من تُونس إلى فلسطين: قصّة شغف بقضّية عابرة للأجيال والحدود

بين تونس وفلسطين، قصّة شغف تجاوزت كلّ القُيود والمتاريس. إنّها حكاية قضيّة وحُلم وتوريث نرويها في مختلف تفاصيلها التاريخيّة من زمن النكبة إلى لحظة قافلة الصّمود التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وألهمت العالم المُناصر للحقّ الفلسطيني.

الكاتب : فطين حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

لم تكن القضيّة الفلسطينيّة لدى التونسيين خبرا تُفتتح به نشرات الأنباء العربية، أو حبرا مطروحا في بيانات التضامن الرسمي والشعبي، أو هي حالة عاطفيّة يفرضها سؤال “وين الملايين؟” عند كلّ نكبة أو نكسة أو هزيمة أو حرب، وما يحمله قاموس التصعيد العاطفي العربي من مسالك متشعّبة في بناء المُحفزات والانتصارات الوهميّة.

لقد ظلّت قضيّة مركزيّة تحرّك السواكن، فالمسار التعبوي للشارع التونسي الاحتجاجي يعتمد كثيرا على الحُجّة الإنسانيّة التي ترى أنّ فلسطين دراما من النزيف المُستمرّ لما يزيد عن سبعين عاما، ولا يجد سوى حناجره لإبلاغ صوته إلى بنادق الجيوش العربيّة الصامتة منذ حرب 1973، كما بقي هذا الشارع مثل شقيقه العربي جزءا من توضيب مشهد “الخوارج”، وإدارة لعبة الصراع الشعبي- الصهيوني لفرملة ما عرف سابقا بالهرولة نحو التطبيع، أو ما يصطلح عليه الآن بشكل ناعم بـ “جسور السلام” عبر اتفاقيات أبراهام أو إبراهيم الجدّ المشترك للعرب واليهود.

الكاتب : فطين حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

لم تكن القضيّة الفلسطينيّة لدى التونسيين خبرا تُفتتح به نشرات الأنباء العربية، أو حبرا مطروحا في بيانات التضامن الرسمي والشعبي، أو هي حالة عاطفيّة يفرضها سؤال “وين الملايين؟” عند كلّ نكبة أو نكسة أو هزيمة أو حرب، وما يحمله قاموس التصعيد العاطفي العربي من مسالك متشعّبة في بناء المُحفزات والانتصارات الوهميّة.

لقد ظلّت قضيّة مركزيّة تحرّك السواكن، فالمسار التعبوي للشارع التونسي الاحتجاجي يعتمد كثيرا على الحُجّة الإنسانيّة التي ترى أنّ فلسطين دراما من النزيف المُستمرّ لما يزيد عن سبعين عاما، ولا يجد سوى حناجره لإبلاغ صوته إلى بنادق الجيوش العربيّة الصامتة منذ حرب 1973، كما بقي هذا الشارع مثل شقيقه العربي جزءا من توضيب مشهد “الخوارج”، وإدارة لعبة الصراع الشعبي- الصهيوني لفرملة ما عرف سابقا بالهرولة نحو التطبيع، أو ما يصطلح عليه الآن بشكل ناعم بـ “جسور السلام” عبر اتفاقيات أبراهام أو إبراهيم الجدّ المشترك للعرب واليهود.

قدّمت تونس الرسميّة والشعبيّة إلى القضيّة الفلسطينيّة قدر ما استطاعت دون مزايدات، ولا تمنين، بواقعيّة تتجاوز فوران الانفعالات السياسيّة أو التشويش متعدّد الاتجاهات عليها، وبإدراك تامّ لحجمها وقدراتها، وفق شهادات الفلسطينيين المنشورة ومذكّرات قادة سياسيين واكبوا مرحلة فلسطين في تونس، حدّ اختيار الصحفي الفلسطيني بكر عويضة كلمات “تونس الفلسطينيّة وفلسطين التونسيّة” عنوانا لعمود رأي بصحيفة الشرق الأوسط.

إنّ ذلك يقود إلى استقراء البنية التاريخيّة والنفسية للقضية الفلسطينيّة في “العقل التونسي”، والبحث في الجهد المستديم للمحافظة عليها في طليعة سوسيولوجيا الأحداث، وصفع الجملة الشهيرة لرئيسة الحكومة الصهيونية السابقة غولدا مائير ” الكبار يموتون والصغار ينسون” في إشارة إلى تجفيف منابع ذاكرة الأجيال أمام سياسة الأمر الواقع.

ينبغي هنا استدعاء جملة من الأسئلة:

ما ملامح وجود تونس في فلسطين وفلسطين في تونس ؟ كيف وزّع التونسيون جهدهم مع الفلسطينيين على عدة محاور منذ انتقال هذا الصراع من المستطيل الجغرافي الصغير في الشرق العربي إلى الدول العربية؟

ما هي أهم مميزّات الحقبة الفلسطينية السياسية في تونس مع استقرار منظمة التحرير الفلسطينية ووصول ثورة “بساط الريح” إلى تونس بعد محطتي الأردن ولبنان؟

إلى أي مدى ينظر التونسيون إلى “هندسة الموت” في القطاع؟  وكيف كان طوفان الدعم المعنوي بعد طوفان الأقصى ؟ 

تاريخ تونسي طويل لإنصاف فلسطين المُؤجّل

في العام 1923، سافر الشيخ العروبي عبد العزيز الثعالبي إلى فلسطين، وانغمس في الهمّ الفلسطيني منذ اللحظة الأولى لصدّ “المؤامرة”، فحين انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي كان من أعمدة منظّميه في بيت المقدس بتاريخ 7 ديسمبر 1931 بحضور أعيان العالم الإسلامي قال وهو يرأس أشغاله: “انعقاد المؤتمر سيكون ضربة قاصمة لظهر الصهيونية، ومعطّلا لنشاطها، لأن أولى غاياته ستكون المحافظة ليس على بقاعها المقدّسة فحسب، بل وعلى كل شبر من أراضيها، وإنجاد الفلسطينيين بكلّ المقومات اللازمة لجهادهم ضدّ كل سطوة استعمارية.

