انتهاك الحقّ في الاجتماع والتنظّم: كيف تحوّلت الحريّات الأساسيّة إلى جريمة في تونس؟

طيلة السنوات التي تلت الثورة في تونس بعد منعطف 2011، لم تكن حريّة الصحافة والتعبير لوحدها من المكاسب التي تحقّقت، بل إنّ حقّ الإجتماع وحريّة التنظّم كانت من الحقوق والحريّات العامّة الأساسيّة التي تجسّدت على أرض الواقع بعد عقود من النضال المدني والسياسي من أجلها. بيد أنّ الأمور ستنقلب رأسا على عقب مجدّدا إثر انفراد الرئيس قيس سعيّد بجميع السلطات منذ صائفة 2021، في مشهد أعاد البلاد إلى زمن كاد أن يُصبح غابرا.

الكاتبة : يسرى بلالي

صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية

في أكتوبر 2025، أعلنت السلطات التونسيّة عن تعليق نشاط عشرات الجمعيات لمدة شهر كامل، في إجراء أثار استنكارًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والسياسيّة محلّيا ودوليّا. هذه الخطوة تأتي ضمن سلسلة من التدابير التي تستهدف تضييق وخنق الفضاء المدني والسياسي في تونس، وتعكس تصاعد تدخّل السلطة في حريّة نشاط الجمعيات وممارسة الحقّ في الاجتماع والتعبير والتنظّم على الصعيدين المدني والسياسي على حدّ سواء.

يُعدُّ هذا التعليق مؤشّرًا واضحًا على تراجع المكاسب الحقوقيّة التي تحقّقت بعد الثورة، ويعيد إلى الواجهة تساؤلات حول التوازن بين القوانين الوطنية والالتزامات الدولية لتونس في ما يتعلّق بحقوق الإنسان، وكذلك عن مدى استعداد الدولة لاحترام حرّية النشاط المدني والحقوقي في سياق سياسي متقلّب. كما يعكس هذا الإجراء تحديّات جديدة أمام المجتمع المدني لتطوير استراتيجيات مقاومة في الفضاءات التقليدية والرقمية على حد سواء، لضمان استمرار النشاط الحقوقي ومتابعة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهامّة دون قيود تعسّفية.

الكاتبة : يسرى بلالي

صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية

في أكتوبر 2025، أعلنت السلطات التونسيّة عن تعليق نشاط عشرات الجمعيات لمدة شهر كامل، في إجراء أثار استنكارًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والسياسيّة محلّيا ودوليّا. هذه الخطوة تأتي ضمن سلسلة من التدابير التي تستهدف تضييق وخنق الفضاء المدني والسياسي في تونس، وتعكس تصاعد تدخّل السلطة في حريّة نشاط الجمعيات وممارسة الحقّ في الاجتماع والتعبير والتنظّم على الصعيدين المدني والسياسي على حدّ سواء.

يُعدُّ هذا التعليق مؤشّرًا واضحًا على تراجع المكاسب الحقوقيّة التي تحقّقت بعد الثورة، ويعيد إلى الواجهة تساؤلات حول التوازن بين القوانين الوطنية والالتزامات الدولية لتونس في ما يتعلّق بحقوق الإنسان، وكذلك عن مدى استعداد الدولة لاحترام حرّية النشاط المدني والحقوقي في سياق سياسي متقلّب. كما يعكس هذا الإجراء تحديّات جديدة أمام المجتمع المدني لتطوير استراتيجيات مقاومة في الفضاءات التقليدية والرقمية على حد سواء، لضمان استمرار النشاط الحقوقي ومتابعة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهامّة دون قيود تعسّفية.

إنّ تعليق نشاط هذه الجمعيات يوضّح أنّ السلطة السياسية الحاليّة تعتبر الحراك المدني نشاطًا يجب ضبطه أو تقييده عندما يتعارض مع مصالحها، وهو ما يمثّل انتهاكًا مباشرًا لمبدأ الحق في الاجتماع المكفول دستورياً ودولياً. كما يعكس هذا القرار تزايد الاعتماد على إجراءات غير قانونية أو غير مبرّرة لتعطيل عمل الجمعيات، وهو ما يضع المجتمع المدني أمام اختبار صعب للحفاظ على استقلاليته ونفوذه.

وتفيد منظمات مدنيّة في تونس من بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أنّ أكثر من 600 جمعيّة مهدّدة في حقّها في العمل بسبب تعليقات تعسفيّة وتجميد حسابات وملاحقات قضائيّة. مع العلم أنّ عدد الجمعيات في تونس يقدّر بحوالي 25 ألف جمعيّة من بينها حوالي 7000 فقط قيد النشاط الفعلي، وفق مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطيّة.

قبل ذلك وتحديدا في 10 أفريل 2025، تمّ أيضا منع سينما-مسرح الريو من استقبال محاكمة صورية نظّمتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالشراكة مع منظّمات حقوقية تونسية، وتواصلت هذه التضييقات مع عدّة تظاهرات أخرى على غرار مجموعة مساندة الصحفي المعتقل مراد الزغيدي وجمعية القضاة الشبّان وندوات سياسية معارضة أخرى.

هذا المنع يُشير إلى محاولات واضحة لتقييد الفضاء المدني وإعادة إنتاج السيطرة على المجتمع من خلال التضييق على حرّية الاجتماع. إذ تعتمد “الجمهورية الجديدة” أدوات القمع المباشر وغير المباشر لاحتواء أيّ نشاط معارض أو مستقلّ، ما يعكس انحدارًا في مستوى احترام الحقوق والحرّيات العامّة مقارنة بالمرحلة التي أعقبت الثورة، وفق تقارير حقوقيّة.

كما تأتي هذه التضييقات على خلفية سياسة جديدة انتهجتها السلطة لتكميم أفواه المعارضة، فتُعيد هذه الإجراءات إلى الذاكرة الممارسات القمعية التي كانت تُمارسها الأنظمة السابقة قبل ثورة الحريّة والكرامة (17 ديسمبر 2010 /14جانفي 2011). فبعد أن أنتُزع مكسب حرّية التعبير والتنظّم والاجتماع وأصبحت الفضاءات الخاصّة والعامّة لا تخلو من الندوات والتظاهرات السياسية والثقافية والحقوقية في ما يُعرف بالعشرية، عاد مسار 25 جويلية (2021) ليُغيّر من هذه المكاسب بل ويُقلّصها شيئا فشيئا حتى أصبحت شبه ممنوعة.

مبدأ حقّ الاجتماع

حقّ الاجتماع هو حقّ مكفول بالقانون التونسي والمعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة التونسية، إذ يضمن القانون التونسي حقّ الاجتماع السلمي والتظاهر وتأسيس الجمعيات وتنظيم أنشطة وندوات من مختلف المشارب الفكرية والثقافية حسب أهداف الجهة المنظّمة والمصادق عليها من قبل رئاسة الحكومة، كما يُحدّد القانون ضرورة الالتزام بالإجراءات التي لا تمسّ من جوهر هذا الحق والمتمثّل أساسا في حق الأفراد في التفاعل والتنظيم والتعبير الجماعي.

رغم الضمانات القانونية، يوضّح الواقع أنّ الحقوق المكفولة دولياً ووطنياً تبقى عرضة للانتهاك حين تتعارض مصالح السلطة مع نشاط المجتمع المدني. كما أنّ تفسير السلطات للقيود القانونية غالبًا ما يكون ذريعة لتقييد الحقّ في التجمّع السلمي بدل حمايته.

كفلت الدساتير التي مرّت على البلاد التونسية حقّ الاجتماع بداية من دستور 1959، ودستور 2014، ثمّ دستور 2022 الذي يضمن حريّة الاجتماع والتظاهر السلميين في الفصل 42 من الباب الثاني المتعلّق بالحقوق والحرّيات. كما صادقت تونس على معاهدات دولية تضمن حقّ الاجتماع على غرار المادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، وإعلان الأمم المتحّدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان.

إنّ هذه الالتزامات الدولية تجعل أيّ منع للتجمّعات أو التضييق على الجمعيات غير مبرّر قانونيًا ويمثّل خرقًا واضحًا لالتزامات تونس الدولية، ما يعكس انفصالاً بين النص القانوني وممارسة السلطة على أرض الواقع.

وعلى المستوى القانوني، فإنّ حقّ الاجتماع والتنظّم وتكوين الجمعيات هو من الحرّيات العامّة التي تضمنها المعاهدات الدولية حسب المحامية والكاتبة العامّة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات هالة بن سالم، وقد تمّ تكريسها في الفصل 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما أنّ المرسوم 88 لسنة 2011 يُنظّم الجمعيّات ويسمح لها بالنشاط والتنظّم.

تُشير أيضا بن سالم إلى حقّ الأحزاب في تنظيم ندوات وهو حقّ مكفول بالدستور وبالقانون التونسي على غرار الفصل 55 من الدستور التونسي.

وفي نفس الصدد، تُشير المحامية هناء عبّاس إلى القانون عدد 4 من سنة 1969 والذي يتعلّق بـ”الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والمظاهرات والتجمهر” وحسب الفصل الأول منه فإنّ “الاجتماعات العامّة حرّة ويمكن أن تنعقد بدون سابق ترخيص حسب الشروط التي يضبطها هذا القانون.”

ورغم هذه الترسانة القانونيّة والحقوقيّة المتعلّقة بحقّ الاجتماع تبقى الشروط التي يضبطها القانون تُكيّف حسب الواقع السياسي والاجتماعي للشارع التونسي، لأنّه لم يتمّ قانونيا التنصيص صراحة على القيود أو خرق للحقّ في مبدأ حقّ الاجتماع وإنّما هي نفس القيود المحدّدة للحقوق والحريّات عامّة مثل الفصل 55 من الدستور التونسي ويقتضي وجود ضرورة كحماية حقوق الغير أو حماية نظام ديمقراطيّ.

حريّة التنظّم: هرسلة متواصلة

تُعدّ حرّية الاجتماع أحد الأعمدة الأساسية للحياة الديمقراطية، فهي التي تتيح للمواطنات والمواطنين التعبير الجماعي والمشاركة في النقاش العام خارج قوالب السلطة الرسمية. غير أنّ هذه الحرّية لا تستقيم دون امتدادها الطبيعي: حرّية التنظّم، والتي تمنح الأفراد القدرة على بناء هياكل دائمة -جمعيّات ونقابات وأحزاب- تتحوّل فيها الطاقة الفردية إلى قوّة اجتماعية قادرة على التأثير والرقابة وصناعة المبادرات. وقد شكّل مرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بالجمعيّات لحظة مفصليّة، إذ رسّخ مبدأ التصريح بدل الترخيص وفتح المجال أمام طفرة مدنيّة غير مسبوقة. لكنّ السنوات الأخيرة حملت تحوّلًا لافتًا: تصاعد الخطاب الرسمي المشكّك في استقلالية المجتمع المدني، وتزايد الضغط على التمويل، وظهور توجّهات لإعادة منطق الترخيص والوصاية الإدارية على عمل الجمعيات. وفي السياق نفسه، برزت تقييدات جديدة على الاجتماعات العمومية، سواء عبر إجراءات غير مكتوبة أو عبر ممارسات تُضيّق على الأنشطة الجماهيرية.

تستند حرّية التنظّم في تونس إلى منظومة قانونية متراكمة تمتدّ من النصوص الدستورية -كما ذكرنا ذلك- إلى القوانين الترتيبية والمعايير الدولية. فقد منح كل من دستور 2014 و2022 حماية صريحة لهذا الحقّ والذي يضمن حرّية تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيّات ويحظر حلّها أو تعليقها إلا بقرار قضائي.

وعلى المستوى التشريعي، يظلّ المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بالجمعيّات، والمرسوم عدد 87 لسنة 2011 الخاصّ بالأحزاب، ومدوّنة الشغل المنظمة للنقابات، الركائز الأساسية التي تحكم ممارسة هذا الحق عمليًا. كما تبقى تونس ملزمة دوليًا بـالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية منظمة العمل الدولية، بما يوفّر طبقة إضافية من الحماية القانونية ويحدّد سقفًا واضحًا لأي تغييرات تشريعية قد تمسّ جوهر حريّة التنظّم.

وفي هذا الصدد، يُشير خبير في المجال المدني -رفض الكشف عن هويّته- إلى أنّ الصعوبات المتعلّقة بتأسيس الجمعيات ليست جديدة، فقد بدأت منذ سنة 2015 حين توقّفت الإدارة تدريجيًا عن تطبيق مقتضيات المرسوم 88، وظهرت ممارسات مكتبيّة تُعطّل حقّ التأسيس عبر التدخّل في أهداف الجمعيات وتسمياتِها وأسماء مؤسّسيها، فضلًا عن تعقيد الإجراءات التي كان من المفترض أن تتمّ بطريقة بسيطة وشفافة.

ويضيف الخبير في المجال المدني:

” تأسيس الجمعيّات ذات الطابع الرقابي -خاصّة في مجالات الانتخابات والشفافية- أصبح شبه مستحيل في السنوات الأخيرة، مقابل فسح المجال أمام الجمعيات الثقافية أو الأقرب للسلطة.”

ورغم هذا التضييق، تكشف دراسة أنجزها سابقًا مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطية أنّ الجمعيات ساهمت في حدود 1.7% من الناتج القومي الخام، وشغّلت نحو 80 ألف شخص بين تشغيل مباشر وغير مباشر، قبل أن يتراجع هذا الوزن الاقتصادي بفعل الضغوط السياسية وتقلّص الموارد منذ نهاية 2020، ما أدّى إلى إغلاق عشرات الجمعيات وتوقّف برامج عديدة.

تكشف الشهادة التي استعنا بها عن تحوّل أعمق من مجرد تعقيدات إدارية: فهو يعكس انتقال الدولة من نموذج “تنظيم حرّ” قائم على التصريح إلى نموذج يقوم على الفرز السياسي والتحكم في الفضاء المدني. فمنذ 2021، اتّجهت السلطة إلى إعادة صياغة العلاقة مع الجمعيات باعتبارها فاعلًا قد يشكّل مصدر مساءلة وإزعاج، خصوصًا تلك المنخرطة في مراقبة الانتخابات أو مكافحة الفساد.

وفي ظلّ غياب نصوص جديدة توضّح قواعد اللعبة، برزت ممارسات موازية -شفوية وغير مكتوبة- أصبحت أشبه بمنظومة قانونية بديلة تُحدّد ما هو ممكن وما هو ممنوع، وفق معيار القرب أو البعد من السلطة. والنتيجة هي إعادة هندسة المجال المدني، بحيث يُسمَح فقط بالأنشطة غير السياسية أو غير الرقابية، بينما يُضيَّق الخناق على المنظمات المستقلة ذات الوظيفة الديمقراطية بامتياز. هذا الانكماش لا يهدّد فقط حرية التنظّم، بل يعيد تشكيل توازن القوى في المجال العامّ، ويفتح الباب أمام مجتمع بلا رقابة ولا مؤسسات وسيطة ولا هيئات تعديلية، وهو تحوّل جوهري في مسار الانتقال السياسي في تونس.

في السياق ذاته، يؤكّد عماد الخميري، الناطق الرسمي باسم حركة النهضة والقيادي بجبهة الخلاص الوطني، أنّ الإشكال في تونس بعد 25 جويلية 2021 لم يعد مرتبطًا بالنصوص القانونية، بل بتعطيل تطبيقها على الأرض. فالمناخ السياسي السائد -وفق روايته- يتّجه نحو تكريس نمط حكم شمولي يستهدف حريّة التنظيم عبر الاعتقالات الواسعة التي شملت قادة أحزاب معارضة، واعتماد خطاب رسمي يقوم على تخوين السياسيين.ات وتجريم النشاط الحزبي. ويرى الخميري أنّ غلق مقرّ حركة النهضة منذ أفريل 2023 دون إذن قضائي يمثّل مثالًا صارخًا على هذا التوجّه، إذ ظلّ المقرّ مغلقًا رغم انتهاء مدّة وضعه تحت تصرّف السلطات الأمنية.

ويمتدّ هذا التضييق، حسب الشهادة نفسها، إلى الجمعيات، عبر الحدّ من التمويل الخارجي القانوني، وتوجيه اتهامات بالارتباط بالخارج أو المساس بالسيادة الوطنية، وصولًا إلى تعليق نشاط جمعيّات مثل “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” و”المنتدى الاقتصادي والاجتماعي” وغيرها. كما يشير الخميري إلى تدخلات طالت المنظمات الاجتماعية، ومنها الاتحاد العام التونسي للشغل، في سياق يرى أنّه يهدف إلى إعادة صياغة المشهد الوسيط (الأجسام الوسيطة) في البلاد وفرض خيارات سياسية دون حوار أو تشاور.

تعكس هذه الشهادة أيضا، واحدة من أكثر نقاط التحوّل حساسية في المشهد السياسي التونسي: الانتقال من إطار قانوني يضمن حريّة التنظّم -كما كرّسه المرسوم 88 والدساتير السابقة- إلى واقع تُعاد فيه هندسة المجال السياسي والمدني عبر أدوات غير تشريعية، أغلبها قائم على القرارات الإدارية والخطاب السياسي والممارسات الأمنية. ويشير نمط الإجراءات المذكور، من هرسلة الأحزاب إلى تعليق نشاط الجمعيات، إلى إعادة تشكيل المقاربة الرسمية تجاه القوى الوسيطة التي شكّلت تاريخيًا أحد أعمدة الحياة العامة في تونس. فبموازاة الحديث عن “النظام القاعدي” أو تجاوز الوسائط التقليدية، تتّجه السلطة إلى إضعاف الفاعلين الذين ينتجون مراقبة عمومية ورقابة سياسية، وهو ما يؤثّر مباشرة في موازين القوى داخل المجتمع ويجعل الفضاء العامّ أقلّ تعدّدية، وأكثر قابلية للانغلاق.

في هذا السياق، تصبح حريّة التنظّم -حزبيًا ومدنيًا- مؤشرًا حاسمًا لفهم طبيعة المسار السياسي الراهن: هل هو إعادة ترتيب للنظام السياسي، أم إعادة هندسة للمجتمع ذاته عبر تقليص دور الأحزاب والجمعيات والمنظّمات الوطنية في رسم السياسات والتعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة؟ أو أنّ التاريخ يُعيد نفسه بشكل أكثر استبدادا؟

الحركة الحقوقية التونسية أو عندما التاريخ يُعيد نفسه

حمل تاريخ الحركة الحقوقية -التي نُظّمت فعليا في تونس مع تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في ماي 1977 برئاسة سعد الدين الزمرلي- في أرشيفه العديد من التضييقات والملاحقات. فقد كانت أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي طفرة لولادة المنظمّات والجمعيات الحقوقية و ملاحقة أنشطتها من قبل الأنظمة الاستبدادية بداية من حُكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وصولا إلى نهاية حُكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

ومع اندلاع ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي 2011، مرّت هذه الحركة بفترة حرّية العمل والتنظّم والاجتماع رغم التحريض الذي كان يطالها من أصحاب الأيديولوجيات المختلفة، لكن وبعد ما يُعرف بمسار 25 جويلية الذي بدأ سنة 2021 عادت الأجهزة الأمنية إلى دورها في التضييق على التظاهرات الحقوقية وملاحقة ناشطيها وناشطاتها ما أعاد إلى الأذهان فترة حُكم نظام بن علي.

فضلا عن ذلك، فقد وُجهت لعديد الشخصيات المُعارضة البارزة تهمة التآمر على أمن الدولة وتكوين وفاق إرهابي،حيث يقبع العشرات في السجن، في الوقت الذي تقول فيه جهات حقوقيّة إنّ “هذه التهم مُلفقة والهدف منها ضرب الحقّ في النشاط السياسي المُعارض للسلطة الحالية من أجل مزيد إشاعة الخوف في المجتمع”.

هذه العودة إلى التضييق تؤكّد انحدار الديمقراطية ومبدأ دولة القانون، وتوضّح أنّ الدولة تعتمد على أدوات الترهيب والمراقبة لتقييد حرّية الاجتماع والتعبير، حتى في الفضاءات الخاصّة. فمقارنة الماضي بالحاضر تكشف أنّ التضييقات ليست استثنائية بل هي جزء من دورة متكرّرة في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، والسلطة الحالية تعكس استمرار عقلية مركزية ترى النشاط الحقوقي والسياسي المستقلّ تهديدًا للأمن أو النظام القائم.

يستذكر رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بسّام الطريفي تلك الفترة قائلا:

“التضييقات الحاليّة تذكّر بما كان يحصل في عهد الدكتاتورية، حيث كانت مقرّات الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تُغلق ويُمنع عقد مؤتمراتها، وكانت الاجتماعات الحزبية تُمنع إلاّ في حالات نادرة مع حضور أمني مكثّف ومراقبة صارمة. لقد كان الحقّ في الاجتماع مكفولًا نظريًا لكنّه شبه غائب على أرض الواقع.”

تطرح الساحة الحقوقية اليوم العديد من الإشكالات، أهمّها تموقع المجتمع المدني والهيئات والنقابات داخل المشهد السياسي الذي يعتمد على التحريض عبر استعمال مصطلحات تحريضية (التخوين والتطهير …) كطريقة تواصل مع المجتمع ممّا زاد من ارتفاع منسوب العنف تُجاه هذه المنظمات.

لقد “شهدت السنوات الثلاثة أو الأربعة الأخيرة تضييقًا متزايدًا على الحقّ في الاجتماع، سواء في المجال السياسي أو المدني، وذلك عبر التضييق المباشر كالمنع الصريح للتظاهرات والاجتماعات، سواء كانت في الفضاء العامّ أو الخاصّ.

أو التضييق غير المباشر وذلك عبر شنّ حملات تخوين للمجتمع المدني وتشويه سمعته، واتهامه بالارتباط بأجندات أجنبية مشبوهة ممّا يدفع إلى التشكيك في العمل السياسي والمدني والتقليل من أهميته.” يُضيف الطريفي.

لم تكُن المحاكمة الصورية هي النشاط الأول الذي مُنع منذ تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بل مُنعت العديد من النشاطات والندوات التي نظمّتها الحركة الحقوقية التونسية سواء كانت مهيكلة أو لا، إذ يعود إرث هذه الحركة إلى عشرينات القرن الماضي حتى وإن لم تكُن مهيكلة ومنظّمة داخل جمعيات ما يجعل من الممارسات القمعية مُتكرّرة عبر استعمال نفس الآليات والأساليب. وقد تم منع تنظيم عدّة أنشطة مدنية في اللحظات الأخيرة رغم أنّها منظّمة في فضاءات خاصّة على غرار سينما مسرح الريو أو المقهى الثقافي ليبرتي، وهي فضاءات لا تحتاج لتراخيص مسبقة.

كان منع المحاكمة الصورية أو اللقاء التضامني مع الصحفي مراد الزغيدي شفاهيّا ودون تقديم أي مبرّر قانوني. وبأساليب أخرى تمّ أيضا منع ندوة كان من المزمع عقدها في جوان 2025 لجمعية القضاة التونسيين وذلك عبر الضغط على إدارة أحد النزل في تونس العاصمة لمنع الجمعية من عقد ندوة بمناسبة مرور ثلاث سنوات على إعفاء القضاة.

مريم الزغيدي، شقيقة الصحفي المعتقل مراد الزغيدي، تروي تفاصيل منع لقاء التضامن والذي كان حول تطوّرات ملف قضية مراد الزغيدي، أين تمّ إعلام الجهة المنظّمة بأنّ النشاط يستلزم رخصة من قبل العائلة والتي بدورها لا تحمل أي صفة قانونية من أجل تنظيم هذه النوعية من اللقاءات.

تُعيد هذه التضييقات التفكير في مفهوم دولة القانون ومنظومة الحقوق والحرّيات ككلّ، إذ “لا يمكن اليوم الحديث عن الديمقراطية، أو دولة القانون والمؤسسات، أو منظومة الحقوق والحرّيات، من دون احترام حق الاجتماع. فالاجتماع يمثّل أداة رئيسية للمشاركة السياسية والمجتمعية، ويُعتبر مبدأً جوهريًا منصوصًا عليه في الدستور وفي المواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس.” حسب ما جاء على لسان الطريفي.

النضال والمقاومة من الفضاء العام إلى الفضاء الافتراضي

مثلما هناك فضاءات خيّرت الرفض القطعي للنشاطات السياسية والمدنية خوفا من مجابهة السلطة، هناك فضاءات تُقاوم من أجل الحفاظ والدفاع عن مبدأ حقّ الاجتماع رغم تعرّضها للهرسلة الأمنية المستمرّة. “خلال السنوات الأخيرة واجهنا تضييقات، خاصّة على بعض المواضيع، وصلت أحيانًا إلى تدخلات من الشرطة بحجّة “أوامر عليا” أو “تعليمات من جهات أمنية”، رغم أننا نعمل في إطار القانون والدستور. ومع ذلك، لا يمكن أن يمنعنا أحد من الاستمرار، لأن “الريو” فضاء ثقافي مفتوح للعموم، يحتضن الإبداع، ويتفاعل مع قضايا المجتمع السياسية والنقابية والاجتماعية.” هكذا بدأ الحبيب بالهادي، منشّط ثقافي والمسؤول عن فضاء مسرح الريو سرد تجربته مع المضايقات الأمنية.

“اليوم يجد كثير من الفنانين أنفسهم في صفّ المظلومين.ات، مدافعين.ات عن المكتسبات، ومساهمين.ات في إنتاج مساحات جديدة للتعبير. هذه المساحات ضرورية للتحدّث عن القضايا الحقيقية، وعلى رأسها الظلم الذي ما يزال مستمرًا ويؤثر على الجميع.”

ويضيف أنّ ظهور المقاومة في الفضاء الرقمي يعكس تكيّف المجتمع المدني مع تضييق المساحات التقليدية، وهذا يُشير إلى أنّ النشاط الحقوقي والسياسي لا يمكن كسره بالكامل، وأنّ الفضاء الرقمي أصبح أداة أساسية للحفاظ على حقّ الاجتماع والتعبير.

ويتابع قائلا “بدأت التضييقات سنة 2023، مع مناصرة قضايا المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، ثم مع سجناء وسجينات الرأي والمعتقلين.ات ظلمًا، ومع من يدافعون عن حقوق المهاجرين والمجتمع المدني. انطلقت من رؤية ثقافية وحقوقية تقوم على اعتبار الثقافة وسيلة مقاومة. المقاومة الإبداعية لا تنحصر في النشاط الفنّي التقليدي، بل تتجاوز ذلك لتكون أداة للتغيير. في لحظة ما، ارتفع صوت الشارع على صوت الفنان الملتزم، وهو أمر طبيعي حين يحقّق الشعب بعض حرّيته ويمضي في طريق الديمقراطية. لكن الفنان يبقى مطالبًا بتقديم أحلام شعبه والدفاع عن حقوقه، خاصّة في أوقات الظلم، الذي لم يختف بعد الثورة بل زاد في بعض الحالات.”

تتعرّض الفضاءات الخاصّة إلى تضييقات مستمرّة، فقد أصبحت غير قادرة على احتضان نشاطات سياسية أو نشاطات تهمّ الشأن العام بشكل مباشر لأنّها تتعرّض لهرسلة أمنية كلّما احتضنت نشاطا ما ويُطلب منها تراخيص من البلديات التي لم يكُن معمولا بها في السابق.

أصحاب النزل أيضا أصبحوا يرفضون هذه النوعية من النشاطات خوفا من ردّات الفعل الأمنية، وحسب المدير التنفيذي لأحد النزل بالعاصمة -رفض الكشف عن هويّته- فإنّه اختار رفض قبول أي نشاط سياسي أو مدني بنزله وذلك حتى لا يتورّط في مشاكل مع السلطة. نفس التمشّي الذي اختارته العديد من النزل خوفا من التورّط في قضايا ضريبية أو مالية.

الضغط المستمرّ على أصحاب القاعات الخاصة أو النزل لرفض احتضان أنشطة الجمعيات أو الأحزاب لا يقف عند هذا الحدّ بل أصبحت مقرّات الجمعيات والأحزاب لا تخلو من وجود عناصر أمنية، ممّا يخلق مناخًا من الترهيب والخوف.

أمّا الفضاءات الثقافية،على غرار فضاء الريو فقد اختارت المقاومة في أهدافها الأساسية.

يقول الحبيب بلهادي”من أهدافنا الأساسية أن نكون مرتبطين بالمجتمع المدني، نتفاعل مع طلباته ونسانده، ونرفض أن تؤثّر هذه التضييقات على سياساتنا العامة أو أن تحدّ من دورنا. نحن لا نقبل إلاّ الأنشطة التي تنظّمها جمعيات مدنية لها دور إيجابي، سواء كانت قديمة أو حديثة النشأة، وتعمل من أجل الحرية وبناء الدولة الحديثة، وتسعى إلى تحقيق أهداف الثورة. نحن مستمرّون في عملنا رغم كل الصعوبات، ونعتمد على خبرتنا وتجربتنا لمواجهة الضغوط.”

ويضيف:

“إذا تراجع المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية عن دورها، فسوف يتمدّد المنع ليطال الجميع. أما إذا قاومت هذ الأطراف وواجهت، فسيضطرّ النظام إلى التراجع تدريجيًا.”

تتّفق هالة بن سالم مع الحبيب بلهادي في أهميّة المقاومة والاستمرار، لكن الفضاء الرقمي أيضا والذي أكدّت بن سالم على أهميّته هو فضاء مفتوح ومجال حديث للمقاومة لم يكُن متاحا في العهدين السابقين.

وتبيّن أنّ الحركات والمجموعات الافتراضية لها دور هامّ في تجديد الأساليب النضالية وتحقيق مبدأ حقّ الاجتماع افتراضيا بالرغم من تربّص المرسوم 54 بالمعارضين والمعارضات وشنّ حملات تشويه وتحريض من قبل صفحات موالية للنظام، لكنّه يبقى فضاء حرّا ديمقراطيا أكثر صدقا من “الديمقراطية المشهدية” (عنوان لكتاب أستاذ العلوم والاتّصال الصادق الحمامي) القائمة اليوم.

إنّ الحقّ في الاجتماع والتنظّم هو حقّ طبيعي، مكتسب وشرعي وركيزة من ركائز الحياة الديمقراطية، والتراجع عنه يشكّل خطرًا على مكتسبات ثورة الحريّة والكرامة التي تحقّقت وكان ثمنها باهظا بعد 2011. كما يُشكّل التراجع عن هذين المبدأين تهديدًا مباشرًا لمكتسبات ثورة الحريّة والكرامة ويؤكّد على أنّ الديمقراطية في تونس اليوم تواجه اختبارًا حقيقيًا. وفي المقابل دفع الوضع الراهن المجتمع المدني والقوى السياسية الحقوقية إلى تطوير آليات جديدة للمقاومة والدفاع عن الحقوق، بما يشمل الفضاءات التقليدية والرقمية، ممّا يخلق ديناميكية نضالية متجدّدة ومتواصلة جيلا بعد جيل.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من محاولات الكتيبة الحصول على تعليق رسمي من قبل ممثل عن السلطة التنفيذية حول هذه المعطيات الواردة في المقال، فإنّنا لم نتمكن من التوصل بأي ردّ أو توضيح.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من محاولات الكتيبة الحصول على تعليق رسمي من قبل ممثل عن السلطة التنفيذية حول هذه المعطيات الواردة في المقال، فإنّنا لم نتمكن من التوصل بأي ردّ أو توضيح.

الكاتبة : يسرى بلالي

صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية

اشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
تصوير: سامي شويخ
مونتاج: بسام حشاني
غرافيك: منال بالرجب
تطوير تقني: بلال الشارني
تصوير : سامي شويخ
مونتاج : بسام حشاني
تطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
غرافيك: منال بالرجب

الكاتبة : يسرى بلالي

صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية

YosraUpdated
Scroll to Top