الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
بعد سنتين ونيف من انطلاق قضية التآمر على أمن الدولة والتي شملت نشطاء سياسيين معارضين لما يعتبرونه انقلابا على الدستور، وبعد انعقاد ثلاث جلسات متتالية ومثيرة للجدل، مُنع الصحفيون من مواكبة آخرها، أصدرت محكمة تونس في فجر يوم السبت 19 أفريل 2025، أحكاما ابتدائية ثقيلة خلّفت حالة من الاستغراب والذهول.
تراوحت الأحكام الصادرة عن المحكمة بالسجن لمدد متفاوتة تتراوح بين 66 عاما في أقصاها و4 أعوام في أدناها وعدم سماع الدعوى في حق 8 أشخاص. حكم استأنفته النيابة العمومية بعد ثلاثة أيام، مُطالبة بتسليط أقصى العقوبات الممكنة بالنظر لما تعتبره جرائم خطيرة لا تتناسب والأحكام الابتدائية.
وصفت منظّمات تونسية المحاكمة بـ”السياسية” بالنظر إلى أنّها شملت أساسا نشطاء سياسيين معروفين بمعارضتهم الشديدة لنظام الرئيس سعيّد. وبالنظر كذلك إلى أنّها شملت أشخاصا كانوا فاعلين رئيسيين في تفعيل الرئيس السعيّد للفصل 80 من الدستور الملغى وحلّ البرلمان وإعفاء الحكومة وتعليق العمل بأجزاء من الدستور، ويأتي الحديث هنا عن مديرة الديوان الرئاسي سابقا، نادية عكاشة، بعد نشوب خلاف حادّ بينها وبين رئيس البلاد، والتي حُكم عليها في القضية ذاتها، وهي بحالة فرار، بالسجن 33 عاما مع التنفيذ العاجل.
منذ إثارتها، خلّفت القضية جدلا واسعا لما عرفته من خرق للإجراءات فضلا عن محاكمة المتهمين عن بُعد وعدم استنطاقهم الّا في مناسبتين واعتماد شهادات أشخاص محجوبي الهوية، وانتهت بإصدار أحكام ثقيلة وإيقاف عضو هيئة الدفاع في ذات القضية المحامي والقاضي الإداري سابقا، أحمد صواب.
أعادت هذه المحاكمة إلى الأذهان سياقات ومحاكمات ضاربة في جذور التاريخ التونسي منذ استقلال البلاد وحتى قبله، مثّلت فيها جريمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي إحدى أبرز التّهم التي وقع توجيهها لتصفية الخصوم السياسيين تحت نظامي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
بعد سنتين ونيف من انطلاق قضية التآمر على أمن الدولة والتي شملت نشطاء سياسيين معارضين لما يعتبرونه انقلابا على الدستور، وبعد انعقاد ثلاث جلسات متتالية ومثيرة للجدل، مُنع الصحفيون من مواكبة آخرها، أصدرت محكمة تونس في فجر يوم السبت 19 أفريل 2025، أحكاما ابتدائية ثقيلة خلّفت حالة من الاستغراب والذهول.
تراوحت الأحكام الصادرة عن المحكمة بالسجن لمدد متفاوتة تتراوح بين 66 عاما في أقصاها و4 أعوام في أدناها وعدم سماع الدعوى في حق 8 أشخاص. حكم استأنفته النيابة العمومية بعد ثلاثة أيام، مُطالبة بتسليط أقصى العقوبات الممكنة بالنظر لما تعتبره جرائم خطيرة لا تتناسب والأحكام الابتدائية.
وصفت منظّمات تونسية المحاكمة بـ”السياسية” بالنظر إلى أنّها شملت أساسا نشطاء سياسيين معروفين بمعارضتهم الشديدة لنظام الرئيس سعيّد. وبالنظر كذلك إلى أنّها شملت أشخاصا كانوا فاعلين رئيسيين في تفعيل الرئيس السعيّد للفصل 80 من الدستور الملغى وحلّ البرلمان وإعفاء الحكومة وتعليق العمل بأجزاء من الدستور، ويأتي الحديث هنا عن مديرة الديوان الرئاسي سابقا، نادية عكاشة، بعد نشوب خلاف حادّ بينها وبين رئيس البلاد، والتي حُكم عليها في القضية ذاتها، وهي بحالة فرار، بالسجن 33 عاما مع التنفيذ العاجل.
منذ إثارتها، خلّفت القضية جدلا واسعا لما عرفته من خرق للإجراءات فضلا عن محاكمة المتهمين عن بُعد وعدم استنطاقهم الّا في مناسبتين واعتماد شهادات أشخاص محجوبي الهوية، وانتهت بإصدار أحكام ثقيلة وإيقاف عضو هيئة الدفاع في ذات القضية المحامي والقاضي الإداري سابقا، أحمد صواب.
أعادت هذه المحاكمة إلى الأذهان سياقات ومحاكمات ضاربة في جذور التاريخ التونسي منذ استقلال البلاد وحتى قبله، مثّلت فيها جريمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي إحدى أبرز التّهم التي وقع توجيهها لتصفية الخصوم السياسيين تحت نظامي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
في هذا المقال نستعرض أشهر المحاكمات السياسية التي عرفتها تونس منذ استقلالها وإلى حدود ثورة جانفي 2011، مرتكزين في ذلك على ما وثقته كتب التاريخ في خصوص المحاكمات السياسية والمحاكم الاستثنائية وآراء المؤرّخين في علاقة بجريمة التآمر على أمن الدولة التي جعلت كلّ من ينشط في الحقل السياسي عُرضة لعقوباتها الثقيلة مع أوّل انحراف بالسلطة نحو الاستبداد، كما ترويه كتب التاريخ ومذكّرات النشطاء السياسيين والحقوقيين.


جريمة التآمر على أمن الدولة: تركة الاستعمار لدولة الاستقلال
تاريخيّا، تعود جريمة التآمر على أمن الدولة إلى الحقبة الاستعمارية، والتي اكتوى بنارها المقاومون التونسيّون الذين كانوا يمارسون مقاومة مسلّحة أو يمارسون نشاطا سياسيّا مدنيّا على غرار قيادات من الحزب الدستوري الجديد.
وفق عديد المقالات التاريخية تعود النصوص القانونية المعتمدة في جريمة التآمر على أمن الدولة إلى عام 1926، وانطلق العمل بها منذ إصدارها بالأمر العلي لعام 1926 الذي منح المحاكم الفرنسية صلاحية تنفيذه.
ولعلّ من أشهر المحاكمات التي نفّذتها المحاكم الفرنسية في خصوص جريمة التآمر على أمن الدولة الداخلي، تلك المتعلّقة بالمظاهرات الشعبية يومي 08 و09 أفريل من عام 1938، والتي سقط فيها 20 شهيدا برصاص المحتلّ الفرنسي، لتعقُبَها حملة إيقافات طالت 700 شخصا من بينهم قيادات بالحزب الدستوري الجديد وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة، وقد وجّهت إليهم تهم التحريض والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وغيرها من التهم، اضافة الى جريمة التآمر، وانتهت بأحكام متفاوتة بين الإعدام والسجن المؤبّد مع الأشغال الشاقة والنّفي، إضافة إلى قرار قضائي بحلّ الحزب الدستوري الجديد.
بعد إمضاء وثيقة الاستقلال الداخلي في جوان 1955، أنشأ الوزير الأوّل آنذاك، الطاهر بن عمار، محكمة الجنايات الخاصّة، والتّي اضطلعت بمهمّة ملاحقة معارضي وثيقة الاستقلال الداخلي على غرار مجموعة صالح بن يوسف، بناء على نفس القوانين التي عملت بها سابقا القوى الاستعمارية.
لم يمض وقت طويل حتى نالت تونس استقلالها التامّ والفعلي في 20 مارس 1956، لتدخل البلاد منعرجا جديدا نحو بناء دولة وطنية تبسط نفوذها وقوّتها، خاصة أنّ تلك الفترة ظلّت فيها مجموعات كثيرة رافضة نزع سلاحها ومتشبّثة به، وذلك اعتراضا على ما توصّلت إليه مفاوضات الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة مع المستعمر الفرنسي والاتفاق الناجم عنها والمُضمّن بوثيقة الاستقلال.
أوضاع أمنيّة منفلتة ومجموعات مقاومة مسلّحة غير مستعدّة لتسليم سلاحها ومعارضة شديدة من رفيق الأمس بالحزب الدستوري صالح بن يوسف، زادت من هواجس الحبيب بورقيبة الذي سارع إلى إنشاء محكمة القضاء العليا في أفريل عام 1956 أي بعد أقل من شهر من تاريخ الاستقلال التام والفعلي.
خلال ثلاث سنوات عقدت محكمة القضاء العليا، وهي للإشارة محكمة استثنائية أحكامها باتّة ونهائية لا يمكن الطعن فيها، 35 جلسة وحاكمت حوالي 900 متّهما يمكن توزيعهم إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى، تظمّ عناصر ومجموعات المقاومة المسلّحة الرافضة تسليم أسلحتها.
المجموعة الثانية، المعروفة باليوسفيين نسبة الى الزعيم صالح بن يوسف (أُغتِيل لاحقا)
المجموعة الثالثة، شملت محاكمة رموز النظام البائد أو نظام الحماية على غرار قتلة الزعيم الوطني الهادي شاكر وكذلك وزراء سابقين وأعيان المملكة وأفراد من العائلة الملكية.
في حواره مع موقع الكتيبة، يشرح المؤرّخ عبد الجليل بوقرة صاحب كتاب “من تاريخ القضاء الاستثنائي بتونس محكمة أمن الدولة واليسار الجديد بين ليّ الذراع وكسر العظام”، ظروف إنشاء المحكمة الاستثنائية، مشيرا إلى أنّها كانت أولى قرارات رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك الزعيم الحبيب بورقيبة بما يُفسّر الهواجس السياسية والأمنية التي كانت تسكن الرجل.
ويعود بوقرّة على ظروف إرساء محكمة القضاء العليا التّي قال إنّها تستمدّ جذورها من محكمة الجنايات الخاصة التي أحدثها رئيس الحكومة المُمضي على وثيقة الاستقلال الداخلي الطاهر بن عمار والتي كان يهدف من خلالها إلى محاكمة كلّ من رفض تلك الوثيقة وأهمّهم مجموعات المقاومة المسلّحة ممّن لم يقبلوا بتسليم أسلحتهم تطبيقا لأوامر القيادة العليا بالحزب الدستوري الجديد.
الطاهر بن عمّار نفسه، وهو أوّل من أسّس محكمة استثنائية بعد نيل تونس استقلالها الداخلي، تمّت محاكمته في محكمة استثنائية أنشأها الحبيب بورقيبة تحت اسم محكمة القضاء العليا التي تمثّل امتدادا لمحكمة الجنايات الخاصّة التي أحدثها بن عمّار.
عبد الجليل بوقرّة
ومن أشهر المحاكمات التي انعقدت بمحكمة القضاء العليا، تلك المتّصلة بمحاكمة مجموعات اليوسفيين المعارضة لتوجّهات الحبيب بورقيبة ووثيقة الاستقلال في ما بات يعرف بالصراع البورقيبي اليوسفي، لعلّ أبرزها القضية التي اصطلح على تسميتها في تلك الفترة بـ”قضيّة النجّار” والتّي انطلقت بإيقاف صالح النجّار بجهة جرجيس جنوب شرق تونس، محمّلا برسائل سرّية من الزعيم صالح بن يوسف الذي كان خارج البلاد، إلى المقاومين المسلّحين ومجموعات سياسية منشقّة عن الحزب الدستوري، كما حُجز معه مسدس ناري وبعض الخراطيش.
في غضون أسابيع، أُعتقل حوالي 200 شخصا من اليوسفيين ونُفّذت في حقهم أحكام ثقيلة تتراوح بين أحكام بالإعدام والسجن المؤبّد مع الأعمال الشاقة وأحكام سجنية بمدد متفاوتة ومثلها أحكام غيابية طالت صالح بن يوسف وعددا من رفاقه ممّن كانوا خارج أرض الوطن. واللافت للانتباه في جميع المحاكمات التي جرت بمحكمة القضاء العليا، تكرّر نفس الجريمة وهي التآمر على أمن الدولة وتكوين عصابة، ما يُسمّى اليوم قانونا “تكوين وفاق…”.
ولم تقتصر هذه الجرائم والتّهم على اليوسفيين فقط، إنّما طالت مجموعات من المقاومة المسلّحة المتشبّثة بسلاحها، على غرار المقاوم بجهة سوق الأربعاء (التسمية القديمة لولاية جندوبة شمال غربي تونس) الطيب الزلاق الذي تمّت محاكمته بتهمة تكوين عصابة وتموينها وحكم عليه في جويلية من عام 1956 بالإعدام ونفّذ خلال ساعات.
كما عرفت المحكمة محاكمات كبرى استهدفت حكومات ما قبل الاستقلال على غرار رئيس الحكومة الأسبق وعضو المجلس القومي التأسيسي في تلك الفترة الطاهر بن عمار وزوجته بتهم تحصيل مكاسب غير مشروعة وإخفاء مصوغ بعد نشوب خلاف في الرؤى السياسية بين بن عمار والحبيب بورقيبة.
كما طالت المحاكمات الاستثنائية بذات المحكمة، رئيس الحكومة السابق صلاح الدين البكوش وستة من وزرائه وكذلك محمد صالح مزالي و7 من وزرائه ( حكومات ما قبل الاستقلال) بتهم الخيانة العظمى والزيغ عن الحظيرة القومية وتمّ الحكم عليهم تواليا في نوفمبر عام 1958 وفيفري 1959 بالإعدام (وزير الصحة الهادي الرايس) والسجن لمدد متفاوتة تتراوح بين المؤبد والأشغال الشاقة و5 سنوات سجنا.
لقد صيغت محكمة القضاء العليا على مقاس المعارضة اليوسفية، ووفّرت الإطار القانوني للإجهاز عليها في أسرع الأوقات تمهيدا لإرساء الدولة الجديدة.
مقتطف من مقدّمة كتاب المحاكمات السياسية في تونس 1956 – 2011
وفق مؤلفي كتاب المحاكمات السياسية في تونس 1956-2011، فإنّ محكمة القضاء العليا باعتبارها محكمة استثنائية تمّ إنشاؤها وتشكيلها على المقاس لاستهداف اليوسفيين. وتتشكل من بين أعضاء المجلس القومي التأسيسي الذين كانوا ينتمون جميعا إلى نفس الحزب (الحزب الدستوري).


المحاكمات السياسية: من المحكمة الاستثنائية إلى المحاكم العادية والعسكرية
في عام 1959، انتظمت في تونس أوّل انتخابات رئاسية وتشريعية حسب ما يضبطه الدستور الجديد للبلاد، أفضت إلى صعود رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك الزعيم الحبيب بورقيبة إلى سدّة الحكم، معلنا بداية عهد جديد في بناء الدولة التونسية.
يقول المؤرخ عبد الجليل بوقرة إنّ الانتظارات في ذلك الوقت وبناء على التوجّه الجديد الذي تبنّته البلاد، كانت تتطلّع الى إرساء مؤسسات منتخبة تضع حدّا لنزيف المحاكمات الاستثنائية والمحاكمات السياسية وتساعد على إرساء منظومة قضائية جديدة تحترم أسس المحاكمة العادلة وتضمن الحقوق والحرّيات، إلا أنّ الأمور سارت عكس تلك الانتظارات تماما.
يُفسّر بوقرّة في حواره مع الكتيبة، أنّ المحاكمات الاستثنائية تواصل العمل بها في المحاكم العادية وخاصّة في المحاكم العسكرية.
من أشهر القضايا التي نظرت فيها المحكمة العسكرية في عام 1962، القضية المعروفة بقضية الأزهر الشرايطي ومجموعة من العسكريين.
عبد الجليل بوقرة
في ديسمبر 1962، كشفت أجهزة الأمن التونسي، مجموعة أشخاص من مدنيين وعسكريين وضباط بالحرس الوطني وشيوخ زيتونيين يقودهم المقاوم وقائد جيش التحرير سابقا الأزهر الشرايطي يخطّطون للإطاحة بالحكم. في وقت وجيز، انعقدت المحكمة في جانفي عام 1963 وأصدرت أحكامها بالإعدام في 7 أشخاص على رأسهم الأزهر الشرايطي وعبد العزيز العكرمي نُفّذت في الإبّان، والسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة لعدد آخر، وأحكام سجنية أخرى متفاوتة وإسعاف عسكريين اثنين بإيقاف تنفيذ حكم الإعدام في وقت لاحق.
من القضايا الشهيرة الأخرى التّي اختصّت المحكمة العسكريّة بالنظر فيها، تلك المتّصلة بأحداث الشغب وحرق محلّات وأحياء اليهود في تونس بعد حرب جوان 1967 التي احتلّ فيها الكيان الصهيوني صحراء سيناء وهضبة الجولان وضمّ الضفة الغربية وقطاع غزة بفلسطين المحتلة.
من بين الأشخاص الذين تمّ إيقافهم في الإحتجاجات العارمة التي عرفتها تونس في ذلك اليوم والتي انفلتت فيها الأوضاع الأمنية مع حلول المساء، الطالب الزيتوني محمّد بن جنّات.
من المفارقات في قضيّة بن جنّات أنّه تم التعامل معه على أساس أنه من جماعة الشيوخ الزيتونيين المشاركين في محاولة الانقلاب عام 1962، والحال أنّه كان عضو مجموعة برسبكتيف (الشيوعية) ولم تتفطّن السلطة السياسية إلى ذلك إلا خلال أحداث ماي 1968.
عبد الجليل بوقرّة
بالرغم من أنّ تلك الأحداث لم تعرف مشاركة عسكريين، إلا أنّ القضية تمّت إحالتها على المحكمة العسكرية أمام بهتة المحامين الذين استنكروا محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكريّة.
يُفيد المؤرّخ عبد الجليل بوقرة، أنّ ردّ النيابة العمومية على مرافعات المحامين وإدانتهم السلطة السياسية في استعمال المحاكم العسكرية لمحاكمة مدنيين، كان يتمثّل في أنّ من بين الموقوفين خيّاط (تارزي) له محلّ قرب ثكنة عسكريّة بباردو كان يتعامل مع الجنود في إصلاح أو ترقيع ملابسهم وهو ما يُثير الشبهة حول تورّط عسكريين في تلك الأحداث، وفق تفسيرها.
بالتّزامن مع هذه المحاكمات العسكرية، عرفت المحاكم العاديّة كذلك محاكمات بتهم غريبة، منها محاكمة عميد المحامين الأسبق البشير الخلّادي بتهمة ثلب مؤسسة قومية (بلدية تونس) ومحاكمة 5 تلاميذ قصّر بجهة تالة من ولاية القصرين بتهمة “النيل من كرامة فخامة الرئيس ورجال الحكومة والتحريض على التمرّد”.
فشل تجربة التعاضد، الحركة الطلابية، الحركة النقابية وعودة المحاكم الاستثنائية
كانت فترة أواخر ستّينيات القرن الماضي صعبة على نظام حكم الحبيب بورقيبة، فقد تزامنت مع ولادة فصيل سياسي جديد نشط ومغاير تماما لما كان عليه النشاط السياسي قبل تلك الفترة.
في الفترة المنحصرة بين مارس وماي 1968، شهدت تونس كسائر دول العالم حركة طلّابية قوية ترفع شعار الصدام مع السلطة ولها خطاب سياسي قوي ومتشبّع بمبادئ الدولة الديمقراطية ومناهضة الاستبداد.
كان الحبيب بورقيبة وفق ما يسرده المؤرّخ عبد الجليل بوقرّة، متابعا بشكل يومي للأحداث التي تعرفها عدّة دول ومن أهمها فرنسا خاصة بعد حركة ماي 1968، أين احتلّ فيها الطلبة شوارع باريس ما استدعى من السلطة الفرنسية إنزال الجيش للتصدّي لها.
تخوّفُ الحبيب بورقيبة من انتقال العدوى من فرنسا إلى تونس خاصّة في ظلّ تصاعد وتيرة الحركة الطلابية عجّل بإنشاء محكمة أمن الدولة، وهي محكمة استثنائية تميّزت بسرعة الفصل في الملفات وإصدار الأحكام، واختصت بملاحقة النشطاء السياسيين والنقابيين.
يبيّن عبد الجليل بوقرة أنّ إحداث هذه المحكمة الجديدة، جاء بعد انتقادات كبرى طالت نظام الحبيب بورقيبة خاصة من طرف المنظمات الدولية والصحف الفرنسية لاستعماله المُكثّف للمحاكم العسكرية في محاكمة المدنيين ورغبة منه كذلك في تصفية مجموعة “برسبكتيف” (الشيوعية) والتصدّي لها عبر محاكمات سريعة.


انعقدت أولى محاكمات محكمة أمن الدولة في سبتمبر من عام 1968، أي بعد شهر من إحداثها، بعد إحالة 68 ناشطا من مجموعة برسبكتيف من بينهم نور الدين بن خضر وجلبار النقّاش بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي بالعنف واستعمال القوة بغية الإطاحة بالحكم والاحتفاظ بجمعية غير مرخّص لها وثلب رئيس الدولة. صدرت الأحكام في وقت وجيز لتتراوح بين الخطايا المالية والسجن مدّة 16 عاما.
بالتوازي مع ذلك واصلت بقيّة المحاكم العادية محاكمة نشطاء سياسيين تابعين لمجموعة “برسبكتيف” أو مجموعات سياسية أخرى بتهم الانتماء إلى جمعيّة غير مرخّص لها وتوزيع مناشير والتحريض وغيرها من التهم.
إضافة إلى ذلك، ألقى فشل تجربة التعاضد بظلاله على المحاكم الاستثنائية. فبعد استبعاد استعمالها لسنوات عادت محكمة القضاء العليا في ماي 1970 لتنظر من جديد في ملفات سياسية وهذه المرّة طالت الوزير الأسبق بالحكومة وقائد تجربة التعاضد أحمد بن صالح وعدد من رفاقه.
وُجّهت لأحمد بن صالح، بعد تقرير رفعه مجلس نواب الشعب في خصوص تجربة التعاضد، تهمة الخيانة العُظمى لتقضي المحكمة في شأنه بعشر سنوات سجنا مع الأعمال الشاقة والإقامة الجبرية والتجريد من الأوسمة والحقوق المدنية.
منذ محاكمة بن صالح وصولا إلى أوت 1974، واصلت المحاكم العادية ملاحقة النشطاء السياسيين خاصة منهم المنتمون إلى “برسبكتيف”-العامل التونسي، إلى أن قامت السلطات الأمنية بإيقاف 32 ناشطا من بينهم عبد الرؤوف العيادي ونور الدين بوزيد ( المشهور باسم النوري بوزيد) بذات التنظيم من جملة 202 محالا في القضية تعلّقت بهم جرائم “التآمر على أمن الدولة الداخلي والمس من كرامة رئيس الدولة وأعضاء الحكومة ونشر أخبار زائفة والاحتفاظ بجمعيّة غير مرخّص لها وإعداد محلات للاجتماع”، لتصدر أحكام بالسجن في حقهم تتراوح بين بين 3 و10 سنوات مع إسعاف البعض بتأجيل التنفيذ.
اختصّت محكمة أمن الدولة في ملاحقة النشطاء السياسيين من مختلف التنظيمات والتشكيلات السياسية والنقابية، ومن بين الملفّات التي نظرت فيها هذه المحكمة ملف البعثيين أين حاكمت 27 منهم ومن بينهم أحمد نجيب الشابي بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي ونشر أخبار زائفة.
ومن أهم الملفّات التي نُشرت أمام محكمة أمن الدولة، محاكمة 39 قياديّا من الاتحاد العام التونسي للشغل من بينهم الأمين العام الحبيب عاشور وذلك عقب أحداث 26 جانفي من عام 1978 والتي عُرفت إعلاميا بالخميس الأسود بسبب مواجهة قوّات الأمن للاحتجاجات النقابية التي دعت إليها قيادة الاتّحاد بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتّي تمّت مواجهتها بالرّصاص بتعليمات من السلطة السياسية آنذاك ما خلّف عشرات القتلى والجرحى واعتقالات كبيرة طالت المحتجّين.
بالاطّلاع على التّهم التي تمّ توجيهها للقيادات النقابية، يتّضح أنّها لا تختلف كثيرا عمّا دأبت عليه المحاكمات السابقة فقد تعلّقت الأفعال المنسوبة للمتهمين بجرائم الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة وحمل السكّان على مهاجمة بعضهم البعض والتآمر على أمن الدولة وغيرها.
بالرّغم من تدخّل العقلاء في محاولة لحصر رقعة التّصادم بين السلطة السياسية والقيادة النقابية، أفضت الى الإفراج عن الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الحبيب عاشور، إلّا أنّ الأخير ظلّ صامدا في طرح مواقفه النقابية ونقد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها البلاد ما اضطرّ السلطة السياسية إلى ملاحقته بجرائم واهية من قبيل “الولوج عمدا لتعاضدية صيد بصفاقس” في قضية حكم فيها بالسجن سنة واحدة عام 1985 وقضية ثانية مفادها “سوء التصرّف” حكم عليه فيها بسنتين سجن عام 1986.
بعد الحملة الأمنية الشديدة التّي طالت اليساريين والقوميين والنقابيين، ظهر طيف سياسي جديد تحت مسمّى الاتّجاه الإسلامي، الاسم السابق لحركة النهضة.
بعد سنوات من النشاط داخل أسوار الجامعة وفي المساجد، انطلقت محاكمتهم في محكمة أمن الدولة أوّل مرّة في بدايات الثمانينات بتهمة الانتماء إلى جمعيّة غير مرخّص لها. وأحيلت أوّل مجموعة منهم على محكمة أمن الدولة بتهمة “التآمر على أمن الدولة والإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض” في سبتمبر من عام 1987 (أسابيع قليل قبل انقلاب 07 نوفمبر 1987).


انقلاب 07 نوفمبر: قضاء التعليمات يعوّض المحاكم الاستثنائية
منذ انقلاب زين العابدين بن علي والإطاحة بحكم الحبيب بورقيبة ووضعه قيد الإقامة الجبرية في 07 نوفمبر 1987، وإلى حدود 1992، اتّسم الجو العام في البلاد بنوع من الهدوء الحذر بالرغم من النبرة الانفتاحية التّي اختارها زين العابدين بن علي في مخاطبة الفاعلين السياسيين وإطلاق الحرّيات. ولم تشهد المحاكم التونسية محاكمات سياسية كالتي كانت تدور في أروقتها تحت نظام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة.
رغم هذا الهدوء كان بين الفينة والأخرى يتمّ إحالة شخص بسبب آرائه ومواقفه السياسية على غرار محاكمة ستة ناشطين سياسيين بحزب العمال الشيوعي التونسي من بينهم عمار عمروسية وشفيق العيادي بتهمة توزيع مناشير قضت المحكمة في حقهم بأحكام سجنية تتراوح بين 6 و18 شهرا.
بعد انتخاب بن علي رئيسا للبلاد في انتخابات ثبت أنّها مزوّرة في عام 1989، بدأ الجو العام داخل تونس يشهد تضييقا متزايدا يوما بعد يوم وظهرت بوادر أزمة سياسية بين السلطة السياسية والإسلاميين أفضت إلى ما يُطلق عليها “قضية برّاكة الساحل” التي نظرت فيها المحكمة العسكرية بتونس وشملت 171 شخصا من بينهم الصادق شورو حضوريا وراشد الغنوشي غيابيا (غادر البلاد قبل أيام من إيقافه). وصدرت في حقّهم أحكام تتراوح بين السّجن المؤبد وأحكام أخرى تتراوح بين السنة والـ 24 عاما.
بعد شهر من محاكمة الإسلاميين، تمّت إحالة أمين عام حزب العمال الشيوعي التونسي حمّة الهمامي على القضاء بتهمة تكوين منظّمة غير مرخّص لها، وقضت المحكمة في حقّه بالسجن 4 سنوات و9 أشهر.
لتنطلق سلسلة الإيقافات والتضييقات على كلّ النشطاء السياسيين المعارضين لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، لكن وفي ذات الوقت لم يتمّ استعمال تهمة التآمر على أمن الدولة إلّا نادرا.
وبالاطّلاع على عشرات الملفات القضائية المتعلّقة بمحاكمة نشطاء سياسيين وحقوقيين في فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، يتبيّن الاعتماد على جرائم الحقّ العام في محاكمة هؤلاء الناشطين من قبيل “استعمال مادّة مخدرة”، أو “السُّكْر الواضح بالطريق العام” و”الاعتداء على الأخلاق الحميدة”، و”عدم احترام إجراءات المراقبة الإدارية” وغيرها من التّهم التي كان الهدف منها المسّ من سمعة هؤلاء الناشطين أمام الرأي العام التونسي، على غرار ما حصل في محاكمة الناشطة الحقوقية نزيهة رجيبة بعد اتهامها بـ”مسك عملة أجنبية دون وجه حق” والصحفي توفيق بن بريك بتهمة “الإعتداء على الأخلاق الحميدة والعنف الشديد”.
يقول المؤرخ عبد الجليل بوقرة إنّ فترة حكم نظام بن علي، ألغيت فيها جميع المحاكم الاستثنائية التي كانت فاعلة تحت نظام الحبيب بورقيبة، وهي إشارة أراد من خلالها بن علي مغازلة القوى الغربية وأن يعلن بها بداية مرحلة جديدة في تونس.
ويُضيف بوقرّة أنّ “المحاكم العاديّة حتّى وإن كانت تخضع لمراقبة السلطة السياسية وتعليماتها، إلا أنّ بها ضمانات منتفية أصلا بالمحاكم الاستثنائية، على الأقل في مستوى الطعن في الأحكام بالاستئناف والتعقيب”.
بعد ثورة جانفي 2011: الفرص الضائعة والعودة إلى النقطة صفر
في حواره مع موقع الكتيبة، يشرح المؤرّخ عبد الجليل بوقرّة وصاحب كتاب “من تاريخ القضاء الاستثنائي بتونس محكمة أمن الدولة واليسار الجديد بين ليّ الذراع وكسر العظام”، حضور جريمة التآمر على أمن الدولة في تاريخ تونس الحديث والتّي تتشارك جميعها في اعتماد نفس المقاربة القضائية القائمة على قوانين متوارثة في تصفية المعارضين السياسيين.
ويُضيف بوقرة متأسّفا: “لم تتمّ معالجة هذه القوانين معالجة جذريّة لضمان أسس المحاكمة العادلة وضمان حقوق المتقاضين وإيقاف نزيف المحاكمات السياسية باستعمال قوانين قديمة”.
ويفصل بوقرّة بين جرائم التآمر على أمن الدولة القائمة على تجريم الآراء والنشاط السياسي المدني والتي قال إنّها مرفوضة ومجرّمة بالقوانين والمواثيق الدولية وبين جرائم التآمر المبنية على قيام مجموعة برفع السلاح ومحاولة تغيير نظام الحكم بواسطته على غرار قضية “مجموعة قفصة” و”قضية سليمان” التي لا يرى فيها أي وجه من أوجه المحاكمات السياسية، مبرزا أنّه “حتى في هذه القضايا تنصّ المواثيق الدولية على ضمان الحق في محاكمات عادلة تتوفّر فيها كل الحقوق” دون اعتبار تلك الجرائم محاكمات سياسية أو تصفية سياسية.
من جانبه، يُفسّر المحامي والقاضي السابق أحمد صواب (تمّ إيقافه على خلفية تصريح إعلامي متعلّق بمحاكمة المتهمين في قضية التآمر على أمن الدولة) في حوار سابق أجراه معه موقع الكتيبة، أنّ “جرائم التآمر على أمن الدولة والمحاكمات السياسية في تاريخ تونس الحديث تتشارك جميعها في اعتماد نفس المنهجية عبر قوانين قديمة وبعض قضاة معروف عنهم تنفيذ التعليمات السياسية وأعمال قضائية لا تحترم الحدود الدنيا للمحاكمة العادلة”، وفق تعبيره.
وذكّر صواب باللجنة التي تمّ تشكيلها تحت إشراف وزارة العدل في عام 2015 برئاسة المحامي البشير المنوبي الفرشيشي وبتركيبة تتكون من خيرة رجال القانون كان هو من بينهم والتي عكفت على مشروع تنقيح المجلة الجزائية، وبعثت به إلى المجالس النيابية المتعاقبة إلا أنّها بقيت حبيسة الرفوف.
ويُضيف صواب أنّ “من بين ما تمّ تنقيحه في مشروع المجلة الجزائية فصول تتعلّق بالإيقاف والاحتفاظ وضمان الحقوق ومعالجة الفصول التي استعملتها السلط السياسية المتعاقبة على حكم تونس في تصفية خصومها”، فضلا عن “مقترحات لملاءمة القوانين الجزائية مع دستور البلاد الجديد حينها” (دستور 2014 المُلغى).
تمّ تجاهل ذلك المشروع الثوري الذي عكف على إنجازه مجانا ثلّة من أفضل رجال القانون، رغم أنّه مثّل فرصة مهدورة للقطع مع هذه الممارسات وها نحن اليوم نكتوي بنيران ذلك التجاهل وذلك النكران لجهود رجال ونساء القانون.
أحمد صواب محام وقاض سابق
عادت في السنوات الأربع الأخيرة، جريمة التآمر على أمن الدولة لتلعب دورا حاسما في ملاحقة النشطاء السياسيين.ـات كما كان معمولا به خلال حُكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
وبعد تعدّد الإحالات والإيقافات على معنى فصول من المجلة الجزائية وقانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال الذي تمّ سنّه في عام 2015 ونُقّح في عام 2019، لملاءمته مع الجرائم التّي أتتها الجماعات الإرهابية التّي هددت سلامة الوطن وضربت استقراره، أطلق نشطاء حقوقيون.ـات صيحة فزع من أجل وقف نزيف ملاحقة النشطاء السياسيين.ـات بتهم على معنى هذا القانون والتي تصل عقوباته الى السجن المؤبد والإعدام.
ودعت منظمات حقوقية ومهنية على رأسها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين، على خلفية إيقاف عضو هيئة الدفاع عن النشطاء السياسيين في قضية التآمر على أمن الدولة، أحمد صواب،وإحالته الى قطب مكافحة الإرهاب بعد مداهمة منزله، إلى وقف هذه السياسية في ملاحقة النشطاء السياسيين ومحامي الدفاع والكف عن تكييف نشاطهم السياسي كـ”أفعال إرهابية” ما يُفرغ الجرائم الإرهابية من معناها ويُساوي بين أشخاص كانوا في وقت سابق في مرمى الخلايا الإرهابية واضطرت الأجهزة الأمنية إلى توفير حماية أمنية لهم وبين الإرهابيين أنفسهم.
على الرغم من حرص هيئة تحرير الكتيبة على استطلاع وجهة نظر السلط القضائيّة والتنفيذيّة في الدولة التونسيّة في خصوص جملة النقاط المُثارة في هذا المقال لاسيما تلك الملتبسة أو المُتعلّقة باتهامات، إلاّ أنّنا لم نتمكّن من الحصول على الموافقة لإجراء أيّ حوار مع أيّ مسؤول رسمي.

الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي










الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
