الكاتب : سماح غرسلي

صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستير صحافة استقصائية بجامعة منوبة

في منطقة شطرانة 1 بمحافظة أريانة في تونس الكبرى، يقف “كمال” وهو عون في بنك خاص ينتمي إلى الطبقة الوسطى، حائرا أمام محلّ لبيع الأسماك، مُعربا عن صدمته من أسعار “الحوت المربي” كما أسماه باللهجة التونسيّة.

“لقد سئمت استهلاك لحم الدجاج والاسكالوب بشكل يومي. كنت في السابق رفقة عائلتي المكوّنة من زوجتي و3 أبناء نستهلك أسبوعيا على الأقل مرّة واحدة اللحوم الحمراء ولاسيما لحم الضأن، غير أنّني في السنوات الأخيرة لم أعد قادرا على شراء هذا المنتوج الذي أصبحت أحاول تعويضه بالأسماك التي من المعلوم أنّها تعدّ مصدرا هاما للبروتيين. غير أنّ أسماك “الوراطة” والقاروص” التي تأتي من مزارع التربية، بدورها هي الأخرى لم تعد في المتناول حيث أصبحت كلفة الوجبة الواحدة تفوق 50 دينارا (خمسة أشخاص)”.

بهذه العبارات، يثير محدثّنا مشكلا حقيقيّا بات يمسّ من القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من التونسيين.ات الذين دأبوا على استهلاك الأسماك في عاداتهم الغذائية، مُضيفا بالقول:

“كنّا في السابق نشتري أجود أنواع الأسماك البحريّة بأسعار معقولة وفي المتناول، لكنّ الدولة قرّرت أن توجهنا نحو استهلاك أسماك التربية بتعلّة أنّ أسعارها أقل كلفة بحيث تتماشى وامكانيات المستهلك التونسي لاسيما في ظلّ تراجع مردودية قطاع الصيد البحري. اليوم نحن نعيش وضعا غير طبيعي، فالأسماك البحريّة لم تعد في متناول سوى الأثرياء، في المقابل فإنّ سمك “الوراطة والقاروص” أصبح يتطلّب ميزانية خاصة بعد أن كان متاحا بأسعار مقبولة.أين الدولة أمام كلّ هذا الجشع؟

الكاتب : سماح غرسلي

صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستير صحافة استقصائية بجامعة منوبة

في منطقة شطرانة 1 بمحافظة أريانة في تونس الكبرى، يقف “كمال” وهو عون في بنك خاص ينتمي إلى الطبقة الوسطى، حائرا أمام محلّ لبيع الأسماك، مُعربا عن صدمته من أسعار “الحوت المربي” كما أسماه باللهجة التونسيّة.

“لقد سئمت استهلاك لحم الدجاج والاسكالوب بشكل يومي. كنت في السابق رفقة عائلتي المكوّنة من زوجتي و3 أبناء نستهلك أسبوعيا على الأقل مرّة واحدة اللحوم الحمراء ولاسيما لحم الضأن، غير أنّني في السنوات الأخيرة لم أعد قادرا على شراء هذا المنتوج الذي أصبحت أحاول تعويضه بالأسماك التي من المعلوم أنّها تعدّ مصدرا هاما للبروتيين. غير أنّ أسماك “الوراطة” والقاروص” التي تأتي من مزارع التربية، بدورها هي الأخرى لم تعد في المتناول حيث أصبحت كلفة الوجبة الواحدة تفوق 50 دينارا (خمسة أشخاص)”.

بهذه العبارات، يثير محدثّنا مشكلا حقيقيّا بات يمسّ من القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من التونسيين.ات الذين دأبوا على استهلاك الأسماك في عاداتهم الغذائية، مُضيفا بالقول:

“كنّا في السابق نشتري أجود أنواع الأسماك البحريّة بأسعار معقولة وفي المتناول، لكنّ الدولة قرّرت أن توجهنا نحو استهلاك أسماك التربية بتعلّة أنّ أسعارها أقل كلفة بحيث تتماشى وامكانيات المستهلك التونسي لاسيما في ظلّ تراجع مردودية قطاع الصيد البحري. اليوم نحن نعيش وضعا غير طبيعي، فالأسماك البحريّة لم تعد في متناول سوى الأثرياء، في المقابل فإنّ سمك “الوراطة والقاروص” أصبح يتطلّب ميزانية خاصة بعد أن كان متاحا بأسعار مقبولة.أين الدولة أمام كلّ هذا الجشع؟

يرى “كمال” أنّ سياسة الدولة في قطاع الأحياء المائية غير واضحة وأنّ ارتفاع الأسعار غير مبرّر، مشبها ما حصل في هذا المجال بقطاع زيت الزيتون الذي كان ضحيّة “خيارات فاشلة لا تراعي مصلحة المواطن”، وفق توصيفه.

ويردف بالقول: “هناك فرق كبير بين أسماك التربية وأسماك البحر، حيث أنّ مذاق سمك البحر ثابت ولا يتغيّر من سمكة لأخرى، بينما أسماك التربية في الكغ الواحد يختلف المذاق بين سمكة وأخرى.عند تذوّق سمك البحر حتّى لو كان من نوع “السردينة” تتحسّس مذاقا طبيعيا، في المقابل أسماك “الوراطة” القادمة من مزارع التربية مذاقها غير طبيعي وكأن هناك مكوّنات إضافية. يمكن ملاحظة الفرق أيضا عند شواء أسماك التربية أو طهيها حيث تفرز كمّيات كبيرة من الزيوت والدهون مقارنة بأسماك البحر”.

غير بعيد عن محلّ بيع الأسماك الذي التقينا أمامه بـ”كمال”، قمنا بجولة في عدد من المحلاّت الأخرى في الولاية ذاتها، فضلا زيارة عدد من المساحات التجارية،حيث كان القاسم المشترك هو ارتفاع أسعار الأسماك بشكل عام والمُرباة منها بشكل خاص.

في مقابل هذا الواقع الميداني، يصف المجمع المهني المشترك لمنتوجات الصيد البحري (مؤسسة حكومية تتبع وزارة الفلاحة التونسيّة) على موقعه الرّسمي نشاط تربية الأحياء المائية في تونس بـ”أنّه نشاط ضروريّ باعتباره رافدا هامّا من روافد التنمية الاقتصادية والاجتماعية. علاوة على توفير الغذاء وخلق مواطن الشغل.”

يضيف المجمع في نفس المنشور:” يمكّن هذا القطاع من تحقيق مداخيل مُعتبرة من العملة الصعبة تمكننا من المساهمة في توازن المبادلات الخارجية التونسية وتطوير نسق النمو بالبلاد”، وفق المصدر ذاته.

من جهة أخرى، تشدّد هذه المؤسّسة التي تُعنى بالقطاع على أنّ ” تونس تعدّ من أبرز البلدان المنتجة للأسماك في حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث يبلغ إنتاج الصيد البحري سنويّا في بلادنا حوالي 151 ألف طن، إلاّ أن تربية الأسماك أصبح نشاطا ضروريّا للحؤول دون النقص المسجّل على مستوى الأصناف الرفيعة من الأسماك (القاروص و الوراطة والبوري…)، معتبرة أنّ نشاط تربية الأسماك يعدّ “حلّا كذلك لتنويع قاعدة العرض بما يتماشى مع القدرة الشرائية للمواطن التونسي خاصّة أن هذه الأنواع من الأسماك تتميّز بأسعارها المعقولة ولها فوائد غذائية هامة، ممّا جعلها تدخل بقوة خلال السنوات الأخيرة في العادات الغذائية للمستهلك التونسي ومكّنت من تغطية النقص في العرض على مستوى السوق.”

ويشير المجمع المهني ذاته إلى أنّ “نشاط تربية الأحياء المائية جاء ليلعب دورا هامّا في تخفيف الضغط المسلّط على المخزونات السمكيّة البحريّة في بلادنا من خلال توفير كمّيات إضافية ومُعتبرة من الأسماك والقوقعيّات والقشريّات ذات جودة عالية وقيمة غذائية وفائدة صحيّة تفوق اللحوم البيضاء والحمراء”.

فما مدى دقّة هذا الخطاب الرسمي؟ هل مازال قطاع تربية الأسماك ملاذا للتونسيين.ات؟ لماذا تصاعدت أسعار أسماك التربية في السنوات الأخيرة؟ وما دور الوسطاء والشركات الكبرى في هذا الوضع المستجدّ؟ ما الذي يجب أن نعرفه حول خبايا قطاع تربية الأحياء المائية؟ وهل للدولة التونسيّة رؤية واضحة في هذا المجال ترتكز على معادلة تجمع بشكل متوازن بين مصلحة المستهلك ومصالح الشركات الكبرى المُصدّرة في الآن ذاته؟ ما حقيقة التجاوزات البيئية والمخاطر الصحيّة لهذا القطاع ؟

في هذا التحقيق نحاول الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة الحارقة التي تهمّ قطاعا حيويّا تحوم حوله العديد من نقاط الالتباس والغموض.

تربية الأحياء المائيّة: ماذا تخفي الأرقام الرسميّة ؟

منذ قرون من الزّمن، استفادت تونس من موقعها الجغرافي المتوسّطي لتكون بذلك واحدة من أهمّ البلدان التي يشهد فيها قطاع الصيد البحري ازدهارا، ويعتبر نشاط تربية الأحياء المائيّة أيضا أحد الأنشطة العريقة المترسّخة في تاريخ البلاد.

ويمكن تأريخ أوّل المبادرات الرسميّة في مجال تربية الأسماك البحرية في سنة 1984 في بحيرة بوغرارة جنوب جزيرة جربة حيث اعتمدت هذه المبادرة على إنتاج الأسماك في الأقفاص العائمة، أمّا المحاولة الثانية فقد كانت على بعد 50 كيلومترا شمال مدينة سوسة وتمثلت في إنتاج “القاروص” و”الوراطة” في أحواض على اليابسة بعد ضخّ مياه البحر فيها.

ويكتسي نشاط الصيد البحري أهميّة كبرى من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية باعتباره يوفّر حوالي 53 ألف موطن شغل مباشر و20 ألف بصفة غير مباشرة ، كما يمثّل 8% من قيمة الإنتاج الفلاحي و1.1 % من الناتج المحلّي الخام. وهو يحتلّ بذلك المرتبة الثانية بعد زيت الزيتون من حيث عائدات الصادرات الغذائية التونسية، بحسب ما جاء في موقع المجمع المهني لمنتجات الصيد البحري .

ولئن شهدت حركة الاستثمار في هذه المنظومة نسقا بطيئا في مراحلها الأولى ولم ترتق إلى مستوى الأهداف المرسومة، فقد مثّلت سنة 2007 نقطة التحوّل وإشارة الانطلاقة القويّة للاستثمار الفعلي في تربية الأحياء المائية حيث تمّ تركيز 23 مزرعة لتربية بعض أصناف الأسماك. وقد مثلت منتجات تربية الأحياء المائية 16% من الإنتاج السنوي لسنة 2019. وتتوقّع المنظمة العالمية للزراعة والتغذية أن يسجّل قطاع تربية الأحياء المائية في تونس 50% من الإنتاج الجملي لمنتجات الصيد البحري في حدود سنة 2030.

وقد نجح قطاع الصيد البحري في تحقيق فائض إيجابي في الميزان التجاري بـ 381 مليون دينار سنة 2024 حسب ما أكدّه المدير العام للصيد البحري وتربية الأسماك بوزارة الفلاحة علي الشيخ السبوعي خلال جلسة استماع بمجلس نواب الشعب في شهر فيفري 2025 .

وأضاف أنّ “قطاع الصيد البحري يوفر طاقة إنتاجية سنوية تُقدر بـ 147 ألف طنّ منها 37 ألف طنّ موجّهة إلى التصدير بقيمة مالية تناهز 845 مليون دينار. ويبلغ عدد مشاريع تربية الأحياء المائية حاليا 42 مشروعا من بينها 25 مشروعا لتربية الأسماك”.

عرف قطاع تربية الأحياء المائية في تونس على مدى السنوات الفارطة تطوّرا ملحوظا ونقلة نوعية من حيث تنوع الأنشطة وكمية الإنتاج وقيمته، حيث شهد معدّل الإنتاج الوطني للصيد البحري وتربية الأحياء المائية خلال العشرية الأخيرة (2022-2013) تطوّرا ملحوظا، حيث مرّ من 122 ألف طن سنة 2013 إلى 158 ألف طن سنة 2022 أي بزيادة تقدّر بـ 36 ألف طن (30 %) وبمعدّل نمو سنوي في حدود 3%.

ويعود هذا التطوّر أساسا إلى تطوّر إنتاج نشاط تربية الأحياء المائية بنسق مطّرد من 11964 طن سنة 2013 إلى 21000 طن سنة 2022 ( %75) مع معدّل نمو سنوي +6% خلال العشرية الأخيرة.

بلغت صادرات “الوراطة” في سنة 2023 نحو 8540 طن بقيمة 139 مليون دينار أي بمعدل سعر 16.3 دينار للكيلوغرام الواحد في حين بلغت صادراتها سنة 2022 نحو 6300 طن بقيمة 95 مليون دينار أي بمعدل سعر 15.1 دينار للكيلوغرام الواحد. وبالتالي تمّ تسجيل تطوّر إيجابي بنسبة 36 % من حيث الكمية و%47 من حيث القيمة (44.2 مليون دينار) وتطوّرا إيجابيّا من حيث السعر بنحو 8%، وفق تقرير صادر عن المركز الفنّي لتربية الأحياء المائية.

وبلغت صادرات “القاروص” في سنة 2023 نحو 622 طنّ بقيمة 15 مليون دينار أي بمعدّل سعر 24 دينار للكيلوغرام الواحد، في حين بلغت صادراتها مقارنة بنفس الفترة من سنة 2022 نحو 365 طن بقيمة 9 مليون دينار أي بمعدل سعر 24.4 دينار للكيلوغرام الواحد. ممّا يعني تسجيل تطوّر إيجابي بنسبة 70% من حيث الكميّة و68 %من حيث القيمة (6 مليون دينار) وتطوّرا سلبيّا من حيث السعر بنحو %1.6.

تفيد دراسة نشرت باللغة الإنقليزية على موقع “the fishsite” بعنوان “تربية الأحياء المائية في ازدهار” بأنّ القطاع نما في السنوات الأخيرة بشكل كبير بفضل استزراع “القاروص” و”الوراطة” في الأقفاص العائمة والغاطسة في المزارع البحريّة.

وتعتمد تونس بشكل كبير على الواردات لتلبية احتياجات قطاع تربية الأحياء المائيّة، حيث يتمّ استيراد 50% من الأعلاف السمكية و80 مليون يرقة سنويا. ومع أن هناك جهودا لتعزيز الإنتاج المحلّي، بما في ذلك إنشاء مصانع أعلاف وحاضنات، فإنّ التقدّم في هذا المجال لا يزال تدريجيا إذ يوفّر القطاع حاليّا فرص عمل لحوالي 3000 عامل بدءا من الغوّاصين وصولا إلى المهندسين، بحسب نفس الدراسة.

وفقا لبيانات وزارة الفلاحة التونسيّة، فقد قدّرت واردات الأعلاف الموجّهة لتربية الأسماك سنة 2023 بـ16687 طن بقيمة 96.7 مليون دينار .

“الوراطة”و”القاروص”.. لمن استطاع إليهما سبيلا؟!

يكشف البحث في أرشيف المجلّات التسويقيّة (أدلّة الأسعار) لعدد من المساحات التجاريّة الكبرى في تونس خلال السنوات العشر الأخيرة، إلى جانب محاورة عدد من المهنيين في القطاع، ارتفاعا غير مسبوق في الأسعار.

فعلى سبيل المثال، كان الكيلوغرام الواحد من سمك الوراطة في سنة 2010 يسوّق للمواطنين.ـات بسعر 8 دنانير مقابل 14 دينارا في 2016 و16 دينارا في 2023. وارتفع هذا المبلغ بشكل كبير في أواخر 2024 وبداية 2025 ليتراوح سعره بين 24 و28 دينارا.

كما نلاحظ ارتفاع سعر الكيلوغرام الواحد من أسماك القاروص المربّاة إلى 32 دينارا أواخر سنة 2024 بينما لم يتجاوز سعرها سنة 2021 الـ 21 دينارا للكغ الواحد.

يقول ضياء الدريدي، وهو أحد العاملين بمحلّ لبيع الأسماك في تونس العاصمة، إنّ “المواطن التونسي اليوم يبحث عن الأسماك التي تكون أسعارها في المتناول، لكن في الحقيقة تجاوزت أسعار الأسماك البحرية اليوم الـ 70 دينارا للكغ الواحد. أمّا أسماك التربية مثل الوراطة فيفترض ألاّ يتجاوز سعرها 21 دينارا وأحيانا 19 دينارا للكلغ الواحد”.

ويعتبر المتحدّث ذاته أنّ “غلاء أسعار سمك الوراطة والقاروص المربّى لا مبرّر له و وهو أمر غير معقول، إلّا أنّه يرجح أنّ “سبب هذا الغلاء هو نقص الأسماك في الأسواق المحلّية أو التجّار الذين يتجاوزون هامش الربح القانوني، مشدّدا على أنّه “من غير المقبول أن يصل سعر الكيلوغرام الواحد من سمك الوراطة المربّى إلى 27 دينارا”.

على هذا الأساس، دعا إلى “ضرورة تشديد المراقبة على هذه المنتجات من قبل الجهات المختصّة خصوصا أن هذا النوع من الأسماك هو الأكثر إقبالا من قبل المواطن، وغلاء أسعاره يسبّب له خسائر ماديّة ويضعه محلّ شكوك من قبل حرفائه”.

في ذات السياق، يقول نائب رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري صالح هديدر في تصريح أدلى به في سبتمبر 2024 لإذاعة موزاييك حول أسباب غلاء أسعار أسماك المزارع إنّ ” مزارع تربية الأسماك تسوّق الوراطة والقاروص بسعر يتراوح بين 19 دينارا و20 دينارا على أقصى تقدير بينما لم تتجاوز أسعارها بين 2022 و2023 ، 14 دينارا فقط للكغ الواحد. هم ليسوا مسؤولين عن ارتفاع الأسعار بل يعود ذلك إلى تدخّل الوسطاء وبحثهم عن هامش ربح يتجاوز الـ40% مع غياب تامّ للرقابة التي تردع مثل هذه المخالفات خصوصا أنّ الجميع يعلم جيّدا قيمة الأسعار الأوّلية داخل المزارع وسوق الجملة”.

ويؤكّد نفس المصدر أنّ “هذا النوع من المُنتجات يخضع إلى قانون العرض والطّلب ولهذا تتباين أسعارها، وأحجام أسماك التربية المروّجة في السوق المحلّية تتراوح بين 250 غ و 500 غ وتتراوح أعمارها بين 6 أشهر وسنة”.

ومن بين العوامل الأخرى التي ساهمت في غلاء أسعار أسماك التربية هو “نقص مردودية قطاع الصيد البحري وغلاء أسعار العلف”، وفق المصدر ذاته الذي ندّد بهذا “الغلاء الذي يعدّ الوسطاء السبب الرئيسي فيه رغم مطالبتهم (كطرف مهني) لسنوات بتكثيف الرّقابة ووضع حدّ لمثل هذه التجاوزات لكن دون جدوى”، بحسب تعبيره.

بدوره، أرجع رئيس الغرفة الجهوية للأسواق البلدية لبيع الأسماك بالتفصيل محمد قصد الله في تصريح إذاعي في 13 مارس 2024، ارتفاع أسعار الأسماك في الأسواق التونسية إلى “العوامل الطبيعيّة التي عادة ما تكون السبب الرئيسي وراء النقص في الكميات المتوفّرة، إضافة الى إفلاس أغلب أصحاب أحواض تربية السمك، وتوجّه ما تبقّى منها نحو التصدير خاصة للولايات المتحدة الأمريكية”.

ويضيف ذات المتحدّث قائلا:

“كما يقف عدم تقنين أسواق بيع الأسماك وعدم إخضاعها للمراقبة الضرورية وراء ارتفاع الأسعار بوصفها فوضى عارمة ولا انضباط للقوانين في قطاع الأسماك”.

ما جاء في تصريح رئيس الغرفة الجهوية للأسواق البلدية لبيع الأسماك بالتفصيل في تونس العاصمة حول إفلاس أغلب أصحاب مزارع تربية الأسماك تفنّده التقارير السنوية لوزارة الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية والمركز الفنّي لتربية الأحياء المائية التي تقول إنّ “هذا القطاع يشهد تطوّرا ملحوظا وإنّ الدولة التونسية تولي اهتماما كبيرا لتشجيع الاستثمار فيه”.

يقول صدّام الوحيشي، وهو تاجر بيع أسماك بالجملة والتفصيل بمنطقة دار فضّال في تونس العاصمة في حواره مع الكتيبة إنّ “أسعار الأسماك البحريّة تتضاعف بسبب نقص هذا المنتوج أو فقدانه في الأسواق وذلك نتيجة عوامل عدّة من بينها سوء الطقس أو تراجع الثروة البحريّة. ويبقى العامل الأوّل لغلاء سعر السمك البحري الوسطاء أي “القشّارة”.

ويبيّن المصدر ذاته أنّ “الأسماك التي يقع صيدها في البحر تُباع في شكل مزاد يطلق عليه اسم “الدلالة” حيث يتسابق التجّار وباعة الجملة أو التفصيل من أجل الظفر بالنّصيب الأكبر من الأسماك البحريّة، ونظرا إلى تزايد الطلب يرتفع سعره وقد يصل إلى 70 دينار للكيلوغرام الواحد”( أي أنّ الأجر الأدنى المضمون شهريا في تونس الذي يبلغ 528 دينارا يوفر فقط 7.5 كلغ من هذه المادة).

ويفسّر الوحيشي وصول سعر السمك المربّي إلى 27 دينارا للكغ الواحد بـ”ارتفاع سعره في المزرعة مباشرة”، قائلا:

“من المنطقي أن يصل سعر السمك المربّى إلى 27 دينارا، عندما يشتريه التاجر بـ 24 دينارا من المزارع. القانون يسمح بأن يحدّد هامش ربح لا يتجاوز 5 دنانير وبالتالي يمكن أن يصل ثمنه حتّى إلى 30 دينارا للكغ الواحد أي بنسبة 25 % ويجوز للتاجر البيع بهذا الثمن حتى يغطّي نفقاته “.

في المقابل، يقول رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي في حديثه مع موقع الكتيبة إنّ “الارتفاع المشطّ في أسعار اللحوم الحمراء والتي بلغت 55 دينارا جعل من سعر كلّ منتج يعتبر مصدرا للبروتينات مقبولا نسبيّا مهما ارتفع”.

ويضيف أنّ “أسماك التربية جاءت لتعديل أسعار الأسماك مثل عديد المنتجات الأخرى على غرار الموز والدواجن، لكن للأسف اليوم أسماك التربية لم تعد تعدّل السوق، بل أصبحت عنصرا لغلاء أسعار الأسماك بصفة عامّة رغم أنها تختلف بنسبة كبيرة عن أسماك البحر”.

ويوضّح أنّ “سعر أسماك البحر معروف ومصدر هذه الأسماك ومكوّناتها معلومة إلّا أنّه لا يمكن ضمان هذا الجانب عندما يتعلّق الأمر بأسماك التربية ولا أحد يعلم أين تقع تربيتها وكيف وماذا تأكل كغذاء، وما هي المضادّات الحيويّة التي يتمّ إعطاؤها لها، خاصّة وأنّ كلّ مزرعة تربية لها تقنياتها وطريقتها في تربية الأسماك والتي تبقى مجهولة بالنسبة إلى المواطن”.

“اليوم، في كلّ مجالات التربية والفلاحة، يحدّد هيكلة السعر صاحب المنتوج أي المنتج سواء كان فلّاحا أو صيّادا حسب التكلفة التي يحدّدها هو والدولة لا تتدخّل في هيكلة السعر بل تكتفي بالمراقبة فقط”.

لطفي الرياحي

يوضّح الرياحي أنّ “الدولة تكتفي بالموافقة على هيكلة السعر الذي يحدّده المنتجون وفق تكلفة كيفيّة احتسابها بقيت مجهولة”، مشيرا إلى أنّ “أيّ وفاق أو شبه وفاق يحصل بين مجموعة من المنتجين يؤدّي إلى الاستقرار على سعر يحدّدونه هم بشكل أحادي”.

من يتحكمّ في الأسعار؟

في سنة 2024، بلغ عدد شركات تربية الأحياء المائية 58 شركة من بينها 23 شركة متخصّصة في تربية الأسماك البحرية (وراطة وقاروص)، بحسب وزارة الفلاحة والصيد البحري.

وتتوزّع هذه المزارع/ الشركات كلّ حسب اختصاصها على ولايات نابل وبنزرت والمنستير وسوسة والمهدية ومدنين.

خلال السنوات الأخيرة، مارست 38 شركة بطاقة إنتاج سنوية تقدّر بـ43.3 ألف طن نشاط تربية الأسماك البحرية، توقّف منها 14 مشروعا عن النشاط، في حين ما يزال 23 مشروعا يمارس نشاطه بطاقة إنتاج تبلغ 33.5 ألف طن.

وتمكّنت شركات تربية الأسماك البحرية بالأقفاص سنة 2021 من تحقيق 70% من طاقة الإنتاج المسندة لها، مع العلم أن 28% منها تمكّنت من بلوغ 100% من طاقة إنتاجها، بحسب تقرير صادر عن المركز الفنّي لتربية الأحياء المائيّة.

من خلال البحث في البيانات الأرشيفيّة والتقارير السنوية للمركز الفني لتربية الأحياء المائية في علاقة بهويّة الشّركات المتحصّلة على رخص بعث مشاريع تربية الأسماك منذ ما قبل 2011 وإلى غاية 2025، فضلا عن النّبش في السجلّ الوطني للمؤسّسات في تونس، نستشفّ أنّ قلّة قليلة من الشركات العائليّة تهمين منذ عقود على نشاط تربية الأحياء المائية.

من بين أبرز العائلات التي استأثرت بهذا القطاع، يمكن الإشارة إلى عائلة توفيق المكشّر (رجل أعمال والرئيس السابق لفريق هلال الشابّة) والذي رفضت دائرة الاتهام المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي لدى محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 23 جانفي/ كانون الثاني 2025 الإفراج عنه وإحالته وهو في حالة إيقاف على أنظار الدائرة الجنائية المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي بالمحكمة الابتدائية بتونس.

تجدر الإشارة إلى أن رجل الأعمال توفيق المكشر وأكثر من عشرين متّهما آخرين من بينهم ممثّلون قانونيون لشركات تجارية يملك المكشر جزءا من رأس مالها وبعض أفراد عائلته وُجّهت إليهم تهم تتعلّق بتكوين وفاق بغاية غسيل الأموال باستغلال خصائص النشاط المهني والاجتماعي واستغلال موظف عمومي لصفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره وتبييض الأموال وجملة من الجرائم ذات الصبغة المالية.

من العائلات المهيمنة على القطاع أيضا نجد عائلة النقبي صاحب شركات النقبي للأسماك، والنقبي للتجارة والتوريد والتصدير، والنقبي لصناعة السفن، والنقبي وأبناؤه للصيد البحري، علاوة على عائلة الكعلي صاحب شركة بورتو فارينا وعائلة مديمغ صاحب مجمع مديمغ (مجمع المتوسط تربية الأحياء المائية)، والذي يتضمّن 9 شركات متخصّصة في تربية الأسماك ومحاضن البيض وغذاء الأحياء المائية، إلى جانب إنتاج منتجات البوليسترين والمعدّات البحرية وتربية الأسماك بمختلف مراحلها والبيع المباشر لهذا المنتج الذي يتمّ تصديره إلى أكثر من 13 دولة في 4 قارّات وهي أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية. فضلا عن عائلة عز الدين السويسي صاحب شركة الحنشية لأعلاف الأسماك وشركة أسماك الحنشية.

يقول تاجر بيع الأسماك صدّام الوحيشي لموقع الكتيبة إنّه “في بعض الأوقات عندما تنخفض الكميات المتوفّرة من أسماك البحر يزداد الطلب على أسماك التربية من قبل تجّار الجملة والتفصيل وحتى المواطنين، ويستغلّ المزوّدون هذه العوامل للترفيع في الأسعار، وأنا بدوري كتاجر مُجبر على شراء أسماك المزارع مهما بلغ سعرها خصوصا أنّني أتعامل مع عدد كبير من المطاعم والنزل وحرفاء قارّين وخسارتهم ليست من مصلحتي حيث تضرّ بعملي”.

و يردف الوحيشي بالقول:

“قطاع تربية الأسماك قطاع مربح جدّا ولذلك يقبل عليه المستثمرون لكن أغلبهم يختارون التصدير لأنه مصدر ربح كبير مقارنة بالأرباح في تونس، وحقيقة اليوم أصبحنا نعيش علاقة استفزازية بين التجار وبعض من أصحاب شركات تربية الأسماك إذ تفرض عليك في بعض الأحيان أسعارا مشطّة وإلاّ يهدّد أصحابها بتوجيه كلّ منتوجاتها للتصدير وهذه الظاهرة طالت كلّ القطاعات وكلّ المجالات “.

وعن الأشكال الأخرى من تجاوزات بعض الفاعلين في قطاع تربية الأسماك، يبيّن الوحيشي أنّ “هناك ظاهرة مخالفة للقانون تسمّى “تكسير السوق” وتتمثّل في ضرب الأسعار المتداولة والمتعارف عليها حيث يقوم مزوّد تابع لشركة تربية أسماك بالتخفيض في الأسعار على حساب تجّار آخرين وهو ما يكبّدنا خسائر كبيرة أوّلها خسارة حرفائنا وخسارة بضاعتنا”.

وتعليقا على ظاهرة الاحتكار، يشدّد الوحيشي على أنّه “في حالات عدم توفّر الأسماك البحرية أو المربّاة في السوق تنتشر ظاهرة الاحتكار والمضاربة في الأسعار والكلّ يدرك جيدّا أن الوسطاء أو ما يعرف بالقشّارة هم من أوّل عوامل ارتفاع أسعار الأسماك”.

من جهة أخرى، و بخصوص حالات الغشّ في سوق الأسماك، يبرز صدّام الوحيشي أنّ “المواطن البسيط هو الحلقة الأضعف إذ يجبره ارتفاع الأسعار على اقتناء السمك الأزرق فقط “السردينة” وتتعدّد حالات الغشّ في بعض الأسواق المركزيّة أو حتّى محلّات بيع الأسماك وذلك من خلال بيع أسماك المزارع على أنّها أسماك بحر”.

على الرّغم من تعاقب الوزراء على سلطة الإشراف في هذا القطاع في السنوات التي تلت الثورة في تونس سواء قبل أو بعد 25 جويلية 2021، فإنّ غياب الشفافيّة وسوء الحوكمة ومظاهر التظلّم والاحتجاج مازالت تكتنف ملف نشاط تربية الأسماك في وزارة الفلاحة التونسيّة.

لم يترك زهير بن محمود، وهو صاحب شركة تصدير وتوريد منتجات البحر منذ سنة 1988، بابا إلّا وطرقه من أجل الحصول على رخصة لمواصلة عمله في نفس المجال بعد أن كان يحقّق أرقام معاملات تجاوزت المليون دينار سنة 2018، لكن رغم محاولاته الحثيثة لم يجد تجاوبا مع سلطة الإشراف رغم توفّر كل الشروط في ملفّه والذي تسنّى للكتيبة الإطلاع عليه.

يقول بن محمود في حديثه مع موقع الكتيبة إنّه “فكّر سابقا في الاستثمار في قطاع التربية مع شريك من دولة الصين وتمّ إنجاز الخطوات الأولى من خلال تأسيس شركة لتربية اليرقات في المياه العذبة بهدف تصديرها بعد 6 أشهر من التربية بكمّية تقارب 4000 طن”، موضّحا “أنّه تعذّرت عليه المواصلة في إنجاز المشروع وانتقلت الشركة الصينية للاستثمار في نفس المشروع في دولة الجزائر وذلك بسبب التعطيلات من الإدارات المشرفة على هذا القطاع”.

ويؤكد المصدر ذاته أنّ “السبب الرئيسي وراء تعطّل المشروع هو أشخاص نافذون في الصيد البحري لا يسمحون إلّا لمن يكون من العائلة أو الأقارب بالاستثمار في قطاع تربية الأسماك أو التصدير”، وفق تصريحاته.

أصحاب المزارع يبحثون عن الرّبح وبالنسبة إليهم التصدير هو الوسيلة الأسهل والأفضل لجني أرباح حيث لا يهمّهم حال المواطن البسيط. وفي المجمل كل الأرباح بالعملة الصعبة تعود لهم وللدّولة التونسية .

زهير بن محمود

ويضيف بن محمود بالقول إنّ “هناك لوبيّات تسيطر على قطاع تربية وتصدير منتجات البحر تتسبّبت في خسائر طائلة لعديد المستثمرين من خلال تكوين وفاق فيما بينهم لضرب كلّ الشركات التي تنافسهم وأنا من ضحايا هذه العصابات”، وفقا لما جاء على لسانه.

ويردف زهير بن محمود قائلا: ” إلى حدود سنة 2018، كنت أشحن منتجاتي إلى آخر نقطة في العالم دون أيّ تعطيل، لكن اليوم أصبحت مستهدفا من قبل هذه اللوبيات النافذة والمحميّة من قبل مسؤولين في سلطة الإشراف والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. ولست الوحيد المستهدف من قبل هؤلاء، فهم يعرقلون كلّ من يريد دخول المجال الذي يسيطرون عليه ويعتبرونه حكرا عليهم”، على حدّ تعبيره.

وقد دعا محدثّنا إلى إيجاد حلّ جذري لما وصفها بـ”العصابات التي توغّلت في القطاع وسيطرت عليه وتسبّبت في تحطيم عديد المستثمرين الشبّان”، معتبرا أنّ “هناك أشخاصا دون غيرهم سيطروا على القطاع دون رقيب أو حسيب يقومون بتكوين وفاقات لضرب شركات ناشئة أو قديمة في المجال وأنّ ما حصل معه أبرز مثال على ذلك”.

في علاقة بظاهرة المضاربة والاحتكار، يقول نوفل مملوك، وكيل شركة سوتيكو لتربية القوقعيات البحريّة بغار الملح، إنّ “الصعوبات تبدأ من الإجراءات الإدارية وتتفاقم بسبب اللوبيات التي تتحكّم في الاستيراد والتصدير وفي القطاع بصفة عامّة”.

ويوضّح مملوك أنّ “هدف هذه اللوبيات هو السيطرة على القطاع بمفردها إذ أنها تريد أن تنشط وحدها في المجال”، مبرزا “أنّهم يتدخّلون حتّى في تعطيل إجراءات منح الرخص بفضل نفوذهم وعلاقاتهم صلب الهياكل العمومية المشرفة على القطاع”، وفقا لما جاء على لسانه.

ويضيف قائلا: “يستعملون كلّ الوسائل لتحطيم أيّ مستثمر قديم أو جديد يدخل في منافسة معهم، وأنا أحد المتضرّرين من ذلك”.

ردّا على سؤال حول فرضية التلاعب بأرقام معاملات بعض الشركات النافذة بهدف التهرّب الضريبي رغم المرابيح الظاهرة للعيان، يقول مملوك إنّ “هذا القطاع تشوبه عديد التجاوزات إذ تصرّح أغلب الشركات بخسائر دائمة وعدم تسجيل أرباح بسبب كثرة نفوق الأسماك والكلفة الكبيرة التي يتحمّلونها وسوء الطقس. لكنّهم في المقابل يواصلون سيطرتهم على القطاع وتطوير استثماراتهم فيه، ويلجأون إلى إدراج شركاتهم ضمن مجامع شركات تابعة لهم وينفقون أموالا طائلة لمواصلة الاستثمار في هذا القطاع وهو ما يشي بأمر غير طبيعي”.

يبيّن المتحدّث ذاته أنّه عندما دخل مجال التصدير بعد نشاط التربية واجه في فترة محدّدة “أزمة نقص في منتجات البحر خصوصا المحار وبلح البحر”، مشيرا إلى أنّ شركته “كانت من أوّل الشركات التي أنتجت كمّيات مهمّة حينها”.

ويضيف قائلا إنّ “بعض الشركات النافذة اقترحت عليه أن يسلّمهم منتوجاته ويبيعها لهم بالسعر الذي يحدّدونه هم حتّى إذا كان ذلك لا يناسبه، ليتولّوا هم تصديرها فيما بعد لحرفائهم ويكتفي هو بنشاط التربية فقط”.

“قاموا بتهديدي،ومنذ أن رفضت أصبحت عدوّا بالنسبة إليهم”.

نوفل مملوك صاحب شركة صغيرة

كما يضيف نفس المتحدّث بالقول إنّهم “يقومون بتعطيل كلّ مستثمر صغير ولا يسمحون له باستيراد السّلع من خلال التدخّل حتّى في الإجراءات الديوانية وفي بعض الأحيان يخسر هذا المستثمر سلعه التي من المفروض أن تصل على قيد الحياة ولكن بسبب هذه التعطيلات تموت المنتجات البحرية وبالتالي شحنة كاملة تذهب في مهبّ الريح.”

ويواصل ذات المتحدّث قائلا:

“في بعض الأحيان تتغيّر طريقة التعطيل حيث ترتفع المعاليم الديوانية فجأة ودون مبرّر ووهو ما يضطرنا لدفعها من أجل تجنّب خسارة أكبر. نحن لا نستطيع أن نبيع بالأسعار التي يبيعون بها منتجاتهم والنتيجة في النهاية هي تكبّد الخسائر مرّة تلو الأخرى حيث يدفعون بنا نحو الاستسلام لهم أو إعلان الافلاس”.

يصف مملوك أصحاب هذه الشركات بـ”اللوبيات التي تدفعك إلى الشعور بالخوف من الاقتراب منهم ومن مجالهم لأنك في النهاية ستكون الطرف الخاسر وستخسر معركتك معهم بفضل نفوذهم وعلاقاتهم”.

أمّا بخصوص كلفة إنتاج كيلوغرام واحد من سمك “الوراطة” في مزراع التربية، يوضّح نوفل مملوك “أنّها لا تتجاوز 16.5 دينار على أقصى تقدير”، وفق قوله.

من المهم أن نشير في هذا السياق إلى أنّ سعر التصدير المرجعي في السنوات الاخيرة كما ذكرنا سابقا، لم يتجاوز بدوره سعر 16 دينارا (15 دينار في بعض الأحيان) بالنسبة للكغ الواحد وهو ما يعزّز فرضية أنّ تكون الكلفة أقل ممّا يرشح عن تصريحات رسميّة من قبل عدد من الفاعلين في القطاع الذين يتحدّثون عن كلفة تقدّر بـمبلغ يترواح بين 19 و 21 دينارا تونسيّا.

يعتبر رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي في حواره مع موقع الكتيبة أنّه “يتعيّن على الدولة التونسية مراقبة هيكلة السعر في قطاع تربية الأسماك”، داعيا إلى ضرورة التقليل من الوسطاء والمراحل التي يمرّ بها المنتوج مع تسقيف السّعر، فكل قطاع مربح يكثر فيه الوسطاء وبالتالي يكبر فيه هامش الربح”، وفق تعبيره.

وعن هيمنة بعض كبار المستثمرين على السوق، يبيّن المتحدّث ذاته أنّ “ظاهرة الهيمنة تظهر من خلال تحكّم بعض الأسماء في قطاع بأكمله، حيث تحدّد هذه الأسماء تكلفة المنتوج وسعره ومسالك توزيعه وبالتالي تتحكّم في مراحل ومفاصل الإنتاج والتسويق وهنا نتحدّث عن الاحتكار في السوق وفي منتوج محدّد وفي وقت محدّد وبسعر محدّد”.

“إذا سيطرت الدولة على هيكلة السعر لا يمكن أن يتحكّم أي مُنتج أو تاجر في السعر خصوصا عند نقص المنتوج في أوقات محدّدة”

لطفي الرياحي رئيس منظمة إرشاد المستهلك

من جهة أخرى، يرى الرياحي أن “الدولة إذا تركت رؤوس الأموال وأصحاب بعض الشركات يتحكّمون في قطاع أسماك التربية من خلال التحكّم في الإنتاج والعلف والتوزيع والتصدير والبيع، فمن الطبيعي أن نرصد هيمنتهم عليه ولن يستطيع أي أحد إفتكاك هذه الهيمنة منهم أو إرجاعهم إلى حجمهم الطبيعي بل يصبحون من خلال هذه الهيمنة خطرا على الاقتصاد والمواطن والدولة”، وفق تقديره.

التأثيرات البيئيّة والصحيّة: الوجه الخفّي في قطاع مسكوت عنه

تفيد دراسة نشرت باللغة الأنقليزية على موقع “Researchgate” تحت عنوان “تحليل عن طريق الاستبيان، للتفاعل بين تربية الأحياء المائية البحرية والتنوع البيولوجي البحري في خليج المنستير”، أنّ المنطقة الرئيسية لإنتاج تربية الأحياء المائية تقع في محافظات سوسة والمنستير والمهدية ونابل، وكلّها في شرق البلاد.

وفي خليج المنستير، شهد قطاع تربية الأحياء المائية نقطة تحوّل اعتبارا من عام 2008، مع إنشاء سبع مزارع بحرّية تغطّي مساحة بحريّة إجمالية تبلغ حوالي 70 ألف هكتار. اعتبارًا من ذلك التاريخ، أصبح خليج المنستير أهم منطقة إنتاج لتربية الأحياء المائية البحرية، حيث تقوم جميع المزارع بتربية سمك القاروص (Dicentrarchus labrax) والوراطة (Sparus aurata).

وقد تمّت خلال مراحل إنجاز هذه الدراسة مقابلة ثمانية وسبعين صيادًا في ديسمبر2016  في ثلاثة موانئ: المنستير، وصيادة، وطبلبة. اشتكى حوالي 77٪ منهم من انهيار مخزونات الأسماك وجودة المصيد. كما أفاد 30٪ من الصيادين الذين شملهم الاستطلاع، أن أنواع الأسماك والمحار التي أصبحت أكثر وفرة، منذ إنشاء الأقفاص، هي Mugil cephalus (البوري) وOctopus vulgaris (الأخطبوط الشائع) وSardinella aurita (السردين الذهبي)، ما يعني على النقيض من ذلك حصول تراجع بالنسبة لأنواع أخرى من الأسماك التي يحبذّ صيدها نتيجة تأثيرات بيئيّة بحريّة.

كما تمّ الإبلاغ عن جذب السلاحف البحرية والدلافين من قبل أكثر من 15٪ من الصيادين. إضافة إلى الإبلاغ عن تلف شباك الصيد والافتراس من قبل الدلافين من قبل 31٪ من الصيادين المستجوبين.

و قد خلصت الدراسة إلى ضرورة تطوير استراتيجية لتربية الأحياء المائية البحرية بشكل صديق للبيئة من أجل الحدّ من الأضرار الأيكولوجيّة لهذا القطاع.

جدير بالذكر أنّه تمّ إجراء العديد من الدراسات لتقييم تأثيرات تربية الأحياء المائية على البيئة، لا سيّما جودة المياه وتأثيرات الاضطراب على المجتمع القاعي حيث يمكن أن تعود تأثيرات هذه الأنشطة على المحيط إلى النفايات الصلبة (المواد البرازية وفقدان الأعلاف) من تربية الأسماك البحرية، وإدخال الأنواع الغريبة، والتفاعلات الجينية، ونقل الأمراض، وإطلاق المواد الكيميائية، واستخدام الموارد البرّية.

كما أنّ التأثيرات الثانوية المتعلّقة بتربية الأحياء المائية هي مسائل ذات أهمية وأولويّة، ولكن القليل جدًا من الدراسات في تونس تناولت هذه المشكلة، وفق الدراسة المذكورة آنفا.

وخلُصت ذات الدراسة إلى أنّ المشاكل الرئيسية التي تواجه نشاط الصيد الساحلي،وفق ما أكدّه الصيّادون، هي التلوث الناجم عن المزارع (الأكياس البلاستيكية التي تُلقى في البحر بعد التغذية والزيوت المستخدمة في تربية الأحياء المائية)، وتقييد المساحة المخصصة للصيد وتلف شباك الصيد الناجم عن الدلافين.

ووفق الدراسة ذاتها، تُعرف منشآت تربية الأحياء المائية البحرية بتأثيرها أيضا على سلوك الأسماك البريّة ( يعني الأسماك التي تصطاد من بيئاتها الطبيعيّة مثل المحيطات والأنهار) حيث تتجمّع حول الأقفاص للاستفادة من تصريفات الطعام والمواد البرازية. بالإضافة إلى التأثيرات على النظام البيئي من خلال تجمّع الأسماك البرية بالقرب من الأقفاص، كما تؤثر على بيولوجيا وفيزيولوجيا الأسماك البريّة.

تفاعل أنواع الأسماك البريّة مع المزارع يقلل من معدّل بقائها على قيد الحياة، ويشكّل التلوث المحتمل الناتج عن أنشطة تربية الأحياء المائية في البحر، خطرًا ليس فقط على مجموعات الأسماك البريّة، ولكن أيضًا على الإنسان”

مقتطف من الدراسة

في وثيقة تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منها، قام عدد من ممثلي جمعيات تنشط في الحماية والمحافظة على البيئة والمحيط ونشطاء من المجتمع المدني بتوجيه رسالة إلى والي المهدية بتاريخ يوم 11 نوفمبر 2023، طالبوا فيها بـ”عدم تجديد رخصة لفائدة الشركة المنتصبة على الساحل البحري لولاية المهدية والتي تتعاطى نشاط تسمين أسماك التن الأحمر وأي شركة تنشط في مجال التربية والتسمين”.

وأرجعوا ذلك إلى ما تسبّبه هذه “الأنشطة من تأثيرات هدّامة للمنظومة الحيّة والتنوع البيولوجي، خصوصا أنّ هذه الأقفاص منتصبة لسنوات دون راحة بيولوجية وساهمت في تصحّر البحر جرّاء الفضلات المركّزة في المكان”.

وذكّر النشطاء في نفس الرسالة بأنّ هناك قضيّة مرفوعة من طرف بلدية قصور الساف وجمعية صيانة المدينة ضد الشركة المشار إليها جرّاء التلوّث.

كما حذّر النشطاء من هذه المشاريع و”ما تسبّبه من انعكاسات على البيئة والمحيط والإنسان”، مشدّدين على “أهميّة البحر والشاطئ بالنسبة لأهالي المنطقة باعتباره مورد رزق لآلاف المواطنين الذين يمارسون الفلاحة البحرية أو الخدمات السياحية”.

وندّدوا بـ”غياب الرقابة على هذه الأنشطة”، مؤكدّين أنّهم “لن يتخلّوا عن حقّهم في العيش في بيئة سليمة وشاطئ نظيف وبحر خال من الشوائب، خاصّة أنّ بحر المهدية اليوم يعاني بسبب مياه الصرف الصحّي والملوّثات الناتجة عن مشاريع تربية الأحياء المائية التي لم تقتصر على عشعشة التونة فقط بل تمارس أيضا نشاط تربية الوراطة والقاروص”، وفق ما جاء في نفس الرسالة الموجّهة لوالي المهدية.

في هذا الإطار المتعلّق بالمنافسة اللاّمتكافئة مع صغار البحارة وإشكاليات التلّوث البحري، قالت رئيسة دائرة الصيد البحري وتربية الأسماك بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بسوسة سنية النصراوي في تصريح لها على هامش مشاركتها في ديسمبر 2020 في ندوة حول ” تربية الأحياء المائية”، إنّ ” برنامجا دائما للمتابعة والمراقبة يجري تنفيذه بالتعاون بين وزارة البيئة ووزارة الفلاحة للحدّ من التأثيرات السلبيّة على المحيط البيئي البحري التي تحدثها شركات تربية الأحياء المائية”، دون تقديم تفاصيل أخرى.

بعيدا عن هذا الضرر البيئي المذكور آنفا، كتبت الباحثة في تكنولوجيا الغذاء والصناعات الغذائية يارا حسين مقالا ذكرت فيه أنّ “أسماك المزارع تتميّز بمحتوى عال من الدهون مقارنة بالأسماك البرّية، فوفقاً لدراسة كندية، يحتوي السلمون المستزرع على ثلاثة أضعاف الدهون الموجودة في ذلك البرّي، وهذا يعني زيادة في السعرات الحرارية للسلمون المستزرع مقارنةً بالسلمون البري”.

و”يحتوي نصف فيليه من السلمون المربّى على 412 سعرة حرارية مقابل 281 سعرة حراريّة في نظيرها البرّي، أي بزيادة تقارب 38% من السعرات الحرارية، وفقا لمعلومات نشرتها وزارة الزراعة الأمريكية.

أمّا بالنسبة لتركيب الأحماض الدهنية، فقد أظهرت دراسة نشرت في مجلة “Research Environmental”، أنّ تركيز العناصر المعدنية الأساسية المغنيسيوم، البوتاسيوم، الكالسيوم، الحديد، السيلينيوم والنحاس والزنك أعلى في السلمون البرّي منها في السلمون المستزرع وهذا ينطبق على أنواع الأسماك الأخرى، وفق نفس المقال المشار إليه سابقا لصاحبته يارا حسين.

وعن الملوّثات العضويّة في الأسماك المستزرعة، فسّرت نفس الباحثة “أنّ الأسماك المستزرعة تحتوي على نسب أعلى من الملوّثات العضويّة، مثل مركّبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs)، الديوكسين، والمضادات الحيوية مقارنة بالسلمون البري، وهي مركبات سامة تضرّ بالجهاز المناعي ويمكن أن تسبّب مشاكل إنجابية، كما يمكن أن تسبّب السرطان لدى البشر وفقاً لمنظمة الصّحة العالمية”.

بدورها، تقول أخصائية التغذية التونسيّة أميرة دغمان في حوارها مع موقع الكتيبة إنّ “القيمة الغذائية لأسماك البحر وأسماك التربية لا تختلف كثيرا على مستوى المعادن والفيتامينات على غرار الفيتامين د والماغنسيوم، ولكن يظهر الفرق على مستوى الدهون حيث تحتوي أسماك التربية على كمّيات كبيرة من الدهون ويظهر ذلك حتى خلال مرحلة الطّهي أين تفرز أسماك التربية دهونا أكثر بكثير مقارنة بأسماك البحر ولذلك ننصح باستهلاك أسماك البحر أفضل من أسماك التربية”.

وتضيف دغمان قائلة “إنّه حتى على مستوى الحجم يمكن تفريق أسماك التربية على أسماك البحر إذ تظهر أسماك التربية أكبر حجما من تلك التي تأتي من البحر على غرار الوراطة والقاروص”.

وحول مخاطر استهلاك أسماك التربية، تبيّن المتحدّثة ذاتها أنّ “هناك بعض المواد الملوّثة مصدرها المياه التي تعيش فيها تلك الأسماك وتتسرّب داخلها، كما أن طريقة التخزين لأسماك التربية تؤثّر على قيمتها الغذائية وتفقدها بعض الفيتامينات”.

وتوضّح ذات المتحدّثة أنّ “أيّ مواد كيميائية أو هرمونات تكون موجودة في النظام الغذائي لأسماك التربية لها آثار خطيرة على صحّة الإنسان حيث لاحظ الخبراء خلال السنوات الأخيرة ظهور أمراض عديد بسبب احتواء الغذاء على بعض المواد الكيميائية والهرمونات المضافة للأسماك أو الدواجن أو حتى الخضر”.

وقد دعت الخبيرة المتخصّصة في التغذية إلى “عدم الإفراط في استهلاك السمك”، مضيفة بالقول ” الإفراط يسبّب أيضا مشاكل صحيّة مثل سرعة تدفّق الدم، ومن الضروري التركيز على طريقة طهي الأسماك التي لها دور في المحافظة على القيمة الغذائية، كما أنّه المحبّذ الابتعاد عن أسماك التربية لما تحتويه من كمّيات كبيرة من الدهون”.

ماذا عن الدور الرقابي للدولة؟

خلال السنوات الماضية، تداول البعض من روّاد بعض المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي آراء وتدوينات انتشرت على نطاق واسع تشكّك في جودة الأعلاف المستعملة في منتجات تربية الأحياء المائية. بعض من هذه التدوينات كتبها أشخاص مهنيّون في القطاع ممّا دفع وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري في تونس إلى نشر بيان أدانت فيه ما أسمته “الحملة المشبوهة” التي قالت إنّها “شنّت لتشويه جودة الأعلاف وقطاع تربية الأسماك عموما”، مطمئنة المستهلكين بخصوص “جودة المنتوج وسلامة الأعلاف المستعملة”، وفق المصدر ذاته.

وأكّدت الوزارة في ذات البيان أنّ “مصالح المراقبة البيطرية التابعة لها تقوم بالمتابعة اللصيقة لكافّة مراحل إنتاج الأسماك المربّاة ومراقبة جودة الأعلاف سواء منها المورّدة أو المصنّعة محليّا، ممّا يوفّر الضمانات الكافية لنوعية وسلالة المنتوج ويحمي المستهلك من كل المخاطر الصحّية”. كما تؤكد الوزارة أنّ “هذا المنتوج يخضع لعملية استرسال مدقّقة مما يعطيه امتيازا مقارنة بمنتجات الصيد الطبيعي”.

وحول التأثير السلبي على السلامة الصحيّة الحيوانية أو على صحّة المستهلك، أكّدت وزارة الفلاحة أنّ “الأعلاف الموجّهة لتربية الأسماك والاتّجار فيها تخضع إلى جملة من التراتيب والضوابط التي من شأنها أن تضمن النموّ الفعّال للأسماك المربّاة دون أن يكون لها أي انعكاسات صحّية على الأسماك والإنسان”، بحسب نفس البيان التوضيحي.

ينشر المركز الفني لتربية الأحياء المائية تقريرا سنويّا يتضمّن تحاليل واختبارات المقارنة لعيّنات من أسماك التربية التي يتمّ إنتاجها في المزارع الممضية على اتفاقيات شراكة مع المركز. وقد جاء في تقرير سنة 2019 أنّه تمّ إنجاز 41 تحليلا في مخابر فرع ولاية المنستير. وقد خصّصت هذه التحاليل لمعاينة 1488 عيّنة من أسماك القاروص والوراطة التابعة لـ 6 شركات لتربية الأسماك البحرية.

في نفس السنة ( 2019)، أنجز مخبر متابعة الأمراض الفيروسية خلال شهر مارس دورات تدريبية للكشف عن مرض “NODVIRUS” عند أسماك القاروص وقد كشف تحليل تمّ لـ 3 عيّنات إصابتها جميعا بهذا الفيروس، وفق المصدر ذاته.

وخلال زيارات ميدانيّة أدّاها المركز لشركات تربية الأسماك الممضية على اتفاقيات معه في نفس السنة، تمّ تسجيل ارتفاع في نسب نفوق أسماك القاروص في مزارع تربية الأسماك البحرية حيث تجاوزت نسبة نفوق الأسماك الـ 40% في بعض الشركات. وقد قام المركز بالتدخّلات اللازمة على عين المكان بمواقع التربية ومخابر التحاليل لتفادي هذه المشاكل البيئية والصّحية والتقليص من نسب النفوق، وفق نفس التقرير.

وفسّر التقرير أنّ هذا “الارتفاع في نسبة نفوق الأسماك يعود إلى عدّة عوامل أهمّها مسألة جودة الأعلاف والاصبعيات المستزرعة ونقص الرقابة اللصيقة لمياه مواقع التربية والحالة الصحّية للأسماك والاستعمال المفرط للمضادات الحيويّة في بعض الأحيان ممّا أدّى إلى ظهور ما يسمّى بـ Bio resistance في بعض مواقع التربية وهذا ما أثّر سلبا على مخزون الأسماك المربّاة وجودتها”.

مع العلم أنّه من خلال بحثنا في تقارير 2021 ،2022، و 2023 عن نتائج نشاط هذه المخابر لم تتوفّر فيها سوى الاختبارات دون عرض للنتائج وهو ما يطرح تساؤلات جدّية حول أسباب حجبها.

قانونيّا، يتبع قطاع تربية الأحياء المائية قطاع الصيد البحري ويتبع المصائد الثابتة. ويُعتبر الاستثمار في قطاع الفلاحة والصيد والخدمات المرتبطة بهما حرّا، شريطة الامتثال للتشريعات واللوائح المعمول بها.

وقد وضعت تونس العديد من الأدوات لتحفيز وتشجيع الاستثمارات، بالإضافة إلى آليّات لتشجيع الصادرات في هذا القطاع.

يفيد التقرير السنوي لسنة 2023 لوزارة الفلاحة والصيد البحري و الموارد المائية أنّه تمّ “تسجيل خسائر نتيجة انتشار الأمراض على مستوى مزارع تربية الأسماك وكذلك نتيجة التقلّبات الجوية ونفوق الأسماك أو هروب عدد كبير منها ذات أحجام تسويقية. فضلا عن ارتفاع تكلفة الإنتاج في ظلّ الاعتماد شبه الكلّي على توريد المدخلات من الأعلاف ومن فراخ الأسماك مقابل استقرار في سعر البيع”.

وجاء في نفس التقرير أنّ “مردودية المشاريع تراجعت ولم تعد قادرة على بلوغ طاقة الإنتاج القصوى ممّا أدّى إلى توقّف عدّة مشاريع لتربية الأسماك عن النشاط،.إضافة إلى غياب التصنيف الصحّي لمواقـع التربية الذي يحول دون ترويج المنتوج خاصة على مستوى الأسواق الخارجيّة”.

وحسب المخطط التنموي لقطاع الصيد البحري لسنة 2023 – 2025 فقد شهد القطاع “هشاشة في الثروة السمكية نتيجة الاستغلال المفرط والصيد العشوائي والتلوّث والتغيرات المناخية. كما أثّرعدم خلاص الأداءات والمعاليم الموظفة على الإنتاج لفائدة بعض المؤسسات على جودة خدماتها. وأضرّ اكتظاظ وحدات تربية الأسماك في بعض المناطق بالوضع البيئي والمصائد التقليدية”.

وفيما يخصّ استراتيجية وزارة الفلاحة في قطاع تربية الأحياء المائية لسنة 2035، تعهّدت الوزارة بإعداد “تشريع خاص ينظّم ممارسة نشاط تربية الأحياء المائية من خلال وضع مجلة لتربية الأحياء المائية، وإنجاز دراسة لتحديد مناطق خاصّة لتربية الأحياء المائية بالبحر واليابسة. إضافة إلى مراجعة الامتيازات المالية والجبائية المسندة لفائدة الناشطين في القطاع حسب منظومات الإنتاج وتعميم العمل بالقرار الخاصّ بالمصادقة الصحيّة الحيوانية لشركات تربية الأحياء المائية قصد تحسين جودة المنتوج وضمان سلامته الغذائية والصحيّة وتيسير التصدير لبلدان الاتحاد الأوروبي والأسواق الواعدة”.

كما تعهّدت الوزارة كذلك بإرساء “منظومة وطنيّة لمراقبة أمراض الأحياء المائية الخاضعة للتراتيب وفقا لمعايير المنظمة العالمية للصحة الحيوانيّة”.

يشدّد رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي على “أهميّة الدور الرقابي الذي من واجب الدولة أن تعيره اهتماما أكبر من خلال تشديد الرقابة الدورية والفجئية على مزارع تربية الأسماك خصوصا على مستوى النظام الغذائي الذي تعتمده لتربية الأسماك على غرار إضافة المضادّات الحيوية والبروتينات والهرمونات طيلة فترة التربية وإتّخاذ الإجراءات الصارمة في حق كل مخالف”.

ويوضّح نفس المتحدّث أنّ “كلّ منتوج يتدخّل الإنسان في مراحل إنتاجه خاصّة تربية اللحوم والأسماك يجب على أجهزة الرقابة أن تكون جدّية أكثر في متابعته، لأنّها الضامن الوحيد لسلامة المواطن من أي أمراض تكون نتيجة لبعض الإضافات أو التدخلات البشرية على ذلك المنتوج”، وفق قوله.

ويختم بالقول إنّ “الدولة مطالبة أيضا بمراقبة التجاوزات البيئية الناتجة عن نشاط تربية الأسماك والتي أضرّت بالثروة البحرية والأيكولوجيّة”.

في ردّ على مطلب نفاذ إلى المعلومة كان قد توجه به موقع الكتيبة، تقول وزارة الفلاحة والصيد البحري في تونس إنّها “على إثر إسناد تراخيص الأشغال وانطلاق المشاريع حيز النشاط تقوم مصالح الادارة العامّة للصيد البحري وتربية الأسماك (المركزية والجهوية) بزيارات ميدانية إلى مواقع المشاريع بهدف الوقوف على مدى التزام المستثمر بشروط الاستغلال وتحرير مخالفات في الغرض إن وجدت”.

كما تشدّد الوزارة، في نفس الردّ، على أنّ القول بأنّ “مزارع تربية الأسماك تتسبّب في أضرار بيئية على مستوى الشريط الساحلي يفترض تقديم حجج مبنية على معلومات وتقارير علمية حيث وردت على الوزارة سابقا تشكيّات صادرة عن ممثلين من المجتمع المدني دون الاستناد على مصادر علميّة في الغرض وهو ما يتسبب في مغالطات من شأنها أن تمسّ من ديمومة هذا النشاط الذي يلعب دورا هاما في تخفيف الضغط المسلط على المخزونات السمكية الطبيعيّة وتحقيق الأمن الغذائي ببلادنا، إذ يوفر نشاط تربية الأسماك مصادر بروتينية حيوانية بأسعار مقبولة في ظل ارتفاع أسعار منتوجات الصيد البحري واللحوم الحمراء”، وفق المصدر ذاته.

في الحقيقة، ما جاء في ردّ وزارة الفلاحة حول “عدم وجود دراسات علميّة تخص القطاع والأسعار المقبولة لأسماك التربية” لا يتوافق مع ما ضمّناه في التحقيق من دراسات محليّة ودوليّة تثبت عكس ذلك، فضلا عمّا تمّت معاينته على أرض الواقع.

جدير بالإشارة أنّه على الرغم من المراسلات والاتصالات المتكرّرة التي قمنا بها لمكتب الاتصال والإعلام بالوزارة من أجل طلب إجراء مقابلة صحفيّة حول هذا الموضوع مع الوزير أو من يمثله في علاقة بهذا الملف إلاّ أنّنا لم نتلق أي ردّ رسمي.

كلمة الكتيبة:

ينبش هذا التحقيق الاستقصائي المعزّز بالبيانات في قطاع غامض في تونس على الرغم من أهميته الاقتصاديّة وخاصة الاجتماعيّة والغذائيّة. وهو يندرج ضمن سلسلة تحقيقات معمّقة لموقع الكتيبة تُنجز تباعا حول قطاع الصيد البحري.

كلمة الكتيبة:
ينبش هذا التحقيق الاستقصائي المعزّز بالبيانات في قطاع غامض في تونس على الرغم من أهميته الاقتصاديّة وخاصة الاجتماعيّة والغذائيّة. وهو يندرج ضمن سلسلة تحقيقات معمّقة لموقع الكتيبة تُنجز تباعا حول قطاع الصيد البحري.

الكاتب : سماح غرسلي

صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستير صحافة استقصائية بجامعة منوبة

اشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
مونتاج: محمد علي منصالي
تصوير: سامي الشويخ
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
غرافيك : منال بن رجب
تصوير: سامي الشويخ
تطوير تقني: بلال الشارني
اشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
مونتاج: محمد علي منصالي

الكاتب : سماح غرسلي

صحفية ومقدمة برامج اذاعية, طالبة ماجستير صحافة استقصائية بجامعة منوبة

sameh