الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
“الحقيقة، المحاسبة، العدالة…” . عبارة ذات دلالات عميقة ردّدها المحامي “سي الحبيب” بطل فيلم “غدوة” الذي كان مسكونا طيلة أطوار هذا العمل السينمائي بهاجس العدالة الانتقالية المغدورة في تونس ما بعد الثورة والتي تنكر لها حتّى من كانوا ضحايا منظومة الاستبداد والفساد. مخرج هذا العمل الفنّي الممثل والمنتج التونسي ظافر العابدين، والذي اختتم جينيريك الفيلم بالإشارة إلى الآفاق الجديدة التي يمكن أن يفتحها منعرج 25 جويلية/ تموز 2021 استجابة للانتظارات الشعبية ، ربّما كان سيعدّل النهاية بفصل جديد وبرؤية أخرى لو تمّ الانتهاء من تصوير الفيلم غداة صدور مرسوم الرئيس قيس سعيّد الذي اختصر العدالة الانتقالية في “الصلح الجزائي” مع “اللصوص والفاسدين” المتهمين بـ”نهب أموال الشعب”.
الأكثر تورّطا في جرائم الفساد ونهب المال العام يستثمر في المناطق الأكثر فقرا، هذا ما يقترحه رئيس الجمهورية قيس سعيّد في جوهر مرسومه الجديد المعنون بالصلح الجزائي والذي تزامن صدوره مع الذكرى 66 لاستقلال تونس عن المستعمر الفرنسي. فهل يحقق هذا المرسوم عدالة اجتماعية حقيقية في تونس؟ وماهي تداعياته على مسار العدالة الانتقالية الذي انتهجته تونس منذ سنة 2013؟ وهل تستجيب أحكام المرسوم إلى المعايير الدولية في إرساء عدالة انتقالية ؟.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
“الحقيقة، المحاسبة، العدالة…” . عبارة ذات دلالات عميقة ردّدها المحامي “سي الحبيب” بطل فيلم “غدوة” الذي كان مسكونا طيلة أطوار هذا العمل السينمائي بهاجس العدالة الانتقالية المغدورة في تونس ما بعد الثورة والتي تنكر لها حتّى من كانوا ضحايا منظومة الاستبداد والفساد. مخرج هذا العمل الفنّي الممثل والمنتج التونسي ظافر العابدين، والذي اختتم جينيريك الفيلم بالإشارة إلى الآفاق الجديدة التي يمكن أن يفتحها منعرج 25 جويلية/ تموز 2021 استجابة للانتظارات الشعبية ، ربّما كان سيعدّل النهاية بفصل جديد وبرؤية أخرى لو تمّ الانتهاء من تصوير الفيلم غداة صدور مرسوم الرئيس قيس سعيّد الذي اختصر العدالة الانتقالية في “الصلح الجزائي” مع “اللصوص والفاسدين” المتهمين بـ”نهب أموال الشعب”.
الأكثر تورّطا في جرائم الفساد ونهب المال العام يستثمر في المناطق الأكثر فقرا، هذا ما يقترحه رئيس الجمهورية قيس سعيّد في جوهر مرسومه الجديد المعنون بالصلح الجزائي والذي تزامن صدوره مع الذكرى 66 لاستقلال تونس عن المستعمر الفرنسي. فهل يحقق هذا المرسوم عدالة اجتماعية حقيقية في تونس؟ وماهي تداعياته على مسار العدالة الانتقالية الذي انتهجته تونس منذ سنة 2013؟ وهل تستجيب أحكام المرسوم إلى المعايير الدولية في إرساء عدالة انتقالية ؟.
صلح جزائي من خارج المألوف!؟
أحدث رئيس الجمهورية قيس سعيّد بحسب المرسوم الجديد، لجنة وطنية للصلح الجزائي تتولى القيام بجرد للملفات المنشورة أمام جميع محاكم الجمهورية والمتوفرة لدى أجهزة الدولة.
تقوم اللجنة التي تمّ إلحاقها بمؤسسة رئاسة الجمهورية، والمتكوّنة من 9 أعضاء، يتم تعيينهم بأمر رئاسي، بتجميع الملفات والنظر فيها وترتيبها ترتيبا تفاضليا حسب قيمة الأموال المنهوبة وذلك بمساعدة لجنة خبراء مفتوحة على اختصاصات قانونية واقتصادية واجتماعية يتم ضبط تركيبتها وفقا لأمر حكومي يصدر لاحقا.
وتجدر الإشارة إلى أن الصلح الجزائي يتعلّق بالجرائم والأفعال التي تمّ ارتكابها من أشخاص طبيعيين أو ذوات معنوية (مؤسسات) قبل سنة 2011 وبعدها وإلى غاية تاريخ صدور المرسوم الرئاسي في مارس /آذار 2022.
