اجتماعيّا. وهذا ما يُحيلنا إلى نظرية التوازن التي تقوم على افتراض أنّ الأفراد لديهم نزوع عميق نحو الاتّساق في علاقاتهم وإدراكاتهم. وترى هذه النظرية أنّ الأفراد يسعون دائما لتحقيق التوازن عندما تدخل العلاقات الاجتماعية في مرحلة نزاع، وذلك إمّا بتغيير آرائهم وإمّا مواقفهم تُجاه الأشخاص أو الأوضاع، أو بتقليل شخصي من أهميّة النزاع”.
يؤيّد الباحث في علم الاجتماع صفوان الطرابلسي هذه القراءة، لكنّه يُشير إلى أنّ الاهتمام المكثّف بسلسلة “شوفلي حلّ” يعود أيضا إلى هجانة جيل الثمانينات والتسعينات الذي عايش ثقافة التلفاز من جهة، وواكب التكنولوجيات الحديثة التي أصبحت تبثّ السلسلات الجديدة على المنصّات من جهة ثانية، لذلك فهو الجيل صاحب أعلى مشاهدة بين الأجيال الأخرى.
كلّ هذا الاهتمام بسلسلة شوفلي حلّ والذي يعود إلى عدّة عوامل كما ذكرنا ذلك، يُحيلنا إلى معضلة أساسيّة في الإنتاج السمعي البصري، وهي تراجع إنتاج الأعمال الدراميّة والفنيّة بشكل عام في التلفزة التونسية، كما أنّ الأعمال التي تلت الثورة التونسية لم تكن وفيّة “للعائلة” كما تتمثّلها العائلة التونسية والتي تبحث عنها في الإنتاجات التلفزيونيّة، بقدر ما كانت وفيّة إلى نقل واقع أصبح يرفضه المتلّقي ويهرب منه، هو واقع الهجرة غير النظامية المرتفعة في صفوف الشباب، وواقع التراجع الاقتصادي، وواقع الشعبوية والتحريض والعنف ومعاداة الآخر.
لقد فرض هذا الواقع حالة من الاكتئاب الجماعي والرفض تُجاه ما يحدث في بلاد نسبة سكّانها ضئيلة مقارنة بالبلدان الأخرى لكنّها تواجه عجزا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لم تشهد تبعاته العائلية عليها من قبل، ولعلّ ما فاقم هذا الإحساس الجماعي هو طفرة التكنولوجيات الحديثة التي قلّلت التواصل العائلي وساهمت بشكل كبير في خلق نوع من الفردانية والاغتراب.
بعيدا عن القراءات المناقبيّة التي تثمّن هذا العمل التلفزيوني الذي نجح نجاحا منقطع النظير لا يختلف حوله اثنان، لا شكّ في أنّنا اليوم نحتاج بشكل عميق إلى دراسات سوسيولوجيّة مكثفّة تغوص بالبحث والتنقيب في خبايا تأثيرات هذه السلسلة على عقليّة وسلوكيات وثقافة التونسي.ة من مختلف الأجيال التي أدمنت حدّ التخمة ( وربّما حدّ الجرعات المفرطة) على استهلاك المضامين والأفكار المتداولة في ثنايا حلقات “شوفلي حلّ”.
إنّ وقع الأعمال التلفزيونية قد يكون أكثر تأثيرا على المجتمعات مقارنة حتّى بما يدرّس في المدارس والجامعات. و سلسلة “شوفلي حلّ” باتت اليوم جزءا من المخيال الجمعي التونسي، شيبا وشبابا، نساء ورجالا، بل يمكن القول أبعد من ذلك إنّها ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل جزء من شخصيّة التونسي.ة راهنا ومستقبلا.
يمثّل هذا المقال محاولة لتفكيك الأبعاد السوسيولوجية لتأثيرات سلسلة "شوفلي حلّ" الكوميديّة على المجتمع التونسي طيلة قرابة 20 سنة، فضلا عن محاولة فهم أسباب تحوّلها إلى نوع من "الأفيون" لدى شرائح وفئات عديدة من التونسيات والتونسيين.
يمثّل هذا المقال محاولة لتفكيك الأبعاد السوسيولوجية لتأثيرات سلسلة "شوفلي حلّ" الكوميديّة على المجتمع التونسي طيلة قرابة 20 سنة، فضلا عن محاولة فهم أسباب تحوّلها إلى نوع من "الأفيون" لدى شرائح وفئات عديدة من التونسيات والتونسيين.
الكاتبة : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
الكاتبة : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية