الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
يرفع رئيس الجمهورية قيس سعيّد، منذ لحظة رفضه الاتّفاق الذي توصّلت إليه حكومته في أكتوبر من عام 2022 مع صندوق النقد الدولي، شعار “التعويل على الذات”.
يتنزّل هذا الشعار الذي ما انفكّ رئيس الجمهورية يكرّره كلّما تطرّق إلى الصُعوبات الماليّة التي تعرفها الدولة التونسيّة، في إطار سرديّة كاملة رُفعت فيها شعارات أخرى من قبيل “حرب التحرير” و”البناء والتشييد” و”العُبور” بما يفضى إلى الاستثمار في فكرة تتبنّاها شريحة من الطبقة السياسيّة التونسيّة تعتبر أنّ الإقتصاد التونسي عموما كان على مدار عقود من الزمن يرزحُ تحت وطأة الفكر الاستعماري للدول المُهيمنة عبر صندوق النقد الدولي وباقي الهيئات الماليّة الدوليّة.
وكان الرئيس سعيّد أكّد على ضرورة القطع مع هذا الوضع بشكل نهائي خاصّة لدى مشاركته في حلقة نقاش على ضوء انعقاد قمة باريس من أجل عقد مالي جديد في جوان من عام 2023، حين توجّه إلى مديرة صندوق النقد الدولي “كريستالينا غورغييفا” قائلا:
” إذا كان هناك من يرفض وصفات صندوق النقد الدولي، فسأكون أنا. وصفات صندوق النقد الدولي غير مقبولة وتهدّد السلم الاجتماعي”.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
يرفع رئيس الجمهورية قيس سعيّد، منذ لحظة رفضه الاتّفاق الذي توصّلت إليه حكومته في أكتوبر من عام 2022 مع صندوق النقد الدولي، شعار “التعويل على الذات”.
يتنزّل هذا الشعار الذي ما انفكّ رئيس الجمهورية يكرّره كلّما تطرّق إلى الصُعوبات الماليّة التي تعرفها الدولة التونسيّة، في إطار سرديّة كاملة رُفعت فيها شعارات أخرى من قبيل “حرب التحرير” و”البناء والتشييد” و”العُبور” بما يفضى إلى الاستثمار في فكرة تتبنّاها شريحة من الطبقة السياسيّة التونسيّة تعتبر أنّ الإقتصاد التونسي عموما كان على مدار عقود من الزمن يرزحُ تحت وطأة الفكر الاستعماري للدول المُهيمنة عبر صندوق النقد الدولي وباقي الهيئات الماليّة الدوليّة.
وكان الرئيس سعيّد أكّد على ضرورة القطع مع هذا الوضع بشكل نهائي خاصّة لدى مشاركته في حلقة نقاش على ضوء انعقاد قمة باريس من أجل عقد مالي جديد في جوان من عام 2023، حين توجّه إلى مديرة صندوق النقد الدولي “كريستالينا غورغييفا” قائلا:
” إذا كان هناك من يرفض وصفات صندوق النقد الدولي، فسأكون أنا. وصفات صندوق النقد الدولي غير مقبولة وتهدّد السلم الاجتماعي”.
بعد مُضي أربع سنوات على تاريخ انفراد الرئيس قيس سعيّد بمقاليد الحكم في تونس، وقُرابة السنتين من انقطاع الصّلة بصندوق النقد الدولي، تقتضي الحاجة ضرورة القيام بتقييم شامل للتوجهات الاقتصادية الكُبرى التي تسير فيها البلاد ومقارنتها بأرقام آخر سنة مرجعيّة عرف فيها الاقتصاد التونسي نوعا من الاستقرار في مستوى مؤشراته قبل أن يتلقى صدمات خارجية على غرار جائحة كوفيد 19 والحرب الروسيّة الأوكرانية اللّتين ساهمتا بشكل كبير في تدهور الوضع الاقتصادي في تونس على غرار سائر دول العالم.
فهل هناك ما تغيّر بالفعل في السياسة الاقتصادية التونسيّة؟ ماذا حقّق شعار التعويل على الذات على أرض الواقع بشكل ملموس؟ ما هو الوضع الاقتصادي الحالي لتونس مقارنة بآخر سنة مرجعيّة؟ وهل هناك بوادر لانفراج أزمة الانكماش الاقتصادي؟ هل لتونس خطّة واضحة المعالم للخروج مما يسمّى مجازا “عُنق الزجاجة” في إشارة للوضع الاقتصادي الصعب؟ وكيف سيكون الوضع مستقبلا إذا ما تواصل الحال على ما هو عليه اليوم؟ هل للرئيس سعيّد خُطّة بديلة لبرامج صندوق النقد الدولي؟ أم أنّ القرار السياسي الرافض للاتفاق يتّسم بردّ الفعل دون وجود خطّة عمليّة؟
في هذا المقال نحاول الإجابة عن جميع هذه الأسئلة الحارقة لما لها من انعكاس وارتباط عميق بالوضع الاجتماعي للتونسيين.ـات المكتوين.ـات بلهيب غلاء الأسعار وارتفاع تكلفة المعيشة وتفاقم نسب البطالة مع تزايد أدفاق الهجرة النظاميّة وغير النظاميّة بحثا عن الخلاص الفردي.

الرئيس سعيّد مع مديرة صندوق النقد الدولي أثناء مشاركته جلسة حوارية على هامش قمة باريس من أجل عقد مالي جديد

الرئيس سعيّد مع مديرة صندوق النقد الدولي أثناء مشاركته جلسة حوارية على هامش قمة باريس من أجل عقد مالي جديد
اقتصاد معطُوب
للتأكد من استعادة الدُول عافيتها الاقتصاديّة، تتولّى الحكومات والجهات المُراقبة حسب كلّ دولة مقارنة أرقامها ومؤشراتها الاقتصاديّة بما تحقّق في عام 2019 بصفتها آخر سنة مرجعيّة قبل أزمتي كوفيد 19 والحرب الروسيّة الأوكرانيّة.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر، حقّقت المملكة المغربية موفى العام 2024، نسبة نمو تجاوزت الـ 3,8% مقارنة بعام 2023 (3,2%) ليقفز إجمالي الناتج المحلي بحوالي 25 مليار دولار أمريكي (أسعار الدولار الثابتة) مقارنة بعام 2019 ويستقرّ عند ما يزيد عن 148 مليار دولار وفق بيانات البنك الدولي.
في تونس، يعيش الاقتصاد نموّا بطيئا غير مسبوق، فما تجاوزته الدول في السنوات الثلاث الأخيرة في شتّى بقاع العالم عدا تلك التي تعيش أزمات حروب وأوضاعا متقلّبة، لم تنجح فيه تونس رغم انفراد الرئيس سعيّد منذ جويلية 2021 بالحكم وما يوفره ذلك من استقرار في مستوى سُلطة القرار السياسي والقدرة على التنفيذ والإنجاز.
في مُوفى 2024 وبعيدا كلّ البُعد عمّا افترضته الحكومة، حقّقت تونس نسبة نموّ لم تتجاوز الـ 1,4% بناتج محلّي إجمالي يُقدر بـ 96 مليار دينار تونسي بالأسعار الثابتة المحليّة وهو رقم بالكاد يكاد يلامس ما تحقّق في نهاية عام 2019 بصفتها سنة مرجعية (96,7 مليار دينار)، رغم أنّها كانت سنة صعبة عرفت فيها كل المؤشرات الاقتصادية تراجعا مقارنة بعام 2018.
توضّح هذه المؤشرات أنّ الاقتصاد التونسي لم يقدر طيلة هذه السنوات على إعادة تشغيل محرّكات نموّه بالنسق المطلوب بعد حالة الانكماش الحادّة التي شهدها عام 2020 ( 9 – % ) نتيجة لجائحة كوفيد-19 وتجلّت بشكل كبير من خلال نسبة النموّ التي حققتها البلاد موفى عام 2023 والتي قُدّرت بـ 0,4%.
ونتيجة نسق النمو البطيء، قفزت معدّلات البطالة في تونس عام 2023 إلى مستوى قياسي مقارنة بسنوات العقد الأخير (إذا ما استثنينا عام 2020) لتبلغ 16.4%، قبل أن تُسجّل انخفاضا طفيفا وحذرا خلال الثلاثي الأوّل من هذا العام 2025 وتستقرّ في مستوى 15.7%.
ولا تتوقّف الإشكاليات عند تفاقم البطالة، فخلال عامي 2022 و2023 قفزت نسب التضخّم لتبلغ أعلى مستويات لها بتسجيلها 10,4 % خلال شهر فيفري 2023، قبل أن تأخذ منحى تنازليّا كامل العام 2024 في حدود 7% وتستقرّ في موفى ماي من هذا العام 2025 عند مستوى 5,4%، وكنتيجة لذلك واصلت أسعار المنتجات الأساسية والغذائية منحاها التصاعدي بالرغم من انخفاض أسعارها بشكل كبير في الأسواق العالمية منذ أواخر عام 2023.
هذا التضخّم الذي بلغ ذروته في تونس يمثّل حالة فريدة والأعلى مقارنة بدول المنطقة المغاربية على وجه الخصوص.


وفي ما يهمّ التوازنات المالية للدولة، وإذا ما استثنينا عام 2020 (جائحة كوفيد)، تفاقم عجز الميزانية بشكل كبير ولافت للانتباه مقارنة بالسنة المرجعية 2019 وما سبقها حيث قفز من 4 مليار دينار ما يمثل 3,5% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 10 مليار دينار عام 2024 ما يساوي 6,6% من الناتج المحلي الإجمالي، مع الإشارة إلى أنّ هذا العجز بلغ ذروته في عام 2023 عند مستوى 11 مليار (7,8% من الناتج المحلي).
ساهم هذا العجز المتفاقم في تزايد حاجيات تونس التمويليّة عبر الاقتراض الداخلي والخارجي، حيث بلغت مستويات قياسية تعدّت حاجز الـ 28 مليار دينار عام 2024 أي بزيادة تُقدّر بحوالي 100% عمّا كان عليه الوضع في عام 2019، الشيء الذي زاد من حجم الدين العام ليبلغ تقريبا 82% من الناتج المحلي الإجمالي موفى العام 2024، بعد أن كان في حدود 67% في عام 2019.


تسيير يومي دون رؤية استراتيجيّة
لا شكّ في أنّ الأرقام المُبيّنة سالفا توضّح بشكل جليّ صعوبة الوضع الاقتصادي في تونس وتطرح أسئلة عديدة حول كيفية إدارة الشأن الاقتصادي من طرف الرئيس سعيّد وحكوماته المتعاقبة.
في حواره مع موقع الكتيبة، يوضّح الخبير ومحلّل السياسات الماليّة بسام النيفر، أنّ “الاقتصاد التونسي يعيش وضعيّة صعبة للغاية متأتية أساسا من عوامل خارجيّة وبشكل رئيسي من عوامل محلّية”.
فعلى الصعيد الخارجي، يقول النيفر إنّ “نسب النمو الضعيفة التي حقّقتها دول الاتحاد الأوروبي عامي 2023 و 2024 والتي لم تتجاوز الـ 1% كان لها أثر سلبي واضح على الاقتصاد التونسي باعتبار أنّ الاتحاد الأوروبي يمثّل الوجهة الأولى للصادرات التونسيّة ويستحوذ على 70% منها”، مشيرا إلى أنّ “أيّة تقلّبات يشهدها العالم تنعكس على تونس بما أنّها سوق مفتوحة”، وفق قوله.
ويُضيف النيفر أنّ “الانعكاسات السلبيّة للعوامل الخارجية ما تزال قائمة خاصّة مع ضبابيّة المفاوضات التي تجري بين دول العالم على خلفية الرسوم الجمركية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قائلا: “إذا ما تمّ اعتماد الترفيع في الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي كما أعلنها دونالد ترامب سيجرّ الأخيرة إلى ركود اقتصادي وهو ما سينعكس على وارداتها التي من المؤكّد أنها ستتقلّص”.
وعلى الصعيد المحلّي، يُرجع الخبير بسام النيفر صعوبة الوضع الاقتصادي كما تُبيّنه نسب النمو الضعيفة جدّا في السنوات الأخيرة إلى “استقرار مستوى استثمار الدولة باعتبارها أوّل فاعل اقتصادي في تونس عند مستويات متدنّية بسبب الضغوطات المفروضة على الماليّة العموميّة في السنوات السابقة وتنامي دور الدولة الاجتماعي ممّا زاد من مصاريفها، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على استثمارات القطاع الخاص التي تتقيّد بالسياسات الاستثمارية للدولة”.
“القطاع الخاصّ يسير على خطى الدولة فهو مسكون بهواجس تسيير مؤسساته والحفاظ على استقرارها وهو ما يستدلّ عليه من خلال ارتفاع نسق طلبات القروض قصيرة المدى الموجهة لنفقات التسيير وتراجع لافت للقروض طويلة المدى الموجهة للاستثمار”
المحلّل الاقتصادي بسام النيفر
في قراءة للقوانين المالية المُصادق عليها من طرف مجلس نواب الشعب أو تلك التي تمّ إصدارها في شكل مراسيم، يتّضح وجود تنام كبير في نفقات الدولة وبالأخصّ نفقات الدعم التي ارتفعت من 4,7 مليار دينار عام 2019 إلى أكثر من 11 مليار دينار موفى سنة 2024، أي أنّ الدعم استحوذ على ما يناهز الـ 6,8% من إجمالي الناتج المحلي بعد أن كان في حدود 4,6% عام 2019.
يُعزى هذا الارتفاع الهائل في نفقات الدعم إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسيّة وخاصة المواد الطاقيّة التي تتولّى الدولة توريدها وذلك نتيجة للحرب الروسيّة الأوكرانية التي ألهبت أسعار تلك المواد بما أضفت عبئًا كبيرًا على المالية العموميّة خاصة في عامي 2022 و2023.


وبالرغم من تراجع أسعار المواد الغذائية والطاقيّة منذ أواخر العام 2023 ، ظلّت حصة نفقات الدعم والتحويلات الإجتماعية مرتفعة ويُرجّح أن تكون في نفس المستوى بنهاية هذا العام 2025، بفعل جملة من التدابير التي تمّ اتخاذها في قانون الماليّة لذات العام.
ويرفع الرئيس سعيّد اللاءات الثلاث في وجه ما يصفها بوصفات صندوق النقد الدولي التي تشترط إصلاحا هيكليا لمنظومة الدعم وتوجيهه نحو مستحقّيه في شكل تحويلات مالية وهو أمر اتجهت فيه حكومة الرئيس سعيّد نفسه برئاسة نجلاء بودن قبل أن يقلب الطاولة في آخر لحظة ويعلن رفضه لهذا التمشّي الذي وصفه بالتهديد الصريح للسلم الاجتماعي في تونس. وهو قرار مثير للاهتمام ويضع نقاط استفهام كبرى في علاقة بمدى انسجام الرئيس سعيّد مع حكومته التي من المُفترض أنّها تُعلمه بكل تفاصيل المفاوضات مع خبراء الصندوق والتي دامت 18 شهرا.
يُفسّر الخبير بسام النيفر لموقع الكتيبة، أنّ “تنامي نفقات الدعم وما يسبّبه ذلك من عجز في الميزانيات نتيجة حتميّة لسياسات الدولة الرامية للتحكم في أسعار المواد الغذائية والطاقية والخدماتية”، مشيرا إلى أنّ “الاستجابة إلى ما يشترطه صندوق النقد الدولي في الوضع الراهن سيدفع التضخّم نحو بلوغ أرقام خيالية”.
“كل الأنشطة الاقتصادية إن كانت مطاعم أو مقاهي أو مغازات أو مصحات أو غيرها مرتبطة بمنظومة الدعم التي تتكفل بها ميزانية الدولة، ففي صورة رفع الدعم وملاءمة سعر المواد الأساسية بالأسعار الحقيقية سينفجر التضخم وتلتهب الأسعار”.
المحلّل الاقتصادي بسام النيفر
ويُضيف النيفر أنّ “نسق تطوّر الأجور في تونس بعيد كل البُعد عن نسق تطوّر التضخم ما يفاقم انهيار القدرة الشرائية لشرائح واسعة من التونسيين.ـات، ويدعو الحكومة إلى مزيد ضخ أموال بهدف التحكم في الأسعار ومنع انفلاتها”.
يأتي هذا المأزق الذي وجدت تونس نفسها فيه، كنتيجة حتميّة لتعطّل محرّكات نموّها الاقتصادي ويكشف عن أزمة هيكلية حادّة تعمّقت بفعل الصدمات الخارجية، فمن جهة لا يمكن لأيّ حكومة بأي حال من الأحوال رفع الدعم وتعويضه بمنح تُسند إلى مستحقيه لما لهذا الإجراء من مخاطر عالية على إمكانيات الأسر الضعيفة ومتوسطة الدخل، ومن جهة أخرى يُساهم تنامي هذه النفقات في إبقاء عجز الموازنات المالية في مستوى عال ما يزيد من حاجات تونس التمويلية كل سنة أي زيادة في موارد الاقتراض وتنامي المديونية.
إزاء هذه المفارقة، اتجهت الحكومة التونسية إلى فرض تدابير جديدة تستهدف من خلالها تعبئة أكثر ما يمكن من موارد جبائية وهو أمر ملحوظ بشكل كبير من خلال التدقيق في قوانين المالية لكل سنة في الفترة المنحصرة بين عامي 2021 و2025.


وساهم العفو الجبائي الذي يمنح تسهيلات للشركات والأشخاص ممن تخلّفوا عن أداء واجبهم الضريبي في السنوات السابقة والذي أقرته الحكومة في عام 2024 وتواصل العمل به في عام 2025 في تعبئة موارد إضافية مهمّة لميزانية الدولة مقارنة بالسنوات السابقة ويُتوقع أن تبلغ 45,2 مليار دينار وهو رقم غير مسبوق.
فضلا عن ذلك، اتخذت الحكومة استجابة لقرارات الرئيس سعيّد جملة من التدابير تستهدف الترفيع في الضرائب المفروضة على القطاع المنظّم من شركات ومؤسسات اقتصادية و إثقال جزء من عبء الميزانية الموجه لمنظومة الدعم على كاهل تلك المؤسّسات، مع انعدام واضح لأي إجراء يستهدف الإقتصاد الموازي الذي يمثل معضلة كبرى تنهك الاقتصاد التونسي.
وبتوجيهات من الرئيس سعيّد، أدخلت الحكومة عام 2025، تحويرا على جدول الضريبة على الدخل بالنسبة للأفراد عبر تخفيف العبء الضريبي حسب تصريحات حكومية على أكثر من 98% من دافعي الضرائب ممّن لا يتجاوز دخلهم السنوي الـ 20 ألف دينار. في المقابل، تمّ الترفيع في نسبة الاقتطاع الضريبي لبقية الشرائح التي يتجاوز دخلها السنوي الـ 30 ألف دينار وبشكل أكبر على الشرائح التي يتجاوز دخلها السنوي الـ 50 و70 ألف دينار تونسي.
يتنزّل هذا الإجراء في سياق إجراءات سابقة تمّ اتخاذها تقضي بالترفيع في الأجر الأدنى المضمون على مرحلتين الأولى في عام 2024 بنسبة 7% والثانية بداية من هذا العام بنسبة 7,5%، كما تمّ توسيع تطبيق هذه الزيادة على المتقاعدين.
وقبل ذلك، كانت الحكومة التونسية قد توصّلت في موفى العام 2022، إلى اتفاق مع الاتحاد العام التونسي للشغل للزيادة في أجور الموظفين العموميين يقضي بزيادة تراكمية في الأجر الخام بنسبة 5% في وقت بلغت فيه نسب التضخّم ضعف هذه الزيادة.

الرئيس قيس سعيّد أثناء زيارته لمدينة الدهماني 1 ماي 2025

الرئيس قيس سعيّد أثناء زيارته لمدينة الدهماني 1 ماي 2025
بالرغم من هذا الدور المتنامي لدور الدولة الاجتماعي، تبقى هذه الزيادات في أجور جزء من التونسيين.ـات غير متماشية ونسق التضخّم الذي عرفته البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية.
في دراسة تحليلية له، تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منها، يُشير أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية عبد الرحمان اللاحقة إلى أنّ “تدهور القدرة الشرائية للأجراء التونسيين.ـات تنامى بشكل واضح ويتجلّى من خلال مقارنة نسبة الزيادة في الأجور مع نسب التضخّم”.
فعلى سبيل المثال ووفق ذات الدراسة، “تدهورت القدرة الشرائية لأجير يتقاضى عام2022 حوالي 1500 دينار (و1650 دينار في عام 2025 مع تطبيق الزيادة)، بنسبة 13% بالنظر إلى أنّ نسق ارتفاع الأسعار خلال ذات الفترة كان في حدود 25%”.
تكشف هذه المعطيات السابقة الفكر الذي يستبطنه الرئيس قيس سعيّد والذي يرتكز على اعتماد سياسة شراء السلم الإجتماعية كما حصل بُعيد ثورة جانفي 2011، وذلك على حساب الإصلاح الذي يتطلّبه الاقتصاد التونسي المتأزّم هيكليّا دون تفكير واقعي في العواقب، خاصّة أنّ النموّ الاقتصادي لا يستجيب للانتظارات حيث مازال بعيدا عن الفرضيات الحكوميّة.
يتّضح ذلك أيضا من خلال معاينة مداخيل ميزانيّة الدولة للأعوام السابقة ومقارنتها بمصاريفها، حيث يتبيّن بشكل لا لبس فيه أنّ ما تنجح الدولة في تعبئته من إيرادات ضريبية مباشرة وغير مباشرة وديون خارجية وداخلية تُنفق في نهاية المطاف على الأجور أوّلا، وخدمة الدين ثانيا، ونفقات الدعم والتدخلات الإجتماعية ثالثا، والبقية موزّعة بين نفقات التنمية والتسيير، الشيء الذي لا يترك هامش تحرّك للحكومة لتوجيه اعتمادات ماليّة نحو الاستثمار ودفع النمو الاقتصادي.


ضغط جبائي واستنزاف للسوق المالية الداخليّة
منذ انفراده بالحكم بعد تفعيله للإجراءات الاستثنائية في جويلية من عام 2021، وإلى غاية رفضه الاتفاق الذي توصّلت إليه حكومته في أفريل من عام 2023، كان خطاب الرئيس سعيّد متّسما بما يعتبره استعادة السيادة الوطنية ومُركّزا على مهاجمة وكالات التصنيف الائتماني التي اعتبرها وكالات بأيدي هيئات مالية دولية مهيمنة ويُسيّرها فكر استعماري، وذلك في ردّ فعل منه على تصنيف تونس من ضمن الدول ذات الآفاق غير المستقرّة والتي يمكن أن تتخلّف عن سداد ديونها.
وفي عام 2022، في الوقت الذي بلغت فيه الأزمة الاقتصادية ذروتها في تونس، ما تسبب في نقص فادح في عدد من الموادّ الأساسيّة وخلق طوابير طويلة أمام المخابز ومحطّات الوقود، وجّه الرئيس سعيّد سهامه نحو الداخل واتهم “لوبيات تعمل تحت جنح الظلام لتأجيج الوضع في تونس عبر التلاعب بالمواد المدعمة وإخفائها والمضاربة فيها”، وهو ما استدعى منه إصدار مرسوم قانون زجري يتضمّن أحكاما سجنية قاسية على كل من يثبت تلاعبه بالمواد الغذائية والأساسيّة.


هذه الشمّاعة التي علّق عليها الرئيس سعيّد فشل حكومته في إدارة الأزمة المنجرّة عن ارتفاع الأسعار بفعل الحرب الروسية الأوكرانية وقتها، وتعطّل مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتمويل خزينة الدولة بـ 1,9 مليار دولار قبل رفضه، سرعان ما تلاشت تحت وقع القروض التي تحصّلت عليها تونس في ذلك الوقت من طرف الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والبنك الأفريقي جلّها تحت عنوان الأمن الاجتماعي والغذائي وكانت موجّهة أساسا لشراء القمح والغاز للتونسيين.ـات، فضلا عن قروض ثنائية أخرى تحصّلت عليها تونس من المملكة العربية السعودية والجزائر وجهت لدعم ميزانية الدولة، ودون اعتبار الهبات التي قدّمتها بعض الدول إلى تونس.
أشهر بعد تلك الأزمة الظرفية، وبعد ماراطون من المشاورات قادتها وزيرة المالية السابقة سهام نمصية البوغديري مع خبراء صندوق النقد الدولي والتوصل إلى اتفاق مُثير للجدل معهم، قرّر الرئيس سعيّد رفض ذلك الاتفاق والمُضي قدما نحو ما يُسميه التعويل على الذات.
للوهلة الأولى وعند سماع هذا الشعار، يذهب الظن إلى أنّ للرئيس سعيّد خلف قراره ذلك مخطّط متكامل لإنقاذ الاقتصاد التونسي المُنهك إلا أنّ الواقع يُشير إلى عكس ذلك تماما.
منذ العام 2022، عجزت الحكومات عن تعبئة موارد اقتراض خارجي كما تفترضه قوانين المالية. فعلى سبيل المثال، برمجت الحكومة في عام 2022 تعبئة قروض خارجية في حدود الـ 11 مليار دينار تونسي في حين لم تتجاوز نسبة الإنجاز الـ 40%، وعلى نفس الشاكلة سارت الأمور عامي 2023 و2024، رغم علم الحكومة والرئيس سعيّد أنّ أبواب التمويل الخارجي موصدة أمام تونس بعد انهيار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والحط من تصنيفها الائتماني من طرف كل الوكالات.
وأمام ما يُشبه الحصار المالي المفروض على تونس بفعل السياسة الصدامية التي انتهجها الرئيس سعيّد تُجاه الصناديق المالية الدولية ورفضه لما يُسميها بالشروط المُجحفة، اتجهت الحكومات نحو التعويل على السوق الداخلية ممّا دفع إلى تنامي الإقتراض الداخلي بشكل ملحوظ.


بمعاينة هذه الأرقام، ونسب النموّ التي تحقّقها البلاد في السنوات الماضية، يتّضح أنّ شعار التعويل على الذات في فلسفة الرئيس سعيّد ينطلق أوّلا من خلال تعويض العجز عن تعبئة موارد الإقتراض من الخارج بمديونية داخلية، وهو ما يتجلّى في قانون المالية لعام 2025 الذي افترض تعبئة موارد اقتراض خارجية في حدود الـ 6,1 مليار دينار وهو رقم متدنّ مقارنة بالقوانين السابقة، لكنّه واقعي بالنظر لما أنجز سالفا، وموارد اقتراض داخلي بـ 21,8 مليار دينار، تُترجم بشكل ملموس شعار الرئيس سعيّد نحو ما يُسميه تعويل على الذات.
وبالنظر إلى التوجّهات التي ترسمها حكومات الرئيس سعيّد عبر قوانين الماليّة للسنوات السابقة، يتضح أنّ فكرة صرف النظر عن التداين الخارجي ليست وليدة قرار استراتيجي في إطار مخطط بديل عن شروط صندوق النقد، بقدر ما هو ردّ فعل على عدم تجاوب الأسواق والصناديق المالية الدولية لطلبات تونس بسبب تراجع تصنيفها الائتماني.
ويتّضح ذلك أيضا من خلال توجه تونس لطلب قروض في مناسبات عدّة من البنك الإفريقي للتوريد والتصدير آخرها في موفى عام 2024 بعدما صادق البرلمان على اتفاقية قرض بقيمة 500 مليون دولار أمريكي بنسبة فائدة قارّة في حدود الـ 5,7%، موجه لدعم ميزانية الدولة.


مواصلة مع ما تحقّق من شعار التعويل على الذات على أرض الواقع، يُستنتج من خلال التدقيق في القوانين وكما تمّ تبيانه سالفا تزايد لافت للانتباه في الإيرادات الضريبيّة.
سلّطت الإجراءات الحكومية ضغطا جبائيا ملحوظا على القطاع المُنظم قفز من 23,5% عام 2019 إلى 25,1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد موفى العام 2024، رغم بعض الإجراءات ذات الصلة بتخفيف العبء الضريبي على شرائح من التونسيين.ـات خاصة منهم ضعيفو الدخل و إثقال كاهل المؤسّسات الاقتصادية الكبرى على غرار البنوك وشركات التأمين وحتّى الشركات الصغرى والمتوسطة بزيادة ملحوظة في الضرائب المفروضة عليها.
وتُشير أرقام منظمة التعاون الإقتصادي إلى أنّ نسبة الضغط الجبائي باحتساب الاقتطاعات الموجهة للتغطية الاجتماعية تتجاوز الـ 33% ما يضع تونس في المرتبة الأولى إفريقيّا في مستوى الضغط الجبائي.
ورغم النبرة التفاؤلية للحكومة بتخفيف هذا الضغط والنزول به إلى مستوى 24,7% موفى هذا العام 2025، إلا أنّ هذا التقدير مقترن بتحقيق النسبة المُفترضة للنمو الاقتصادي والتي قدّرتها الحكومة في حدود الـ 3,2% وهو ما يلوح صعب التحقّق بناء على توقعات كل من البنك والصندوق الدوليين (1,4 – 1,9 %).
يُفسّر الخبير الإقتصادي بسام النيفر في حواره مع الكتيبة، أنّ هذا “التمشي الذي تسير فيه الحكومة وإن كان واقعيّا بالنظر إلى ما يطلبه الرئيس سعيّد والظروف التي تعمل فيها الحكومة إلاّ أنه لا يحلّ المشكل الأساسي لتأزّم الوضع الاقتصادي في تونس بالنظر إلى نسق نموّه البطيء جدّا”.
ويُضيف النيفر أنّ الرؤية التفاؤلية للحكومة بتحقيق نسبة نمو تتجاوز الـ 3% تبدو بعيدة كلّ البُعد عن الواقع وفي أحسن الحالات وأفضل السيناريوهات لن تتجاوز الـ 2%.
خلال الثلاثي الأوّل من هذا العام، حقّق الاقتصاد التونسي نموّا في حدود الـ 1,6% مقارنة بذات الفترة من عام 2024 فيما قُدّرت هذه النسبة بـ 0,2 – مقارنة بالثلاثي الأخير من عام 2024، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.

لقاء الرئيس قيس سعيّد بكل من رئيس الحكومة ووزيرة المالية ووزير التخطيط والاقتصاد 12جوان 2025

لقاء الرئيس قيس سعيّد بكل من رئيس الحكومة ووزيرة المالية ووزير التخطيط والاقتصاد 12جوان 2025
دور اجتماعي بخزائن فارغة: فهل يستقيم الوضع؟
لا يبدو أنّ لحكومة الرئيس سعيّد هامش تحرّك واسع أمام الضغط المسلّط على الماليّة العمومية كما تُشير إلى ذلك نفقات الدولة المُتصاعدة في ظلّ تعطّل محرّكات النمو الاقتصادي.
خلال ترؤّسه آخر اجتماع وزاري الخميس 16 جوان 2025، تطرّق الرئيس سعيّد إلى عديد الملفات لعلّ أهمها إشكالية خلاص الديون التي تُثقل ميزانية الدولة ما يوضح قلقه إزاء استحواذ خدمة الدين العام على نسبة مُهمة من ميزانية الدولة.
في ذلك الاجتماع، يعيد الرئيس سعيّد توجيه انتقاداته إلى أسلافه ممّن حكموا تونس بعد ثورة جانفي 2011 وقبلها بسبب هذه الديون والسياسات التي اتبعتها الدولة التي قال إنّه قد شابها الكثير من الفساد.
تمّ قصف كلّ المرافق العمومية قصفا منذ ثمانينات القرن الماضي استجابة إلى إملاءات خارجية.
قيس سعيّد خلال ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء في 16 جوان 2025
فضلا عن ذلك، أعاد الرئيس سعيّد خلال ذات الاجتماع الحديث عن الأموال المنهوبة التي قال إنّها يجب أن تعود بأيّ ثمن كان ووجوب مقاربتها مقاربة جديدة، وهو ما يُشير إلى آماله المُعلّقة على عائدات الصلح الجزائي للخروج من الدائرة المُغلقة التي يسير فيها الاقتصاد التونسي.
في حواره مع الكتيبة وجوابا منه على الإمكانيات المُتوفرة للخروج من هذه الدوامة، قال الخبير بسام النيفر إنّه “لا حلّ أمام تونس سوى تعبئة موارد ماليّة بعيدا عن دوامة الاقتراض إمّا عبر التفويت في بعض المؤسسات العمومية أو عبر عائدات الصلح الجزائي”.
هذه الحلول تبدو صعبة التحقيق، مع تعطّل مسار الصلح الجزائي الذي وبالرغم من تمديد أعمال اللجنة المعنية بتنفيذه لا تتّضح بوادر نتائج ممكنة له على الأقل في المدى القصير، خاصّة أنّ الرئيس سعيّد عند مبادرته بمرسوم الصلح الجزائي تحدّث عن عائدات مالية تتجاوز الـ 13 مليار دينار تونسي، وهو رقم ضخم إذا ما توفّر فعلا يمكن أن يمثّل طوق نجاة للاقتصاد التونسي المتأزم هيكليّا.
من هنا، يمكن أن نستشفّ أنّ الرئيس سعيّد لا يرى حلّا للوضعية التي يعيشها الاقتصاد التونسي إلا من خلال استرجاع الأموال المنهوبة وهي فكرة تُسيطر بشكل مُطلق على الفلسفة التي تقف وراء تصوّراته الاقتصادية.
وفي حال تواصل هذا التعطّل في ملف الصلح الجزائي قد يضطرّ الرئيس سعيّد إلى مناقضة نفسه وخطاباته التي رفع فيها كلّ اللاءات الممكنة في وجه كل دعوات التفويت في بعض من المنشآت العموميّة.
يتّضح هذا من خلال قراءة التغيير الطفيف في خطابات الرئيس سعيّد في الآونة الأخيرة في خصوص بعض من المؤسسات التي قال إنّه “لا طائل من وجودها وهي بمثابة ثقب في خاصرة الدولة تستنزف أموالها”، دون أن يوضّح ماهيّة هذه المؤسسات وطبيعة نشاطها.
كما لا تبدو فرضية التفويت في بعض من المنشآت العمومية ولو جزئيا في إطار إعادة هيكلتها، غائبة عن ذهن الرئيس سعيّد وحكومته، وهي للإشارة تُمثل أحد بنود الاتفاق الأخير الذي توصلت إليه حكومة نجلاء بودن في أكتوبر عام 2022 مع صندوق النقد قبل اتخاذ قرار برفضه.
من المهم التذكير بذلك الاتفاق على اعتبار أنّ بعضا ممّا تضمّنه من بنود عملت حكومات الرئيس سعيّد المتعاقبة على تفعيله من ذلك مواصلة الالتزام بغلق باب الإنتداب في الوظيفة العمومية إلا في بعض القطاعات الحسّاسة، والضغط على كتلة الأجور والنزول بها إلى مستويات أقل وهو ما تحقّق فعلا حيث انخفضت إلى مستوى 13,6% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.


يجد الرئيس سعيّد نفسه في قلب عاصفة بين رفع شعارات الدولة الاجتماعية وضرورة إرساء عدالة اجتماعية حقيقية وبين مواصلة الضغط على كتلة الأجور وتقليل عجز الميزانية وعجز الميزان التجاري.
ففي لقائه الأخير بكل من رئيسة الحكومة ووزيرة المالية ووزير التخطيط والإقتصاد، أوصى الرئيس سعيّد بضرورة إعادة فتح باب الإنتداب بالوظيفة العمومية عند إعداد مشروع قانون المالية لعام 2026، وفي ذات الوقت يُشدّد على ضرورة تطهير الإدارة ممن وصفهم بـ “فلول الردّة”.
هناك من الشباب المتخرّج من الجامعات والعاطل عن العمل من هو أكثر إرادة وأحق بالانتداب ممّن تسلّلوا إلى الإدارة وعملوا على تأجيج الوضع.
الرئيس التونسي قيس سعيّد
لا يتّضح بعد إن كان الرئيس سعيّد يتّجه فعلا نحو ترجمة ما يُسمّيها “حرب التحرير” المُراد منها “تطهير” الإدارة، عبر تسريح موظفين وتعويضهم بآخرين خاصة أنّ الحكومة أطلقت منذ ما يزيد عن سنتين حملة للتثبت من ملفات موظفيها العموميين حيث قال الرئيس سعيّد إنّ عشرات الآلاف منهم انتدبوا على ضوء شهادات مزوّرة.
بصرف النظر عن مآلات هذا الملف غير واضح النتائج، واعتمادا على قانون المالية لعام 2025، يتّضح أنّ الحكومة برمجت انتداب حوالي 21 ألف موظف جديد، جزء لا بأس به منهم متعاقدون مؤقتا مع عدد من الوزارات على غرار الأساتذة والمعلّمين النواب، والبقية موزّعون على الوزارات الحساسة كالأمن والدفاع والصحة، أي أنّ الحكومة تواصل العمل بمبدأ تجميد باب الانتداب باستثناء بعض القطاعات الحساسة ومواصلة العمل بالبرنامج الخصوصي للإحالة على التقاعد قبل بلوغ السنّ القانونية، وعدم سدّ الشغور الذي يخلفه مغادرة موظفين نحو التقاعد.


على صعيد آخر، تُشير معدلات البطالة المُرتفعة إلى تراجع معدّلات الاستثمار داخليّا ما قلّص وتيرة إحداث مواطن شغل جديدة.
وفق ما أظهره تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية حول “مراجعة سياسة الاستثمار في تونس” يتّضح تراجع معدّل تطوّر الاستثمار بشكل عام، إلى مستوى 18 بالمائة في الفترة المنحصرة بين عامي 2017 و 2024، بعد أن كان في مستوى 20 %.
ذات التقرير يُفسّر أنّ تراجع مؤشر تطوّر الاستثمارات في تونس، “يأتي بسبب صعوبة شروط النفاذ إلى التمويل بالنسبة الى المؤسسات الخاصة، تبعا للوضع الاقتصادي الصعب الذي يعاني من أزمة هيكلية مزدوجة والضغوط التي تشهدها السوق المحلية المُستنزفة لتمويل خدمة الدين وسدّ عجز الموازنات المالية عبر اقتراض الدولة من النظام المصرفي للبلاد وهو ما يمثل مزاحمة في ولوج القطاع الخاص إلى التمويل البنكي”.
وفي سياق متصّل، ازدادت الصعوبات بالنسبة للمؤسّسات الصغرى والمتوسطة بسبب قانون الشيكات الجديد الذي خفّض من جهة في مستوى الاستهلاك لا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى التي كانت تتعامل بالشيك كوسيلة ضمان، كما تضرّر الفاعل الاقتصادي وصاحب المؤسّسة الذي كان بدوره يعتمد على ذات الوسيلة كحلّ لمجابهة صعوبة الولوج إلى التمويل البنكي، وهو ما دفع بالعديد من الخبراء إلى التحذير من خطر حصول انكماش استهلاكي وركود تجاري في السوق المحليّة.
وفي خصوص تطوّر استقطاب تونس للاستثمارات الخارجية، يظهر تقرير حديث آخر لذات المنظمة أنّ الأرقام المُحقّقة بنهاية العام 2024، لم تتجاوز بعد مستويات العام 2018، بالرغم من أن تونس تعتبر من بين الدول التي حقّقت قفزة خلال ذات العام مدفوعة بتطوّر حجم الاستثمارات في الطاقات المتجددة.


في الحقيقة، فإنّ ركود الاستثمار الأجنبي المباشر في تونس ليس مستجدّا مع انفراد الرئيس سعيّد بالحكم، لكنّه ازداد حدّة معه، كما لا يزال الاستثمار الخاصّ ضعيفا في تونس، الشيء الذي أثّر سلبا على نمو الناتج الداخلي الخام، ما أدّى إلى ارتفاع معدّل البطالة.
رغم كل هذه العوامل الموضوعيّة، يُصرّ الرئيس سعيّد على المُضي قُدما في لعب دور اجتماعي متصاعد وإرساء عدالة اجتماعية وفق تصوراته التي لا تأخذ بعين الاعتبار تراجع جلّ هذه المؤشرات وأهمّها تراجع إحداث مواطن شغل لتخفيف وطأة البطالة في صفوف الشباب.
يتجلّى ذلك من خلال محاولة امتصاص الرئيس سعيّد لهذا العجز عبر تسوية آلاف الوضعيات الاجتماعية، ويتأكّد من خلال القانون الذي صادق عليه مؤخّرا مجلس نواب الشعب والمتعلّق بتنقيح بعض الفصول من مجلّة الشغل في اتجاه تجريم المناولة وتنظيم عقود الشغل، وهو مطلب لطالما نادت به النقابات والمنظمات الاجتماعية.
وبالرغم من أنّ نتائج التنقيحات الأخيرة على مجلّة الشغل لم تتضح بعدُ، إلا أنّ عددا من المتابعين للشأن الاقتصادي والاجتماعي في تونس أبدوا قلقهم من إمكانية ارتفاع معدّلات البطالة من جهة وتضخّم كتلة الأجور بميزانية الدولة من جهة أخرى، خاصّة أنّ الأخيرة تمّ النزول بها إلى مستويات معقولة موفى العام 2024، وذلك بعد بروز بوادر موجة طرد تعسفي في القطاع الخاص هربا من تفعيل القانون الجديد، فضلا عن غلق مؤسّسات أخرى كانت تشتغل في مجال الحراسة والتنظيف، كما أنّ الدولة وجدت نفسها مجبرة على انتداب كلّ من كان يعمل تحت غطاء المناولة في القطاع العام لاسيما بعد حلّ شركة الاتصالية للخدمات بقرار رئاسي على وجه الخصوص.

الرئيس قيس سعيّد في جولة ميدانية بين عدد من أحياء وأسواق العاصمة تونس. 02 مارس 2025

الرئيس قيس سعيّد في جولة ميدانية بين عدد من أحياء وأسواق العاصمة تونس. 02 مارس 2025
بين إيمان وإصرار الرئيس سعيّد على إرساء دولة إجتماعيّة، تفي مواطنيها كافّة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وبين الضُغوطات المُتصاعدة على الماليّة العموميّة المبينة في ارتفاع خدمة الدين العمومي وعجز الميزانية والميزان التجاري وتدني مستويات الاستثمار الداخلي والخارجي، يلوح المستقبل ضبابيا إلى حدّ ما.
استغرقت تونس 4 سنوات كاملة لتحقيق نتائج اقتصادية قريبة من المعدّلات التي كانت تُسجلها قبل جائحة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يجعلها حالة فريدة مقارنة بدول المنطقة التي تعرّضت لنفس الصدمات.
تُشير كل هذه المعطيات إلى أنّ الإقتصاد التونسي يعيش أزمة هيكلية عميقة، وتتعمق أكثر بمجرّد تلقيه صدمة خارجية.
هذا الوضع الذي يقول الرئيس سعيّد إنّه نتاج للخيارات والسياسات التي توجهت فيها الدولة منذ ثمانينات القرن الماضي، لا توجد اليوم أي تصوّرات واضحة وعمليّة للقطع معه أو تقديم بديل لبرامج الهيئات المالية الدولية وشروطها، وهو ما يتجلّى من خلال دعوات الرئيس سعيّد المتكررة لوزرائه بضرورة استنباط حلول جديدة ومقاربة الإشكاليات والتحدّيات الاقتصادية بمقاربات جديدة يبدو أنه هو نفسه لا يعلم ماهيتها أو السبيل إليها.

الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي










الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
