الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“الخُطوط التُونسيّة.. قريبة منّي”، هو الشعار الذي اختارته شركة الخطوط الجوّية التونسيّة لها إلى جانب صورة الغزالة، وهو اللقب الذي يستعمله البعض في إشارة إلى الناقلة الوطنيّة. ولئن كانت تسمية “الغزالة” ترمز في السابق إلى سرعة ونجاعة الخطوط التونسيّة، فإنّ استخدامها اليوم بات مصدر تندُّر من قبل لفيف من التونسيين.ات الذين يُعبّرون في صفحات التواصل الاجتماعي عن غضبهم واستيائهم من الوضع الذي آلت إليه هذه المُؤسّسة العريقة التي كانت مثالا يُحتذى به في مجال القطاع العام.

وقد لا يتّفق عدد كبير من التونسيّين.ـات، وحتى المسافرين.ات الأجانب مع شعار “القُرب” الذي اختارته الخطوط التونسية، إذ أنّ عمليّة بحث صغيرة في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” حول “التونيسار” أو “الخطوط التونسية” ستكشف عن مئات التدوينات المُتذمّرة من خدمات الناقلة الوطنية والمتعلّقة خصوصا بالتأخيرات المسجّلة في رحلاتها، سواء كانت دولية أو داخليّة.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“الخُطوط التُونسيّة.. قريبة منّي”، هو الشعار الذي اختارته شركة الخطوط الجوّية التونسيّة لها إلى جانب صورة الغزالة، وهو اللقب الذي يستعمله البعض في إشارة إلى الناقلة الوطنيّة. ولئن كانت تسمية “الغزالة” ترمز في السابق إلى سرعة ونجاعة الخطوط التونسيّة، فإنّ استخدامها اليوم بات مصدر تندُّر من قبل لفيف من التونسيين.ات الذين يُعبّرون في صفحات التواصل الاجتماعي عن غضبهم واستيائهم من الوضع الذي آلت إليه هذه المُؤسّسة العريقة التي كانت مثالا يُحتذى به في مجال القطاع العام.

وقد لا يتّفق عدد كبير من التونسيّين.ـات، وحتى المسافرين.ات الأجانب مع شعار “القُرب” الذي اختارته الخطوط التونسية، إذ أنّ عمليّة بحث صغيرة في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” حول “التونيسار” أو “الخطوط التونسية” ستكشف عن مئات التدوينات المُتذمّرة من خدمات الناقلة الوطنية والمتعلّقة خصوصا بالتأخيرات المسجّلة في رحلاتها، سواء كانت دولية أو داخليّة.

خلال السنوات الأخيرة، أصبح التأخير المُسجّل في رحلات الخطوط التونسية يوميّا ويمتدّ لساعات وأحيانا إلى يومين أو ثلاثة أيّام، ممّا يتسبّب في غضب المسافرين.ـات الذين تتعطّل مصالحهم، فضلا عن خسائر مادّية ومهنيّة وأضرار نفسيّة.

هذا الاضطراب في مواعيد الرحلات، بات يُكلّف شركة الخطوط التونسيّة خسائر ماليّة كبيرة، زيادة عن الاضرار بسمعة “التونيسار” و مصداقيّة الدولة التونسيّة. إلّا أنّ هذا التأخير ليس إلّا سطح جليد الأزمة المُتشعبّة التي تعرفها الخطوط التونسيّة منذ سنوات والتي تفاقمت أعراضها وانعكاساتُها في ظلّ عدم اتخاذ أيّ من الحكومات المتعاقبة لأيّ إجراءات فعليّة لإصلاح هذه المؤسسة الوطنيّة العريقة مع تحمّل الكلفة الماليّة والإجتماعيّة لخطّة الإصلاح المنشود.

فما هي الأسباب العميقة لأزمة الخطوط التونسيّة؟ لماذا فشلت جميع الحكومات في إصلاحها؟ هل توجد اليوم إرادة سياسيّة لحلحلة هذا الملف الكبير والثقيل؟ ما هي كُلفة عدم إصلاح “التونيسار” على اقتصاد تونس وسُمعة البلاد؟ فيما تتجلّى مظاهر سوء الحوكمة وشبهات الفساد صلب المؤسّسة؟ ما حقيقة إفلاسها؟ وما هي السيناريوهات الممكنة لإنقاذها؟

“التونيسار تتعافى”: حقيقة أم تزييف للواقع؟!

على مدى السنوات الماضية، ردّد مسؤولون مختلفون، وتحديدا وزراء نقل ورؤساء مديرون عامّون للخطوط التونسية، عبارة إن “التُونيسار في طريقها إلى التعافي” أو “التونيسار تتعافى”، وكان آخرهم وزير النقل رشيد عامري الذي أكّد في حوار إذاعي أدلى به في 13 جانفي/ كانون الثاني 2025، وجود بوادر على عودة تعافي الخطوط التونسية، مشيرا إلى وجود اهتمام من رأس السلطة من أجل إعادة شركة الخطوط التونسية إلى مستواها المعهود قبل الصعوبات التي تشهدها منذ سنوات.

بدورها، أفادت شركة الخطوط التونسية، في بلاغ مُقتضب نشرته على صفحتها الرسمية بالفيسبوك يوم 6 فيفري/ شباط 2025، أنّ الجلسة العامّة العاديّة المُنعقدة يوم 4 فيفري/ شباط الجاري تطرّقت إلى “المؤشّرات الإيجابية للثلاثي الرابع لسنة 2024″، مُبيّنة أنّه تمّ كذلك خلال الجلسة المصادقة على التقرير السنوي لنشاط الشركة والقائمات الماليّة لسنة 2020.

قد يمرّ هذا البلاغ مُرور الكرام لو لم تكن شركة الخطوط التونسية مُدرجة في البورصة التونسيّة ويُحمل عليها بالتالي التصريح بقائماتها الماليّة بشكل سنويّ، إلّا أنّ الشركة لم تصادق على القائمات الماليّة لسنة 2020 إلاّ في فيفري/شباط 2025، في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون التقارير الماليّة الخاصّة بسنة 2024 بصدد الإعداد.

اللافت أيضا هو أنّ شركة الخطوط التونسية تولّت نشر قائماتها المالية لسنة 2020 في موقع البورصة التونسية يوم 31 جانفي/كانون الثاني 2025، أي قبل أيّام من موعد انعقاد الجلسة العامة العاديّة للمصادقة على هذه التقارير.

يقول الخبير الاقتصادي والوزير الأسبق محسن حسن، في حواره مع موقع الكتيبة، إنّ “عدم تحيين القائمات الماليّة للخطوط التونسية يطرح أكثر من سؤال حول الحوكمة داخل المؤسّسة”، مضيفا أنّها “مُؤسّسة تشتغل في قطاع تنافسي ولكن تُدار بعقلية المؤسّسات العموميّة التي مازالت بعيدة كلّ البعد عن المعايير المطلوبة على مستوى الحوكمة من ذلك الإفصاح المالي”.

ويعتبر حسن أنّ “التباطؤ في الإفصاح المالي يُعدّ أمرا خطيرا خاصّة وأن الشركات المدرجة في البورصة مطالبة بالإفصاح عن قائماتها الماليّة”، مؤكّدا أنّ “هذا الأمر مُستعجل ويتطلّب إعادة النظر في المنظومة المعلوماتية للمُؤسّسة”.

ويُبيّن مُحسن حسن أنّه “لا يمكن مواصلة إدراج وتداول أسهم شركة مُدرجة بالبورصة لم تفصح عن قائماتها المالية لسنتين و3 سنوات وأنّ النظام المالي التونسي لا يقبل ذلك”، قائلا في نفس الإطار:

“لماذا الاستثناء للشركات العموميّة؟ لماذا لم تتّخذ سلطة الإشراف سواء كانت بورصة الأوراق المالية أو هيئة السوق المالية إجراءات حتّى تدفع بالشركات العموميّة مثل الخطوط التونسية إلى إعداد قائماتها الماليّة في الآجال؟”.

وفي تعليقه على عبارة “التونيسار تتعافى”، أوضح الخبير الاقتصادي الآنف ذكره أنّه “لا بُدّ من التفريق بين وضعيّة الاستغلال على المدى القصير والمشاكل الهيكليّة”.

فعلى مستوى التسيير، “هناك تطوّر لبعض المؤشرات “. في المقابل، “هناك أيضا تطوّر للأعباء سواء كانت اجتماعية أو مالية أو غير ذلك، وبالتالي فإن هناك مُشكلة هيكليّة وتراكُمات كبرى تُعيق تطوّر أداء الخطوط التونسية”، وفق المتحدّث ذاته.

على الرغم من التطمينات المُتواترة حول مؤشّرات التعافي لشركة الخطوط التونسية، يعتبر الخبير المحاسب وعضو لجنة الماليّة السابق بالبرلمان هشام العجبوني أنّ شركة الخطوط التونسية “في حالة إفلاس”، قائلا:

“حسب الأرقام هي في حالة إفلاس مُعلن، ولكن قانونيّا هي شركة غير مُفلسة لأنّها عموميّة والدولة تدعمها”.

تكشف القائمات الماليّة لشركة الخطوط التونسية لسنة 2020 أنّ قيمة الخسائر المُتراكمة بلغت 973,8- مليون دينار، في حين بلغت الخسائر المتراكمة لمجمّع الخطوط التونسيّة (والذي يشمل الشركات الثمانية) قرابة 1,2- مليار دينار، علما وأنّ رأس مال الشركة يبلغ قرابة 106,2 مليون دينار.

يُوضّح هشام العجبوني أنّ “خسائر الشركة ابتلعت رأس المال ممّا يجعلها عمليّا في حالة إفلاس”، مضيفا “أنّها لو كانت شركة خاصّة لتمّ حلّها وتصفيتها منذ سنوات إلّا أنّها مؤسّسة عموميّة لها أدوار اجتماعية واقتصادية تجعل الدولة تعتبر أنّ وجود شركة تونس الجوّية مسألة حيويّة”.

من المهم الإشارة إلى أنّ شركة الخطوط التونسية تخضع إلى مجلّة الشركات التجاريّة التي تنّصّ في فصلها السابع والعشرين على أنّه “يمكن حلّ الشركة التي أصبحت أموالها الذاتية دون نصف رأس مالها نتيجة الخسائر الواقع معاينتها بوثائقها المحاسبية. وفي هذه الحالة فإنّ المُمثّل القانوني للشركة مُطالب بدعوة الجلسة العامة للمداولة وفقا للشروط المنصوص عليها بالعقد التأسيسي للشركة لاتخاذ قرار في حلّها أو في مواصلة نشاطها مع تسوية وضعيّتها. كلّ ذلك مع مراعاة أحكام القانون المتعلّق بإنقاذ المؤسسات التي تمرّ بصعوبات اقتصادية”.

من المهم الإشارة أيضا إلى أنّ وزارة الماليّة صنّفت، في التقرير حول المنشآت العمومية المُلحق بقانون الماليّة لسنة 2024، شركة الخطوط التونسيّة ذات مخاطر عالية وعالية جدّا على مستوى المردوديّة والسُيولة والمصداقيّة، والمقصود بهذا قدرتها على خلاص ديونها تجاه المُزوّدين.

دُيون وخسائر لا تُحصى ولا تُعدّ

يكشف التقرير حول المُنشآت العُموميّة المُلحق بقانون المالية لسنة 2025، والذي تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منه، أنّ شركة الخطوط التونسيّة سجّلت نتائج استغلال سلبيّة بقيمة 125,7- مليون دينار في 2022، فيما بلغت نتائجها الصافية السلبيّة في نفس السنة 176,3- مليون دينار.

على سبيل الذكر لا الحصر، في سنة 2023، بلغ مجموع إيرادات الاستغلال للخطوط التونسية 1716,5 مليون دينار، في حين قُدّرت قيمة أعباء الاستغلال بـ1846,4 مليون دينار، وسجّلت بالتالي نتيجة استغلال سلبيّة بـ129,8- مليون دينار، في الوقت الذي بلغت فيه قيمة النتيجة الصافية 211,1- مليون دينار، بحسب التقرير ذاته.

يُذكّر الخبير المحاسب هشام العجبوني أنّ “الخسائر المُسجّلة في سنوات 2021 2022 و2023 هي أرقام تقديريّة نتيجة عدم إفصاح الخطوط التونسية عن قائماتها الماليّة لهذه السنوات”، مبيّنا أنّ “نتائج الاستغلال السلبيّة تعني أنّ رقم المعاملات المُحقّق عجز عن تغطية أعباء الاستغلال وهو أمر غير طبيعي ويعكس أزمة هيكليّة”.

ويضيف العجبوني أنّ “قيمة مجموع الخسائر التقديريّة في السنوات المذكورة، والتي تناهز 900 مليون دينار تقريبا، إضافة إلى الخسائر المُتراكمة الواردة في القائمات الماليّة لسنة 2019، تُمثّل أضعاف قيمة رأس المال”، مُعتبرا أنّ “عدم التحرّك لإنقاذ الشركة يتسبّب في تراكم خسائر شركة الخطوط التونسيّة”.

على صعيد آخر، بلغت قيمة ديون الخطوط التونسية الجويّة تجاه الدولة التونسية فقط 232,4 مليون دينار في سنة 2023، وفق ما جاء في التقرير حول المنشآت العمومية الملحق بقانون الماليّة 2025.

وتفيد القائمات الماليّة للخطوط التونسية المُتعلّقة بسنة 2020 أنّ قيمة ديون المُؤسّسة تجاه ديوان الطيران المدني والمطارات – وهو منشأة عموميّة تُشرف عليها وزارة النقل وهي مكلّفة أساسا باستغلال وتهيئة وتطوير المطارات ومراقبة الملاحة الجوّية وإسناد لزمات لاستغلال مختلف الممتلكات الموضوعة تحت تصرّفها – بلغت 1 مليار دينار إلى غاية 31 ديسمبر/ كانون الأوّل 2020.

يعتبر الرئيس المدير العام الأسبق للخطوط التونسية رابح جراد، والذي تولّى هذا المنصب من أواخر فيفري/ شباط 2012 إلى غاية ماي/أيار 2014، أنّ “أكبر أعباء الخطوط التونسية تتمثّل في الضريبة الجوّية التي تدفعها لديوان الطيران المدني والمطارات”.

ويُبيّن جراد، في حديثه مع موقع الكتيبة، أنّ “هذه الضرائب الجوّية غير عادلة بالنسبة إلى التونيسار لأنه في السابق كان يتمّ خلاص هذه الضرائب بالدينار التونسي ولكن منذ 2008 تقرّر أن يصبح خلاصها باليورو، وهو أمر لا يزعج الشركات الأجنبيّة إلّا أنّه خلق مشاكل للخطوط التونسية خاصّة مع تراجع قيمة الدينار التونسي مقارنة باليورو”.

ويشير إلى أنّه “كان قد طالب في 2012 و2013 بمراجعة هذه الضريبة إلّا أنّه جوبه بالرفض بتعلّة أنّه لا يمكن فرض ضريبة على الخطوط التونسية وأخرى مختلفة على الشركات الأجنبية”، على حدّ قوله.

فضلا عن ديونها تجاه الدولة التونسية ومؤسساتها، تُثقل كاهل الخطوط التونسية ديون أخرى تجاه مزوّدين أجانب وقروض من بنوك تونسية وأجنبية بما فيها قروض بالعملة الصعبة. وتفيد القائمات المالية لسنة 2020 أنّ قيمة القروض التي تحصّلت عليها التونيسار لاقتناء طائرات بلغت 488,2 مليون دينار.

وبلغت القروض الجمليّة للخطوط التونسية 611,5 مليون دينار بحسب ما جاء في القائمات الماليّة لسنة 2020.

في هذا الإطار، يوضّح الخبير المحاسب هشام العجبوني أنّ “الاقتراض من البنوك الأجنبية يخلق خسائر في الصرف”، مضيفا “يجب أن نسأل أنفسنا لماذا اقترضت منشآت تونسيّة بالعملة الصعبة؟ لماذا لم تستطع أن تُقرض البنوك التونسية بعض المنشآت العمومية وهو الأمر الذي تسبّبت لها في خسائر صرف كبيرة جدّا؟”.

تجدر الإشارة إلى أنّ قيمة خسائر الصرف الواردة في القائمات الماليّة لسنة 2020 بلغت 40,7 مليون دينار.

وكانت الخطوط التونسية قد حلّت في المرتبة 109 في تصنيف إير هلب (Airhelp) لشركات الطيران لسنة 2024، وهي المرتبة الأخيرة، مُسجّلة معدّل 3.36 وتحصّلت على 4.7 نقطة في مدى التزامها بالتوقيت، ومعدّل 6 من حيث رأي الحرفاء فيها، ومعدّل 0.2 في علاقة بمعالجة شكاوى الحرفاء.

تُقدّم الخطوط التونسية اليوم، حسب موقعها الالكتروني الرسمي، رحلات إلى حوالي 30 وجهة في العالم في حين أنّها كانت منذ سنوات، وتحديدا في 2010 و2011، تنظّم رحلات إلى ما بين 68 و70 وجهة.

ويعتبر مسؤولون سابقون في الخطوط التونسية، التقى بهم موقع الكتيبة خلال إنجاز التحقيق، أنّ الخطوط التونسية خسرت خطوطها في المطارات الداخلية التونسيّة وفتحت المجال لسيطرة شركات أخرى عليها وأبرزها شركة نوفل إير (Nouvel Air) التونسيّة الخاصة وشركة ترانسافيا (وهي شركة طيران منخفضة الكلفة تابعة لشركة الخطوط الفرنسية)، كما خسرت قطاع الشحن الجوي الذي كان يمكن أن يُدرّ عائدات كبيرة.

جذور الأزمة: سوء الحوكمة و إرث ثقيل من الفساد

تُعدّ شركة الخطوط التونسية إحدى أعرق المؤسسات العموميّة التونسية، إذ وقع تأسيسها سنة 1948 وكان من المُفترض أن تكون مساهما فاعلا في ميزانية الدولة التونسية. إلّا أنّ إرثا طويلا من الفساد وسوء الحوكمة، اللذين انطلقا منذ عقود في الشركة، جعلا منها مؤسّسة عموميّة ذات مخاطر عالية وتُكلّف الدولة خسائر ماليّة هامّة.

كشف التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة عن شبهات فساد في صفقتي اقتناء طائرات من الشركة الفرنسية “إيرباص” سنتي 1998 و2008. ففي صفقة 1998 تحصّل كلّ من محمد سليم شيبوب وبلحسن الطرابلسي والوزير الفرنسي الأسبق لويس مكساندو على عمولات من هذه الصفقة.

فيما لا تزال شبهات الحصول على عمولات من صفقة 2008 تلاحق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي والرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي ووزير النقل الأسبق عبد الرحيم الزواري.

تطرّقت هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها كذلك إلى سوء التوظيف المالي للدولة، وذلك عبر انتداب ابنة شقيقة رئيس الدولة الأسبق بن علي، سلوى مليكة، كعون إداري بشركة الخطوط التونسية بصفة مباشرة عن طريق المحاباة ودون أن تتوفّر لديها الشروط القانونية للانتداب.

ومن ثمّ تمّ إلحاقها للعمل بالتمثيليّة العامّة لشركة الخطوط التونسية بالعاصمة الفرنسية باريس، لتتمتّع نتيجة لذلك بامتيازات ماليّة وعينيّة إضافية لا تستحقّها باعتبار أنّها لم تكن تقدّم خدمات فعليّة للشركة. وبلغت قيمة ما تمتّعت به من أجور وامتيازات عن الفترة الممتدّة بين سنة 1997 وموفى سنة 2010، ما قيمته 1.195.885.721 دينارا وفق ما انتهى إليه الخبراء في القضيّة التحقيقية عدد 9/24102، بحسب التقرير ذاته.

من جانبه، كشف تقرير اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد لسنة 2011، والتي ترأسها عبد الفتاح عمر، عن جملة من التجاوزات التي تمّ ارتكابها بمناسبة استغلال بن علي لطائرات تابعة للخطوط التونسية. وتمثّلت أبرزها في تنازل الشركة عن ديون قيمتها 3.615.864 دينار لفائدة رئاسة الجمهورية بعنوان استغلال طائرة “بي بي جي” (BBJ).

وتمّ أيضا صرف مبلغ يفوق 600 ألف دولار أمريكي لتجهيز الطائرة التي يستغلّها بن علي (بي بي جي) بكماليّات، فضلا عن اقتناء طائرة جديدة لاستعمالات الرئيس الأسبق بن علي بمبلغ يُقدّر بـ133,5 مليون دولار أمريكي من المصنّع الفرنسي إيرباص، مع صرف مبلغ 38,5 مليون يورو لتجهيزها بكماليّات حسب اختيار بن علي ومبلغ 1,35 مليون دولار أمريكي لتجهيزها بنظام ترفيه، علما وأنّ تمويل عمليّة الاقتناء تمّ من ميزانية شركة الخطوط التونسية و باللجوء إلى الاقتراض من المؤسّسات البنكية، وفق ما جاء في تقرير لجنة تقصّي الحقائق.

رغم اندلاع الثورة التونسية، لم تخضع أيّ من المؤسسات العمومية، بما فيها الخطوط التونسية، إلى عملية إصلاح وإعادة هيكلة للقطع نهائيّا مع إرث الفساد وسوء الحوكمة الذي استشرى فيها.

لعلّ أولى مظاهر سوء الحوكمة صلب الخطوط التونسية تتجلّى في التباطؤ في الإفصاح عن القوائم الماليّة. يؤكّد الخبير الاقتصادي محسن حسن للكتيبة ضرورة إرساء منظومة معلوماتيّة متطوّرة تمكّن من إصدار قوائم ماليّة في الآجال التي يحدّدها القانون.

في الإطار ذاته، تفيد مسؤولة رفيعة المستوى سابقا بشركة الخطوط التونسية، طلبت عدم نشر هويّتها، أنّها “عندما كانت تعمل هناك كانت المنظومة المُخصّصة لمتابعة الفواتير والعائدات الماليّة لا تعمل دون أن تتمكّن الشركة من تجديدها لأن ذلك يتطلّب اتباع نظام الصفقات العموميّة”، معتبرة أنّ “التصرّف في التونيسار كان يتمّ كالتصرّف في بلديّة في إحدى المناطق النائية لا كشركة لها نشاط دولي”.

يمثّل ارتفاع عدد أعوان التونيسار إحدى أبرز المُعضلات التي تواجه الشركة والتي تسيل الكثير من الحبر منذ سنوات. يُجمع الخبراء و المسؤولون السابقون بالشركة الذين تحدّث معهم موقع الكتيبة أنّ أغلب الانتدابات وقعت بين 2008 و2012.

يقول الرئيس المدير العام الأسبق للتونيسار رابح جراد إنّه “عادة ما كان يتمّ انتداب أشخاص للعمل في الخطوط التونسية للخدمات الأرضية في فصل الصيف بشكل موسمي مع ارتفاع الرحلات وبالتالي تضاعف نسق العمل، إلّا أنّه في فترة ما بين 2008 و2010 ضعُفت الرقابة وتمّ إدماج الأشخاص المُنتدبين بشكل وقتي في الشركة بصفة دائمة”.

بدوره، يُبيّن إطار سام سابق بالشركة، طلب عدم نشر اسمه، أنّه تمّ بين 2008 و2020 انتداب أكثر من 20 طيّارا وقائد طائرة جميعهم أبناء قادة طائرات بالشركة”، مضيفا أنّه “إبّان الثورة عاد إلى التونيسار كلّ الموظفين الذين تمتعوا بالعفو التشريعي العام والذين كان من بينهم منتمين لحركة النهضة الحاكمة وقتها”، حسب تصريحه.

تفيد وثائق تحصّل عليها موقع الكتيبة أنّ عدد أعوان مجمّع الخطوط التونسية بلغ 8542 عونا في 2012 مقابل 7381 عونا في 2008. وقد عرف عدد أعوان الخطوط التونسية (منفردة) ارتفاعا بـ718 عونا بين 2008 و2012 إذ انتقل عدد الأعوان من 3103 إلى 3821.

كذلك ارتفع عدد أعوان الخطوط التونسية للخدمات الأرضية من 2308 في 2008 إلى 2854 في 2012 أي بفارق 546 عونا.

يؤكّد رابح جراد في حديثه مع الكتيبة أنّه “قام بإيقاف كلّ الانتدابات عندما تولّى منصب الرئيس المدير العام باستثناء انتداب 60 عونا في شركة الخطوط التونسية الفنّية”، مفيدا أنّه “أوصى منذ 2012 بتسريح 2000 عونا”.

يبلغ اليوم اجمالي عدد الموظفين والأعوان الذين يعملون في مجمّع الخطوط التونسية حوالي 6500 شخصا، وفق معطيات تحصّل عليها موقع الكتيبة. هذا ولم يتسنّ لنا التحري في عدد الأعوان الذين يفترض أنّهم يعملون بصيغة مناولة اليد العاملة.

وكان الرئيس المدير العام السابق للخطوط التونسية خالد الشلّي (يقبع حاليا في السجن) قد صرّح في أفريل/ نيسان 2024، أنّ عدد أعوان الخطوط التونسية للخدمات الأرضية يبلغ حوالي 2200، وعدد أعوان الخطوط التونسية الفنيّة حوالي 820 عونا، في ما لم يتجاوز عدد أعوان الخطوط التونسية السريعة 220 عونا.

كذلك، تُمثّل كتلة الأجور ضمن شركة الخطوط التونسية أحد أهمّ الأعباء التي تتحمّلها هذه المؤسّسة العمومية. وعلى الرغم من تراجعها خلال السنوات الأخيرة، إلّا أنها مازالت تحتلّ حيّزا مهمّا في أعباء الاستغلال.

وقد بلغت كلفة الأجور في شركة الخطوط التونسية فقط (وليس كامل المجمّع) 259,7 مليون دينار في 2023، علما وأنّ عدد الأعوان بالشركة في السنة ذاتها بلغ 3107 عونا، وفق ما جاء في التقرير حول المنشآت العمومية لسنة 2025.

وقد وصلت كُلفة الأجور في الخطوط التونسية فقط إلى 225,9 مليون دينار (وهو رقم تقديري تمّ نشره في مؤشرات الخطوط التونسية بموقع البورصة التونسية) خلال 2024 في حين بلغ عدد الأعوان في العام ذاته 2852 عونا.

في المقابل، بلغت كلفة الأجور الجمليّة لمجمّع الخطوط التونسية، وفق المعطيات الواردة في القوائم الماليّة لسنة 2020، حوالي 355 مليون دينار. وتنال كتلة الأجور في الخطوط التونسية الجوّية نصيب الأسد من أعباء الأعوان حيث بلغت قيمتها حوالي 210 مليون دينار، تليها الأجور في الخطوط التونسية للخدمات الأرضيّة بقيمة تقدّر بـ77,8 مليون دينار.

يرى الخبير الاقتصادي محسن محسن أنّ عدد الموظّفين والأعوان بالتونيسار لكلّ طائرة (علما وأن الشركة تستغلّ حاليّا بين 10 و11 طائرة) لا يستجيب للمعايير الدوليّة إذ يبلغ عدد الأعوان لكلّ طائرة حوالي 650، وإذا بلغ عدد الطائرات المشتغلة في فصل الصيف (موسم الذروة) 15 طائرة فذلك يعني أنّ طائرة لها حوالي 433 عونا.

ويوضّح حسن أنّه “بالنسبة إلى شركات الطيران منخفضة الكلفة، فإنّ عدد الأعوان لكلّ طائرة يتراوح بين 80 و100، أمّا في ما يتعلّق بالشركات المشابهة للخطوط التونسية فتحتاج كلّ طائرة إلى ما بين 120 و180 موظفا وعونا”.

ويؤكّد أنّ “إغراق الخطوط التونسية بالانتدابات على مدى سنوات طويلة هو الذي أدّى بالشركة إلى الوضعية الماليّة الصعبة، حتّى أنّ تحسّن رقم المعاملات لا يؤدّي إلى تحسّن الوضعية المالية للشركة باعتبار أنّ الأعباء الاجتماعية، خاصّة كلفة التأجير، مرتفعة جدّا مقارنة بالشركات المنافسة”.

ويشير حسن كذلك إلى “وجود أشخاص يتمتّعون بامتيازات العمل في تمثيليّات الخطوط التونسية في الخارج حيث يتقاضون أجورا باليورو وأطفالهم يدرسون في الخارج ولديهم مكاتب ومقرّات سكن مريحة”، مشددّا على “أنّ التمثيليات التجارية للخطوط التونسية غير مُربحة وتمثّل إهدارا للمال العامّ ومن الأجدى التخلي عنها والاعتماد على سياسات جديدة حديثة للتسويق في الخارج لاسيما ونحن في عصر الرقمي والذكاء الاصطناعي”.

في المقابل، يقول الخبير المحاسب هشام العجبوني إنّ” كلفة الأجور تمثّل أعباء ثابتة، وعندما يكون رقم المعاملات مرتفعا تنخفض هذه الكتلة والعكس صحيح”.

ويضيف “على سبيل المثال، في سنوات الكوفيد ارتفعت كلفة الأجور في التونيسار إلى 43%، وهو رقم مرتفع جدّا لأن رقم المعاملات انخفض من 1800 مليون دينار في 2019 إلى 527 مليون دينار في 2020. أمّا في سنة 2022 ارتفع رقم المعاملات إلى 1311 مليون دينار -وهو رقم تقديري- وبالتالي بلغت نسبة كلفة الأجور 17% وهو رقم مقبول مقارنة بـ43%”.

تفيد وثيقة تحصّل عليها موقع الكتيبة، تمّ إعدادها سنة 2020 في إطار دراسة لإصلاح الخطوط التونسيّة، أنّ “ارتفاع كلفة الأجور من 18 مليون دينار سنويّا إلى 144 مليون دينار بين 2011 و2018 جاء نتيجة إجراءات الدمج والتسوية والترسيم التي تمّ إقرارها بموجب الاتفاقيات الاجتماعية بتواريخ 3 فيفري/ شباط و21 جوان/ حزيران و26 أوت/ آب من سنة 2011 و19 جانفي/ كانون الثاني و24 أفريل/ نيسان من عام 2012.

فضلا عن تضخّم عدد أعوان الخطوط التونسيّة، تقرّ مصادر مختلفة بوجود إخلالات في علاقة بالانتدابات التي وقعت داخل الشركة، فهي تقوم بشكل كبير على “التوريث، والمحاباة، وتدخّلات من كبار المسؤولين في الدولة خاصّة فيما يخصّ تعيين المضيفين والمضيفات”، وفق ما أكّدته مصادر متطابقة للكتيبة.

تشوب كذلك عمليّة توزيع المهامّ وساعات العمل داخل التونيسار عديد الإخلالات حيث تكشف محكمة المحاسبات، في تقريرها الـ31 إثر مهمّة رقابيّة قامت بها المحكمة بهدف تقييم مدى توفّق شركة الخطوط التونسية في التصرّف في أسطول طائراتها خلال الفترة 2014-2017، أنّ الإفراط في لجوء الطيّارين إلى الاتفاقيات الثنائية فيما بينهم، والتي تخوّل للطيّار أن يؤمّن استثنائيّا رحلات جوية عوضا عن زميله، تسبّب في توزيع غير متوازن لساعات الطيران.

وتبيّن، وفق التقرير، أنّ ما يزيد عن 43% منهم قد أنجزوا ساعات طيران أقلّ من الحدّ الأدنى السنوي، وهو ما ترتّب عنه تحمّل الشركة لمبلغ 5,74 مليون دينار بعنوان ساعات طيران لفائدة طيّارين دون أن ينجزوها فعليّا، وصرف ساعات إضافية للبعض الآخر كان بالإمكان تلافيها، وهو ما يعتبر إهدارا للمال العامّ.

وسجّل التقرير أيضا تفاقم ظاهرة الغيابات لدى الطيّارين وخاصّة الغيابات غير المبرّرة، إذ تبيّن أنّ طيّارين اثنين قد اشتغلا لحساب شركة طيران أجنبية خلال مدّة غيابهما دون أن تتّخذ الشركة إجراءات فعّالة للحدّ منها، وهو ما انجرّ عنه صعوبات في توظيف الطيّارين وخاصّة في مواسم ذروة النشاط.

وتحمّلت الشركة دون موجب، خلال الفترة 2015-2017، مبالغ قدرها 3,89 مليون دينار بعنوان فوارق بين ساعات الطيران المسجّلة من قبل قائد الطائرة على ورقة الرحلة والساعات المسجّلة على منظومة “ناتلاين” التي تدوّن بها آليّا المعطيات المتعلّقة بالطواقم والجدول الزمني للرحلات وبرنامج الرحلات.

ويبرز تقرير محكمة المحاسبات أنّ سوء توظيف الطيّارين ساهم في تدهور مؤشّر انتظام الرحلات ودفع بالشركة إلى كراء طائرات بطواقم بكلفة جمليّة قدرها 916 ألف دينار بين 2014 و2017.

تشير المسؤولة السامية السابقة بالتونيسار المشار اليها سابقا في حديثها مع الكتيبة إلى أنّ “توزيع المضيفين.ـات على الرحلات الجوّية كان يتمّ بناء على المحاباة ومدى التقرّب من الجهات النقابيّة، فمن كان قريبا منها كان يتمّ تكليفه/ا برحلات بعيدة باعتبار أنّها تُمكّن المضيفين.ـات من الحصول على عمولات أكثر من خلال بيع المشروبات والسجائر، أمّا أولئك غير المقرّبين منها فكان يتمّ تكليفهم/ن برحلات قريبة”.

ناقلة دوليّة برصيد قليل من الطائرات الخاصّة

تشكو الخطوط التونسية أيضا من نقص في عدد طائرات أسطولها الجوي. تفيد وثائق رسميّة داخلية غير منشورة اطّلع عليها موقع الكتيبة أنّ عدد الطائرات الحاليّ الذي تستغلّه الخطوط التونسية يتراوح بين 10 و11 طائرة. ومن المتوقّع أن يبلغ عدد الطائرات المستغلّة في موسم الذروة (جويلية/ تموز وأوت/آب 2025) 14 طائرة.

تراجع عدد الطائرات بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. إذ تكشف مؤشرات الخطوط التونسية التي تنشر في موقع البورصة بشكل دوري، أنّ عدد الطائرات التي تستغلّها الشركة سنة 2024 بلغ 19 طائرة، 5 منها تملكها الشركة و14 طائرة على وجه الكراء. وقُدّرت مصاريف كراء الطائرات في سنة 2024 بحوالي 142,3 مليون دينار.

في المقابل، كانت الشركة تستغلّ 34 طائرة في 2011، 23 منها تملكها التونيسار و11 طائرة تمّ تأجيرها.

وقد قامت الخطوط التونسية بتعزيز أسطولها، بين 2020 و2022، بـ4 طائرات في إطار عمليّة “بيع وإعادة تأجير” (Sale and lease back)، وفق ما جاء في التقرير حول المنشآت العمومية لسنة 2024. وعملية البيع وإعادة التأجير هو اتفاق يتمّ بموجبه التفويت في طائرة ومن ثمّ إعادة كرائها لمدّة سنوات عديدة.

يُبرز موقع إير فليتس (Airfleets) أنّ معدّل أعمار طائرات أسطول الخطوط التونسية يبلغ 10.1 سنة، في حين يفيد تقرير محكمة المحاسبات الحادي والثلاثين أنّ معدّل أعمار الطائرات بلغ 15,5 سنة في 2017.

في سياق متّصل، تواجه الشركة صعوبات في تنفيذ البرامج السنويّة لصيانة الطائرات، إذ بلغ التأخير في إنجازها إلى 1812 يوما سنة 2016 مقابل 106 يوما مبرمجا، ممّا تسبّب في توقّف الطائرات لفترات طويلة على ذمّة الصيانة تجاوزت 300 يوما وتراجع نسبة جاهزيتها التي وصلت في 2017 إلى مستويات حرجة، وفق التقرير ذاته.

وتواجه الشركة منذ 2016 صعوبات كبيرة في تمويل صيانة محرّكات الطائرات حيث لم تتمكّن من توفير سوى 20 مليون دينار للغرض، وهي اعتمادات غير كافية لمجابهة أعباء الصيانة المقدّرة بحوالي 91 مليون دينار، ممّا تسبّب في توقّف الطائرات لفترات طويلة.

يقول الإطار السامي السابق بالخطوط التونسية، في معرض حديثه مع موقع الكتيبة، إنّ “كلفة إصلاح المحرّكات تتراوح سنويّا بين 140 و150 مليون دينار”، مشيرا إلى أنّه “في السابق كان يتمّ التعامل مع شركة “لوفتانزا” (Lufthansa) إلّا أنّه لم يتمّ تجديد العقد معها رغم أنّ الخطوط التونسية كانت تستفيد من التعامل معها. وباتت التونيسار اليوم تصلح طائراتها في كندا أو من قبل إير فرانس”.

يفيد المصدر ذاته أنّه في 2018 قامت الخطوط التونسية “بإرسال 6 محرّكات لإصلاحها في كندا ولم يعد منها إلى تونس إلّا محرّكان اثنان وبقيت 4 محرّكات في كندا بسبب عدم قدرة الشركة التونسية على دفع ثمن إصلاحها”، مشيرا إلى أنّه “تمّ التوصّل إلى تسوية تتمثّل في كراء المحرّكات الأربعة المتبقّية في كندا حتّى يتمّ خلاص ثمن صيانتها”.

تتعدّد الأمثلة حول سوء التصرّف في أسطول طائرات الخطوط التونسية وصيانتها. على سبيل المثال، “كان يتمّ شراء مصابيح للطائرات من شركة في العاصمة البريطانية لندن بسعر 5 دولار للمصباح الواحد، وكانت هذه المصابيح تعمل دون أية مشاكل لسنوات”.

ولكن “تقرّر تغيير المزوّد وشراء مصابيح من آخر أمريكي مقابل سعر أقلّ (1 دولار للمصباح)، وقد كلّف ذلك الشركة دفع مصاريف نقل المصابيح من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تونس (2000 دولار). وبعد تركيب هذه المصابيح، تبيّن أنها سرعان ما تصاب بالأعطاب وتتوجّب التغيير بشكل شبه يومي”، وفق ما رواه لموقع الكتيبة الإطار السامي السابق بالشركة.

يقول المتحدّث ذاته إن هناك اليوم “حوالي 20 طائرة لا تعمل ومتوقّفة في مطار تونس قرطاج الدولي”، مشيرا إلى “وجود طائرة متوقّفة اليوم كانت ستشتريها ابنة رئيس دولة إفريقية مقابل 39 مليون دولار إلّا أن الصفقة لم تتمّ لأن التونيسار أصرّت على بيعها مقابل 42 مليون دينار في حين أنّ كلفة صيانتها في ذلك الوقت تبلغ 5 مليون دينار. وهي الآن متوقّفة ولا تعمل”، وفق تصريحاته.

يبيّن الإطار السامي السابق أيضا أنّ “الخطوط التونسية السريعة تعمل اليوم بطائرة واحدة تتنقّل بين مطارات جربة وتوزر وصفاقس وقفصة وكاتانيا وباليرمو (إيطاليا) ومالطا. أمّا الطائرة الثانية على ملك الخطوط السريعة فقد قام ديوان الطيران المدني بسحب رخصة استغلالها”، حسب محدّثنا.

هذا النقص في عدد الطائرات دفع الخطوط التونسية إلى الاعتماد بشكل كبير على كرائها بطرق مختلفة، الأمر الذي يراه البعض غير مجد على المدى البعيد وكان يمكن أن تشتري الخطوط التونسية طائرات أخرى بالمبالغ التي تدفعها لكراء الطائرات.

يكشف تقرير محكمة المحاسبات أنّ الشركة تحمّلت نفقات بين 2014 و2017 قدرها 25,8 مليون دينار كان بالإمكان الحدّ منها لو توصّلت إلى التحكّم في صيانة أسطولها من الطائرات.

كما يتسبّب ضعف الأسطول في تأخير عديد الرحلات، وهو أمر آخر يتسبّب في خسائر مادّية كبيرة للخطوط التونسية.

يبيّن الإطار السامي السابق أنّه “عندما يتجاوز التأخير الساعتين، يتمّ التعويض لكلّ حريف بمبلغ يتراوح بين 200 و400 يورو. وإذا تجاوز التأخير 4 ساعات، يتمّ نقل الحرفاء إلى نزل. وقد وصل الأمر إلى أن بلغت كلفة تأخير رحلة في ساحل العاج 150 ألف دينار”.

كما يؤثّر “التأخير على بقيّة الرحلات المبرمجة في مناطق أخرى ويسبّب في اضطراب في سلسلة الرحلات باعتبار أن الطائرة المتأخرة كان من المفترض أن تقوم برحلات إلى دول أخرى، ولكنّ ذلك يتعطّل”، وفق المصدر ذاته.

ويعتبر نفس المتحدّث أنّه “نتيجة التأخيرات المتواترة أصبحت سمعة الخطوط التونسية سيّئة وهو أمر له تداعيات سلبيّة”، مفيدا أنّه “في سنة 2016 بلغت كلفة التعويضات المُفترضة من قبل الشركة أكثر من 5 مليون دينار تقريبا كلّها نتيجة التأخيرات في رحلاتها لكنّها لم تدفع هذا المبلغ كاملا”.

يشير تقرير المحكمة المحاسبات كذلك إلى أنّ شركة الخطوط التونسيّة تُفرط في اللجوء إلى القيام بشراءات بصفة استعجاليّة ممّا يكلّفها تكاليف باهظة تتعلّق بالترفيع في الأثمان وصل إلى حدود 88% مقارنة بالأثمان العاديّة. وبلغت هذه الشراءات بين 2012 و2017 ما قدره 23 مليون دينار.

واعتبر التقرير أنّ الصبغة الاستعجاليّة لهذه الشراءات ليست دائما مُبرّرة بدليل مكوث بعض القطع بالمخزون لفترات طويلة ممّا أدّى إلى انتهاء صلوحيّة البعض منها.

يؤكّد الإطار السامي السابق بالخطوط التونسيّة أن “الشراءات المُستعجلة هي من المعايير الدوليّة المستعملة”، موضّحا أنّه “نظرا إلى غياب السُيولة في التونيسار و المديونيّة الكبيرة لهذه الأخيرة تجاه المزوّدين، لم يعد بالإمكان إلّا اللجوء إلى هذه الطريقة التي تستخدمها كلّ شركات الطيران. وشدّد على أنّ هذه الشراءات المستعجلة مبرّرة بالوثائق”.

تُفيد محكمة المحاسبات أيضا في تقريرها أنّه تمّ خلال الفترة 2012-2017 نزع قطع غيار من طائرات دون تركيبها بطائرات أخرى ودون أن تتوفّر معطيات حول مآلها وذلك في 22 مناسبة. كما تمّ في نفس الفترة رصد 658 حالة تتعلّق بمعدّات معطّبة تمّ إرسالها إلى مختصّين في الصيانة لإصلاحها دون أن يتبيّن ما يفيد استرجاعها من قبل شركة الخطوط التونسية الفنّية.

من جهة أخرى، ينتقد الإطار السامي السابق بالتونيسار أيضا “كيفيّة التصرّف في الوجبات التي يتمّ تقديمها للمسافرين.ـات أثناء الرحلات، إذ يتمّ اقتناء وجبات أكثر من عدد المسافرين ، باعتبار أن الطائرة تُغادر محمّلة بالركّاب وتعود فارغة، وبالتالي فإن بقيّة الوجبات تذهب سُدى باعتبار أنه لا يمكن إعادتها”، وفق إفادته.

واعتبر نفس المصدر أنّه “لا بدّ من الاكتفاء بشراء وجبات حسب عدد المسافرين وإذا تبيّن أنّ هناك نقصا في الوجبات في رحلة العودة يمكن شراؤها من الخارج مقابل 15 دينارا للوجبة، وهو أقلّ كلفة من شراء 320 وجبة ومن ثمّ إلقاء جزء كبير منها”.

ومن بين العوامل التي أدّت إلى تعكير وضعية الخطوط التونسية هي خسارة السوق الليبية. وتكشف معطيات تحصّلت عليها الخطوط التونسية أنّ كلفة خسارة هذه السوق السنوية بلغت 104 مليون دينار.

يقول الرئيس المدير العام الأسبق للتونيسار رابح جراد إنّه “في 2012 كانت السوق الليبية من أفضل الأسواق حيث كان هناك 69 رحلة أسبوعيا وكانت نسبة امتلاء الطائرات هي الأهم في هذه الرحلات إذ وصلت إلى 85% في الوقت الذي كان فيه معدّل نسبة الامتلاء لدى التونيسار يتراوح بين 70 و72%.

كلفة باهظة لتأخر الإصلاح

لا تمثّل أزمة “الغزالة” التونسية أمرا طارئا أو جديدا، بل هي مسألة كانت محور مجالس وزاريّة واجتماعات عديدة منذ ما بعد الثورة التونسية. وقد ترأس شركة الخطوط التونسيّة منذ 2010 إلى اليوم 13 رئيس/ة مدير عامّ وبعضهم لم تتجاوز مدّة تولّيهم هذا المنصب الشهرين.

ساهم غياب الاستقرار على رأس الناقلة الوطنيّة والتغييرات على مستوى الحكومات وبالتالي وزراء النقل في تأجيل عمليّة إصلاح هذه المؤسسة الوطنيّة العريقة، ممّا أدّى إلى تفاقم خسائرها.

وقد عقدت الحكومات المتعاقبة جلسات وزارية عديدة على مدى السنوات الأخيرة لبحث حلول لأزمة التونيسار وضرورة التعجيل في تنفيذ “خطة الإنقاذ” لكن دون أن يقع أي تغيير يذكر.

تمّ في 2012 اقتراح خطة لإنقاذ التونيسار تضمّنت محاور تتعلّق بإعادة هيكلة الشركة وتسريح عدد من الموظفين والأعوان وتحديث الأسطول وزيادة الوجهات التي من الممكن أن تتوجّه إليها التونيسار، إلّا أنّه بقي حبرا على ورق.

في السياق ذاته، أقرّ مجلس وزاري مضيّق، يوم 20 ماي/ أيّار 2019، تحت إشراف رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد وبحضور وزير النقل الأسبق هشام بن أحمد والرئيس المدير العام للخطوط التونسية الراحل إلياس المنكبي، برنامجا لإصلاح وتطوير مجمع الخطوط التونسية لسنوات 2018- 2023.

تضمّن هذا المخطّط جملة من الإجراءات أبرزها تنفيذ برنامج التطهير الاجتماعي الذي يخصّ 1200 عون واعتماد طريقة البيع وإعادة التأجير لتعزيز أسطول الطائرات، بالإضافة إلى اعتماد نمط جديد من الحوكمة واعتماد إجراءات عاجلة كالترفيع في رأس مال الشركة وتمكينها من إعفاء جبائي.

على الرغم من مرور حوالي الستّ سنوات، بقيت هذه الخطّة حبيسة الأدراج ولم يتمّ الشروع في تنفيذ أيّ من بنودها. حتّى أنّ شركة الخطوط التونسية الفنّية مازالت مجبرة على دفع 7% أداءات مقابل قطع الغيار التي تستوردها لإصلاح الطائرات.

وقد عقد رئيس الجمهورية قيس سعيّد اجتماعات مع وزراء النقل والرؤساء المديرين العامّين المختلفين للخطوط التونسية الذين شغلوا هذه المناصب خلال السنوات الأخيرة أكّد خلالها ضرورة أن يعود للخطوط التونسية “بريقها”، وكان آخرها يوم 15 جانفي/ كانون الثاني 2025 حيث التقى برئيس الحكومة كمال المدّوري ووزير النقل رشيد العامري.

لم تضف كلّ هذه اللقاءات والاجتماعات أيّ نتيجة إلى غاية اليوم، باستثناء المصادقة على القائمات الماليّة لسنة 2020 و اجتماع عقدته المكلّفة بتسيير الإدارة العامة للخطوط التونسية حليمة خواجة، أوصت خلاله بضرورة “الاستعداد الجيّد للموسم الصيفي المقبل فنّيا وتجاريّا وتنظيميّا من حيث جاهزية الأسطول وصيانة المعدّات وبرمجة الرحلات وضمان انتظام الرحلات وديناميكية الموارد البشرية في جميع الإدارات والفروع”، وفق بلاغ نشر في الصفحة الرسمية للتونيسار يوم 7 فيفري/ شباط 2025.

يقول الخبير الاقتصادي محسن حسن إنّه “لا يمكن تقدير كلفة عدم إصلاح الخطوط التونسية إذ أنّه يُكلّف الماليّة العمومية مئات الملايين من الدينارات وأي تأخير في إصلاح الخطوط التونسية له كلفة ماليّة باهظة وكذلك كلفة اقتصادية كبرى”.

ويضيف حسن:

“عدم تأهيل الخطوط التونسية له كلفة على القطاع السياحي والتجارة الخارجيّة والاستثمارات الأجنبية المباشرة وكلفة أخرى لا تقدّر بثمن وهي سمعة بلادنا”.

لعلّ من أبرز الخسائر التي تسبّب فيه عدم إصلاح الخطوط التونسية هي اتفاقية السماوات المفتوحة التي يمكن أن تفتح آفاقا جديدة للاقتصاد والسياحة التونسيين. وتثير هذه الاتفاقية جدلا كبيرا خاصّة بين من يرفض دخول تونس فيها بتعلّة أزمة التونيسار.

تعتبر المسؤولة السامية السابقة بالخطوط التونسية أنّ “دخول تونس اتفاقية السماوات المفتوحة في ظلّ الوضعيّة الحالية التي تعيشها الخطوط التونسية يعني القضاء على هذه الأخيرة بشكل نهائي”، مشيرة إلى “أنّ كلّ شركات الطيران يمكنها النزول في تونس وبالتالي تونس تنفذ هذه الاتفاقية دون توقيعها رسميّا”.

وتفضّل المتحدّثة أن “تعقد تونس اتفاقية سماوات مفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول آسيوية والشروع في إصلاح الخطوط التونسية قبل أن توقّع هذه الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي على أن تجدّد معه التفاوض حول شروطها”، مؤكدة أنّ “التونيسار لن تستطيع منافسة بقية الشركات إذا وقعت على اتفاقية السماوات المفتوحة في وضعيتها الحالية”.

إلّا أنّ الخبير الاقتصادي محسن حسن يرى في “اتفاقية السماوات المفتوحة أكثر من ضرورة للاقتصاد الوطني والقطاع السياحي والاستثمارات الأجنبية”، قائلا:

“كلفة الـ”لا سماوات مفتوحة” مضاعفة وأكبر بكثير ممّا نتوقّع وممّا ننتظر من عدم إمضاء اتفاقية السماوات المفتوحة”.

ويبرز حسن أنّ “السماوات المفتوحة ستُمكّن من تمكين التونسيين.ـات المقيمين.ـات في الخارج من زيارة تونس بأسعار زهيدة وتشجّعهم على الاستثمار في بلدهم”، لافتا النظر إلى أنّ “العائق الوحيد أمام هذه الاتفاقية هو الخطوط التونسية بتعلّة عدم جاهزيتها” ومعتبرا “أنّ عدم جاهزية التونيسار يجب أن تدفع سلطة الإشراف إلى الشروع في عمليّة التأهيل وتحسين مردودية الناقلة الوطنيّة حتى تستطيع الصمود أمام المنافسة الأجنبية وخاصّة من قبل الشركات منخفضة الكلفة”.

يحمّل الخبير الاقتصادي محسن حسن “الحكومات المتعاقبة المسؤولية في تباطؤ تأهيل الخطوط التونسيّة”، معتبرا أنّهم “يتحمّلون مسؤولية أخلاقية قد ترتقي إلى درجة المسؤولية القانونية”، ومبيّنا “أنّه كان من المفترض أن تقع هيكلة الخطوط التونسية منذ تسعينات القرن الماضي خاصّة على مستوى الرؤية والتجديد والتموقع في القطاع والاستثمار”.

ليست الحكومات وحدها مسؤولة عن تأخر تنفيذ خطّة إصلاح الخطوط التونسية وفق تأكيدات المسؤولين السابقين بالشركة للكتيبة. إذ أجمعوا على أنّ نقابات الخطوط التونسية التابعة للاتحاد العامّ التونسي للشغل كان لها دور في تعطيل تنفيذ مخطّط الإصلاح.

يعتبر الرئيس المدير العام الأسبق للخطوط التونسية رابح جراد أنّ”نقابة الخطوط التونسية للخدمات الأرضية ونقابة الخطوط التونسية الفنّية يتحمّلان جزءا من المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في الناقلة الوطنية”.

من جهتها، تقول المسؤولة السامية السابقة بالخطوط التونسية إنّ “مشكلة اتحاد الشغل كانت في أنّه لا يتصرّف كمؤسسة حيث كانت نقابة الخطوط التونسية للخدمات الأرضية تتمتّع بسلطة أكبر من الجامعة العامة للنقل”.

وتذكر أنّه عندما “تمّ الاتفاق مع المنظّمة الشغيلة على تسريح 1200 عون، طلب اتحاد الشغل أن يحصل كلّ عون يقع تسريحه على رواتب 5 سنوات، وهو أمر مكلّف جدّا ممّا حال دون تنفيذ هذا الإجراء إلى اليوم”، وفق تصريحاتها.

يتّفق الوزير الأسبق والخبير الاقتصادي محسن حسن مع هذا التوجّه. ويشير إلى أنّه “لم يكن هناك من يقدر أن يتجاوز نقابة الخطوط التونسية” معتبرا أنّ “اتحاد الشغل كمنظمة نقابية وطنية يتحمّل جزءا كبيرا من العربدة التي كانت موجود في الخطوط التونسية”.
ويضيف قائلا:

“الحكومات لم تكن لديها الجرأة للقيام بالإصلاحات الضرورية والعقلانية التي تقتضيها مسألة تأهيل المؤسسة ولم تكن لديها الجرأة والقدرة على التعامل مع الطرف النقابي لأنّنا نعلم جميعا أنّ اتحاد الشغل كمنظمة وطنية نقابيّة كان لديه حظوة ودور كبير في ما آلت إليه الأوضاع في العديد من المؤسسات الوطنيّة ليس فقط الخطوط التونسية”.

اتّصل موقع الكتيبة بوزارة النقل وبشركة الخطوط التونسية قصد الحصول على معطيات رسميّة للردّ عن كلّ الإشكاليات التي يطرحها التحقيق لكن دون أن يقع التفاعل معنا. كذلك حاولنا الاتصال باتحاد الشغل وتحديدا الجامعة العامة للنقل والأمين العام المساعد المكلف بالمنشآت العموميّة للحديث عن كلّ هذه الإشكاليات دون أن يتسنّى لنا الحصول على ردّ منهم إلى غاية كتابة هذه السطور.

علما أنّ كاتب عام نقابة الخطوط التونسيّة نجم الدين المزوغي يقبع حاليا في السجن حيث تمّ القبض عليه مؤخرا وهو بصدد محاولة الفرار إلى خارج البلاد في قضيّة تهمّ تدليس شهائد علميّة والتوسط في البغاء والارتشاء من خلال استخلاص مبالغ ماليّة للتدخلّ في الانتدابات والترقيات.

أزمة التونيسار: أيّ حلول مُمكنة؟

تمنح الوضعيّة التي تعيشها البلاد اليوم ظرفيّة مناسبة للانطلاق في إصلاح الخطوط التونسية للحدّ من نزيف الخسائر التي تعاني منها هذه المؤسّسة الوطنيّة، وفق تقدير جلّ من التقى بهم موقع الكتيبة في إطار هذا التحقيق.

يعتبر محسن حسن أنّ هذه المرحلة تعدّ “آخر فرصة لإصلاح الخطوط التونسيّة لسببين، الأوّل سبب سياسي يتمثّل في كون رئيس الجمهورية يرى أنّه لا بدّ من الحفاظ على المؤسّسات العمومية، أمّا السبب الثاني فهو تغيّر المعطيات (يقصد موازين القوى في علاقة السلطة بالطرف النقابي) حيث لم يعد هناك طرف يُعطّل عمليّة الهيكلة والإصلاح”.

تتعدّد سيناريوهات إصلاح الخطوط التونسيّة كما تختلف التقديرات حول قيمة الأموال التي لا بدّ من ضخّها من أجل إنجاز هذا الإصلاح.

يرى الإطار السامي السابق بالتونيسار أنّه “من الأجدى أن يقع الإعلان عن إفلاس الخطوط التونسية وغلقها في موفى سنة 2025 وفتح ناقلة وطنيّة جديدة يقع فيها انتداب الكفاءات الموجودة بالناقلة الوطنيّة الحاليّة دون أن تتجاوز هذه الانتدابات العدد الضروري ودون أن يقع خلق خطط لا يقوم أصحابها بأي عمل فعليّ كما هو الحال الآن في الخطوط التونسية حيث توجد العديد من الوظائف الوهميّة التي لا طائل منها حيث يتحصّل أصحابها على أجور دون أي إضافة أو عمل حقيقي فعلي”.

لا يُعدّ غلق شركة طيران وطنيّة وإحداث أخرى جديدة سابقة في تاريخ شركات الطيران. إذ سبق وأن واجهت شركة “سويس إير” أزمة ماليّة كبيرة أدّت إلى إفلاسها في 2001 نتيجة سوء الإدارة المالية والتوسّع المفرط في الاستحواذ على شركات طيران أخرى. بعد الإفلاس، تأسّست شركة جديدة تحمل اسم “سويس انترناشونال إير لاينز” في 2002 مستفيدة من بعض أصول الشركة الأولى. كما تحصّلت على دعم مستثمرين سويسريين وشركة لوفتانزا الألمانية التي استحوذت عليها بشكل كامل لاحقا.

كذلك، وجدت شركة “إير مالطا“، الناقلة الجوّية الرسمية لمالطا، نفسها مضطرّة إلى إنهاء عمليّاتها بعد 50 عاما من تأسيسها بسبب صعوبات ماليّة. وقد تمّ تأسيس شركة طيران وطنية جديدة لتحلّ محلّها.

يُبيّن الخبير المحاسب والنائب الأسبق بالبرلمان هشام العجبوني أنّه “لا بدّ من ضخّ أموال كافية لاستيعاب الخسائر المؤجّلة وهي في حدود 1000 مليون دينار بالنسبة إلى مجمع الخطوط التونسية، فضلا عن ضخّ أموال أخرى حتّى تستطيع شركة الخطوط التونسيّة إعادة هيكلة الموارد البشرية والقيام بعمليّة التطهير الاجتماعي وشراء طائرات جديدة”.

ويؤكّد العجبوني أنّه “لا يمكن الحديث عن حلول قبل الإفصاح عن القائمات الماليّة لسنوات 2021 و2022 و2023 و2024 ومن ثمّ تشخيص وضعيّة التونيسار على مختلف الأصعدة. كما يتعيّن أيضا تحديد دور الناقلة الوطنية والأدوار التي يمكن أن تقوم بها، وبشكل خاصّ الدور الاجتماعي الذي يسمح للتونسيين.ـات المقيمين.ـات في الخارج من التنقّل إلى تونس بأثمان معقولة”.

ويتعيّن كذلك “تحديد الدور الاقتصادي الذي ينبغي أن تقوم به الخطوط التونسية إذ من المفترض أن تكون أحد الأذرع الاقتصادية للتعريف بتونس وتصدير البضائع والخدمات التونسية”، وفق المتحدث ذاته الذي أشار إلى “ضرورة أن يكون للخطوط التونسية وجهات محدّدة يمكن أن تحقّق منها أرباحا،كما أنه ليست هناك حاجة كي تكون “التونيسار” موجودة في كامل وجهات العالم”.

ويلفت النظر إلى أنّه “من الصعب العثور على شريك استراتيجي لضخّ مبلغ كبير”، مستدركا بالقول إنّه “مقتنع بوجود إمكانيّة لإصلاح الخطوط التونسية من خلال تضافر الجهود وضخّ ما يمكن من الأموال من خلال التعويل على الذات مع إرساء استراتيجية وحوكمة جديدة”.

ويضيف أنّه “إذا تبيّن أنّ الإصلاح غير ممكن فلم لا يتمّ بعث ناقلة جويّة أخرى بحوكمة جديدة وأموال جديدة ويمكن حينها إيجاد شركاء استراتيجيين يتمتّعون بالخبرة وشبكة علاقات في العالم”، مبيّنا أنّه “من الأجدى ضخّ 1000 أو 2000 مليون دينار في شركة جديدة لها استراتيجية وطريقة حوكمة جديدة وأعوان مختصّون يتمتّعون بالكفاءة، وذلك في إطار رؤية معيّنة اقتصادية شاملة”.

ويؤكّد أنّه “لا يمكن إيجاد حلّ للخطوط التونسية أو لأيّ مؤسسة عمومية أخرى بمعزل عن الرؤية الاقتصادية للبلاد”.

في المقابل، يتمسّك الخبير الاقتصادي محسن حسن “بضرورة الحفاظ على شركة الخطوط التونسية مع إصلاحها وإعادة هيكلتها. ويعتبر أنّه لا بدّ من ضخّ 1.2 مليار دينار على الأقلّ للشروع في عمليّة الإصلاح. إلّا أنّ هذا الرقم وفق تقديره يحتاج إلى دراسات حديثة لتحيينه حيث يتوقع أن تكون كلفة الإصلاح من الناحية الماليّة أكبر”.

يقترح حسن أن “تُوفّر الدولة على المدى القصير مبلغا يتراوح بين 150 و200 مليون دينار للاستعداد جيّدا للموسم السياحي والقيام بصيانة أسطول الطائرات واعتماد سياسة تسويقية والعمل بمنظومة معلوماتية متطوّرة على أن تنطلق في الأثناء هيكلة اجتماعية ومالية للشركة تشمل جانب الحوكمة”.

يوضّح محسن حسن أنّه “يتعيّن على الدولة التونسية، باعتبارها شريكا أساسيّا، الترفيع في مساهمتها في رأس مال الخطوط التونسية وكذلك الأمر بالنسبة للمساهمين الآخرين سواء كانوا صناديق اجتماعية أو صغار المساهمين. ومن ثمّ يتعيّن البحث عن شريك استراتيجي تكون له مساهمة متوسطة وتحافظ الدولة على مساهمتها الأغلبيّة”.

أمّا على مستوى السياسة التجارية، يرى محسن حسن أنّه “لا بدّ من إلغاء الرحلات التي لا تحقّق أرباحا كبيرة. فضلا عن ضرورة التخلّي عن السياسة التسويقية التقليدية من خلال تمثيليّات في الخارج لا تقوم بأي شيء ممّا يعدّ إهدارا للمال العامّ. ويبيّن أنّه لا بدّ من إحداث خطة قنصل اقتصادي في السفارات التونسية يتولّى مثل هذه المواضيع”.

كما يمكن أيضا للخطوط التونسية أن “تعتمد على الرقمنة والبيع عبر الانترنت للتخفيض من كلفة التمثيليات في الخارج، كما يمكن أن تبيع العقّارات التي تملكها في الخارج لدعم الموارد الذاتية ورأس المال”، وفق المتحدّث نفسه.

ويذكّر الخبير الاقتصادي أن “هناك اتفاقا اليوم يمكّن الدولة التونسية من الاقتراض بصفة مباشرة من البنك المركزي التونسي بمبلغ في حدود 7 مليار دينار”، مبرزا أنّه “يفضّل أن يقع توجيهها من أجل هيكلة المؤسسات العمومية. ويمكن تخصيص 1 مليار دينار للخطوط التونسية ممّا سيسمح بإنجاز الهيكلة الاجتماعية من خلال تسريح عدد من الأعوان ومنحهم كامل حقوقهم، فضلا عن الهيكلة المالية للترفيع في المواد القارّة والذاتيّة للمؤسّسة. كما يمكن لهذا المبلغ أن يموّل خطّة الإنقاذ التي تنتظر والتي تحتاج على الأقل إلى 150 أو 200 مليون دينار ليكون لدى الناقلة بين 15 و20 طائرة يمكن استغلالها في الموسم السياحي”.

ويعتبر محسن حسن أنّ “إصلاح الخطوط التونسية يجب أن يندرج في إطار “حلم” للتونسيين من ركائزه مطار يستجيب إلى المعايير الدولية وناقلة وطنيّة تملك طائرات وسمعة ومردودية”، مؤكّدا أنّ “مطار تونس قرطاج بوضعه الحالي لا يستجيب لما ينتظره التونسيون.ـات من بلادهم”.

من جهتها، تقول المسؤولة السامية السابقة بالخطوط التونسية إنّ “إصلاح الخطوط التونسية يحتاج إلى مبلغ يتراوح بين 800 مليون و1 مليار دولار أمريكي”، مشيرة إلى أنّ “الدولة التونسية ليست لها الأموال الكافية للقيام بالإصلاح الذي لا يمكن أن يتمّ بإمكانيات تونسية فقط”.

وتوضّح أنّه لا بدّ من “جمع أموال وإحضار استثمارات من الخارج وإحداث شراكة استراتيجية سواء مع إيرباص أو بوينغ”، مشيرة إلى أن “إصلاح الخطوط التونسية يحتاج إلى هندسة مالية جديدة”.

وتفيد أنّها تساند “خوصصة الخطوط التونسية لكن على أن تتمّ هذه الخوصصة من خلال طرح أسهمها في البورصة التونسية لفتح الباب أمام التونسيين لشرائها وامتلاك بين 70 و80%، ويرافق ذلك برنامج إنقاذ وهيكلة واستراتيجية جديدة والربط بين كافة المطارات التونسية واقتحام الأسواق الأخرى وافتكاك حصص شركات منافسة مثل ترانسافيا ونوفل إير”.

بدوره، يقترح المدير العام الأسبق رابح جراد أن “تتحمّل الدولة ديون شركة الخطوط التونسية تجاه ديوان الطيران المدني والمطارات أو أن يقع إدماج هذه الديون في رأس مال الشركة وبالتالي الترفيع فيه، إلى جانب تسريح بعض الأعوان وتغيير وضعية الشركات التابعة للخطوط التونسية لتصبح جميعها خاضعة لاستراتيجية واحدة عوض أن تقوم كلّ شركة بما يناسبها دون الأخذ في الاعتبار مصالح بقية شركات المجمع”.

ويضيف أنه “يمكن بعد ذلك البحث عن شريك استراتيجي وبيع جزء من رأس المال لتوفير مبلغ مالي يسمح للخطوط التونسية بالحصول على طائرات جديدة والشروع في استعمال نظام معلوماتية جديد”.

ويشير جراد إلى “ضرورة أن يكون للتونيسار قسم خاصّ بها في مطار تونس قرطاج الدولي”.

على نقيض كلّ هذا، يرى البعض الآخر من المعنيّين بالشأن الاقتصادي من منظور ليبرالي راديكالي أنّه “من الأجدى أن تقوم الدولة التونسية بالتفويت بشكل كامل في شركة الخطوط التونسية باعتبار أنّ قطاع النقل الجوّي تنافسي ولا حاجة لأن تُسيطر عليه الدولة”.

ختاما، يمكن الجزم أنّ السيناريوهات المطروحة لإصلاح الخطوط التونسية والنهوض بالناقلة الوطنية عديدة ومُعظمها قابلة للنقاش، إلّا أنّ الدولة التونسية و سلطات الإشراف هي الوحيدة القادرة على اختيار السيناريو الأمثل الذي يتناسب مع الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية للبلاد والسهر على تنفيذه.

كلّ هذا يحتاج دون أدنى أي شكّ إلى قرار سياسي شجاع وجدّي يتأسّس على مقاربات علميّة تراعي مصلحة البلاد وهو قرار في المحصّلة يمكن أن يأتي قريبا، كما أنّه قد يطُول انتظاره مقابل مزيد استفحال أزمة الناقلة الوطنيّة التي يمكن أن يلخص وضعُها الحالي وضع المنشآت العموميّة ككلّ، وفق تقدير جلّ الخبراء والمسؤولين السابقين الذين التقى بهم موقع الكتيبة في إطار هذا التحقيق.

كلمة الكتيبة:

يندرج هذا المقال ضمن سلسلة تحقيقات لموقع الكتيبة محورها المؤسّسات العمومية في تونس وسياسات الدولة في القطاعات الحيوّية والاستراتيجيّة ذات العلاقة بالصالح العام الاقتصادي والاجتماعي والتنموي.

كلمة الكتيبة:
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة تحقيقات لموقع الكتيبة محورها المؤسّسات العمومية في تونس وسياسات الدولة في القطاعات الحيوّية والاستراتيجيّة ذات العلاقة بالصالح العام الاقتصادي والاجتماعي والتنموي.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

اشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
تصوير: سامي شويّخ
مونتاج: محمد علي منصالي
ادماج تقني: بلال الشارني
تصوير: سامي الشويخ
مونتاج: محمد علي المنصالي
تطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
غرافيك: منال بالرجب

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

rahma