سيكون كلّ عضو من أعضاء المؤتمر لسان صدق في قومه وبلاده ، ينذرهم بالأخطار التي تهدّد الإسلام …وبذلك تكتسب القضيّة الفلسطينية صبغة إسلامية عالميّة، وتصير فلسطين قبلة الأنظار في العالم الإسلامي بأسره “.

اكتشف القائد السياسي التونسي باكرا، أنّ هناك حاجة إلى نسق سياسي جديد داخل “الأمّة” المنحطّة، بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، وتأسيس مساحة مجتمعية تتّسق مع الرقعة الجغراسياسيّة، فالتمركز “السلطوي” بيد فاعل سياسي واحد، أو كيانات سياسيّة ونضالية منفصلة لا يؤدي إلى نتيجة، إنّما يجب البناء من أسفل إلى أعلى في مواجهة المدّ الصهيوني، وتوحيد “البيئة الاستراتيجيّة” المحيطة بفلسطين، وإن فشلت فيما بعد آليّتا اللجنة العربية العليا، ثم الهيئة العربية العليا المشكّلة برئاسة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس في دحر العصابات الصهيونية، بعد إعلان الثورة الفلسطينية الكبرى 1936/1939 بقيادة عبد القادر الحسيني وعزالدين القسام.

أقام الثعالبي بفلسطين لمدة 14 عاما، وأُعتبر من الطليعة السياسيّة والنضاليّة المؤثّرة في تلك الفترة، ومشاركا بارزا في الثورة الفلسطينيّة المُجهضة.

ويشهد مفتي فلسطين أمين الحسيني أنّه “أصبح بفضل علمه الغزير، وجهاده منقطع النظير، رجل المسلمين والعرب لا رجل تونس الخضراء وحدها “، أمّا عز الدين القسّام فيصفه بـ “البطل العربي العظيم الذي شارك معهم في الثورة المسلّحة” ويثني عليه أهل دمشق فيقولون “الثعالبي ربط حركة التحرّر الوطني في أقطار المغرب العربي بحركة التحرر في أقطار المشرق العربي” .

مثّل الثعالبي جزءا من مُنحنيات تاريخية تونسيّة كبيرة في فلسطين حين انطلق من البلاد ” الطاردة ” لأبنائها مثلما قيل عنه، لكن سراديب الذاكرة تحمل أيضا وجودا تونسيا مغاربيا في فلسطين منذ الحروب الصليبية (استمرّت من عامي 1096 إلى 1291 ميلادي)، حين اقتطع القائد صلاح الدين الأيوبي جزءا محيطا بالحرم القدسي من جهته الغربية لبناء “حارة” أو حيّ خاصّ بالمجاهدين الوافدين من “دول” شمال إفريقيا في ذلك الزمن إلى حين تهديمه بعد حرب جوان 1967 وطمس معالمه وتهجير سكّانه، في حين يقف إلى الآن باب المغاربة في القدس شاهدا على امتداد الجسم الجغرافي لجنوب ضفاف المتوسط في فلسطين التاريخية.

يؤكد الديبلوماسي السابق ورئيس الجالية الفلسطينية بتونس سيف الدين الدريني للكتيبة بفخر شديد أنّ العلاقة بين تونس وفلسطين ضاربة في التاريخ بفعل المقدّس والانتماء فـ “منذ بداية الحملات الصليبية كانت فلسطين دائما ما تستقبل المجاهدين من تونس وبلدان المغرب العربي إلى درجة أن بعضهم بقي هناك ليتزوّج ويستقرّ”، بل أنّه تفاجأ في العام 1982 حينما حلّ الفلسطينيون بتونس بعد الخروج من بيروت بـ” عدد كبير من العائلات الفلسطينية التي تعود جذورها إلى تونس ونالوا فيما بعد جنسيتها”.

وتصف راوية بلعاوي التي عاشت مراحل مهمّة من عمرها بتونس وتشغل منصبا ديبلوماسيا بالبعثة الدائمة لفلسطين بالأمم المتحدة بجينيف، فضلا عن كونها كريمة السفير الفلسطيني السابق بتونس حكم بلعاوي هذا التفصيل بأنّه جزء من “عقيدة تونسية لا تتغيّر تجاه فلسطين” وأنّ الجوهر في وقوف تونس إلى جانب فلسطين هو “إجماع المجتمع التونسي بكافة أطيافه على القيم الإنسانية والمبادئ الثابتة”.

ولمّا أطلق مفتي القدس أمين الحسيني في العام 1948 “نداء الاستغاثة الكبير” لكلّ الطيف العربي من أجل فلسطين ومقدّساتها، كان التونسيون المستعمرين من فرنسا في طليعة المتحفزين لقتال العصابات الصهيونية، إذ سافر بعضهم على الأقدام وظهور الدواب وتركوا كل ما وراءهم لبلوغ الهدف المقدس وهي “مفارقة عجيبة وغريبة كرّروها قبل ذلك وهم في وضعية احتلال حين تضامنوا مع الليبيين عند احتلال طرابلس في العام 1911 ومنهم الزعيم الوطني والنقابي محمد علي الحامي”، وفق أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسية عبد الجليل بوقرّة.

ويتابع بوقرّة أنّ “أحد أهم رموز الزيتونة وهو الشيخ محمد الفاضل بن عاشور أشرف شخصيّا على التعبئة العامة للتونسيين للتطوّع بهدف القتال في فلسطين”، ولم تبق جهة تونسية دون وجود بصمة أحد أفرادها في الرحلة نحو الشرق، فمنهم من وصل، وهم بالمئات، ليتوزّعوا على الجبهتين الفلسطينية الداخلية والسورية، ومنهم من عاد على أعقابه قبل الوصول أصلا عند حدوث النكبة، وهو ما تنقله الشهادات الشفوية والمكتوبة لتلك الفترة.

كان ذلك لضرب عصفورين بحجر واحد، فالحزب الحرّ الدستوري الجديد استنادا إلى بوقرّة شجّع وقتها على حركة التطوّع الكبيرة لسببين هما “ضغط القواعد الكبير على الحزب لاعتماد الكفاح المسلّح ضدّ فرنسا، وسحب البساط من الجناح المحافظ في الحزب الحرّ الدستوري القديم، بدفع من رغب في القتال في فلسطين إلى الذهاب للتدرّب على السلاح، والجهاد ضدّ العدو الصهيوني إلى حين العودة لمجابهة العدو الفرنسي”، ومن أبرز هؤلاء قائد جيش التحرير التونسي الأزهر الشرايطي.

جدار إسناد لا يتصدّع

في الجانب المعاكس، كان الفلسطيني محمد علي الطاهر “بحدس عجيب” يحتضن بعد رحلة بحث طويلة من سيكون على رأس الجمهورية إثر أربع عشرة سنة، وهنا ستكون لهذه الشخصيّة تأثيرها الواسع على ما يصفه الرجل بـ “الجرعة الزائدة” في العلاقات التونسية الفلسطينية.

فقد “انتشل” الطاهر في العام 1945 بعد رحلة بحث في القاهرة قائد الحزب الحرّ الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة من “لوكندة مصر” المتواضعة، أين استقرّ في رحلته نحو الشرق لدعم القضية التونسية، نحو فندق “كونتيننتال سافوي” الفخم، لملاقاة شبكة الضيوف التي سيؤمنها له هذا الصحفي الفلسطيني الذي تقاسم معه ما له من مال، ثمّ كمّا مُهمّا من الرسائل المتبادلة في ما بعد، انتهت باستضافات خاصّة ورسميّة له بتونس، وتكريمه بأعلى الأوسمة التونسيّة.

مثّل الطاهر “صندوق البريد” وفق وصف الكاتب محمد مسعود إدريس الذي سينسج بفضله بورقيبة علاقات سياسيّة واسعة مع فاعلين في مصر والمشرق العربي، ويدا إعلامية فلسطينية خلفيّة لحركة التحرّر التونسية الوليدة، وهي مزيّة ظلت تلاحق بورقيبة كـ “الدين الذي لن ينساه” وفق تصريحات له، ومن مصادفات تجميل الألقاب أنّ الطاهر عُرف بين الناس والسياسيين العرب بـ”المجاهد” الذي ربط صلة وثيقة بـ”المجاهد الأكبر” وهي الصفة الرسميّة المحبّبة إلى قلب الرئيس التونسي.

تتالى السنوات ليعود بورقيبة وقد استقلّت تونس في جولة مشرقية في ربيع العام 1965، ومنها يفجّر في خطاب له بأريحا “قنبلة” دعوة العرب إلى القبول بالقرار 181 للأمم المتّحدة الخاص بالتقسيم، ومناورة لعبة الكبار عبر ما سمّاه بـ” فهم نفسية العدوّ، ومعرفة إمكانياتنا الحقيقية، وتقدير إمكانيات الخصم حتى لا نرتمي في مغامرة أخرى تصيبنا بنكبة ثانية وتعود بنا أشواطا إلى الوراء”.

مثّلت الدعوة البورقيبية إلى خلق مساحة للتفاهم مع القوى الدوليّة، أو ما يعرف في عقيدته النضالية بسياسة المراحل “رجّة” سياسيّة في كل المنطقة العربيّة، وقوبلت على الفور بـ “رشقات” من الطماطم والبيض، ورفض وتخوين في ذروة الانشداد العربي إلى شخصيّة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قبل حرق مقرّ السفارة التونسية في القاهرة، إذ عُدت وفق الديبلوماسي الفلسطيني سيف الدين الدريني “المحطّة الأولى التي استفاق فيها الشارع الفلسطيني على شيء اسمه تونس بالمعنى السياسي”، لكنّ هذا الطرح سيكون فيما بعد عنوانا لعدم التعلّم والمأساة، بعد أن غرق العرب في بحر المعارك الإعلاميّة، ونيران تبادل الاتهامات.

يضيف الدريني في حديثه مع الكتيبة بأسف واضح أنّ “الأنظمة العربية كانت تتنافس في ذلك الوقت فيما بينها وتخوّن بعضها البعض، أمّا المواطن والنخب فقد كانا مضلّلين بالكامل، و خدعهما جهاز الترانزيستور وإذاعة صوت العرب بصوت أحمد سعيد”، إلى حين الاصطدام بمرارة الحقيقة بعد نكسة حرب جوان 1967.

وتنقل وثائق من الأرشيف الوطني البريطاني -المفرج عنها مؤخّرا- مقتطفا من صحيفة الرأي العام الكويتية الصادرة في 4 جويلية 1967 بعد أيام قليلة من الهزيمة النكراء أنه “لمدّة عشرين عاما كُرّست الإذاعات العربية لتدمير سيكولوجية الوحدة العربية. أصبحت تهم الخيانة والخضوع للإمبريالية ملح العمل الإذاعي والصحفي في البلدان العربية: لقد حصد العرب الأشواك عندما جاءت ساعة الحرب”.

ورغم العلاقات الباردة بين تونس البورقيبية ومصر الناصرية في ما سمي بـ”سنوات الغليان” العربي – العربي، فإنّ الشارع الشعبي التونسي تحرّك على الفور، لتعمّ المظاهرات المدن التونسية، خصوصا العاصمة حال اندلاع حرب 5 جوان 1967، ووصل الأمر إلى إحراق المركز الثقافي الأمريكي والمعبد اليهودي واستهداف السفارة البريطانية بالحرق أيضا، فضلا عن منشآت ومبان عمومية، بعد أن “تباطأت الحكومة في اتخاذ موقف تضامني يرتقي إلى مستوى الحدث”، وفق ما ورد في كتاب الباجي قائد السبسي: الحبيب بورقيبة ، المهم والأهم.
وقد تواصل نزول التونسيين إلى الشوارع تأييدا للقضية الفلسطينية، إلى حين اتّخاذ مجلس الأمة – البرلمان – قرارا وافق عليه على الفور الحبيب بورقيبة، بإصدار تصريح رسمي للتعبير عن تضامن تونس الفعلي مع مصر، وإرسال فيلق عسكري تحت قيادة الرائد الصادق الشابي – ابن شاعر تونس أبي القاسم الشابي – مع وفد صحّي عاد أدراجه قبيل اجتياز الحدود الليبية، بعد أن أبلغت القيادة التونسية بقرار وقف إطلاق النار بين الجيوش العربية والكيان الصهيوني .

عُدّ ذلك أمرا رمزيّا، لكنّه لو لم يقع لما وقفت أمواج المتظاهرين المطالبة بنصرة فلسطين بكل الوسائل المُتاحة، وصعبت السيطرة على “الهيجان الخطير” للشارع التونسي حسب وصف وزير الدفاع في ذلك الوقت أحمد المستيري، فقد أكّد مرّة أخرى أنّ هذه القضية “قضيّته الشخصية، وقضية وجود، فضلا عن كونها قضية عادلة، وليس مجرّد قضيّة سياسية”، وفق تحليل الديبلوماسية الفلسطينية راوية حكم بلعاوي في مقابلة مع الكتيبة.

مهّدت قمّة اللاءات الثلاث الشهيرة بالخرطوم (لا صلح، لا تفاوض ولا اعتراف) المُنعقدة بنهاية شهر أوت ومفتتح سبتمبر 1967 والتي شارك فيها كاتب الدولة للرئاسة (رئيس الحكومة) الباهي الأدغم لإذابة الجليد نهائيا بين تونس والقاهرة، وتأكيد انخراط تونس الكامل رسميّا وشعبيّا إلى جانب القضية الفلسطينية، وما افتك من أراض في شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، وعملت تونس بشعار-أمّة عربية واحدة في أرض المعركة-، وإن كان بورقيبة مازال مشدودا وقتها إلى حبل “اللامُقامرين” في الصراع العربي الصهيوني.

وبالفعل في رابع الحروب العربيّة الصهيونية في أكتوبر 1973، كان الجنرال عبد العزيز سكيك -الذي قضى في حادث طائرة عسكرية لاحقا – يقود الفوج الثامن بـ 1100 رجل مجهّزين بالكامل تمركزوا ببورسعيد ودمياط في مهمة دفاعية، تحسّبا لأيّ عملية إنزال بحري من قوات العدو بقيادة أرييل شارون، وأظهر الجنود التونسيون بشهادة الضبّاط المصريين شراسة استثنائية في القتال، إلى حين إحداث الجيش المصري ثغرة بمحور “الدفرسوار” ومن ثمة اختراق الجيش الصهيوني بين 15 و23 أكتوبر 1973 .

أمّا على الجبهة السوريّة فقد دخلت تونس “المعركة الصحيّة”، بإرسال وفد طبي ترأّسه الدكتور زهير السافي صحبة طواقم من الأطباء متعدّدي الاختصاصات وممرّضين لتعوّضه بعثة صحيّة ثانية برئاسة الدكتور سعيد المستيري، واستقرت البعثتان بمستشفى المجتهد وهو من أكبر المستشفيات السورية.

وجاء في وثائق أفرجت عنها وزارة الدفاع المصرية في تقرير مصنّف بـ”السرّي جدّا”، ضمن مئات الوثائق والمراسلات التي نشرت بمناسبة الذكرى 50 لحرب العبور، أنّ الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة أرسل بشكل عاجل لنظيره المصري الراحل محمد أنور السادات رسالة، يؤكّد فيها استعداد تونس لدعم عسكري تامّ، وذلك بناء على خطّة عربية متكاملة استوعبت دروس هزيمة 1967، وقادتها مصر تحت مسمّى “الخداع الاستراتيجي”، وتتضمّن تضخيم النزاعات العربية والخلافات في ما بينها حول صعوبة العمل العربي الموحّد في ما يتعلّق بفلسطين ما يعطي العدوّ الصهيوني نوعا من الارتياح بانشغال العرب عن أيّ حرب مع الكيان الصهيوني.

يمكن وصف المدّ العسكري والشعبي والسياسي الرسمي رغم الجفوات التي عادة ما سادت علاقة بورقيبة بالمشرق، وحساسيّة البعض من أعضائه من فكرة امتداد الخطر القومي بشقّيه الناصري والبعثي نحو تونس بأنه وليد إجماع وليس عاطفة عفوية فقط، بل أنّ “كتلة تاريخية” قد تأسّست في تونس بفعل فلسطين فقط، تحت غطاء “من النهر إلى البحر” بين التيارات اليسارية والعروبية والدستورية ثم الإسلامية التي “غيّرت أدبياتها نحو القضية الفلسطينية عند ظهور حركة حماس سليلة تنظيم الإخوان المسلمين في العام 1987، فهم في البداية كانوا يعتبرون حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية تنظيمات علمانية إلحادية لا يمكن التعاطف معها”، وفق أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسية عبد الجليل بوقرّة.

تونس بتوقيت فلسطين

كان التونسيّون لمّا يغادرون الديار لأداء فريضة إلى الحج يعتبرون أنّ حجّهم لا يستقيم دون زيارة أولى القبلتين بالمسجد الأقصى وثالث الحرمين الشريفين، ففي الوعي الجمعي على مدى التاريخ الإسلامي يجمعون بين قبّة الحج الثوري وكعبة الحج الديني.

وثمّة ملاحظة بديهيّة تطفو على الأحداث في تونس منذ ولادة القضية الفلسطينيّة وإن كانت نموذجا للاستعصاء السياسي، وهي أنّها “قضية وطنية وجدانيّة” لا يتزحزح الموقف حولها، وشأن يهمّ التونسيين بامتداد وشمول، مثلما يهمهم شأن بلادهم، أو هي حسّ مشترك أيضا، وتصوّر مستقرّ ومستمرّ في الذهن، وإن تغيّرت الخرائط، ومسارات التسوية الوهمية بعد موجة “سلام الشجعان ثمّ “جسور أبراهام “.

هذا الارتباط بالقدس خصوصا وفلسطين عموما، حسب بوقرّة، يسري في كلّ الضمير التونسي “فالقضيّة الفلسطينية على المستوى الشعبي قوية جدّا، ومُنغرسة بشكل كبير في فكره وقناعاته، كأنّها تجري في عروقه وخلاياه، أو هي موروثة من الأب أو الأم أو لنقل باستعارة واضحة كمن رضعها في حليب الأم، إنّها مقدّسة عكس كل القضايا الأخرى مهما كانت أهميتها”.

ويؤكّد هذا الشارع التونسي أنّه كان متحفّزا في كلّ الحروب المباشرة التي خاضها العرب مجتمعين أم فرادى ضدّ الكيان الصهيوني، يشبه نفسه جيلا بعد جيل، ويرفع سقف المطالب نحو تغيير كلّ “منكر” رسمي عربي من هذه القضية، دون أن تؤثر فيه المواقف الأحادية في مثل هذه الصراعات التاريخية المفتوحة والتي هندس جماهيرها “القصف الإعلامي” العربي والغربي لأجل ” تهدئة الجماهير الشعبية “في العقود الأخيرة أو تفرقتها، وتثبيت مفاهيم التعايش والسلام والتطبيع وثقافة الهزيمة أو عدم المقامرة.

وتبيّن الاختبارات التي مرّت بها القضيّة الفلسطينية في تونس أنّ الوعي الجمعي التونسي بشتّى أصوله ومنابته وفروعه، يقف على رسالة اتصالية واحدة لا تستسلم لليأس وإن في أحلك فترات “الأمّة”، وما تفرضه الحقائق على الأرض، فالرموز الاتصاليّة في كلّ الحروب والصراعات تحتاج إمّا قاموسا من المفردات والرسائل وشبكات من المعاني للدفع والتحفّز، أو تلك التي تحقّق ” الإشباع ” الذي يبتغيه الجمهور، أو أخطرها وهو ذلك الذي يوجّهها بشكل مضلّل نحو فخ التفكير القطيعي، وفي الحالة التونسية لم يتمّ ” أسرألة العين والأذن ” رغم السماوات الإعلامية المفتوحة.

ففي ذروة “هبّة التطبيع”، وقف الشارع التونسي ونخبه وأحزابه ضدّ الدعوة الرسمية لنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي لسفّاح مخيّم صبرا وشاتيلا بلبنان ورئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، لحضور قمّة مجتمع المعلومات التي تمّت بتونس خريف العام 2005 بعد إغلاقه مكتب اتصال دبلوماسي دعما لانتفاضة الأقصى في سبتمبر سنة 2000، ليستفيق النظام أن تجاوز “المقدس الأكبر” سيجلب لأركانه “الشرارة الأكبر”، بعد أن تظاهر التلاميذ والطلبة وأحزاب المعارضة ومكوّنات مدنية مستقلّة متحدّين كلّ أشكال المنع والقمع، وتأكيد استعدادهم للوقوف بصدور عارية لمنع هذا “العار الدائم”.

يعتبر الدريني بيقين تامّ هذا الاستنفار المتواصل بمثابة “الحاضنة الشعبية الدافئة التي كانت، ولازالت، وفي كل مرّة تتعزّز، بل تدفع الدم أصلا لأجل فلسطين في كل الأوقات”، ويستدلّ على ذلك أنه ” تفاجأ مؤخّرا حين دعي إلى ندوة فكرية حول فلسطين بمدينة جمال بشيخ تسعيني يشتغل حارس مقبرة، وثان يقترب من سنّ الكهولة وقد عرضا تجربتهما الأول عند محاولته دخول فلسطين للمشاركة في حرب 1948، والثاني حين كان من جملة الأبطال الذين نجوا من عملية إنزال الطائرات الشراعية الشهيرة في العام 1987 التي نفذتها الجبهة الشعبية القيادة العامة، وعندها فهم أنّه ذهب كل هذه المسافة ليقدّم ندوة عن فلسطين، فوجد نفسه في قلب الحضور العملي لتونس في فلسطين، ومع أناس قدموا لفلسطين أشياء واقعية، وكأنهم يقدّمونها لتونس”.

وبالفعل، تتّسع لائحة شهداء تونس إلى قائمة كبيرة من الأسماء والتواريخ والتنظيمات السياسية ومن عامة الشعب، منذ ما قبل 1948 نهاية بديسمبر 2016 تاريخ اغتيال العقل المدبر للمسيرات الفلسطينية الشهيد محمد الزواري بمدينة صفاقس، فبعملية مسح سياسي نجد أن التنظيمات اليسارية واليمينية والعروبية والمحافظة قد خاضت “امتحان السلاح” ضدّ العدو سواء بعمليّات نوعية في قلب الكيان أو في معسكرات التدريب والإسناد في سوريا ولبنان ودول الطوق عموما وما بعدها في اليمن الشمالي والعراق وليبيا والسودان .

ففي العام 2008، استقبلت تونس في صفقة تبادل أنجزها حزب الله مع الكيان الصهيوني رفات ثمانية من أبنائها استشهدوا في ساحات النضال هم ميلود نومة وعمران المقدمي الذي نفّذ عملية فدائية نوعية بعد اقتحام موقع عسكري صهيوني في مستعمرة “دان” القائمة في زاوية الحدود الفلسطينية السورية اللبنانية ردّا على اغتيال خليل الوزير أبو جهاد في تونس في أفريل 1988، إضافة إلى خالد الجلاصي وفيصل الحشائشي وسامي الحاج علي ورياض بن جماعة وكمال بدري وبليغ اللجمي.

ويستمرّ الحضور الكبير للقضية في البناء النفسي والوجداني للتونسيين، فلا تخلو مدينة أو قرية من شارع يحمل إسم فلسطين أو القدس أو أحد الأعلام الفلسطينيين، ولا تجد ساحة لا تحمل التسميات نفسها، ولا تفتتح سنة جامعية دون بصمة طلابية فلسطينية في حرم الجامعات، ولا تغيب فلسطين عن أيّ تظاهرة فنية تونسية أو رياضية، وهنا يعرض بوقرّة ما يعرف بـ”دخلات جماهير الفرق الكبرى في تونس، أي ما تقوم هذه الجماهير بزخرفته على القماش واللافتات المرفوعة فوق المدرجات أسبوعيّا، حيث تكون فلسطين وعلمها الأصل فيها، وهذا أمر فاق حدود التصوّر”.

هبّت رياح فلسطين في تونس

بعد الاجتياح الصهيوني للبنان في ذروة كأس العالم 1982، وإطباق الحصار على مربّع أمني في بيروت الغربية بقيادة الصهيوني أرييل شارون، انتهت رحلة الصمود الفلسطيني والقوات اللبنانية الوطنية بوضع القيادات الفلسطينية والأذرع العسكرية لمنظمة التحرير تحت طائلة التفاهمات الدولية للمبعوث الأمريكي فيليب حبيب وفي سوق “المقايضة الجغرافية” مقابل الحياة.

انتهى الأمر بالقيادات الفلسطينية إلى جس لعبة التوازنات وتهيئة استراتيجية كسب المكان والقرار معا، إذ ينقل الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مذكّراته المنشورة بصحيفة الشرق الأوسط أنّ “الخيارات بعد إحكام الطوق على بيروت الآتية كانت: إمّا أن تنتهي في بيروت وتنتهي الثورة وإما أن تخرج القيادة إلى دمشق وفي هذه الحالة ستكون أسيرة القانون السوري. في هذا الوقت جاءتنا رسالة من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وكانت من شقّين، الأول شيك بـ5 ملايين دولار مساعدة، والثاني دعوة رسميّة لكلّ القيادات الفلسطينية والكوادر كي تذهب إلى تونس إذا رغبت… أرسلت إلى أبو عمار أقول له جاءك الفرج وتستطيع أن تذهب وقياداتك إلى تونس إذا رغبت، وكان الأمر بمثابة منجاة”.

وصل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى ما كان يريده، من تحسين شروط التفاوض بعد عرض فيليب حبيب الأول، خروج الفلسطينيين من بيروت نحو دمشق عبر آليات الصليب الأحمر الدولي رافعين الرايات البيضاء دون أي سلاح، حين قال كلمته الشهيرة “هبّت رياح الجنّة”، بعد جلسة مصيرية مع مجموعة فلسطينية لبنانية ضيّقة في إشارة إلى مواصلة القتال إلى آخر رصاصة.

لكن بعد أيام هبّت رياح تونس بعد جولة مفاوضات عسيرة، ويقين القيادات أنّ الوضع في تونس سيكون في كل الحالات أفضل من دول الطوق، بالنظر إلى “الرغبة البورقيبية القديمة في أن تنأى القيادة الفلسطينية بنفسها عن الزعامات المشرقية، وتأخذ زمام الأمور بيدها، وتعتمد على المنهج البورقيبي الذي يمزج بين الكفاح المسلّح والعمل الدبلوماسي”، حسب ما تشير إليه مذكّرات ضابط الأمن التونسي النوري بوشعالة الذي رافق عرفات طيلة حياته في تونس.

ويشير سفير منظمة التحرير في تونس حكم بلعاوي في مذكّرات له أنّ بورقيبة فرح كثيرا حال سماعه طلبا فلسطينيا بقبول استضافته السياسية بل ينقل “فما كان منه سوى الصّياح بصوته … يا وسيلة … يا ماجدة … القائد ياسر عرفات يريد أن يأتي إلى تونس … ولدي بلعاوي أخبرني بذلك … يا ماجدة.”

أما القيادات الفلسطينية الفاعلة فتقول إنّ إلزامية الجغرافيا في تونس وقدرها، قد سمحا بإعادة بناء الذات للثورة الفلسطينية، بعد أن قامت الأنظمة العربية بتأسيس مناطق نفوذ لها صلبها، وبمراجعة ما يعرف في أدبيات منظمة التحرير الفلسطينية بالمسلكيّة الثوريّة الجديدة للقضية الوطنية المركزية، في حين ذهب بوقرة إلى الإضافة أنّ عرفات كان “على يقين أنّ تونس ستترك له هامش تحرّك أوّلا، وسيستفيد ثانيا من موقعها الجغرافي القريب من أوروبا، ومن شبكة علاقاتها الديبلوماسية لخلق علاقات مع الدول الأوروبية”.

مثّل الاستقبال الشعبي والرسمي للقيادات الفلسطينية والمقاتلين القادمين من لبنان من أعلى ظهر الباخرة “أطلانطيس” بميناء بنزرت ثم “صوفرين”، وفي مطار تونس قرطاج الدولي بنهاية أوت 1982 صفحة جديدة من العمل الفلسطيني السياسي، فالآلاف كانوا متوزّعين على جنبات الطرقات لاحتضان القضيّة الفلسطينية، فيما قاد بورقيبة وعقيلته وسيلة وكبار المسؤولين طليعة الاستقبالات، لتتواصل الإقامة الفلسطينية لما يزيد عن 12 عاما حتى العودة إلى غزّة وأريحا بمقتضى بنود اتفاق أوسلو1 الموقّع في 13 سبتمبر 1993 بواشنطن.

وكانت محطّة فلسطين في تونس تتّمة لثقة سياسية فلسطينية وعربية في الديبلوماسية التونسية، ففي أعقاب صراع “أيلول الأسود”/سبتمبر 1970 في الأردن بين فصائل فلسطينية مسلّحة وجيش المملكة الهاشمية، كان كاتب الدولة للرئاسة ( رئيس الحكومة ) الباهي الأدغم يقود وفد اللجنة العربية العليا للمتابعة، بعد أن رشّحه الرئيس المصري جمال عبد الناصر شخصيّا للمهمة في أعقاب قمة عربية طارئة بالقاهرة، وذلك للوساطة بين الطرفين الذين وصلا إلى نقطة اللاعودة، وهو ما نجح فيه بعد إخفاق لجان سابقة تمّ إيفادها لمحاولة وقف إطلاق النار، ومن ثمّة خروج عرفات والمنظمة ومقاتلين نحو الأراضي اللبنانية.

ومن اللافت أيضا أنه لم ينجح أحد في “تفخيخ ” الوجود الفلسطيني بتونس، وبقيت مقولة إنّ تونس استدعت “العاصفة” إلى أرضها خاطئة رغم الهزّات الفلسطينية الداخلية والعربية والدولية، إذ يكشف رئيس الجالية الفلسطينية بتونس سيف الدين الدريني في شهادة مثيرة أنه “سمع من عرفات معلومة استغرب منها كثيرا، ومفادها أنّ تونس لم تتدخّل قطّ لا من قريب أو من بعيد في أيّ شأن يخص السياسة الفلسطينية أو فلسطين، وكان المحذور الوحيد طيلة الوجود في تونس هو مسك السلاح”.

فقد زادت الغارات الصهيونية على حمام الشط في أكتوبر 1985 التي استهدفت رؤوس القيادة الفلسطينية، وأدّت إلى سقوط 68 شهيدا (50 فلسطينيا و18 تونسيا) و100 جريح من تلاحم هذه الأخوة، حيث يقف النصب التذكاري بمكان الهجوم الوحشي شاهدا على اختلاط دماء الشعبين، وتحدّي “محاولة العدو الصهيوني تخويف الشعب التونسي وجعله يستاء من وجود القيادة الفلسطينية والثورة الفلسطينية على أرض تونس، ولكن جاءت ردّة فعل الشعب التونسي قوية، وكانت أقوى من أيّ قرار اتّخذ سواء بالخوف أو بالتهديد أو بالإرهاب، وبالعكس أثبت هذا الشعب، بتظاهراته ومواقفه، أنّه مع القضيّة الفلسطينيّة والثورة الفلسطينية”، مثلما جاء في شهادة القائد الفلسطيني البارز صلاح خلف أبو إياد لصحيفة البطل التونسي مباشرة بعد العدوان الصهيوني. بل أنّ الديبلوماسية التونسية نجحت بقيادة وزير الخارجية الباجي قائد السبسي في اقتلاع قرار إدانة من مجلس الأمن الدولي بحق العدوان الصهيوني، وإقرار تعويضات مادية وبالتالي تسجيل اختراق في مسار الدعم الأمريكي الأعمى.

كما لم تؤثر الاغتيالات “الثقيلة” على أرض تونس بحق قيادات الصفّ الأول، وأهمهم عملية الوحدات الصهيونية الخاصة التي أدت إلى اغتيال مهندس الانتفاضة الأولى خليل الوزير أبو جهاد في أفريل 1988، ثم عمليّة القضاء على صلاح خلف أبو إياد المحسوب على صقور منظمة التحرير الفلسطينية في جانفي 1991 من قبل جماعة صبري البنا المعروف حركيا بأبو نضال وقائد منظمة حركة فتح المجلس الثوري، التي أدّت أيضا لسقوط هائل عبد الحميد أبو الهول عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وفخري العمري أبو محمد أحد المساعدين المقربين لأبي إياد في جهاز الأمن الموحّد.

وتلخّص الدبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة راوية حكم بلعاوي أنّه رغم الدماء والأوجاع المشتركة وسير تونس فوق حبل مشدود سياسيا وأمنيا إلى حين عودة المنظمة وقياداتها إلى فلسطين في 1994 فإنّ ” الفلسطينيين عاشوا في فترة تغريبتهم بتونس فصلا استثنائيا، تمتّعوا فيه بهامش حرّية كبير، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، بالمقارنة مع المحطات التي سبقت تونس، وبالأخصّ على الصعيد السياسي، حيث حرصت تونس على أن يبقى القرار الفلسطيني مستقلّا، دون أي تدخّل تونسي، إلا إذا طلب منها الفلسطينيون ذلك، وكلّ هذا في كنف السيادة التونسية”.

الزمن يمشي والموقف ثابت

ظلّ الموقف التونسي الرسمي من القضيّة الفلسطينية ثابتا في جيولوجيا الزمن تحت مقولة “إنّنا مع ما يختاره الفلسطينيون لأنفسهم”، ومع اندلاع الثورة في تونس وتوسّع مساحات الحرّية والنقاش، طفت مجدّدا الدعوات السياسيّة والشعبيّة إلى كتابة نصّ دستوري أو قانوني يجرم التطبيع في برلمانات 2011 و 2014 و2019 نهاية بـ 2023، حدّ وجود تعبئة دوريّة لهذا المطلب من قبل كتل برلمانية أو شخصيات سياسيّة، خصوصا في اللحظات السياسيّة والانتخابية المناسبة، وأحدثها السرديّة التي بنى عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد التطبيع كـ”خيانة عظمى” تستوجب المحاسبة، قبل سقوط مشروع قانون في هذا الاتجاه أمام البرلمان في نوفمبر 2023 “باعتبار أنّنا في حرب تحرير لا حرب تجريم”، ويمكن الاستئناس بالفصل 60 من المجلّة الجزائيّة والفصول التي تليه وفق كلمة ألقاها رئيس الجمهورية في 2 نوفمبر 2023.

ورغم النجاح النسبي لرئاسة الجمهوريّة في “اللعب” على أوتار النّصوص، وترحيل هذا الوعد الانتخابي إلى فعل النسيان بعامل الزّمن، فإنّ الحراك المدني والحزبي المطالب بالتجريم لم تنطفئ جذوته، وأحدثت تنسيقيات للعمل المشترك من أجل فلسطين ومناهضة التطبيع، ونظّمت فعاليات مختلفة، ومظاهرات، ووقفات، وحملات ضغط، جمعت أهمّ المنظمات الوطنية وهي اتّحاد الشغل، ونقابة الصحفيين التونسيين، والهيئة الوطنية للمحامين، ورابطة الكتاب التونسيين، والحملة الوطنية لمقاومة التطبيع، كما نشطت فعاليات دائمة لنشر ثقافة المقاطعة للبضائع الأمريكية والغربية والمؤسسات المؤيدة لحرب الإبادة في غزّة.

ومن جهة أخرى، أعادت عملية السابع من أكتوبر 2024 “النفوذ الشارعي” إلى الحشود السياسيّة والطلابيّة والنقابيّة والشعبيّة، بعد أن غابت القضية الفلسطينيّة في زحام القضايا المحلّية والأجندات الدولية، وتمّت “فلسطنتها” بشكل داخلي ضيّق لمزيد الإطباق عليها، إذ جاء الحراك الطلابي تجسيدا لتوريث النخبة التونسية المستقبليّة مشعل القضية، وآخرها تنظيم طوفان الجامعة لنصرة الحق الفلسطيني الذي تزامن مع مرور عام على عمليّة الطوفان.

لقد مثّل تاريخ السابع من أكتوبر لحظة تنبيهية جديدة للعقل الشعبي العربي الذي لم ينس فلسطين بعاطفته، لكنّه أغفل مجريات قضيتها في يومياته المتقلّبة، فانقلبت وسائل التواصل الاجتماعي في تونس إلى حالة فلسطينية تضامنية عميقة، وعاد الشارع الفني والثقافي والحقوقي في كل تونس إلى التوهّج، نصرة للمظلومين والمسحوقين في غزّة المُدمّرة.

ألم يقل شاعر فلسطين الأول محمود درويش: تونس هي البلد الوحيد الذي لم نخرج منه مطرودين، وقد ودعتنا حتّى المطار والميناء بالزهور، فردّ عليه القيادة الشعبية للثورة محمد الصغير أولاد أحمد ذات يوم في لقاء جمعهما برام الله: “لا أعرف إذا كانت فلسطين هنا أو هناك في تونس”.

حقا إنّها تونس الفلسطينيّة وفلسطين التونسيّة.

قائمة في المصادر والمراجع

1 المركز الفلسطيني للإعلام مقال : الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الدفاع عن القدس
2 رسالة إلى أعضاء الحزب الحر الدستوري في 18 أكتوبر 1931

3 المركز الفلسطيني للإعلام ورقة بعنوان الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الدفاع عن القدس بتاريخ 22 ماي 2009

4 كتاب رسائل بورقيبة إلى محمد علي الطاهر الصادر في عام1966

5 من خطاب بورقيبة بأريحا في 3 مارس 1965

6 توليف لشهادة وزير الدفاع آنذاك أحمد المستيري المنشورة في كتابه شهادة للتاريخ
7 موقع وزارة الدفاع الوطني

8 مقالات صحفية وشهادات عسكريين مصريين وتونسيين

9 موقع وزارة الدفاع الوطني ومذكرات سياسيين

10 وثائق حرب أكتوبر المنشورة بموقع المجلة بتاريخ 1 مارس 2024

11 صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 31 أوت 2023
12 مذكرات قبس من الذاكرة … ضابط أمن للنوري بوشعالة

13 مذكرات ذاكرة وطنية لحكم بلعاوي

14 صحيفة البطل بتاريخ 4 أكتوبر 1985

الكاتب : فطين حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

إشراف:محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
غرافيك : منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري

الكاتب : فطين بن حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

fatine
Scroll to Top