الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“مررتُ يوم 22 نوفمبر/ تشرين الماضي في الطريق الرابطة بين سيدي بوزيد وصفاقس، ولم يعترضني أيّ جني للزيتون أو سيّارات تنقُل الزيتون إلى المعاصر، كما لم أجد أيّ منشر فيه زيتون، رغم أنّ شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأوّل يمثّلان أوجّ موسم إنتاج الزيتون.. وهذه مصيبة”، بهذه العبارات لخّص أنس معلّى، مستثمر فلاحي، “الكارثة” التي يعيشها قطاع الزيتون في الآونة الأخيرة، وفق تقديره.
لا يخفى على أحد أنّ انطلاقة موسم جني الزيتون 2025/2024 لم تسر كما كان مخطّطا لها رغم إعلان وزارة الفلاحة أنّ هذا الموسم سيكون “جيّدا و واعدا”. فقد اتّخذ عديد الفلّاحين في مناطق مختلفة من الجمهورية التونسيّة قرارا بعدم جني صابة الزيتون أو تأجيلها.
ويأتي هذا عقب إعلان وزارة الفلاحة أنّ أسعار بيع زيت الزيتون المتداولة لموسم 2025 ستتراوح بين 18 و22 دينارا للتر الواحد. وفي مرحلة لاحقة، أعلن الديوان الوطني للزيت عن تراجع أسعار تصدير زيت الزيتون من 18 دينارا إلى 14 دينارا نتيجة تراجع أسعار مادّة الزيت على مستوى العالم.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“مررتُ يوم 22 نوفمبر/ تشرين الماضي في الطريق الرابطة بين سيدي بوزيد وصفاقس، ولم يعترضني أيّ جني للزيتون أو سيّارات تنقُل الزيتون إلى المعاصر، كما لم أجد أيّ منشر فيه زيتون، رغم أنّ شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأوّل يمثّلان أوجّ موسم إنتاج الزيتون.. وهذه مصيبة”، بهذه العبارات لخّص أنس معلّى، مستثمر فلاحي، “الكارثة” التي يعيشها قطاع الزيتون في الآونة الأخيرة، وفق تقديره.
لا يخفى على أحد أنّ انطلاقة موسم جني الزيتون 2025/2024 لم تسر كما كان مخطّطا لها رغم إعلان وزارة الفلاحة أنّ هذا الموسم سيكون “جيّدا و واعدا”. فقد اتّخذ عديد الفلّاحين في مناطق مختلفة من الجمهورية التونسيّة قرارا بعدم جني صابة الزيتون أو تأجيلها.
ويأتي هذا عقب إعلان وزارة الفلاحة أنّ أسعار بيع زيت الزيتون المتداولة لموسم 2025 ستتراوح بين 18 و22 دينارا للتر الواحد. وفي مرحلة لاحقة، أعلن الديوان الوطني للزيت عن تراجع أسعار تصدير زيت الزيتون من 18 دينارا إلى 14 دينارا نتيجة تراجع أسعار مادّة الزيت على مستوى العالم.
أثار هذا القرار استياء كبيرا في صفوف الفلّاحين الذين رأوا أنّه غير مُنصف لهم، معتبرين أنّ الأسعار المُعلن عنها لبيع زيت الزيتون لا تغطّي مصاريف الإنتاج.
بين سردية السلطة التي تُؤكد انحيازها للفئات الشعبيّة وحربها التي لا هوادة فيها في علاقة بمكافحة الفساد وغسل الأموال ومحاربة الاحتكار والمُحتكرين والتهرّب الضريبي، و بين رواية العديد من الفلاّحين الحانقين الذين يشدّدون على خطورة التمشي المُتبع من قبل السلطة، معتبرين أنّ إيقاف عبد العزيز المخلوفي (صاحب مجموعة C H O) كبير مصدرّي زيت الزيتون قد أثّر سلبا على القطاع، تظهر حلقة مفقودة في هذا الملف الشائك الذي أضحى بمثابة قضيّة أمن قومي.
على شفير الكارثة
من المُتوقّع أن تنتج تونس خلال موسم 2025/2024، بحسب المعطيات الرسميّة، حوالي 340 ألف طنّ بزيادة قدرها 55% مقارنة بالموسم الفارط. وتأمل تونس في تصدير ما يقارب 300 ألف طن من جملة الـ340 ألف طن المُنتجة.
تُعدّ تونس من أقدم البلدان التي تقوم بغراسة الزيتون الذي يرتبط تاريخيّا بحضارات مختلفة مرّت عبر البلاد التونسية على غرار الرومان و قرطاج وغيرها. ويوجد اليوم في تونس حوالي 107 مليون شجرة زيتون مغروسة على نحو 2 مليون هكتار من الأراضي الفلاحية.
ويعتبر زيت الزيتون مصدر دخل لأكثر من 140 ألف عائلة زراعيّة في تونس التي بلغت فيها نسبة الأراضي المُخصّصة لزراعة الزيتون قرابة 30 بالمائة.
تنتج تونس تاريخيا بشكل أساسي الزيتون البعلي (المطري) الذي لا يحتاج إلى كمّيات كبيرة من المياه، إلّا أنّ حدّة التغيّرات المناخيّة وانعكاساتها، إلى جانب غياب الرقابة، خلقت خلال السنوات الـ10 الأخيرة، توجّها جديدا وسريع النموّ في غراسة الزيتون السقوي، الأمر الذي قد يؤدّي إلى إشكالات عديدة في المستقبل، وفق عديد الخبراء.
تحتلّ تونس المرتبة الثانية في إنتاج زيت الزيتون على الصعيد العالمي، بعد إسبانيا التي تنتج تقريبا نصف الإنتاج العالمي من الزيت.
وقد أنتجت تونس في موسم 2024/2023 حوالي 210 ألف طن من زيت الزيتون. وتختلف الكمّيات المنتجة من سنة إلى أخرى نتيجة عوامل مناخيّة بشكل رئيسي.
يقول الخبير في السياسات الفلاحية والتنمية المستدامة فوزي الزياني، في حواره مع موقع الكتيبة: “نتيجة الجفاف الذي أصاب البلاد التونسية خلال السنوات الأخيرة فإنّ أغلب الفلاحين لم يتحصّلوا على صابة جيّدة. مما أدّى إلى قفزة نوعيّة في غراسة “الزيتون السقوي” بما يُتوقع أن يبلغ إنتاج تونس من زيت الزيتون خلال السنوات القادمة زهاء الـ 600 ألف طن.”
ويشير الزياني إلى أنّ “تونس صدّرت 196 ألف طنّ خلال موسم 2024/2023، ممّا حقّق إيرادات بلغت 5,1 مليار دينار من العملة الصعبة، وهو رقم قياسي لم يكن متوقّعا بالنظر إلى الكميّة التي تمّ إنتاجها والتي بلغت حوالي 210 آلاف طن، وهو رقم اعتبره ذات المتحدّث “ضعيفا”.
وفسّر الزياني ارتفاع إيرادات تصدير زيت الزيتون لتبلغ رقما قياسيا بأنّه “يعود بالأساس إلى ارتفاع أسعار المادة في الأسواق العالمية، على اعتبار أنّ العرض كان أقل بشكل كبير من الطلب”. هذا الاختلال وفق ذات المتحدّث تأتّى من “انخفاض معدّلات الإنتاج بإسبانيا أكبر منتج للمادة في العالم بسبب الظروف المناخية”.
“ارتفاع قيمة الإيرادات الماليّة التي حقّقتها صادرات زيت الزيتون خلال الموسم المنقضي يعود إلى الارتفاع الذي عرفته الأسعار العالميّة لهذه المادّة ويرتبط بشكل مباشر ببورصة زيت الزيتون العالمية”.
فوزي الزياني
في هذا السياق، يبيّن عضو مُنظمة آلرت مهدي جماعة في حديثه مع موقع الكتيبة أنّ “أسعار بيع زيت الزيتون بالسوق العالمية خلال الموسم الفارط والتي بلغت 30 دينارا للتر الواحد – كانت استثنائيّة باعتبار أنّ كمّيات زيت الزيتون المنتجة عالميّا كانت أقّل من تلك المستهلكة”.
ويضيف جماعة في تفسيره للتراجع الحاد في سعر زيت الزيتون خلال هذا الموسم مقارنة بالموسم المنقضي أنّ “فائض الإنتاج المُحقّق عالميا خلال هذا الموسم أدّى إلى تراجع سعره بشكل لافت مقارنة بالسنة الماضية، وأدّى إلى وصول سعر اللتر الواحد من زيت الزيتون إلى 10 دنانير تونسية، هذا فضلا عن الاشكاليات التي طرأت في منظومة التصدير”، ومؤكّدا أنّ “المستهلك التونسي ليس هو المسؤول عن تحديد سعر الزيت على اعتبار أنّ السوق المحلّية لا تستهلك إلاّ 10% من جملة زيت الزيتون المنتج في تونس”.
هذا و راجت في الآونة الأخيرة صورا وفيديوهات عن منتجات زيت الزيتون التونسي تُباع في بعض المساحات التجارية بالأسواق الأوروبية بأسعار تترواح بين 10 والـ 20 يورو للتر الواحد ما استدعى عددا من الفلاحين والمنتجين إلى إطلاق دعوات بتحديد سعر بيع لا يقل عن 30 دينار.
يعلّق عضو منظمة “آلرت” على هذه الدعوات قائلا: “لا يمكن للفلّاحين أن يبيعوا لتر الزيت بـ30 دينارا تونسيّا باعتبار أن الثمن الموجود في الأسواق الأوروبية لا يتضمّن سعر الزيت فقط، وإنّما أيضا يشمل كلفة التعليب والتسويق والتصدير وغيرها من التكاليف”.
ويردف بالقول إنّه “عندما قامت الدولة التونسية ببيع لتر زيت زيتون بـ15 دينارا في السوق المحلّية السنة الفارطة – وهو أمر قوبل بالرفض من الفلّاحين آنذاك الذين تمسّكوا بسعر 25 دينارا للتر – ، أصبح السعر المعتمد من الدولة بالنسبة إليهم في الحدّ الأدنى هذا العام وبالتالي يرفضون بيع الزيت بأسعار أقلّ من 15 دينارا”.
خلال السنة الماضيّة، وفي إطار البرنامج الوطني لترويج زيت الزيتون في السوق المحليّة، قامت السلطات التونسيّة بإجبار مُصدّري هذه المادّة على دعم مجهودات الدولة في هذا المجال من خلال المساهمة بكميّات قدّرت بنحو 0.5 بالمائة من إجمالي ما تمّ تصديره بالنسبة لكلّ مصدّر في سنة 2022 وذلك من أجل ضخها للمستهلك الداخلي الذي انتفع بعلب زيت زيتون بلاستكيّة ثمنها 15 دينارا.
مع العلم أنّ الدولة التونسيّة تفرض معلوما على تصدير زيت الزيتون غير المعلّب يقدّر بـ 2 بالمائة تذهب عائداته الماليّة لفائدة صندوق النهوض بزيت الزيتون المعلّب (يتبع وزارة الصناعة) وذلك وفق قانون الماليّة لسنة 2024 الذي شهد ترفيعا في هذا المعلوم بعد أن كان يقدّر بـ 1 بالمائة فقط قبل ذلك.
تعتبر منظّمة آلرت أنّ بيع زيت الزيتون بـ9 دينار مقابل اللتر الواحد يعدّ أمرا مقبولا نظرا إلى أنّ تكلفة إنتاج اللتر تتراوح بين 4 و6 دينارات، وفق عمليّات حسابيّة قامت بها بناء على زيارات ميدانية ولقاءات عقدتها مع الفلّاحين.
في المقابل، يعتبر الخبير في السياسات الفلاحيّة فوزي الزياني أنّ سعر زيت الزيتون الموجّه للسوق المحلّية “ينبغي أن يتراوح بين 12 و15 دينارا/ لتر ويمكن أن ينخفض إلى 10 دنانير إذا كانت الصابة وفيرة “.
يُجمع كلّ من الخبير فوزي الزياني والمستثمر الفلاحي أنس معلّى أنّ الفلّاح يجب أن يبيع الكلغ الواحد من حبّ الزيتون بمبلغ يتراوح بين 2 و2.5 دينار حتّى يتمكّن من تغطية نفقاته التي تشمل كلفة المياه واليد العاملة والحراثة والأدوية وغيرها.
هذا ويفيد خبراء في قطاع زيت الزيتون، تحدّث معهم موقع الكتيبة خلال إنجاز هذا المقال، أنّ تكلفة لتر واحد من زيت الزيتون بالنسبة للفلّاح تبلغ 12 دينارا وبالتالي يجب أن يقع بيعه بسعر يتراوح بين 13 و14 دينارا على الأقلّ.
من جهة أخرى، يعتبر رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي أنّ “سعر لتر زيت الزيتون الموجّه للسوق المحلّية لا يجب أن يتجاوز 15 دينارا لأنّ القدرة الشرائية للتونسيين.ـات مُتدهورة”، مشيرا إلى أنّ هذا السعر “لا يلحق أي ضررلالفلّاحين والمنتجين (المعاصر) على اعتبار أنّ السوق الداخلية لا تستهلك في أفضل الحالات سوى 10% من إجمالي الإنتاج”، وفق قوله.
وفي خصوص أسعار البيع بالسوق العالمية شدّد الرياحي على ضرورة مراعاة الفلاحين في عملية التصدير والإيرادات المالية المتأتية منها قائلا “إنّ المُستفيدين البارزين من منظومة التصدير الحالية هم المُصدّرون أنفسهم”.
في خضمّ الأزمة التي يعيشها قطاع زيت الزيتون، تتعالى بعض الأصوات الداعية إلى تخزين الإنتاج والانتظار حتّى ترتفع الأسعار، وهو أمر يرى فيه عدد من الخبراء صعب المنال لغياب البنية التحتية اللازمة لتخزين فوائض الإنتاج، فضلا عن غياب اليقين من إمكانية ارتفاع أسعار الزيت الزيتون مُجددا.
في هذا الإطار، من المهم الإشارة إلى أنّ سعة الخزن الوطنيّة تقدّر بقرابة 365 ألف طنّ منها 41 بالمائة هي على ملك الديوان الوطني للزيت موزعة على المراكز الجهويّة بتونس وصفاقس وسوسة وسيدي بوزيد والقيروان وجرجيس.
يعلّق عضو منظمة “آلرت” على هذه المقترحات قائلا: “لا حلّ اليوم إلّا في جمع صابة الزيتون لأنّ الاعتقاد بأنّ الأسعار سترتفع إذا لم يتمّ جني الزيتون يُعدُّ مغالطة”.
منظومة تصدير زيت الزيتون: مشاكل هيكليّة
يبدو مستقبل صابة موسم 2025/2024 غامضا إلى حدّ الساعة رغم الإجراءات المتعدّدة التي اتخذتها الدولة التونسية للحدّ من تداعيات هذه الأزمة. إذ بلغت نسبة جني صابة الزيتون في ولاية القيروان 26% إلى غاية 12 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
أمّا في ولاية سيدي بوزيد، فلم يتقدّم موسم جني الزيتون إلّا بنسبة 20% بحلول 15 ديسمبر الجاري رغم أنّه انطلق في 16 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2024. في حين أنّ نسبة جني الزيتون بلغت 40% في ولاية القصرين إلى غاية 10 ديسمبر/ كانون الأوّل الحالي.
جدير بالذكر أن ولايات القيروان وسيدي بوزيد والقصرين (الوسط الغربي للجمهورية التونسية) تعدّ أكبر منتج لزيت الزيتون في السنوات الأخيرة بعد تغيّر التوازنات في القطاع على المستوى الوطني حيث كانت ولاية صفاقس ومنطقة الساحل تُعتبر قطب الرحى في هذا المجال.
يعتبر المراقبون والخبراء المختصّون في قطاع زيت الزيتون الذين تسنّى لموقع الكتيبة الحديث معهم أنّ الأزمة التي يشهدها القطاع في الموسم الحالي تتجاوز تسعيرة بيع زيت الزيتون وغضب الفلّاحين منها، وترجع نفس المصادر ذلك إلى غياب فاعل أساسي في منظومة بيع زيت الزيتون وتصديره.
تتكوّن منظومة زيت الزيتون بشكل أساسي من الفلّاحين وأصحاب المعاصر والديوان الوطني للزيت – الذي فقد دوره منذ بداية الألفينات – ومصدّري الزيت الخواصّ.
منذ إحداثه في 1962 وإلى غاية التسعينات، كان الديوان الوطني للزيت يحتكر قطاع تصدير زيت الزيتون الذي كان موجّها إلى السوق الأوروبية بشكل أساسي، علما وأنّ الاتحاد الأوروبي يقدّم كوتا (حصّة) لتونس لتصدير الزيت بشكل سائب تقدّر بـ56 ألف طن.
في أواخر التسعينات، انتهى احتكار ديوان الزيت لقطاع تصدير زيت الزيتون وفُتح الباب أمام المصدّرين أصحاب الشركات الخاصّة. وقد تمّ وضع شروط صعبة إزاء الراغبين في التصدير جعلت من القطاع حكرا على مجموعة من أصحاب الشركات الكبيرة، إذ كان يُشترط على الشركات المُصدّرة ألّا يقلّ< رأس مالها عن 700 ألف دينار، فضلا عن تصدير 500 طن على الأقلّ من زيت الزيتون السائب خلال موسم واحد.
جعلت هذه الشروط من بعض الشركات المتمركزة في جهة الساحل وولاية صفاقس محتكرة لقطاع تصدير زيت الزيتون السائب إلى الاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي وبعض الأسواق الأخرى على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والخليج العربي.
تصدّر تونس سنويا حوالي 90% من إنتاجها من زيت الزيتون السائب مقابل أسعار زهيدة. هذه المعادلة يرى فيها عدد من الخبراء أنّ المُتسفيد الأبرز منها إسبانيا وإيطاليا (كبار المنتجين العالميين).
إنّ اعتماد تونس على تصدير زيت الزيتون السائب جعل منها في وضعيّة تبعيّة لدول الاتحاد الأوروبي وبشكل خاصّ إسبانيا وإيطاليا. هذا الأمر أدّى إلى ارتباط أسعار بيع زيت الزيتون بما يسمّى بالبورصة العالميّة (في الحقيقة هي مجرد منصّات رقميّة تُصدر تسعيرة محيّنة) لزيت الزيتون، والمقصود بهذا أساسا هي “البورصة” التي تضعها إسبانيا باعتبارها أكبر منتج ومصدّر ومستهلك لزيت الزيتون على الصعيد العالمي.
مكّنت هذه الوضعيّة كبار مصدّري زيت الزيتون من تحقيق أرباح هائلة سواء ارتفعت أسعار البيع أو انخفضت، وذلك من خلال آليات يلجؤون إليها إذا ما كانت تكهّناتهم في خصوص التسعيرة المُعتمدة لزيت الزيتون متنافية والأسعار التي ستعتمدها الأسواق العالميّة.
قبل 2018، إذا كانت قيمة تكهّنات مصدّري الزيت أقلّ من الأسعار كانوا يعوّضون الخسارة بموجب اتفاق غير رسمي مع البنك المركزي التونسي من خلال تخفيض قيمة الدينار التونسي عند التصدير. بعد 2018، قرّر محافظ البنك المركزي السابق مروان العباسي إيقاف العمل بهذه الآليّة، وفق معطيات قدّمتها منظمة آلرت.
إثر ذلك، لجأ هؤلاء المصدّرون إلى طريقة أخرى تتمثّل في الحصول على قروض من البنوك، وبشكل أساسي من البنوك العمومية، دون أن يعيدوها، في حالة تبيّن أنهم سيخسرون في عمليّة التصدير،وفق ذات المصدر.
في موسم 2023، حقّق المصدّرون أرباحا طائلة بسبب تراجع الإنتاج في إسبانيا التي تضرّرت نتيجة التغيّرات المناخية، وبالتالي أصبح الطلب أكثر من العرض ممّا أدّى إلى ارتفاع استثنائي في الأسعار، الأمر الذي جعل الدولة التونسية تتساءل عن هذه “الثروة”، بحسب المصدر ذاته.
قرّرت السلطات التونسية بناء على ذلك إيقاف 6 من مصدّري زيت الزيتون لأسباب مختلفة من بينها الانتفاع بقروض من بنوك عمومية دون ضمانات ودون استخلاصها، ومن بينهم جميل التريكي، وهو مصدّر زيت وسفيان القلّال صاحب شركة القلال لزيت الزيتون الذي تمّ إيقافه مع المدير العام السابق لبنك الإسكان أحمد رجيبة في القضيّة ذاتها، بحسب منظمة آلرت.
علاوة على ذلك، أصدرت السلطات القضائية بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، قرار إيداع بالسجن في حقّ رئيس النادي الرياضي الصفاقسي ورجل الأعمال صاحب مجموعة “سي اتش أو” (CHO) عبد العزيز المخلوفي والذي يعدّ من أكبر مصدّري زيت الزيتون في تونس، على خلفيّة تهمّ تتعلّق بسوء استغلال أراض دوليّة.
وجاء إيقاف المخلوفي بعد زيارة أدّاها رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى هنشير الشعّال (أكبر غابة زيتون في تونس) أكّد فيها أنّه “لا مجال للتفريط في ملك الشعب التونسي وأنّ حرب التطهير ضدّ الفساد ستستمرّ دون هوادة”.
وقد تمّ فتح بحث تحقيقي ضدّ عبد العزيز المخلوفي وعدد من الشركات ومسؤولين في الدولة التونسية بتهم تتعلّق بـ “غسل الأموال من قبل وفاق باستغلال التسهيلات التي خوّلتها خصائص الوظيفة والنشاط المهني والاجتماعي وممّن اعتاد القيام بذلك والمتأتّي من التهرّب الجبائي”، وفق وثائق رسميّة من القضيّة صادرة عن القطب القضائي الاقتصادي والمالي تسنّى لنا الإطلاع عليها .
تؤكد مصادر مُطلّعة على الملف لموقع الكتيبة أنّ السلطات القضائيّة التونسية قامت بتجميد حسابات الشركات التي يضطلع فيها المخلوفي بدور الوكيل القانوني، فضلا عن تعيين مؤتمن عدلي على هذه المؤسسات في إجراء قانوني متعارف عليه في مثل هذه القضايا.
تُصدّر مجموعة “سي اتش أو” 20% من إجمالي الإنتاج التونسي من زيت الزيتون، و55% من إجمالي زيت الزيتون المعلّب. كما تملك 4000 هكتار من الأراضي المغروسة بأشجار الزيتون، وفق الموقع الرسمي للشركة.
يقوم المخلوفي أيضا، بحسب شهادات فلّاحين ومختصّين تحدّث معهم موقع الكتيبة، بشراء الزيتون من الفلّاحين والمعاصر قبل انطلاق موسم الزيتون ويشتري منهم كمّيات من الزيتون والزيت ليقوم بتصديرها لاحقا سواء بشكل سائب أو معلّب.
جدير بالإشارة أنّ مجموعة المخلوفي لعبت دورا كبيرا في تعزيز حجم صادرات تونس من الزيت المعلّب.
ويُفيد المجلس التونسي لزيت الزيتون المعلّب أنّ صادرات الزيت المُعلّب شهدت تطوّرا إلى موفى أكتوبر/تشرين الأوّل 2024 بنسبة 118 بالمائة لتبلغ 735 مليون دينار.
وقد شهدت حصّة صادرات زيت الزيتون التونسي المعلّب خلال نفس الفترة ارتفاعا من الصادرات الجمليّة إذ ارتفعت من 9.6 بالمائة إلى 14.8 بالمائة، وفق المصدر ذاته وذلك في بلاغ نشرته وزارة الصناعة التونسيّة على صفحتها الرسميّة في فايسبوك بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024.
يؤكّد مختلف المعنيّين الذين تحدّثنا معهم أنّ إيقاف المخلوفي خصوصا قبيل انطلاق موسم جني صابة الزيتون أثّر بشكل كبير على القطاع.
يقول المستثمر الفلاحي أنس معلّى:
“إيقاف المخلوفي مثّل ضربة لقطاع زيت الزيتون وحتّى المصدّرون الذين يعملون في مستواه أصبحوا خائفين وهذا طبيعي”.
يعتبر معلّى أنّه “كان من الممكن منع عبد العزيز المخلوفي من السفر أو اتخاذ إجراءات أخرى في علاقة بالمخالفات التي ارتكبها -والتي يؤكّد أنّه لا يعلم ماهيّتها – عوض وضعه في السجن ممّا تسبّب في خلق اضطراب خاصّة وأنّ الدولة غير قادرة على ضخّ المنتوج في المعاصر والتصرّف فيه”.
من جهته، يؤكّد عضو منظّمة آلرت مهدي جماعة أنّ “إيقاف عبد العزيز المخلوفي أثّر على السوق لأنّه كان يشتري كمّيات كبيرة من الزيتون من الفلّاحين والكثير منهم يقولون إنّه لم يتمّ شراء مثل تلك الكمّيات في هذا الموسم ممّا جعل الأسعار تنخفض أيضا”.
فضلا عن ذلك، فقدت شركة “بورجيس” – وهي شركة إسبانيّة لها فرع في تونس – مكانتها ومصداقيّتها في السوق على الرغم من أنّها كانت من أكبر مصدّري زيت الزيتون بشكل سائب خلال السنوات الفارطة، وذلك بعد أن تبيّن وجود خسارة قيمتها 12 مليون دينار تسبّب فيها وكيل الشركة في تونس عادل بن رمضان بعد أن دفع مبالغ كبيرة للمعاصر وقام بتكهّنات خاطئة، وفق معطيات كشفتها منظمة آلرت.
تفيد آلرت أنّه “في ظلّ غياب الفاعلين الرئيسيّين الذين كانوا يحدّدون تسعيرة بيع زيت الزيتون في تونس والذين يمتكلون الخبرة في قطاع تصدير زيت الزيتون، دخل أشخاص ليست لهم علاقة أو معرفة بهذا المجال وقاموا بضخّ الأموال. كما كانت المعاصر تعتقد أنّ ما حصل السنة الفارطة سيتكرّر وأنّ الأسعار سترتفع”.
“إلّا أنّ مفاجأة حصلت عندما أنتجت دول أمريكا اللاتينية صابة قياسيّة من الزيتون بسبب ما يُعرف بظاهرة “النينو” – والتي من بين آثارها تضاعف إنتاج الزيتون -. وقد سارعت إسبانيا إلى شراء مخزون الزيتون الكامل من دولة البيرو وأجزاء من مخزون دول أخرى مثل الأرجنتين والأوروغواي وغيرها”، يضيف المصدر ذاته.
في المحصّلة، وكنتيجة لذلك، أصبح العرض أكثر من الطلب على زيت الزيتون، ممّا أدّى إلى تراجع سعر بيع الزيت بشكل يومي وانتقل سعر بيع لتر زيت الزيتون في تونس من 18 دينارا إلى 14 فـ 10 دنانير، وفق التطّورات التي شهدها القطاع مؤخرا.
إزاء هذه الأزمة، اتخذت الدولة التونسية جملة من الإجراءات في محاولة منها لتدارك الوضع وإنقاذ صابة الزيتون التي تحتاجها الدولة التونسية لتوفير العملة الصعبة وتحقيق توازن في الميزان التجاري التونسي لاسيما وأنّ صادرات زيت الزيتون التونسي تمثّل ثاني أكبر رافد من العملة الصعبة بعد تحويلات التونسيين بالخارج.
إجراءات متأخرّة ومنقوصة
في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أقرّت وزارة الفلاحة والصيد البحري مجموعة من الإجراءات على غرار انطلاق الديوان الوطني للزيت في عمليّة شراء كمّيات من زيت الزيتون من كامل تراب الجمهورية باعتماد أسعار تأخذ بعين الاعتبار الأسعار المتداولة بالسوق العالميّة والداخلية.
كما تقرّر وضع طاقة الخزن المتوفرة لدى ديوان الزيت بمراكزه الجهوية على ذمّة الفلّاحين والمنتجين لخزن زيت الزيتون حسب الرغبة، وإقرار برنامج لتمويل تخزين كمّية من زيت الزيتون لدى المنتجين في حالة تواصل تسجيل تراجع في الأسعار المتداولة في السوق الداخلية.
بالإضافة إلى مواصلة العمل بالإجراء المتعلّق بتمديد خلاص القروض الموسميّة بـ3 أشهر للفلاحين وأصحاب المعاصر، والتنسيق مع البنوك لضمان تمويل المتدخّلين بما يساهم في حسن تقدّم الموسم.
كما تعهّدت البنوك بمنح تمويلات لمصدّري زيت الزيتون حتّى يتمكّنوا من شرائه وتخزينه. وفي بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أعلنت كلّ من وزارة الفلاحة ووزارة التجارة ووزارة الصناعة، في بلاغ مشترك، عن قرار فتح المجال للمصدّرين الخواصّ لتصدير زيت الزيتون التونسي السائب، في إطار الحصّة السنوية الممنوحة للبلاد التونسية من قبل الاتحاد الأوروبي، ابتداء من 1 جانفي/ كانون الثاني 2025 طبقا للشروط والصيغ المنصوص عليها في الأمر الرئاسي عدد 448 لسنة 2022.
ودعت المصدّرين الخواصّ المقيمين والمرسّمين بقائمة المصدّرين لزيت الزيتون والراغبين في تصدير زيت الزيتون السائب داخل الحصّة بعنوان سنة 2025 الحصول خلال الفترة الممتدّة من 1 جانفي/ كانون الثاني 2025 إلى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2025 على ترخيص في الغرض يُسلّم من قبل وزير الفلاحة. كما يتعيّن عليهم إيداع مطالب في الغرض لدى الإدارة العامة للدراسات والتنمية الفلاحيّة التابعة لوزارة الفلاحة.
يشار إلى أنّه تمّت إزالة الشرط المتعلّق بضرورة أن يكون رأس مال الشركة المصدّرة 700 ألف دينار وتصدير 500 ألف طن خلال موسم واحد.
في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2024، دعا رئيس الحكومة كمال المدّوري، في منشور توجّه به إلى الوزراء وكتّاب الدولة، إلى “إصدار التعليمات اللازمة لدعوة الهياكل الراجعة إليهم بالنظر أو بالإشراف للتنسيق مع التعاونيات والوداديّات مرجع النظر للانخراط بفعاليّة في البرنامج الوطني لترويج مادّة زيت الزيتون في السوق الداخلية و معاضدة المجهود الوطني لإنجاحه من خلال التنسيق مع الديوان الوطني للزيت لبرمجة شراءات من مادّة زيت الزيتون لفائدة منخرطيها وتوفير تسهيلات في الدفع لهم على أن يتمّ خلاص مستحقّات الديوان حال استلام الكمّيات المتفق عليها”.
يعتبر عضو منظمة آلرت مهدي جماعة أنّ تعامل السلطات التونسية مع صابة الزيتون جاء متأخّرا قائلا:
“زيت الزيتون هو ما يجعل من الميزان التجاري جيّدا وهو قطاع استراتيجي ومن الغريب ألّا يكون هناك استراتيجية وإجراءات واضحة من الدولة قبل انطلاق الموسم”.
ويشير جماعة إلى أنّ “السلطات التونسيّة تدخّلت بعد أن ساءت الأمور ووضعت حلولا ترقيعيّة لن تؤدّي إلى أيّ نتائج لتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، مذكّرا أنّ “السلطات دعت إلى تخزين الزيت لديها في الوقت الذي ليس لديها أو لدى الديوان الوطني للزيت إمكانيات لتصدير 200 ألف طن من زيت الزيتون باعتبار أنّ هذا الأخير تخلّى عن دوره في التصدير منذ عقود”.
واعتبر أنّ “قرار التنسيق مع البنوك العمومية حتّى توفّر التمويل للمصدّرين صائب وكان يجب أن يتمّ منذ مدّة”.
زيت الزيتون التونسي.. ثروة مهدورة
تسلّط الأزمة الراهنة التي يعيشها قطاع الزيتون وتعامل السلطات التونسية معها الضوء على إشكاليّات يشكو منها قطاع زيت الزيتون تتجاوز المشاكل المطروحة اليوم وتعود جذورها إلى غياب استراتيجية واضحة المعالم على المدى الطويل يمكن أن تجعل من تونس تستفيد بشكل كلّي من “ذهبها الأخضر”.
تنتج إسبانيا بين 40 و50% من الإنتاج العالمي لزيت الزيتون فيما تنتج تونس حوالي 10% من الإنتاج العالمي. وقد نجحت البلاد التونسية في السنوات الأخيرة في اكتساح الأسواق العالميّة واحتلّت عديد الماركات التونسية المراتب الأولى من حيث نوعية زيت الزيتون المصدّر. وهي تحتلّ اليوم المرتبة الثانية من حيث الدول المصدّرة لزيت الزيتون بعد أن أزاحت إيطاليا واليونان.
تتوجّه صادرات تونس من زيت الزيتون بشكل أساسي إلى دول الاتحاد الأوروبي – وعلى رأسها إسبانيا وإيطاليا -الذي يقدّم لها كوتا (حصّة) سنويّة بحوالي 56 ألف طن. وفي 2024، بلغت كمّيات زيت الزيتون التونسي المصدّرة إلى إسبانيا 30,8% تليها إيطاليا بنسبة 28% لتحلّ الولايات المتّحدة الأمريكية في المرتبة الثالثة بنسبة 23,6%.
يرى مجمل الفاعلين والمعنيّين بقطاع تصدير زيت الزيتون أنّ اعتماد تونس بشكل أساسي على تصدير الزيت السائب (90% من الزيت المصدّر هو سائب) يجعل البلاد التونسية في تبعيّة كبيرة للدول الأوروبية وبشكل خاصّ إسبانيا وإيطاليا اللّتان تستفيدان من الأسعار الزهيدة لزيت الزيتون السائب وتستعملانه لتعديل حموضة ما تنتجانه من زيت الزيتون و تضعانه في ماركات تمثّل بلدانهما.
يقول الخبير في السياسات الفلاحيّة فوزي الزياني إنّ “الإسبان والإيطاليين من مصلحتهم الضغط كي ينخفض سعر بيع زيت الزيتون التونسي خاصّة وأنّ تونس تصدّر 90% من منتوجها ولا يبقى إلّا 10% للسوق المحلّية، وبالتالي ليس أمامها من حلّ إلّا بيعه بالأسعار التي تناسبهم”.
ويضيف الزياني قائلا:
“نحن دائما نبيع بأقلّ من السعر العالمي لأنّه ليس لتونس القوّة الكافية للتموقع على المستوى العالمي”.
ويبرز الزياني أنّ “الإسبان والإيطاليين يحدثون شركات في تونس بالشراكة مع تونسيين ويصبحون فاعلين ويقومون بتخضير الأراضي حتّى يحصلون على منتوج مضمون الجودة لأنّهم يقومون بعد تصديره إلى دولهم بخلط الزيوت الممتازة وبيعها تحت علامات بلدانهم”.
بدوره، يعتبر أنس معلّى، المستثمر الفلاحي، أنّ “هناك مؤثرين أجانب على السوق التونسية وأنّه من مصلحة الإيطاليّين ألّا يتجاوز سعر لتر الزيت 5.5 يورو (حوالي 18 دينار تونسي)”، مبيّنا “أنّ المستفيد الأكبر من الاضطراب الحاصل في السوق التونسية هم الإيطاليّون”.
على سبيل المثال، أنتجت إيطاليا في موسم 2024/2023 حوالي 324 ألف طن من زيت الزيتون وصدّرت ما لا يقلّ عن 300 ألف طن فيما قامت بتوريد حوالي 510 ألف طن، علما وأنّ نسبة الاستهلاك المحلّي هناك تبلغ حوالي 415 ألف طن.
في المقابل، يستبعد مهدي جماعة “وجود لوبيات تعمل على تحقيق مصالح إيطاليا وإسبانيا”، معتبرا “أنّهم يعلمون أنّ تونس ليست قادرة على تثمين الزيت وتعتمد على تصدير زيت الزيتون بشكل سائب دون قيمة مضافة ودون أي عمل أو مجهود ومن الطبيعي أن يستغلّ الإسبان والإيطاليين ذلك”.
ويضيف جماعة “أنّ إسبانيا وإيطاليا عملتا بشكل أفضل من تونس وهما تستغلّان نقطة ضعفها”، مفيدا أنّ “الحلّ يتمثّل في خلق القيمة المضافة لزيت الزيتون التونسي وإحداث ماركة تونسية عوض بيعه بشكل سائب أين يقع استغلاله لتعديل زيت الزيتون الإسباني أو الإيطالي وبيعه في ماركات إيطالية أو غيرها”.
تمثّل كندا والولايات المتّحدة الأمريكية الوجهتين الرئيسيتين للزيت التونسي المعلّب. ويستحوذ زيت الزيتون التابع لشركة عبد العزيز المخلوفي على حوالي 23% من جملة صادرات زيتون الزيتون نحو الولايات المتّحدة.
لماذا يجب تثمين زيت الزيتون التونسي؟
يطمح المستثمر الفلاحي الشاب أنس معلّى إلى أن يصبح مصدّرا لزيت الزيتون. وهو يمتلك مشروع زيتون سقوي في ولاية سيدي بوزيد ينتج حاليّا بين 50 و70 طن زيت يقوم ببيعها بشكل سائب في تونس.
يقول معلّى إنّ “الحصول على رخصة لتصدير الزيت السائب ليست بالأمر الهيّن رغم إعلان الدولة التونسية تخلّيها عن شرط رأس المال الضخم”، مضيفا أنّ “تصدير الزيت المعلّب أكثر تعقيدا ليس بسبب الرخص التي يجب الحصول عليها فقط بل أيضا لأن تسويق زيت معلّب يعني أن تخلق علامة تجاريّة تونسية وتجد سوقا”.
وصل أنس معلّى اليوم إلى مرحلة إحداث علامته التجارية. وقد قام بصرف أموال عليها دون أن ينتظر أيّ دعم من الدولة التونسية لكنّه في المقابل ينتظر أن تقف الدولة إلى جانب المصدّرين.
يبيّن معلّى في حديثه مع موقع الكتيبة أنّ “إحداث علامة تجارية يتطلّب أموالا كثيرة من أجل أن تكون القارورة في شكل جميل ويمكن أن تنافس القوارير الإسبانية والإيطالية”، مضيفا أنّ “التسويق على المستوى العالمي يتطلّب مجهودا من قبل المصدّر ولكن أيضا مالا كثيرا”.
“يحتاج التسويق في الأسواق الخارجية إلى المشاركة في المعارض الدولية التي تقام ولكن ليس بالطريقة التقليدية التي يقوم بها مركز النهوض بالصادرات والتي لا تتماشى مع متطلّبات العصر”، وفق المتحدّث الذي يشير إلى أنّ “التسويق أيضا يتطلّب أن يرافق المُصدّر من سيقوم بترويج منتوجه في بلد معيّن ومساعدته ومتابعته لا أن يكتفي ببيع بضاعته مرّة في السنة”.
من جهته، يشدّد الخبير في السياسات الفلاحية فوزي الزياني على ضرورة أن “تفكّر الدولة التونسية في مشروع وطني لتثمين زيت الزيتون خاصّة وأنّها تملك الأرضيّة لذلك باعتبار أن زيت الزيتون التونسي متحصّل على مئات الجوائز العالميّة من حيث الجودة”.