الفترة الزمنية المعنية، بحسب ما يذهب إليه الرئيس سعيّد لا تشمل فقط الملفات التي نظرت فيها لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد سابقا (المعروفة اختصارا بلجنة عبد الفتاح عمر) أو المشمولين بمرسوم مصادرة أملاك عائلة بن علي والمُقرّبين منه في سنة 2011. بل تتجاوز ذلك لتشمل القضايا المتعلّقة بجرائم الفساد على معنى القانون الأساسي عدد 77 لسنة 2016 والمنظم للقطب القضائي الاقتصادي والمالي، سواء المنشورة منها أو التي يتم اكتشافها لاحقا فضلا عن إعادة النظر في جميع الملفات التي تمّ النظر فيها من قبل هيئات قضائية سابقة خلال العشر سنوات الماضية. كذلك الأمر في الملفات ذات الصلة بجرائم التهرّب الضريبي أو الجرائم الديوانية.
تضطلع هذه اللجنة المستحدثة بأدوار عدّة أهمها النظر في مطالب الصلح الواردة عليها وتوجيه الإستدعاءات بناء على تعهد تلقائي منها للأشخاص المتعلّقة بهم جرائم فساد للمثول أمامها بغية إتمام اتفاق يقضي بإجراء صلح جزائي.
كما تقوم اللجنة بعد دراسة الطلبات والملفات بالتداول في تحديد قيمة الغرامة الواجب دفعها من طرف المتهم للتمتع بآلية الصلح. كما لها السلطة في وقف التتبعات القضائية الجارية في حق الشخص موضوع الصلح. كما لها السلطة المطلقة في طلب أي وثائق من أجهزة الدولة بما في ذلك القضاء الذي يجب أن يستجيب لها في غضون 07 أيّام من تاريخ توصّله بالطلب.
جدير بالذكر أنّ آليات احتساب قيمة الأموال المنهوبة وقيمة الغرامة المستوجبة بالمرسوم آنف الذكر تحددها اللجنة بعد دراسة الملف كاملا وبناء على رأي غير ملزم من لجنة الخبراء. حيث شدّد المرسوم على إضافة 10% من قيمة الأموال التي انتفع بها المعني بالأمر عن كل سنة بعد تاريخ حصول المنفعة. نفس الإجراءات كانت قد وردت سابقا في مبادرة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في علاقة بما أسماها آنذاك “المصالحة الاقتصادية” مع اختلاف طفيف في احتساب النسبة المُضافة عن كلّ سنة.
وتنتهي أعمال اللجنة بإصدار شهادة ختم الصلح مباشرة بعد أن يتولى طالب الصلح إيداع قيمة الغرامة بحساب يفتحه الوزير المكلّف بالمالية بخزينة الدولة تحت مسمّى “حساب عائدات الصلح الجزائي لتمويل المشاريع التنموية” ليسترجع بعد ذلك مباشرة نشاطه الاقتصادي ورفع كل ما تمّ فرضه من موانع قضائية في شأنه.
وإذا كان المعني بالصلح لا تتوفر لديه سيولة يمكنه حينها تمويل مشروع/مشاريع يتم إقرارها من طرف الدولة في المناطق الفقيرة على أن تتناسب قيمة الأموال المنهوبة مع قيمة المشاريع المزمع إحداثها مع شرط تأمين 50% من قيمة التعويض. ويتمتع المعني بالأمر بشهادة ختم الصلح بعد الإنتهاء من بناء المشروع موضوع اتفاق الصلح وبعد استظهاره بوصل التسليم وتقرير من اللجنة الفنية الجهوية المكلفة بمتابعة إنجاز المشاريع.
في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أنّ الصلح الجزائي بحسب المرسوم الجديد للرئيس قيس سعيد سيكون ساريا حتى مع تلك الجرائم التي هي بصدد متابعة من طرف القطب القضائي المالي والاقتصادي أو التي يمكن التفطن إليها لاحقا ما دامت الجريمة أُرتكبت قبل تاريخ صدور المرسوم. إذ يكفي لصاحب الشبهة والذي يكون في وضعية ملاحقة قضائية في علاقة بملف فساد مالي أو اعتداء على المال/الملك العام أو بملفات ذات صلة بالجرائم المنصوص عليها بالمرسوم أن يطلب الصلح وايقاف التتبعات القضائية في شأنه ليقوم فيما بعد باتباع المسار الذي أتى به المرسوم.
ترتيب تفاضلي لـ”الفاسدين” للنهوض بأوضاع “المعدمين”
في حقيقة الأمر، لم يكن المرسوم بعيدا عن جوهر الفكرة التي دافع عنها قيس سعيّد منذ أن كان أستاذا للقانون الدستوري بالجامعة التونسية، فبعد انتهاء اللجنة الوطنية للصلح الجزائي من إتمام أعمالها -وفق المرسوم الجديد- تحيل قائمة في المعنيين بالصلح المؤقت الذي سيتولون إنجاز مشاريع لتقوم لجنة أخرى مختصة ” لجنة متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح وإنجاز المشاريع بالجهات” يتم إلحاقها بالوزارة المكلّفة بالاقتصاد وتتركب من 9 أعضاء يعيّنون بأمر رئاسي، بترتيب طالبي الصلح المؤقت ترتيبا تنازليا من الأكثر تورّطا إلى الأقل بحساب قيمة الأموال المنهوبة والغرامات التعويضية.
كما تقوم هذه اللجنة الفنية بإحداث لجان جهوية تكون رئاستها لوالي الجهة وتتركب من ممثلي الإدارات الجهوية للوزارات، لتتولى هذه الأخيرة بمهام دراسة مشاريع البنى التحتية المزمع إحداثها في المناطق الفقيرة. كما يتوجب على هذه اللجان الجهوية المستحدثة لزاما طلب مقترحات “أهالي” المناطق الفقيرة في المشاريع التي يرغبون فيها. ويُشترط في قبول مقترحات “الأهالي” إمضاء ما لا يقل عن 1000 ساكن من نفس المنطقة الراغبة في المشروع.
وفي إطار الانضباط لقاعدة الرئيس سعيّد من حيث أنّ الأكثر تورّطا يستثمر في المنطقة الأكثر فقرا، تتولى اللجان الجهوية رفع تقاريرها المتضمنة ضرورة مقترحات ” أهالي ” المناطق إلى اللجنة المركزية صلب الوزارة المكلّفة بالاقتصاد لتتولى الأخيرة النظر فيها وترتيبها ترتيبا تراعي فيه الأولوية للمناطق الأكثر فقرا وصولا إلى أقلها.
ويكون إنجاز المشاريع التنموية في تلك الجهات إما عبر تمويلها من طالب الصلح المؤقت أو من خلال توظيف الأموال المتأتية من الصلح الجزائي المباشر (الأشخاص والمؤسسات الذين تولوا إيداع قيمة جبر الضرر كاملا في خزينة الدولة).
جدير بالذكر أنّ الأموال المتأتية من الصلح الجزائي المباشر بحسب الفصل 30 من المرسوم توظف منها نسبة 80 %ُ لفائدة المعتمديات المنتفعة بالمشاريع المذكورة، فيما ستؤول الـ20 % المتبقية لفائدة الجماعات المحلية بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محلية أو جهوية تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهلية.
الشركات الأهلية ذاتها، تعود فكرة إحداثها لنفس المرجعية الفكرية للرئيس سعيّد القائمة على خلق منوال تنموي جديد لـ “الأهالي” دور مباشر فيه. إذ ينص المرسوم المُحدث لها والذي صدر في نفس تاريخ صدور المرسوم المتعلق بالصلح الجزائي، على إمكانية أن يتولى “الأهالي” بالتنظم ذاتيا وتكوين شركة “أهلية ذات نفع اجتماعي” يكونوا هم المساهمين في رأس مالها لبعث مشاريع تستجيب لحاجيات مناطقهم بشرط أن تكون ذات نشاط اقتصادي تنتفع به المنطقة الترابية ( القرية، المعتمدية، الولاية) التي يقطنون بها.
وترافق الدولة بحسب المرسوم، مسار إحداث هذه الشركات عبر تمكين الباعثين من أراض أو مقرات أو دعم مالي والذي في جزء منه متأت من أموال الصلح الجزائي.
فكرة من رحم تقرير صادر سنة 2011
منذ سنة 2012، لم يتخلّ قيس سعيّد عن فكرته بإحداث محكمة/لجنة متخصّصة تقوم بأعمالها بناء على تقرير لجنة التقصي حول الفساد والرشوة الذي نُشر عقب الثورة في عام 2011، لتتولّى النظر فيها ودراستها وإبرام صلح جزائي بين مرتكبي جرائم نهب المال العام والدولة. ويبيّن أنّ فكرته تقوم على ترتيب هؤلاء المتهمين ترتيبا تفاضليا ليقوموا بمشاريع تنموية في الجهات المحرومة التي يتم ترتيبها ترتيبا تنازليا من الأكثر إلى الأقلّ فقرا.
في الحقيقة لم نجد للفكرة مثيلا في تجارب مقارنة عبر العالم، إذ أنّه مقترح جاء به أستاذ القانون الدستوري ورئيس الجمهورية الحالي قيس سعيّد بمجرّد صدور تقرير عن اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد سنة 2011 يتضمن عديد الأسماء من رجال أعمال ومسئولين كبار استفادوا ماليا من نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
ويُشير التقرير المذكور إلى أنّ اللجنة تولّت إحالة 465 ملفا على القضاء تهمّ جرائم مالية وفسادا ونهبا للمال العام تعلّقت بأسماء عديدة لم يكشف أيّ تقرير إلى حدّ كتابة هذه الأسطر عن عددها.
مع بدايات تشكّل الأزمة بين مؤسسة رئاسة الجمهورية والبرلمان في الأشهر الأولى من سنة 2020، وفي إطار نقده الشديد لمؤسسات الدولة وأجهزتها بما في ذلك القضاء في علاقة بملف الأموال المنهوبة، تولّى الرئيس سعيّد إحداث لجنة تعمل تحت إشرافه تضطلع بمهام البحث واسترجاع تلك الأموال. لم نسمع بعد ذلك أيّ حديث عن هذه اللجنة أو عن تركيبتها أو نتائج خلُصت إليها.
في حواره مع موقع الكتيبة، تحدّث القاضي محمّد العيّادي عضو لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد سابقا عن أعمال هذه اللجنة ومآلاتها وإحالاتها على القضاء، مبرزا أنّ ما هو مضمّن بتقرير اللجنة لا يوجد له مثيل في تقارير أيّ هيئة من الهيئات التي بُعثَت في وقت لاحق بما في ذلك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
وأرجع العيّادي هذه الاستنتاجات لما تمكنت اللجنة من كشفه باعتبارها الجهة الوحيدة التي حظيت بحقّ الولوج إلى أرشيف مؤسسة رئاسة الجمهورية سنة 2011، كما كانت لها سماعات مصوّرة بالفيديو مع مختلف كبار المسؤولين وعدد من رجال الأعمال المستفيدين أو الذين عملوا مع نظام بن علي، مشيرا إلى أنّ هذه السماعات موجودة إلى اليوم في أرشيف الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
وعن عدد رجال الأعمال “الفاسدين” الذي أفصح عنه رئيس الجمهورية في خطاباته المتعددة والمبالغ المالية المنهوبة المقدّرة وفق تصريحات الرئيس بـ 13500 مليون دينار (حوالي 4500 مليون دولار)، قال العيّادي انّ لا علم له بهذه الأرقام ولا بعدد الشخصيات المعنية، مؤكدا أنّ إحالات اللجنة على القضاء بلغت 465 ملفا، وكل ملف يتعلّق بعدّة أسماء منهم مسئولون كبار بالدولة أو رجال أعمال، وملاحظا أنّ النسبة الأكبر من الأموال المنهوبة على علاقة بأفراد من عائلتي بن علي والطرابلسي والذين يتواجد جلّهم خارج أرض الوطن.
النسبة الأهم من الأموال المنهوبة هي على علاقة بعائلتي بن علي والطرابلسية وعدد من رجال الأعمال الفارين خارج الوطن منذ سنة 2011.
محمد العيّادي
يرى متابعون أنّ ملف العدالة الانتقالية كان محلّ جدل وتوتّر كبيرين خاصة فيما يتعلّق بملفات نهب المال العام من طرف رجال أعمال ومسؤولين كبار أو الأموال التي تمّ تهريبها إلى الخارج من طرف العائلة الموسعة للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. جدل أنتج في ما بعد مسارين للعدالة الانتقالية في هذا النّوع من الملفات أوّلهما أسّسه المجلس الوطني التأسيسي (أوّل برلمان منتخب بعد الثورة في 2011) عبر المصادقة على قانون العدالة الانتقالية وثانيهما قانون المصالحة الإدارية الذي صادق عليه البرلمان سنة 2017.
التحكيم والمصالحة وفق قانون العدالة الانتقالية
في ديسمبر/ كانون الأول من سنة 2013، صادق المجلس الوطني التأسيسي على القانون الأساسي عدد 53 المتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها. ومن بين ما جاء به هذا القانون الذي يعتمد أساسا قاعدة المساءلة فالمحاسبة ثمّ المصالحة، إرساءُ لجنة تحكيم ومصالحة يُعهد لها النظر في ملفات الانتهاكات الجسيمة ومن ذلك الانتهاكات المتعلّقة بالفساد المالي المرتكبة من رجال أعمال أو مسؤولين كبار في الدولة خلال الفترة الممتدّة بين 1956 و2013 وإقرار الصلح بين طالب الصلح والمتضرّر وتقييم جبر الضرر.
بعثت هيئة الحقيقة والكرامة في سنة 2015 لجنة صلبها تُعنى بالتحكيم والمصالحة في هذا النّوع من الملفات أين تلقت، وفق التقرير الختامي للهيئة، 4821 ملفا متعلّقا بالفساد المالي وأصدرت 8 قرارات تحكيمية تراوحت بين جرائم فساد مالي وإضرار بالمُلك العام للدولة والاضرار بالدولة نفسها باعتبارها ضحية بموجبها يتم تعويض الأخيرة بمبلغ إجمالي يناهز الـ 745 مليون دينار (حوالي 250 مليون دولار).
ظلّت تلك القرارات حبرا على ورق بعد أن تعطلّ إكساؤها بالصبغة التنفيذية لوجود إخلالات في ملفات الأشخاص موضوع القرارات التحكيمية.
بالنظر إلى خلاصة أعمال لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة في ملفات الانتهاكات التي كانت فيها الدولة ضحية، يتبيّن أن القيمة المضافة من خلال أعمال هذه اللجنة تُعتبر ضئيلة جدّا وهو أمر عائد لما عرفه هذا الملف من تجاذبات سياسية وتصادم بين مؤسسات الدولة أثّر بشكل واضح على مآلات هذه الأعمال.
تفاعلا منها بُعيد نشر المقال، تحدّثت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين مع موقع الكتيبة عن خلفيات تعطل تفعيل القرارات الصادرة عنها موضحة أنّ القرارات تمّ فعلا إكساؤها بالصبغة التنفيذية كما توضحه الوثائق التي أدلت بها.
وأضافت بن سدرين في معرض ردّها أنّ المكلّف العام بنزاعات الدولة سعى إلى تعطيل قرارات الهيئة بالطعن فيها لدى الرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف إلأ أنّ قرار الأخير جاء لصالح هيئة الحقيقة والكرامة بعد رفض الطعون شكلا.
وفيما يهمّ النتائج التي وصفناها بالضعيفة في خصوص عدد القرارات الصادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة، قالت بن سدرين أنّ الهيئة لا يمكن لها استكمال الصلح بأي ملف دون وجود موافقة من المكلف العام بنزاعات الدولة، مفسّرة أنّ الأخير رفض إمضاء ما يفوق 3000 اتفاقية صلح.
يقول القاضي محمد العيّادي الذي تمّ انتخابه عضوا بهيئة الحقيقة والكرامة قبل تقديم استقالته منها، أنّ مسار العدالة الانتقالية منذ بدايته كان أعرجا وذلك عائد لتعنت حركة النهضة في فرض فلسفتها ورؤيتها وتمرير قانونها بالمغالبة رغم التحذير من العواقب التي سينجرّ عنه.
“في سنة 2015 عندما كنت عضوا بهيئة الحقيقة والكرامة وفي إحدى جلسات العمل مع رئاسة الحكومة اتضح لي بما لا يدع مجالا للشك أنّ مسار العدالة الانتقالية لن يكتب له النجاح في تونس فتوليت تقديم استقالتي من الهيئة مباشرة بعد تلك الجلسة”.
محمد العيّادي
ويشير العيّادي إلى أنّ المسار كان ينبئ منذ البداية بأن يكون متعثرا وهو ما حصل فعلا من خلال التصادم الذي حصل بين مؤسسات الدولة وانعدام الثقة المتبادل بينها ما أدّى في نهاية المطاف إلى نتائج توصف بالضعيفة.
المصالحة مع “الفاسدين” بين الباجي قائد السبسي وقيس سعيّد
في مارس/آذار من سنة 2015، وعلى إثر التصادم بين مؤسسة رئاسة الجمهورية وهيئة الحقيقة والكرامة، سارع الباجي قائد السبسي الذي كان منذ البداية معارضا لمسار العدالة الانتقالية كما أسس له المجلس الوطني التأسيسي، إلى صياغة مشروع قانون جديد بعث به إلى مجلس نواب الشعب يتعلّق بإجراء مصالحة شاملة مع المتورّطين في جرائم فساد مالي وإداري تحت نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
ورغم أنّ مبادرة الرئيس الراحل أُدخلت على جزء مهمّ منها تغييرات جذرية عند نقاشها بلجنة التشريع العام صلب مجلس نواب الشعب لتقع المصادقة فقط على الصلح الإداري مع الموظفين المتعلّقة بهم جرائم على معنى الفصلين 82 و96 من المجلة الجزائية، إلا أنه من المهم شرح وتفكيك فلسفة المبادرة في مقارنة مع ما يذهب إليه الرئيس الحالي قيس سعيّد عبر مبادرة بإجراء صلح جزائي جديد على أنقاض المسارات القديمة.
جاء في شرح أسباب إحداث المبادرة، بحسب المشروع الذي بعثت به مؤسسة الرئاسة سنة 2015 إلى مجلس نواب الشعب، أنها تهدف إلى معالجة مسار العدالة الانتقالية لما شابها من إخلالات جوهرية حيث نصّ الفصل الأوّل من مشروع القانون على التالي:
“يهدف هذا القانون الأساسي إلى تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة. كما يهدف إلى إقرار تدابير خاصة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام تحفظ حقوق المجموعة الوطنية وتفضي إلى غلق الملفات، بعد المساءلة والمحاسبة، تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية الأسمى للعدالة الانتقالية”.
وتقوم فلسفة مشروع قانون السبسي حول المصالحة الإقتصادية على إحداث لجنة يتولّى رئاستها رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتتضمّن في تركيبتها قضاة عدليين وماليين وإداريين ومحام فضلا عن تمثيلية للمجتمع المدني و المكلف العام بنزاعات الدولة.
تتولى هذه اللجنة المُلحقة بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد القيام بإجراءات الصلح بين من تعلّقت بهم جرائم نهب للمال العام أو تهرّب ضريبي أو جرائم صرف ليشمل الصلح كل المتورّطين في جرائم فساد مالي وإداري على معنى الفصلين 82 و96 من المجلّة الجزائية، إن كانت تلك الجرائم ارتكبت زمن حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي أو بعده.
في إطار دفاعهم عن مبادرتهم، جاب مستشارو الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي كافة المنابر الإعلامية للترويج للمبادرة قائلين انّها ستحدث “نقلة نوعية” في الاقتصاد التونسي كما ستكون فرصة لتعبئة موارد الدولة وخاصة إعادة تدوير عجلة الاقتصاد عبر رفع الإجراءات القضائية التضييقية التي فُرضت في وقت سابق على عدد من رجال الأعمال ما من شأنه أن يُشجعهم على الاستثمار وخلق الثروة ومواطن الشغل. بلغ الأمر وقتها درجة أن صرّح مدير الديوان الرئاسي سليم العزابي أنّ قانون المصالحة الإدارية سيمكن من تحقيق 1.2 نسبة نمو إضافية. وعود دعائية لم يتحقّق منها شيء على أرض الواقع لاحقا حتّى أنّ الدولة تتكتم إلى اليوم على قائمة الموظفين المتهمين بالفساد والذين استفادوا من هذا النصّ التشريعي الذي كان فقط وليد حسابات سياسية ضيقة للباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس الذي فاز في الانتخابات التشريعية لسنة 2014 بعد نجاحه في استقطاب رموز من منظومة الحكم في عهد الرئيس بن علي.
لاقت مبادرة الرئيس الأسبق رفضا مطلقا من أطراف عديدة داخل البرلمان وخارجه حتى أنها كانت موضوع حراك اجتماعي أطلق على نفسه اسم ” حملة مانيش مسامح ” نظرا لما يجيزه مشروع القانون من إفلات للعقاب لمرتكبي جرائم الفساد وكذلك لما يخلقه من إطار قانوني يشرّع للابتزاز المقنّن.
في نهاية المطاف وبعد أخذ وردّ بين مؤسسة الرئاسة والشارع التونسي الرافض لمبادرتها وحتّى داخل البرلمان الذي كانت آنذاك تسيطر على أغلبيته حركتي النهضة ونداء تونس، تمّت المصادقة فقط على الجانب المتعلّق بالصلح الإداري في خصوص الموظفين العموميين المنسوبة إليهم جرائم المشاركة في نهب المال العام.
المفاجئ في المرسوم الرئاسي الجديد الذي أصدره الرئيس سعيّد أنه يتضمن جزءا من فلسفة مبادرة الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي من قبيل الإجراءات الواجب اتباعها لإتمام الصلح.
ولادة عسيرة لمرسوم الصلح الجزائي
في الخامس من شهر جانفي/ كانون الثاني 2022، اجتمع المجلس الأعلى للقضاء قبل صدور أمر رئاسي بحلّه، للتداول في طلب استشارة ورد عليهم من مؤسسة رئاسة الجمهورية ممضى من طرف مديرة الديوان سابقا نادية عكاشة، لإبداء الرأي حول مشروع مرسوم الصلح الجزائي الذي كان يتضمن إحداث محكمة مختصة واختصاص قضائي جديد.
بعد تداول أعضائه في مضمون نص المرسوم كان ردّ المجلس على طلب الاستشارة بالرفض شكلا ومضمونا في قرار جاء مكتوبا في تسع صفحات كاملة تحصل موقع الكتيبة على نسخة منه.
في فجر 06 فيفري/ شباط 2022، تحوّل رئيس الجمهورية إلى وزارة الداخلية في زيارة مفاجئة ليعلن من مقرّها أن المجلس الأعلى للقضاء أصبح في عداد الماضي داعيا أنصاره للنزول إلى الشارع وهو كافل لحقهم في التظاهر والمطالبة بحلّ المجلس.
“القضاء وظيفة داخل الدولة وليس سلطة ولا يمكن أن تكون من بين مهامه الوظائف التشريعية”.
قيس سعيّد
هذه الأزمة التي بلغت أشدها بين السلطتين التنفيذية والقضائية بدأت بُعيد إصدار الرئيس سعيّد أمره عدد 117 والمتعلّق بتنظيم فترة الإجراءات الاستثنائية التي فرضها مساء 25 جويلية/ تموز من سنة 2021 والذي ينص على أنه يتولى تنظيم العدالة والقضاء. كما قام بإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بأمر آخر.
كلّ هذه الظروف ألقت بظلالها على جوهر العلاقة بين السلطتين بأزمة بلغت أوجّها مع رفض المجلس الأعلى للقضاء لما جاءت به مبادرة الرئيس حول الصلح الجزائي.
ردّا على مبادرة الرئيس، اعتبر المجلس الأعلى للقضاء المُنحلّ أن إحداث أصناف جديدة من المحاكم يخضع لشروط أهمها عرض المبادرة وجوبا على اللجنة المختصة صلب المجلس التشريعي وذلك بعد استفاضة النقاش حولها في المجالس الوزارية، فضلا عن استحالة تنظيم هذا الصلح بمرسوم رئاسي في فترة إستثنائية على إعتبار أن هذا الصنف من العدالة ووفقا لما تمليه المعاهدات الدولية و فلسفة العدالة الانتقالية يكون في وضع عادي بقوانين أساسية، بحسب نص الردّ.
وذكر المجلس رئيس الجمهورية، أن الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين هي الجهة الوحيدة المخوّل لها النظر في دستورية المرسوم من عدمه مشيرا إلى أنّه تمّ إلغاء هذه الأخيرة بموجب أمر رئاسي سابق بما ترك فراغا قانونيا للبت في المسألة.
وبالإضافة إلى الجوانب الشكلية، تناول أعضاء المجلس المُنحل مسألة إحداث القطب القضائي للصلح الجزائي الذي سيعهد له النظر في جميع الملفات المتعلّقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام المنشورة أمام القطب القضائي المالي والاقتصادي أو المبنية على تقرير لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد سواء كانت منشورة أمام سائر المحاكم والتي تمّ النظر فيها من قبل هيئات قضائية سابقة، أين أكّدوا أن هذا الصنف من العدالة ” العدالة التصالحية” تتنافى نفيا كلّيا مع المنظومتين القانونية والقضائية، فضلا عن أنها تنسف وجود القطب القضائي المالي والاقتصادي وتسحب منه ملفات الفساد المالي التي من أجلها تمّ إحداثه وتنظيمه بقانون أساسي سنة 2016.
انتهى ذلك الصراع القائم بين السلطتين التنفيذية القضائية بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، و بإلغاء إحداث قطب واختصاص قضائيين جديدين لتحلّ محلّهما لجنة مختصة تعمل تحت الإشراف المباشر لرئيس الدولة.
ويعتبر القاضي الإداري محمد العيّادي في قراءة منه للمرسوم الجديد المتعلّق بالصلح الجزائي، أن الأخير يطرح إشكاليات وأسئلة عديدة لم تأتي الأحكام المضمنة به على أي منها خاصة فيما يتعلّق بقانون العدالة الانتقالية.
ويتساءل العيّادي عن مآلات القرارات التحكيمية الصادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة، طالما أنّ المرسوم لم يأت على ذكرها.
المرسوم الجديد لم يتضمن أحكاما تتعلق بإلغاء مفعول قرارات لجنة التحكيم والمصالحة الصادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة… فهل يعني ذلك أنّ القرارات المذكورة نافذة وملزمة للأطراف المعنية بها وخاصة للدولة التونسية؟”.
محمد العيّادي
ويضيف العيّادي أنه وبالتدقيق في مضمون المرسوم الرئاسي، يتضح أن الأسئلة تلوح عديدة حول تطبيقه وإمكانية تعارضة مع قوانين وأحكام قضائية سابقة، إذ لم تتم الإشارة فيه حول مصير الأشخاص الذين تحصلوا على أحكام قضائية باتة ونهائية أو من سقطت الدعاوي القضائية في حقهم بمرور الزمن أو بالوفاة. فكيف سيتم التعامل مع تلك الوضعيات في صورة رفض الأشخاص المعنيين المثول أمام اللجنة الوطنية للصلح الجزائي؟
ورغم أنّ المرسوم الرئاسي أتى على هذه الوضعيات إلا أنه بقي غامضا في حسمها، إذ ينص الفصل 37 منه على:
“إذا تعذر إتمام الصلح النهائي أو لم يقع تنفيذه في الأجل المحدد يستأنف التتبع الجزائي أو المحاكمة أو تنفيذ العقاب”.
من جانبه، لا يُخفي الباحث في علم الاجتماع المولدي القسومي، استغرابه الشديد مما يطرحه الرئيس سعيّد قائلا إن مسألة الصلح الجزائي والشركات الأهلية هي ضرب من ضروب الشعبوية المقيتة التي ستدفع بالضرورة إلى تفكك المجتمع، ومشيرا إلى أنها مبادرة تفتح طريقا سيّارة بين الفاسد الأكبر والفقير الأكبر في علاقة مباشرة بين الطرفين تُحجم دور مؤسسات الدولة وتضرب الأجهزة التنفيذية للدولة المرتبطة ببعضها ارتباطا وظيفيا.
“العدالة الإجتماعية كما يطرحها سعيّد، هي علاقة مباشرة بين الفاسد والفقير ليس للدولة مكان فيها وتؤسس لمنوال تنموي يمكن أن نسميه عطف الثري على الفقير”.
مولدي القسومي
وتساءل القسومي عن سبل ترتيب الفاسدين ترتيبا تنازليا، قائلا “من الذي سيأتي للدولة ليقول إنه أكثر الفاسدين فسادا وإنه مستعدّ لاستثمار أموال فساده للنهوض بأوضاع المفقرين والمعدمين”.
وينهي القسومي كلامه بالحكم على مبادرة قيس سعيّد بأنها تنسف الدولة ومؤسساتها وتنزع عنها أكبر وظائفها في تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة.
مبادرة الرئيس سعيّد ورغم أنها انبنت عند طرحها للنقاش على أنفاس قال عنها الرئيس نفسه أنها ثورية تسعى لاسترداد الأموال المنهوبة حتى أنه قدّرها بـ 13500 مليون دينار، جاءت في نهاية المطاف بمرسوم لا يذكر ولو بالإشارة تلك الأموال المنهوبة أو الملفات التي تمّت إحالتها من طرف اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد في وقت سابق والتي طالما تحدّث عنها سعيّد في أكثر من مناسبة وتمخضت على ضوئها فكرته في إحداث صلح قائم على الأكثر تورّطا في نهب المال العام يستثمر في المنطقة الأكثر فقرا.
فضلا عن كل ما سبق، يتولّى الرئيس سعيّد وحده تعيين أعضاء اللجان وله الحق في إعفائهم حتى أنه يتولى تعيين مقرر عام للجنة الفنية المنوط بعهدتها متابعة تنفيذ الصلح الجزائي والملحقة بوزارة الاقتصاد بما يؤكد علاقة الشك والريبة التي تجمعه حتى بوزراء كان قد عيّنهم بنفسه.
وتناسى سعيّد أو تغاضى عن إحداث مؤسسات تضمن استقلالية وشفافية أعمال اللجنة، واضعا نفسه ومصداقيته التي يُوصف بها كضمانة وحيدة لحماية المسار من أي انزلاقات ممكنة. ضمانات مفقودة تقابلها صلاحيات مطلقة للجنة الصلح الجزائي في التعهد التلقائي بملفات أشخاص حتى وإن كانوا من غير الملاحقين قضائيا.
جاء المرسوم الرئاسي المتعلّق بالصلح الجزائي الصادر في فترة إجراءات استثنائية خاليا من أي أحكام توضّح علاقته بالدستور وقوانين أخرى مازالت سارية على غرار قانون العدالة الانتقالية وقانون المصالحة الإدارية. ما يطرح إشكاليات عدّة عند تطبيقه.
ويتضح من مضمون أحكام المرسوم أنه موجه لإيجاد صلح مع مرتكبي جرائم فساد أو من ذوي الشبهة في الفترة اللاحقة لسنة 2011 أكثر من الأشخاص المتعلّقة بهم جرائم قبل ذلك التاريخ، خاصة منها المتعلّقة بالتهرّب الضريبي و جرائم الصرف وغسيل الأموال بغية تعبئة موارد للدولة.
يقول في هذا المضمار أستاذ القانون العام بالجامعة التونسية محمد الصغير الزكراوي المساند لمسار 25 جويلية / يوليو 2021 في حواره مع موقع “الكتيبة”: ” مرسوم الصلح الجزائي لم يحترم العديد من المبادئ التي تنص عليها معايير العدالة الانتقالية. فاللجنة التي تم إحداثها هي عبارة عن قضاء مواز يتبع مباشرة رئيس الجمهورية دون أي ضمانات حقيقية لاستقلاليتها.
ويضيف الزكراوي أن القطب القضائي المالي والاقتصادي كان يمكن أن يضطلع بدور لجنة الصلح التي وصفها بأنها هيئة أو محكمة خاصة لا تضمن شروط المحاكمة العادلة معللا ذلك بأنّ هناك مبدأ قانوني لم يتم احترامه وهو مبدأ اتصال القضاء حيث لا يمكن محاكمة شخص سوى مرة واحدة على نفس الفعل.
“هذا المرسوم لا يمت بأي صلة بالعدالة الانتقالية التي يجب أن تقوم على المصارحة وكشف الحقيقة والمحاسبة وربما حتى إعادة كتابة التاريخ وإنصاف الضحايا. ما قام به الرئيس سعيّد هو فرصة جديدة مهدورة في علاقة بالعدالة الانتقالية التي تلاعبت بمسارها هيئة الحقيقة والكرامة في وقت سابق.”
محمد الصغير الزكراوي
ويضيف محدثنا : ” فكرة الصلح الجزائي تذكرنا بمبادرة الباجي قائد السبسي الذي برّر مشروع “المصالحة الإقتصادية” عهدئذ بالسعي للترفيع في نسبة نمو الاقتصادي . لكن طبعا هذه الوعود لم يتحقّق منها شيء. والصلح الجزائي للرئيس سعيّد قد يواجه نفس مصير مبادرة قائد السبسي. هناك قضايا معقدة تتطلب سنوات للحسم فيها. ما كان على الرئيس سعيّد من الناحية الأخلاقية الصرفة أن يمرّر هذا المرسوم وهو الذي يحوز على جميع الصلاحيات. الصلح الجزائي هو مرتبط بمشروع شخصي. كان عليه إزالة أسباب حالة الاستثناء وتهيئة المناخ لإجراء انتخابات في أقرب الآجال لا تمرير مشروع شخصي نادى به منذ 2012.”
بين مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي وقتها والتي لم يتحقّق من أهدافها الدعائية سوى إفلات بعض الموظفين السابقين في نظام بن علي من المحاسبة وكشف الحقيقة، وبين الصلح الجزائي كما نصّ عليه مرسوم الرئيس قيس سعيّد، قصّة تنكيل بمسار العدالة الانتقالية وفق الرؤى السياسيّة الضيقة التي تتعارض مع المعايير الدولية والمبادئ الديمقراطية. وعلى عكس مبادرة السبسي التي كانت محل نقاش مجتمعي وصراع سياسي داخل البرلمان(مؤسسات الدولة) وخارجه (الحراك الاحتجاجي في الشارع) حسم لصالح الأغلبية الحاكمة وقتها بالآليات الديمقراطية لدرجة أنّ المعارضة قامت لاحقا بالطعن في دستوريتها وفق ما يكفله القانون ، فإنّ مبادرة سعيّد لا نعلم من قام بصياغتها ولا هي مصادق عليها صلب مجلس نيابي منتخب، فضلا عن كونها غير قابلة للطعن بفعل المرسوم 117 الذي ينظم الفترة الاستثنائية بعد قرار تفعيل الفصل 80 من الدستور.
يندرج هذا المقال التفسيري في إطار مجموعات إنتاجات صحفية يشتغل عليها موقع الكتيبة لشرح الخيارات التشريعية للرئيس قيس سعيّد الذي أقرها في الفترة الأخيرة بناء على آلية المراسيم وذلك في سياق مرحلة التدابير الاستثنائية .
يندرج هذا المقال التفسيري في إطار مجموعات إنتاجات صحفية يشتغل عليها موقع الكتيبة لشرح الخيارات التشريعية للرئيس قيس سعيّد الذي أقرها في الفترة الأخيرة بناء على آلية المراسيم وذلك في سياق مرحلة التدابير الاستثنائية .
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي