الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
ظُهر السادس من شهر فيفري/شباط 2025، قام شابّ من مواليد 1999 بإضرام النار في جسده أمام مقرّ مركز الشرطة بسوسة الجنوبيّة -التابعة لولاية سوسة الواقعة في الساحل الشرقي التونسي- ما أدّى إلى إصابته بحروق من الدرجة الثالثة ليفارق الحياة بعد أيّام قليلة.
أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان ما أقدم عليه البائع المُتجوّل، أصيل ولاية سيدي بوزيد، محمّد البوعزيزي، منذ حوالي 15 سنة، ذات 17 ديسمبر/ كانون الأوّل 2010، بعدما فارق الحياة مضرما بجسده المحترق شرارة الثورة التونسية وما تلاها من ثورات في العالم العربي والتي اصطلحت تسميتها بـ”الربيع العربي”.
تختلف تفاصيل الحادثتين وحيثيّاتهما، فمحمد البوعزيزي أضرم النار في جسده احتجاجا على افتكاك بضاعته التي كانت مورد رزقه الوحيد وأشعل موجة من الاحتجاجات لم يخمد لهيبها إلّا بفرار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وعائلته في جانفي/ كانون الثاني 2011.
أمّا الشاب العشريني أصيل سوسة فقد توجّه في مرحلة أولى إلى مقرّ الوحدة الأمنية بسوسة الجنوبية للمطالبة باسترجاع مبلغ مالي كان قد تمّ حجزه في إطار محضر عدليّ ضدّه بتاريخ 3 فيفري/ شباط 2025 من أجل شبهة استهلاكه موادّ مُخدّرة، ليقوم بعد ذلك بإضرام النار في جسده في نفس المكان ما، وتتسبّب وفاته في تفجير حالة من الاضطراب الأمني في المنطقة.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
ظُهر السادس من شهر فيفري/شباط 2025، قام شابّ من مواليد 1999 بإضرام النار في جسده أمام مقرّ مركز الشرطة بسوسة الجنوبيّة -التابعة لولاية سوسة الواقعة في الساحل الشرقي التونسي- ما أدّى إلى إصابته بحروق من الدرجة الثالثة ليفارق الحياة بعد أيّام قليلة.
أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان ما أقدم عليه البائع المُتجوّل، أصيل ولاية سيدي بوزيد، محمّد البوعزيزي، منذ حوالي 15 سنة، ذات 17 ديسمبر/ كانون الأوّل 2010، بعدما فارق الحياة مضرما بجسده المحترق شرارة الثورة التونسية وما تلاها من ثورات في العالم العربي والتي اصطلحت تسميتها بـ”الربيع العربي”.
تختلف تفاصيل الحادثتين وحيثيّاتهما، فمحمد البوعزيزي أضرم النار في جسده احتجاجا على افتكاك بضاعته التي كانت مورد رزقه الوحيد وأشعل موجة من الاحتجاجات لم يخمد لهيبها إلّا بفرار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وعائلته في جانفي/ كانون الثاني 2011.
أمّا الشاب العشريني أصيل سوسة فقد توجّه في مرحلة أولى إلى مقرّ الوحدة الأمنية بسوسة الجنوبية للمطالبة باسترجاع مبلغ مالي كان قد تمّ حجزه في إطار محضر عدليّ ضدّه بتاريخ 3 فيفري/ شباط 2025 من أجل شبهة استهلاكه موادّ مُخدّرة، ليقوم بعد ذلك بإضرام النار في جسده في نفس المكان ما، وتتسبّب وفاته في تفجير حالة من الاضطراب الأمني في المنطقة.
بعد مرور أكثر من 15 سنة على حادثة البوعزيزي، مازال عدد من التونسييّن.ـات يلجأون إلى الانتحار بطرق مختلفة، وأبرزها حرقا، لعوامل مختلفة إلّا أنّها تعكس أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية عجزت الحكومات المتعاقبة منذ الثورة وإلى اليوم عن حلّها، خاصّة وأنّ عدد حالات الانتحار حرقا ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة.


أكثر من 3500 عملية انتحار خلال 10 سنوات
يتجاوز عدد حالات/محاولات الانتحار المُسجّلة في تونس، بحسب إحصائيّات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الـ3539 بين 2015 وفيفري/شباط 2025، وهو رقم يدقّ نواقيس الخطر، علما أنّ هذا الرقم تقديري باعتبار أنّ هناك حالات انتحار غير مسجّلة (أي أنّها غير معلنة من قبل العائلات أو أنّه لم يكن لها صدى إعلامي)، فضلا عن كونه لا يشمل عدد حالات محاولات الانتحار.
رغم أهمّية هذه الظاهرة ومخاطرها، تغيب الأرقام الرسميّة حول عدد حالات/محاولات الانتحار المُسجّلة في تونس وتعود آخر إحصائيّة قامت بها السلطات المعنيّة في هذا الصدد إلى سنة 2016 حيث بلغ معدّل الانتحار حينها 3,29 لكلّ 100 ألف ساكن ما يساوي 372 عمليّة انتحار خلال تلك السنة.
وتبلغ نسبة الذكور الذين أقدموا على الانتحار 70,4% مقابل 29,6% حالة مسجّلة في صفوف الإناث، وفق الإحصائية ذاتها التي تشير إلى أنّ معدّل سنّ الأشخاص الذين قاموا بالانتحار 37,2 سنة وجلّهم ينتمون إلى الفئة العمرية التي تتراوح بين 20 و39 سنة.
في المقابل، تبرز معطيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن حالات الانتحار المسجّلة بلغت 857 في 2016 و133 حالة في 2024. وفي شهر جانفي/ كانون الثاني 2025، تمّ تسجيل 22 حالة/ محاولة انتحار منها 11 حالة حرقا. وفي فيفري/ شباط 2025، سجّلت 6 حالات/ محاولات انتحار منها 5 حرقا.


يؤكّد الناطق الرسمي باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، في مقابلة مع موقع الكتيبة، أنّ “الدولة ترفض الإفصاح عن المعطيات الكمّية حول حالات الانتحار”، مُذكّرا أنّ “آخر تقرير أصدرته اللجنة المختصّة بوزارة الصحة كان في 2016″، ومشيرا إلى إشكاليّة ثانية تتعلّق بما وصفها بـ”الأرقام السوداء” وهي التي تهمّ محاولات الانتحار.
ويبيّن بن عمر أنّ هناك “تطوّرا حصل على مستوى طريقة الانتحار حيث تجاوزت حالات/محاولات الانتحار حرقا 50% خلال الأشهر الأخيرة. وتمّ أيضا تسجيل تطوّر في علاقة بالفئات العمرية حيث ارتفع عدد الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن 18 سنة الذين قاموا أو حاولوا الانتحار”.
ويوضّح المتحدّث ذاته “أنّ الفئات التي كانت دائما مستهدفة بحالات الانتحار ومحاولات الانتحار تتراوح بين 25 و35 سنة باعتبار أنّها الفئة التي تتحمّل أكثر من غيرها ضغوطا اقتصاديّة واجتماعية ونفسية والتي تواجه الحياة بكلّ أبعادها سواء العمليّة أو النفسية وغيرها، إلّا أنّ هذا لم يمنع وجود تطوّر لدى فئات أخرى مثل الأقلّ من 18 عاما وأحيانا من تتجاوز أعمارهم الـ60 سنة”.
ويعتبر بن عمر أنّه “لا بدّ أن تنتبه الدولة رفقة مختلف مكونات المجتمع ككلّ إلى ظاهرة إقدام الأطفال الأقلّ من 18 سنة على الانتحار”، قائلا:
إنّ وقوع حالات انتحار في هذه الفئة العمريّة فشل للعائلة ولمؤسسات التنشئة الاجتماعية، وكذلك فشل للدولة بكلّ مؤسساتها.الأطفال لم يعد لديهم يقين وأمل في المستقبل وبالتالي يلجأون إلى مثل هذه التصرّفات.
رمضان بن عمر
تفيد دراسة صادرة عن منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في سنة 2021 تحت عنوان “الانتحار ومحاولات الانتحار في تونس 2021” أنّ أغلب من يُقدم على أو يحاول الانتحار هم من الذكور بنسبة 73,1% فيما بلغت نسبة الإناث 26,9%.
ومثّل الانتحار شنقا الطريقة الأكثر شيوعا يليه الانتحار حرقا، وفق الدراسة ذاتها.
يقول رمضان بن عمر إنّه “لا يمكن عزل حالات الانتحار عن سياق عامّ موجود في البلاد ومُرتبط بالأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في ملاحظة عمليات انتحار مُمسْرحة وصلت إلى حدّ توثيق عمليّة الانتحار، الأمر الذي جعل الجسد يتحوّل إلى شكل من أشكال التعبير عن الاحتجاج عن الوضع سواء داخل العائلة أو الوضع الذي يعيشه المنتحر نفسه أو الوضع السياسي أو الانتهاك الذي تعرّض له من مؤسساته القريبة أو من مؤسسات مثل المؤسسة الأمنية أو الدولة التي قد يعتبر أنّها انتهكت حقّا من حقوقه ولم يجد إلّا الجسد للتعبير في استدعاء لحادثة البوعزيزي”.


الانتحار حرقا.. مسرحة الألم
يمثّل الانتحار حرقا الوسيلة الثالثة للانتحار في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسّط، بنسبة 17,4%، بعد الانتحار شنقا وتسمّما. وقد تضاعف عدد حالات الانتحار حرقا في تونس 3 مرّات بعد الثورة وهو يرتفع بالتزامن مع الاحتجاجات والأحداث السياسية لا سيّما بعد الثورة، وذلك وفق دراسة قام بها عدد من الأطبّاء بعنوان “محاولات الانتحار حرقا في تونس 11 عاما بعد الثورة” وصدرت في 2021.
رغم أنّ حادثة البوعزيزي تمثّل أوّل عملية انتحار حرقا قد يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن هذا النوع من الانتحار إلّا أنّه ليس بمسألة مستجدّة ظهرت في 2010 بل تونس لها تاريخ طويل مع الانتحار حرقا.
تقول الأسطورة إنّ علّيسة انتحرت حرقا رفضا للزواج من حاكم البلاد في تلك الفترة بعد أن عجزت عن إيجاد طريقة أخرى كي لا تتزوّج منه. كذلك، في سنة 108 قبل الميلاد، وجد أهالي منطقة تالة، غرب البلاد، خلال الحرب مع القائد يوغرطة أنفسهم محاصرين لأكثر من 40 يوما، وفي نهاية المطاف أخذوا ممتلكاتهم الثمينة والذهب والفضة ودخلوا القصر وأضرموا النار في كلّ شيء بما في ذلك أنفسهم حتّى لا تقع السيطرة على المدينة وعليهم، وفق ما أفادت به موقع الكتيبة الأخصائيةُ في علم النفس السريري نادية بن سلامة.
تقول بن سلامة:
الانتحار حرقا كان منذ الأزل وسيلة للتعبير عن الرفض والاحتجاج.
وتبيّن ذات المتحدّثة أنّ الانتحار حرقا “يُمثّل وسيلة على المستوى الاجتماعي لرفض القيود”، مشيرة إلى أنّ “الكثيرين من الذين نجوا من محاولات الانتحار حرقا يذكرون في شهاداتهم بشكل متكرّر كلمة القهر والتي يعبّرون عن احتجاجهم ورفضهم لها من خلال الفعل الانتحاري”.
ويُمثّل الانتحار حرقا “طريقة للتعبير عندما يشعر الشخص أنّ صوته غير مسموع بعد تعرّضه لما يعتبره ظلما -وهو ليس ظلما في كلّ الحالات- وعندما يكون من يعتبره ظالما ذو سلطة وقد يكون أحد أفراد العائلة أو المؤجّر أو من يمثّل السلطة في المدرسة أو مركز الأمن إلخ”، بحسب تعبير بن سلامة.
“علاوة على أنّ اختيار مكان الانتحار له رمزيّة كبيرة حيث أنّ معظم حالات الانتحار حرقا تقع في أماكن عامّة لأنّ الشخص الذي يُقدم على ذلك يريد من جهةٍ التعبيرَ عن رفضه للتعامل أو السلوك الذي سُلّط عليه، ومن جهة أخرى يعتبر أنّ بقيّة المواطنين المتفرّجين مسؤولون أيضا عن ألمه النفسي والضغط النفسي الذي يشكو منه أو الوضعية الاقتصادية التي يعيشها. وهو عندما يحرق نفسه يريد أن يحدث صدمة لدى العامّة ويحمّلهم مسؤولية”، وفق الأخصائيّة في علم النفس السريري بن سلامة.
هي في نهاية المطاف رسالة يرسلها الشخص الذي حاول الانتحار حرقا إلى المجتمع بصفة عامة يريد أن يقول بها إنّه لم يعد ينتمي إلى هذا المجتمع الذي يعتبره ظالما وقام بقهره وتسبّب له في أذى كبير جدّا لم يستطع أن يتخطّاه.
نادية بن سلامة
وقد سُجّلت أعلى عدد حالات/ محاولات انتحار حرقا في تونس بعد الثورة في سنة 2011 حيث بلغت 98 حالة فيما تمّ تسجيل 79 حالة سنة 2021، بحسب دراسة “محاولات الانتحار حرقا في تونس 11 عاما بعد الثورة” المذكورة أعلاه.


يمثّل الرجال أكثر فئة تقدم/تحاول الانتحار حرقا بنسبة 81,9% . ويبلغ معدّل أعمار الأشخاص الذين يقدمون على هذا الفعل الانتحاري 33,38 سنة غالبيتهم من غير المتزوجين وينتمون إلى مستوى اقتصادي واجتماعي منخفض أو متوسّط. وهم إمّا عاطلون عن العمل أو ينشطون في أعمال هشّة وفي معظم الأوقات لم ينهوا تعليمهم العالي، بحسب ما جاء في الدراسة المذكورة.
تقول الأخصائية في علم النفس السريري نادية بن سلامة إنّهم “يعانون من هشاشة نفسيّة فرديّة ولكن أيضا من هشاشة اجتماعية وأغلبهم ليس لديهم سابقا أمراض نفسية. وينتمي معظمهم إلى مناطق مهمّشة اجتماعيا واقتصاديا سواء في تونس العاصمة أو في مناطق أخرى من الجمهورية التونسية”، وذلك وفق تحليلها لملامح هؤلاء المُنتحرين.


تختلف العوامل التي تدفع شخصا ما إلى محاولة الانتحار حرقا وهي تعود إلى صراعات قد تكون عائلية أو مع السلطة أو المدرسة أو العمل إلخ.
توضّح نادية بن سلامة أنّ “الأسباب أو الدوافع التي تجعل الأفراد يمرّون إلى هذا الفعل الانتحاري تتمثّل في مشاكل على مستوى العلاقات بمعنى نزاعات مع أفراد العائلة أو أرباب العمل أو ممثّلي سلطة، وهي نزاعات قد تكون جديدة ولكنّها غالبا قديمة إلّا أنّ التراكمات النفسية وتراكم الضغط النفسي وعدم وجود حلول تدفع الأفراد إلى هذه الخطوة. وفي معظم الأحيان، يكون المرور إلى هذا الفعل الانتحاري اندفاعيّا ولم يقع التخطيط المسبق له”.
وتضيف بن سلامة أنّ “الفكرة تأتي قبل وقت قصير من المرور إلى السلوك الانتحاري وفي حالات قليلة جدّا يكون الفعل الانتحاري مدروسا ووقع التفكير فيه لمدّة طويلة بل هو غالبا ما يكون ردّة فعل”.


من جهته، يقول الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم، في حديثه مع موقع الكتيبة، إنّ “هناك جزءا مهمّا من حالات الانتحار لا تتعلّق أساسا باضطرابات عصبيّة أو نفسيّة وإنّما بمسائل أخرى لديها أبعاد اجتماعية واقتصادية وحتّى سياسيّة”، مشيرا إلى أنّ “هذا الشكل من الانتحار أصبح شائعا لا في تونس فقط بل أيضا في المنطقة العربيّة وحتّى في العالم وأنّ الانتحار يُعدّ السبب الثالث للموت لدى من هم أقلّ من 29 سنة على الصعيد العالمي”.
ويلفت الحاج سالم النظر إلى “ظاهرة الانتحار الاحتجاجي وخاصّة الانتحار حرقا”، مذكّرا أنّ أشهر حالة تاريخيّا في التاريخ القريب هي حالة محمد البوعزيزي وما حدث بعد ذلك، ومؤكّدا أنّ “هذه نقطة مهمّة لا يمكن فهمها خارج إطار العلاقات السياسية الموجودة”.
ويردف الحاج سالم بالقول: “هناك نوع من مسرحة الألم.”
ويضيف أنّه “من خلال الانتحار حرقا كأنّ الناس يُعلنون رفضهم للخضوع للسلطة لأنّ هذه الأخيرة تُخضعهم من خلال أجسادهم حيث يشعر الأفراد في المجتمع أنّ أجسادهم مُقيّدة وتُقتل وأنّه لا توجد طريقة للتواصل المباشر والتواصل اللفظي لا يجدي نفعا”.
ويعتبر محدّثنا أنّ “حرق النفس هو تعبير أقصى على الاحتجاج ورفض الواقع الموجود ورفض علاقات السلطة الموجودة”.


تسييس لظاهرة اجتماعية خطيرة تتجاوز السلطة والمعارضة
مع تسجيل ارتفاع في حالات/ محاولات الانتحار في الآونة الأخيرة، كثر الجدل حول الأسباب التي تدفع الأفراد إلى المرور إلى الفعل الانتحاري وأصبحت المسألة موضع سجال سياسي بعد أن اعتبر رئيس الجمهورية قيس سعيّد خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي مساء يوم 20 مارس/ آذار 2025 أنّ تتالي حالات الانتحار تزامنت مع بداية محاكمة المتهمين في ما يُعرف بقضيّة “التآمر على أمن الدولة”.
بدورها، لم تتوان بعض الأطراف المُعارضة عن تحميل رئيس الجمهورية مسؤولية ارتفاع عدد حالات/ محاولات الانتحار.
في هذا السياق، يؤكّد الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم “ضرورة التفريق بين دراسة الانتحار كظاهرة سياسية ذات أبعاد سياسية -وهو أمر موجود وهناك أدب علمي وفلسفي كامل في هذا الموضوع- وبين تسييس الانتحار بمعنى استغلاله في الصراعات والتجاذبات السياسية”.
ويضيف الحاج سالم قائلا:
لا يمكن القول إنّ الانتحار مؤامرة، هذا أمر غير معقول وفيه إنكار للواقع.
ويضيف أنّ القول إنّ “سلطة سياسيّة معيّنة مسؤولة على الانتحار بذاتها هو أمر غير دقيق”، مُبيّنا أنّ “السّلطة السياسيّة تتحمّل جزءا من المسؤوليّة عندما لا تتّخذ قرارات ولا تقوم بإصلاحات في المجتمع تسمح بمعالجة العوامل العميقة لهذه الظاهرة إلّا أنّ اعتبار أنّها المسؤولة عن هذه الظاهرة هو أمر غير دقيق لأنّ الانتحار ظاهرة أكبر بكثير من ربطها بسلطة سياسية تحكم فهي لديها جذور واستمرارية وعوامل أعمق”.
ويوضّح جهاد الحاج سالم أنّ “هناك 3 مستويات يجب أخذها بعين الاعتبار عند التعامل مع ظاهرة الانتحار، أوّلها النظر إليها كظاهرة سياسية بمعنى العلاقة بين الحكّام والمحكومين والسلطة الحيوية والسيطرة على أجساد الأفراد حيث لا يُسمح لهم بالتنقّل والعمل وعدم إتاحة فرص العيش وغلق أبواب الفرص، حينها يصبح التعبير اللفظي غير ممكن ويتوجّه الأفراد إلى الحدّ الأقصى للتعبير عن آلامهم الداخلية”.
ويتعلّق المستوى الثاني “بالجانب السوسيولوجي من خلال محاولة فهم كيفية اشتغال المؤسسات الموجود حاليّا والذي يولّد ذوات مُتألّمة ومهمّشة وحزينة وتشعر بالإذلال إلى درجة تدفعها إلى حرق نفسها”.
أمّا المستوى الثالث فيهمّ “الصحّة العامة في تونس وخاصة الصحّة العامة العقليّة التي لا يتمّ الحديث عنها في تونس، حيث تمّ إجراء آخر مسح وطني حول الصحّة العقليّة سنة 2005، علاوة على أنّ مؤسسات الصحة العقلية بصفة عامّة غير متوفرة للمواطنين.ـات والمؤسسات الموجودة تعاني من إشكاليات كبيرة وغير قادرة على استيعاب الطلب الموجود على الصحة العقلية، أمّا القطاع الخاصّ فهو باهظ جدّا ولا تستطيع الطبقة الضعيفة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي الوصول إليه”، وفق الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم.
ويعتبر الحاج سالم أنّ “مؤسسات الصحة العقليّة معطوبة وهشّة رغم أنّ الإطار الطبّي في تونس متميّز جدّا في مجال الصحة العقليّة”.
الانتحار: ظاهرة عالميّة تستوجب استراتيجيّات استباقيّة
ظاهرة الانتحار ليست حكرا على تونس بل تمثّل السبب الثالث لوفاة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة على صعيد عالمي. ويموت أكثر من 720 ألف شخص حول العالم سنويّا نتيجة الانتحار. ووقعت 73% من عمليّات الانتحار في دول ذات دخل منخفض أو متوسّط سنة 2021 بحسب منظمة الصحة العالميّة.
في الاتحاد الأوروبي، تمّ تسجيل 47 ألف وفاة ناجمة عن الانتحار سنة 2021 أي ما يعادل 10.2 وفاة لكلّ 100 ألف شخص. وسُجّلت أعلى نسبة انتحار في سلوفينيا بمعدّل 19.8 لكلّ 100 ألف ساكن.
ويرتفع معدّل الانتحار لدى الرجال بنسبة 76.7%. وتُسجّل أعلى معدّلات الانتحار لدى الفئة العمرية التي تتراوح بين 45 و64 سنة بنسبة 37% تليها الفئة العمرية 65 عاما وأكثر بنسبة 34%، وفق إحصائيّات أوروستات.
أمّا على الصعيد العالمي، تحتلّ غرينلاند المرتبة الأولى من حيث حالات الوفاة الناجمة عن الانتحار حيث بلغت 59.6 لكلّ 100 ألف ساكن، تليها غيانا بمعدّل 31.3/ 100 ألف ساكن، فليتوانيا بمعدّل 27.9/ 100 ألف ساكن. فيما تحتّل كوريا الجنوبية المرتبة الرابعة بمعدّل 25.8/ 100 ألف، وروسيا المرتبة الخامسة بمعدّل 24.1/ 100 ألف ساكن، وفق معطيات نشرها موقع “وورد بوبيليشن ريفيو” (World Population Review).
تتنوّع العوامل التي من شأنها أن تجعل الفرد يمرّ إلى الفعل الانتحاري. وقد تكون “عوامل وراثية إذا كان الشخص لديه أقارب عانوا من أمراض نفسية في السابق، إلى جانب عوامل اجتماعية وغيرها”، وفق تصريحات أخصائيّة علم النفس السريري نادية بن سلامة لموقع الكتيبة.
ويمكن أن تزيد بعض الأمراض النفسية والعقلية من احتمال الإقدام على الانتحار على غرار الاكتئاب.


كذلك، “تخلق الهشاشة الاقتصادية ظروفا تجعل الأفراد يصابون بكلّ أنواع المشاعر والدوافع التي تؤهّل للانتحار. وتبرز في المحيط الاجتماعي والاقتصادي الهشّ اضطرابات نفسيّة وعقليّة وهو أمر طبيعي باعتبار أنّ الضغط الاقتصادي على الأفراد قويّ جدّا بطريقة يؤدّي إلى خلق نزاعات عائليّة أو اجتماعية تدفعهم إلى السلوك الانتحاري”، وفق الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم.
على صعيد آخر، تشير الأخصائية في علم النفس السريري نادية بن سلامة إلى “ضرورة الانتباه لبعض العلامات التحذيرية لدى الأفراد قبل المرور إلى الفعل الانتحاري على غرار العزلة والابتعاد عن الأشخاص الذين يمثّلون لهم سندا سواء كانوا من العائلة أو الأصدقاء، فضلا عن النظرة السلبيّة للحياة والتشاؤم وعدم القدرة على الإجابة حول البرامج المستقبليّة وعدم القدرة على التفكير في المستقبل”.
وتضيف بن سلامة أنّ “قول عبارة “أتمنّى أن يحدث لي شيء فأموت فذلك أفضل من المستقبل” لا يعني أن الشخص سيمرّ إلى الفعل الانتحاري ولكنّه من العلامات التحذيرية التي يجب أخذها بجدّية وعدم الاستخفاف بها كأيّ تعبير على الرغبة في الانتحار”.


التعاطي الإعلامي المسؤول..مدخل إلى الحلّ
لا شكّ في أنّ حساسيّة وخطورة الظاهرة تتطلّب مقاربات سليمة في المعالجة سواء من قبل الدولة بمؤسساتها أو المجتمع المدني بما في ذلك الإعلام، فضلا عن الأسرة بوصفها النواة الأولى للتنشئة الإجتماعية والحاضنة لكلّ الأفراد.
تعتبر الأخصائية في علم النفس السريري أنّ “التناول الإعلامي لظاهرة الانتحار من شأنه أن يزيد في حالات الانتحار”، مذكّرة :
انّ التناول الإعلامي الخاطئ أظهر محمد البوعزيزي في صورة بطولية ووجد العديد من الأشخاص الذين يعيشون هشاشة اقتصادية وهشاشة اجتماعية وهشاشة نفسيّة مثله متأثّرين به ومروّا إلى الفعل الانتحاري، الأمر الذي يفسّر ارتفاع عدد حالات الانتحار في 2011.
نادية بن سلامة
و”رغم أنّه حينها بدا أنّها ظاهرة يُفترض أن تنتهي بعد مدّة زمنيّة، لم تتراجع حدّة هذه الظاهرة بدرجة كبيرة في السنوات التي تلت وهو تعبير على أنّ الفعل الانتحاري هو انعكاس أزمة اجتماعية إذ عجز المجتمع والعائلة والمؤسسات والسلطات في السنوات الأخيرة عن تأمين الأمان النفسي والمادّي للمواطنين.ـات أو لجزء كبير منهم الذين هم في وضعيّة هشاشة”، وفق المتحدّثة ذاتها.


وتوضّح نادية بن سلامة أنّ “التغطية الإعلامية لحالات الانتحار تُسلّط الضوء على الشخص الذي يشعر أنّه غير مرئي الأمر الذي يدفع الأفراد الذين يعانون من نفس الإشكاليّات ويعتبرون أنّ معاناتهم غير مرئية إلى اللجوء إلى الفعل الانتحاري كي يصبحوا مرئيّين، لذلك لا يجب تسليط الضوء كثيرا على ما بعد الانتحار بقدر محاولة التوعية حول العلامات التحذيرية لما قبل الانتحار وكيفية المساعدة”، وفق تقديرها.
في المقابل، يقول الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم إنّ “هناك أثر عدوى إلاّ أنّ الإعلام ليس وحده المسؤول عنه”، مذكّرا بما “حصل في ولاية القيروان في 2015 و2016 و2017 عندما تمّ تسجيل عدّة حالات انتحار في صفوف مراهقين، حيث كان هناك شيء شبيه بالوباء وانتشر كالعدوى ولكن للأسف كان هناك نوع من الكسل الفكري الذي يعتبر أنّ الإعلام هو سبب العدوى ولم تقع دراسة الآليات الحقيقة لهذه العدوى والأسباب التي جعلتها محصورة في مناطق من هذه الولاية دون أن تتأثر بها ولايات أخرى”.
“تستوجب مواجهة ظاهرة الانتحار في تونس شفافيّة على مستوى المعطيات والابتعاد عن تفسيرها بنظريّة المؤامرة والانفتاح على كلّ الطاقات الموجودة في المجتمع المدني وفي جميع القطاعات التي يمكن أن تفيد في الحدّ من هذه الظاهرة”، وفق تقدير الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر.
ويعتبر رمضان بن عمر أنّ “الدولة يجب أن تقود مثل هذه الاستراتيجيات مع الانفتاح على كلّ الهياكل والمؤسّسات التي يمكن أن تساهم في هذا المجهود”، مشيرا إلى “ضرورة التركيز على السياسات العموميّة في علاقة بالصحة والصحّة النفسيّة والطبّ المدرسي والجامعي الذي يمكن أن يكون له دور كبير”.
علاوة على ذلك، “يجب على المجتمع أن يتصالح مع ذاته من أجل أن يكون هناك إنصات أكثر داخل الفضاءات والمؤسسات وهذا لا يمكن أن يحدث إلّا من خلال الارتباط بسياق سياسي عامّ يعيد الأمل إلى التونسيين.ـات حول مشروع وطني ومشروع مجتمعي متكامل”، وفق المصدر ذاته.
في حين يذهب الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم إلى “ضرورة معالجة ظاهرة الانتحار من خلال التركيز على الجانب السياسي المتعلّق بالعلاقة بين الحكّام والمحكومين، والجانب السوسيولوجي من حيث الاهتمام بالمؤسسات التي تخلق الذاتيات المتألمة والهشّة والتي تشعر بالإذلال، فضلا عن تعزيز مؤسسات الصحّة العقلية وتحسين وضعياتها حتّى تتمكّن من تلبية احتياجات المواطنين.ـات”.
تحتّل تونس المرتبة 113 من بين 147 دولة في تقرير السعادة العالمي لسنة 2025 والذي تنشره شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتّحدة، علما وأنّ هذا التصنيف يعتمد على عدّة مؤشّرات على غرار الدعم الاجتماعي والدخل والصحّة والحرّية وغياب الفساد.
ويفيد المسح الشامل للصحّة في تونس لسنة 2016 -والذي تمّ نشره في فيفري/ شباط 2019- أنّ نسبة الاكتئاب بلغت 4,7% لدى التونسيين.ـات الذين تجاوزت أعمارهم.ن 15 سنة، بنسبة 5,4% لدى الإناث و4% لدى الذكور.
جدير بالذكر أنّ اللجنة الطبية بمستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبيّة بمنوبة كشفت أنّ عدد الوافدين والمرضى المقيمين بالمستشفى ارتفعت خلال 2019 بنسبة 15% مقارنة بـ2018.
وبلغ عدد المرضى الذين أقاموا بالمستشفى سنة 2019 أكثر من 9400 مريضا مقابل معدّل ما بين 4000 و5000 مريض في سنوات ما قبل الثورة.
وقدّم مستشفى الرازي، بين جانفي/ كانون الثاني 2024 و3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، 149 ألف و128 عيادة خارجيّة للمرضى، وأقام به 6745 مريضا مقابل حوالي 174 ألف عيادة خارجية في 2023 وإقامة 7211 مريضا، وفق تصريح إعلامي للأستاذة في الطبّ النفسي ورئيسة قسم في مستشفى الرازي ماجدة شعور.
تدقّ هذه الأرقام ناقوس الخطر في علاقة بالصحّة النفسية والعقلية للتونسيين.ـات خصوصا في ظلّ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد، فضلا عن التغيّرات المناخية وآثارها على المواطنين.ـات، في ظلّ غياب تعاط رسميّ جدّي مع مسألة الصحّة النفسية والعقلية والشعور بالوصم الذي في كثير من الأحيان يحول دون حصول عديد الأفراد على العلاج الضروري.
إزاء الهشاشة الفردية وكذلك الهشاشة الاجتماعية والعائلية التي يعيشها الأفراد، إلى جانب التغيّرات المجتمعية التي زادت من انزواء الأشخاص وغياب التفاعل داخل الفضاء الواحد، تتحمّل أطراف عديدة مسؤولية التوعية بالاضطرابات والأمراض النفسية والعقلية، فالدولة يجب أن تقوم بدورها ولكن أيضا المجتمع المدني يلعب أيضا دورا هامّا في هذا الإطار وكذلك الإعلام الذي يتعيّن عليه أن يقوم بدوره في التوعية سواء في كيفيّة التعامل مع الشخص المصاب باضطراب أو مرض نفسي وتسليط الضوء على أهمّية تلقّي العلاج الضروري والتشجيع على اللجوء إلى الأطباء والمختصّين النفسيين، فضلا عن محاربة الوصم الذي يخشاه المصاب باضطراب أو مرض نفسي وخصوصا أولئك الذين حاولوا الانتحار ونجوا من الموت والذين يواجهون النصيب الأكبر من الوصم،وفق تأكيد جلّ الخبراء الذين التقاهم موقع الكتيبة.
أنجز هذا المقال بالتعاون مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة بناء على قاعدة بياناته التي هي نتاج لعمليّة رصد يومي لما ينشر في الصحافة التونسيّة حول حالات الانتحار. ومن المُرجح أنّ عدد حالات الانتحار في تونس بين 2015 و 2025 يفوق بالضرورة 3500 حالة، نظرا لعدم القدرة على احتساب حالات الانتحار غير المُعلنة من قبل عائلة المنتحر/ة ، دون نسيان أيضا عدد حالات محاولات الانتحار التي يصعب إحصاؤها.
أنجز هذا المقال بالتعاون مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة بناء على قاعدة بياناته التي هي نتاج لعمليّة رصد يومي لما ينشر في الصحافة التونسيّة حول حالات الانتحار. ومن المُرجح أنّ عدد حالات الانتحار في تونس بين 2015 و 2025 يفوق بالضرورة 3500 حالة، نظرا لعدم القدرة على احتساب حالات الانتحار غير المُعلنة من قبل عائلة المنتحر/ة ، دون نسيان أيضا عدد حالات محاولات الانتحار التي يصعب إحصاؤها.

الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة












الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