ويشير إلى أنّ “تونس لديها تاريخ طويل في مجال زيت الزيتون”، مؤكّدا “ضرورة وضع سياسة للتحرّر من بيع الزيت السائب لبلدان تقليدية والدخول إلى أسواق جديدة بطرق حديثة مختلفة عن الأشكال الكلاسيكية المتمثّلة في الاقتصار على المشاركة في معارض من خلال جناح تُعرض فيه المنتوجات”.
ويلفت الزياني النظر إلى “ضرورة أن تكون كلّ علامة تجاريّة مرفوقة بقصّة تكشف التاريخ والثقافة التونسية”، داعيا إلى “إحداث وكالة وطنيّة للتصدير تشرف على ترويج زيت الزيتون التونسي وتثمينه والترويج للمنتوج التونسي ولتونس كي تدخل قوارير الزيت التونسية المطابخ الأجنبية”.
وذكّر أنّ “زيت الزيتون يعدّ رافدا اقتصاديّا استراتيجيّا” مبرزا أنّ “هناك دولا ليست لها علاقة تاريخية به ولكنّها قامت بغراسة الزيتون على غرار تركيا والجزائر وغيرها”، ومؤكّدا “ضرورة أن تقوم الدولة بالاستشراف وأن تقوم كلّ الوزارات المعنية والسفراء والدبلوماسية الاقتصادية بدورها لترويج زيت الزيتون التونسي”.
ويبيّن المتحدّث ذاته أنّ “المُصدّرين الجدد الذين يمتلكون شركات ناشئة قد يصدّرون كمّيات لا تتجاوز 3 أو 5 طن سنويّا في أحد الأسواق الخارجيّة ولكن لها قيمة مضافة عالية جدّا قد تعادل 4 مرّات الزيت السائب الذي يقع تصديره”.
ويعتبر الزياني أنّ “أكبر مشكلة تواجه المصدّرين هي التمويل رغم ما يقوم به مركز النهوض بالصادرات الذي قد يغطّي 70% من كلفة مشاركة مصدّر في أحد المعارض، إلّا أن الإشكال يتمثّل في أنّ المركز هو من يختار المعارض والتي قد تكون في أسواق تقليدية”، معتبرا أنّ “ما يقوم به مركز النهوض بالصادرات تقليدي وغير كاف أحيانا”.
يقول عضو منظمة آلرت مهدي جماعة إنّ “تونس ستنتج السنة المقبلة أكثر من 340 ألف طن وسيكون لديها إمكانية لإنتاج أكثر من ذلك خلال السنوات القادمة بسبب إقبال عدد كبير من الفلّاحين على غراسة الزياتين وبشكل خاص السقوي منها”.
هذا العامل يطرح عديد الأسئلة من بينها ما هي استراتيجية الدولة للأعوام المقبلة وفق المتحدّث الذي أضاف قائلا:
“هناك حلّ وحيد، نقوم بخلق قيمة مضافة أي تعليب زيت الزيتون وتصديره معلّبا على أن يكون لدينا قدرة أكبر على التخزين.. من يقول عكس هذا يكذب على المواطنين والفلّاحين”.
ويؤكّد جماعة أنّ “تصدير زيت الزيتون المعلّب ليس بالأمر الهيّن لأنّ القوارير يجب أن تكون مصنوعة وفق معايير معيّنة والمادّة الأوّلية لصنع هذه القوارير سعرها مرتفع، مشيرا إلى “أنّه لم يكن هناك من يصنع هذه القوارير في الجمهورية التونسية في السابق لكن في السنوات الأخيرة تأسّست شركة تقوم بصناعتها”.
ويشدّد على ضرورة أن يكون “هناك تمويل ومشروع كامل للإنتاج والشراء والتخزين وصنع القوارير والتسويق الذي يعدّ مهمّا أكثر من الإنتاج أحيانا”، مشيرا إلى “ضرورة الحصول على أسواق جديدة على غرار السوق الآسيوية التي أصبحت مهتمّة باستهلاك زيت الزيتون”.
ويبرز محدّثنا “أهميّة وضع استراتيجية كاملة كي تشجّع الدولة هذا الميدان وتوفّر التمويل لمن يريد الشروع في مشاريع تعليب زيت الزيتون ومحاولة مساعدة الباعثين الشبّان في التوجه إلى الأسواق الجديدة كي يصبح زيت الزيتون موجودا في المطاعم وورشات الطبخ والمعارض والعمل من أجل سمعة المنتوج التونسي لأن أهمّ شيء هو السمعة”.
ويردف بالقول “إنّ المنتوج التونسي ممتاز إلاّ أنّه لا بدّ من العمل عليه والتعريف به وإنّه بالرغم من أنّ تونس ثاني بلد ينتج زيت الزيتون على المستوى العالمي فعند سؤال مواطن من بلد آخر لن تكون تونس أول دولة يفكّر فيها عندما يُسأل عن زيت الزيتون بل سيفكّر في إيطاليا أو اليونان”، مبرزا “أنّ هذا الوضع يحتاج سنوات من العمل كي يتغيّر”.
من جهة أخرى، يوضّح مهدي جماعة أنّ “مسألة التمويل جعلت ميدان تصدير زيت الزيتون “ريعيّا” باعتبار أنّ البنوك لا تمنح القروض إلّا لأشخاص تربطهم بها علاقات عمل أو علاقات شخصيّة”، مستدركا بالقول “إنّه من ناحية إنتاج زيت الزيتون هناك عديد الأشخاص الذين ينتجون وتمّت إزالة عديد الرخص والعراقيل شيئا فشيئا”، معربا عن أمله “في أن يتواصل هذا المنهج وأن يصبح القطاع تنافسيا”.
ويشير إلى “أنّ الدولة التونسية تملك 10% من الإنتاج الداخلي لزيت الزيتون، أي ما يعادل ما بين 20 و30 ألف طن، وذلك عبر الأراضي الدولية التي تملكها”، معتبرا أنّه “يمكن للدولة إذا أرادت أن تضع استراتيجية حتّى يصبح المواطن التونسي قادرا على استهلاك زيت الزيتون بسعر التكلفة، إلّا أنّ هذا الأمر يتطلّب إرادة سياسية وإمكانيّات وحلولا لاستغلال الأراضي الدولية بطريقة تزيد من إنتاجها ويتمّ توجيه هذا المنتوج إلى المستهلك التونسي مباشرة”.
تحديّات استراتيجيّة
يُعدّ الحصول على زيت الزيتون بالنسبة للمواطنين.ـات التونسيين.ـات أحد حقوقهم الاستهلاكيّة في التمتّع بالثروات الفلاحيّة التونسيّة إلّا أنّ هذا الأمر يجب أن يعود إلى الدور التنظيمي والاجتماعي للدولة التونسية.
يوضّح الخبير في السياسات الفلاحيّة فوزي الزياني أنّه “يمكن تدعيم زيت الزيتون كي يصل إلى ذوي المقدرة الشرائية الضعيفة من خلال أداءات تُفرض على الزيت الموجّه للتصدير إذا كان معلّبا”.
ويشير إلى “ضرورة وضع سياسة لدعم زيت الزيتون الموجّه للاستهلاك المحلّي لأنه سيساهم في تحسين صحّة المواطنين.ـات وبالتالي ستتأثر الصناديق الاجتماعية إيجابا وتتراجع نسبة الإصابات ببعض الأمراض”، وفق تقديره. كما جدّد الدعوة إلى “تحويل الكلفة المخصّصة لدعم الزيت النباتي لفائدة تدعيم زيت الزيتون”.
وبحسب المرصد التونسي للفلاحة (مؤسّسة حكوميّة) فإنّ حصّة توريد الزيوت النباتيّة من إجمالي حصص المنتجات الغذائيّة الموّردة في سنة 2024 بلغت 11 بالمائة وذلك إلى حدود موفى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني.
“القلي باستخدام زيت الزيتون مضرّ بالصحّة وليس صحّيا”، يستذكر مهدي جماعة هذه المقولة بشكل ساخر قائلا إنّ “أجدادنا كانوا يستخدمون زيت الزيتون”.
بلغت كلفة دعم الزيت النباتي في تونس 480 مليون دينار سنة 2022 مقابل 168 مليون دينار في 2015، وفق إحصائيّات صادرة عن وزارة التجارة التونسية.
يبيّن مهدي جماعة أنّ “سعر الزيت النباتي في السابق كان منخفضا جدّا وكانت تونس عند تعمد إلى تكثيف تصدير زيت الزيتون للحصول على العملة الصعبة. ورغم توريد الزيت النباتي إلّا أن العملة الصعبة التي كانت تخرج من تونس أقلّ من تلك التي توفّرها عائدات تصدير زيت الزيتون، لذلك كانت هناك سياسة لعدم تشجيع التونسيين.ـات على استعمال زيت الزيتون لأنّه كان بمثابة مورد رزق للدولة من العملة الصعبة”.
ويؤكّد ضرورة “التشجيع على استهلاك زيت الزيتون التونسي كي يرتفع الاستهلاك الداخلي من هذه المادّة ويقع التخفيض من توريد الزيت النباتي الذي لا يقدّم أيّ منفعة”.
على الرغم من أنّ الزيت التونسي يمتاز بجودته، وهو ما تؤكّده عديد الجوائز العالمية التي نالها، إلّا أنّ مستقبل هذا القطاع يبدو غامضا، لا بسبب الأزمة القائمة فقط، وإنّما لغياب استراتيجية واضحة وشاملة تنهض بالقطاع ولغياب الرقابة وهو ما أدّى إلى قيام عديد المستثمرين بغراسة الزيتون السقوي الذي يحتاج إلى كميّات كبيرة من المياه رغم الفقر المائي الذي تعيشه البلاد التونسية.
تمثّل مشكلة شحّ المياه أحد أكبر التهديدات بالنسبة إلى القطاع الفلاحي بشكل عامّ وقطاع الزيتون بشكل خاصّ، وقد تتضرّرت غابات الزيتون في السنوات الـ15 أو 20 القادمة خصوصا إذا تواصل الاعتماد على الزيتون السقوي.
ويقول فوزي الزياني في هذا السياق إنّ “جميع الدراسات في العالم أثبتت أنّ الأصناف المحلّية هي التي تقاوم التغيّرات المناخية نظرا إلى قدرتها على مقاومة العطش والأمراض”، معتبرا أنّ “تونس وقعت في خطأين هامّين يتمثّلان في تكثيف غراسة الزيتون بشكل سريع جدّا دون مراعاة الواقع المائي وغراسة الأصناف الأجنبية بتعلّة أنّها تنتج أسرع”.
ويبيّن أنّ “الصنف المحلّي يعطي إنتاجا أكبر خاصّة بعد 7 و10 و15 سنة بينما الأصناف الأخرى فيها من لا يكبُر وتعطي إنتاجا من السنة الثانية أو الثالثة بنسبة قليلة ويرتفع بعد ذلك إلّا أنّ معدّل حياتها أقلّ بحسب التكثيف”، مؤكّدا أنّ “الأصناف الأجنبية تجعل الأمراض والحشرات تتكاثر كما تستنزف الطاقات المائيّة”.
أمّا التهديد الثاني الذي يواجه قطاع زيت الزيتون فهو “المزاحمة الخارجية من قوى صاعدة مثل تركيا وهنا يتعيّن على الدولة التونسية أن تضع استراتيجية شاملة للنهوض بالقطاع تقوم بشكل خاصّ على تثمين المنتوج التونسي وتشجيع المصدّرين وتوفير التمويل الضروري والعثور على أسواق جديدة، فضلا عن إعادة قيمة الفلّاح الذي طالما همّشته الدولة والعمل على حلّ الوضعية العقارية لأغلبية الأراضي”،وفق ذات المتحدّث.
على الرغم من الاتصالات التي قامت بها هيئة التحرير في موقع الكتيبة مع وزارة الفلاحة وديوان الزيت من أجل تمكينهما من توضيح وجهة نظرهما من النقاط المثارة في هذا المقال، إلا أن جميع المساعي اصطدمت بأبواب موصدة. يُذكر أنّنا اتصلنا أيضا بعبد السلام الواد وهو عضو في المكتب التنفيذي لمنظمة الأعراف و رئيس اللجنة الاستشارية للمجلس الدولي للزيتون وأحد كبار الفاعلين في القطاع من أجل معرفة موقفه، غير أنّه رفض الإدلاء بأيّ تصريح.
على الرغم من الاتصالات التي قامت بها هيئة التحرير في موقع الكتيبة مع وزارة الفلاحة وديوان الزيت من أجل تمكينهما من توضيح وجهة نظرهما من النقاط المثارة في هذا المقال، إلا أن جميع المساعي اصطدمت بأبواب موصدة. يُذكر أنّنا اتصلنا أيضا بعبد السلام الواد وهو عضو في المكتب التنفيذي لمنظمة الأعراف و رئيس اللجنة الاستشارية للمجلس الدولي للزيتون وأحد كبار الفاعلين في القطاع من أجل معرفة موقفه، غير أنّه رفض الإدلاء بأيّ تصريح.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة