الكاتب : رحاب حوّات
صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري
“سطّرت الدّهشة خطوطا عريضة على محيّانا ونحن نستمع إلى زغرودة الأمّ وهي تبشّر زوجها على الهاتف بأنّ ابنتها ما تزال “عذراء” وأنّ الطّبيبة أسقطت عنها فرضيّة الحمل. وتساءلتُ حينها “ماذا عن الكدمات التي رسمت أحافيرَ على جسد الفتاة وفي ذاكرتها؟!”.
تروي أميمة العدواني لموقع الكتيبة تفاصيل هذه الحادثة الصّادمة التي عايشتها بنفسها لدى زيارتها لأخصائيّة في أمراض النّساء والتّوليد بمعتمدية ماطر في ولاية بنزرت.
تقول العدواني في نفس الإطار: “كلّ ما في الأمر أن الدّورة الشّهريّة تأخّرت عن الفتاة ثلاثة أشهر، وما إن صارحتْ والدتها بالأمر حتّى انقلبت حياة الفتاة جحيما وأذاقتها العائلة ويلات المخاطرة بشرفها، مستبعدة فرضيّة إصابتها بتكيّس المبايض أو مواجهتها لمشكلة صحيّة أخرى”.
وإن بدت هذه الحادثة فرديّة فإنّها تتقاطع مع تجاربَ عديدة لنساء وفتيات تونسيّات يعشن بصمت “فقر الدّورة الشّهريّة” الذي تتعدّد ضروبه من فقر المادّة وصعوبة الوصول إلى منتجات الدّورة الشّهريّة ومستلزمات النّظافة، إلى فقر المعلومات وضعف التّثقيف الصّحي والجنسي المغلّف بثقافة العيب والمتباينِ بتباين مساحة الثّقافة الذّكوريّة داخل العائلة أو المجتمع عموما.
الكاتب : رحاب حوّات
صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري
“سطّرت الدّهشة خطوطا عريضة على محيّانا ونحن نستمع إلى زغرودة الأمّ وهي تبشّر زوجها على الهاتف بأنّ ابنتها ما تزال “عذراء” وأنّ الطّبيبة أسقطت عنها فرضيّة الحمل. وتساءلتُ حينها “ماذا عن الكدمات التي رسمت أحافيرَ على جسد الفتاة وفي ذاكرتها؟!”.
تروي أميمة العدواني لموقع الكتيبة تفاصيل هذه الحادثة الصّادمة التي عايشتها بنفسها لدى زيارتها لأخصائيّة في أمراض النّساء والتّوليد بمعتمدية ماطر في ولاية بنزرت.
تقول العدواني في نفس الإطار: “كلّ ما في الأمر أن الدّورة الشّهريّة تأخّرت عن الفتاة ثلاثة أشهر، وما إن صارحتْ والدتها بالأمر حتّى انقلبت حياة الفتاة جحيما وأذاقتها العائلة ويلات المخاطرة بشرفها، مستبعدة فرضيّة إصابتها بتكيّس المبايض أو مواجهتها لمشكلة صحيّة أخرى”.
وإن بدت هذه الحادثة فرديّة فإنّها تتقاطع مع تجاربَ عديدة لنساء وفتيات تونسيّات يعشن بصمت “فقر الدّورة الشّهريّة” الذي تتعدّد ضروبه من فقر المادّة وصعوبة الوصول إلى منتجات الدّورة الشّهريّة ومستلزمات النّظافة، إلى فقر المعلومات وضعف التّثقيف الصّحي والجنسي المغلّف بثقافة العيب والمتباينِ بتباين مساحة الثّقافة الذّكوريّة داخل العائلة أو المجتمع عموما.
يفرض هذا النّوع من الفقر قيوده على النّساء والفتيات في تونس ويقتصّ منهنّ حقوقهنّ الإنسانيّة، بما فيها الحقّ في الصّحة والماء والكرامة والأمان النّفسي والاستقلال الجسدي والتّعليم والمشاركة في الحياة المهنيّة والعامة.
فماذا نعني بالعدالة الحيضيّة؟ وكيف ساهمت الثقافة الذكورّية في النيل من حقوق النساء في هذا المجال؟ وإلى أيّ حدّ أثّر تراجع القدرة الشرائيّة في ظلّ التضخم وغلاء الأسعار على هذا الحقّ للنساء التونسيّات؟
يعرّف صندوق الأمم المتحدة للسّكان فقر الدّورة الشّهريّة بكونه “عدم الحصول أو عدم القدرة على الوصول إلى المنتجات الخاصّة بفترة الدّورة الشّهريّة والمناسبة لها، والخدمات الصّحيّة المرتبطة بها، ومرافق المياه الخاصّة بالنّظافة الشّخصيّة، والتّثقيف الصّحي”.
وتتقاسم حوالي 500 مليون امرأة وفتاة حول العالم بشكل متفاوت تجربة فقر الدّورة الشّهريّة أو ما يصطلح عليه أيضا بـ”فقر الحيض”، منهنّ 107 ملايين امرأة وفتاة في المنطقة العربيّة، بحسب تقرير للبنك الدّولي.
وفي سنة 2023، كشفت دراسة لمنظمة اليونيسف شملت 17 دولة من منطقة شمال أفريقيا والشّرق الأوسط أن 20% من الفتيات المراهقات يفتقرن إلى المعلومات الضرورية حول الدّورة الشّهريّة ولا يتحدّثن إلى أيّ أحد حول المواضيع المتعلّقة بها.
وسبق أن نبّه خبراء للأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في بيان مشترك من “التّأثيرات الشّديدة” الّتي تسبّبها وصمة العار والخجل المنبثقة عن الصّور النمطيّة حول الحيض على الحقوق الإنسانيّة للنّساء والفتيات.
وإلى حدود السّنوات القليلة الماضية، لم يكن مفهوم “فقر الدّورة الشّهريّة” معروفا في تونس حتّى بالنّسبة للأوساط الحقوقيّة والنّسائيّة، رغم انتشاره في صفوف الفتيات والنّساء، متغذّيا بثقافة الصّمت عن المواضيع الّتي تخصّ أجساد الإناث.
بيد أن حادثةً كشفت النّقاب عن تجذّر هذه الظّاهرة داخل المجتمع التّونسي، تعود أطوارها إلى سنة 2015 حين زار مؤسس جمعيّة ” Wallah We Can” لطفي حمادي مبيتا للفتيات بالمدرسة الإعداديّة بمعتمدية مكثر في ولاية سليانة، ولفتت انتباهه الأجزاء المقطوعة من الحشايا الإسفنجيّة لعدد من أسرّة الطّالبات.
تقول سحر عبيد وهي عضو في هذه الجمعية لموقع الكتيبة:
“خلف حشايا الإسفنج الممزّقة تختفي قصص طالبات أكرهتهنّ الحاجة على استبدال الفوط الصّحيّة بالإسفنجات لإمتصاص سوائل الحيض في فترة الدّورة الشّهريّة”.
دفعت هذه الواقعة الجمعيّة إلى الاشتغال على هذا الملفّ وسبر أغوار هذه الظّاهرة وإطلاق مشروع “إيكوليبري” الّذي يتبنّى الدّفاع عن العدالة الحيضيّة، من خلال تصنيع فوط صحيّة قابلة للغسل وإعادة الاستعمال وتوزيعها على الفتيات وإطلاق حملات تثقيف حول الحيض.
الفوط الصحيّة لمن تستطيع إليها سبيلا
تدفع الجيوب الفارغة العديد من الفتيات في تونس إلى البحث عن بدائل للفوط الصحيّة باهظة الثّمن وإن كانت غير آمنة، تتعدّد بين القطع الإسفنجيّة وخرق القماش البالية والصّوف والمناديل الورقيّة والجرائد والفوط الصحيّة نفسها الّتي تضطرّ بعضهن إلى استخدامها لفترات زمنيّة متباعدة تتجاوز المعايير المتّفق عليها.
تذكر سحر عبيد، نقلا عن شهادات الطّالبات اللاتي تحدّثن لخبراء الجمعيّة، أنّ العشرات من الفتيات القاطنات بالمبيتات في المناطق الريفيّة يعجزن عن اقتناء ما يسدّ حاجياتهنّ من الفوط الصّحيّة، وبعضهنّ لم تستخدمنها ولو لمرّة واحدة منذ دخولهنّ مرحلة البلوغ.
وتتقاطع هذه الشّهادات مع قصص فتيات أخريات حاورتهنّ “الكتيبة”، تقول إحداهن:
“ذات مرّة تحوّل قميصي الّذي مزّقته بيدي إلى فوطة، واضطررت في أحيان أخرى إلى استخدام المناديل الورقيّة التي كنت أضعها بشكل متراصٍ خوفا من تسرّبات الحيض”.
وتؤكد سحر عبيد أنّ هؤلاء لسن حالات معزولات، فنتائج الدّراسة التي قامت بها الجمعيّة كشفت أنّ دائرة فقر الدّورة الشّهريّة تتّسع لـ 61 بالمائة من الفتيات في تونس ممن يواجهن تحديات مختلفة تعيق تعاملهنّ مع فترة الحيض بشكل يضمن سلامتهنّ الجسديّة ويحفظ كرامتهنّ.
ويعدّ الفقر، الذي يقبع تحته زهاء ربع سكان تونس، غذاءً رئيسًا لظاهرة “فقر الحيض” يعاضده غلاء أسعار الفوط الصحيّة شائعة الاستعمال التي تتراوح بين 3 دنانير و8 دنانير للعلبة الواحدة.
وتتّخذ هذه الأسعار منحى تصاعديا إذا ما تعلّق الأمر بالفوط الصحيّة المستوردة أو بمستلزمات الدّورة الشّهريّة الأخرى مثل السّدادات القطنيّة وكؤوس الحيض والسّراويل القابلة لإعادة الاستخدام، دون الحديث عن الأدوية المسكّنة للآلام أو مواد التّنظيف.
“كثيرا ما تُنصب طاولات النّقاش حول المقدرة الشرائيّة و”قفة التونسي” ويدخل الجميع في حديث مطوّل عن التّضخّم وغلاء أسعار المواد الأساسيّة يبدأ بالخبز والطّحين والدّقيق ويعرج إلى الزّيت والحليب وينتهي بالسّكر وحتّى القهوة والتّبغ.. فلماذا لا يأتون على ذكر مستلزمات الدّورة الشّهريّة التي تتوقف حياة النّساء حرفيّا في غيابها؟”.
يشغل هذا التّساؤل ذهن الطّالبة ملاك (اسم مستعار) التي تجد صعوبة مثل العشرات من أقرانها في التّكفّل بمصاريف مستلزمات الحيض، خاصة وهي التي تنتمي إلى عائلة محدودة الدّخل ولم تحضَ بعد باستقلاليتها المادّية.
قد يبدو ثمن الفوط النّسائيّة زهيدا بالنّسبة لفئة من التّونسيين.ـات، ولكنّه يصبح ثقيلا على أسر بالكاد تؤمّن قوت يومها في البلد الذي بلغت فيه نسبة التّضخّم 7.3 بالمائة إلى حدود شهر جوان الماضي وقفزت معدّلات البطالة إلى 16.2 بالمائة خلال الثلاثية الأولى من سنة 2024.
ويذكر المعهد الوطني للإحصاء في تقريره الأخير عن التّضخّم أن أسعار مستلزمات الدّورة الشّهريّة التي يدرجها ضمن فئة “العناية الفرديّة” ارتفعت بنسبة 7.3% في الشّهر الماضي مقارنة بأسعار السّنة الفارطة.
وتُقدّر رئيسة جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات” أسرار بن جويرة، في تصريح لموقع الكتيبة، كلفة الدّورة الشّهريّة بـ 40 دينارا في الشّهر على أقلّ تقدير، تتوزع بين ثمن الفوط الصّحيّة والأدوية المسكّنة للألم.
وتشير إلى أن هذه التّكلفة لا تأخذ بعين الاعتبار المصاريف الإضافيّة التي تفرضها فترة الحيض على النّساء والفتيات اللاتي يلجأن إلى استخدام سيّارات الأجرة عوضا عن المواصلات العمومية خلال فترة الدّورة الشّهريّة، فضلا عن اضطرار بعضهنّ إلى الخروج في إجازة غير مدفوعة الأجر خلال هذه الفترة.
تضيف أسرار بن جويرة قائلة: “تستغلّ الشّركات المنتجة لمستلزمات الدّورة الشّهريّة حاجة النّساء الملحّة إلى هذه المواد وترفع أسعارها بشكل مشطّ على حساب سلامتهنّ وراحتهنّ النّفسيّة”.
نساء داخل سجن الوصم
ارتفاع أسعار مستلزمات الحيض ليس الوجه الوحيد لقضيّة فقر الدّورة الشّهريّة الملبّدة سماؤها بغيوم القيل والقال والمعتقدات التي يحكمها مجتمع تُسيطر عليه ثقافة العيب ويُدرج الدّورة الشّهريّة مثل سائر المواضيع المتعلّقة بالصّحة الجنسيّة والإنجابيّة ضمن دائرة “الممنوعات”.
وتقّر النّاشطة الحقوقيّة أسوار بن جويرة بأنّ هذه الثّقافة أخذت طريقها إلى التّراجع تدريجيّا مع زيادة نسبة التّمدرس في تونس وخروج النّساء إلى سوق العمل، ولكنّ جذورها ما تزال ممتدة في الكثير من العقليات خاصة في الأوساط المحافظة والقرى والمدن الصّغيرة.
وتتجلّى هذه الثّقافة في سلوكيات متعدّدة داخل المجتمع التّونسي، بدءًا بوضع الفوط الصحيّة داخل أكياس سوداء أو لفّها بالجرائد عند اقتنائها من المحلّات التّجاريّة، مرورا بإخفاء النّساء لإفطارهنّ خلال فترة الحيض في شهر رمضان، وصولا إلى تحريم التّداول بشأن الدّورة الشّهريّة داخل العائلة أو حتّى في الأوساط التّعليميّة أو المهنيّة واستخدام كلمات مضلّلة للتّعبير عنها.
ويضع فقر الدّورة الشّهريّة العديد من الفتيات خاصّة حديثات العهد بالحيض في سجن الخجل والشّعور بالوصم والإقصاء والخوف المستمرّ الّذي يتضاعف في صفوف الفتيات اللاتي يلجأن إلى البدائل غير الآمنة.
وفي هذا الصّدد تقول سحر عبيد: “تضطرّ واحدة من الفتيات اللاتي حاورناهنّ إلى الجلوس على مائدة العشاء فترة أطول إلى حين مغادرة أفراد عائلتها المكان للتأكّد من عدم وجود تسرّبات على ملابسها”.
ولفتت إلى أنّ العديد من الفتيات في بعض المناطق وخاصة منها الرّيفيّة لا يحظين بغرف مستقلة ويتشاركن الحيّز المكاني نفسه مع أفراد عائلاتهنّ الذّكور، وهو ما يعيق إدارتهنّ لفترة الحيض ويقلّل من خصوصياتهنّ وشعورهنّ بالأمان النّفسي.
يتزامن الفقر المادي للحيض مع فقر في المعلومات تؤكده نتائج الدّراسة التي أنجزتها جمعيّة “Wallah we can” (وهي الدّراسة الميدانيّة اليتيمة في تونس التي تتناول موضوع فقر الدّورة الشّهريّة)، حيث كشفت أن أكثر من ثلثيْ الفتيات المستجوبات لا يمتلكنّ معلومات كافية عن الحيض ولا يستطعن التّحدث بأريحيّة عن الدّورة الشّهريّة.
تقول لبنى (33 سنة) التي اختارت الحديث لموقع الكتيبة باسم مستعار: “ما زلت أذكر اللحظة الأولى التي راودتني فيها الدّورة الشّهريّة والذّعر الذي انتابني عند مشاهدتي لدماء الحيض، فوالدتي لم تُحطني علما بهذه المرحلة. لقد تطلّب منّي الأمر استجماع الكثير من الجرأة لمفاتحتها بالموضوع والتسلّح بتوجيهاتها”.
ومن المفارقات أن النّظام التّعليمي في تونس أدرج دروسا، وإن كانت مقتضبة، عن الحيض والتغيّرات التي تطرأ على أجساد الإناث والذكور عند البلوغ، غير أنّ التّلاميذ لا يحصلون على هذه المعلومات إلا عند اجتياز السّنة الأخيرة من مرحلة التّعليم الأساسي، أي في سنّ الرّابعة عشر، بينما يحدث البلوغ لفئة واسعة من المراهقين.ـات قبل ذلك.
وبحسب سحر عبيد، لا تقتصر أزمة التّواصل على العائلات وإنّما تشمل الإطار التّربوي وحتّى الطبّي.
تقول المتحدّثة ذاتها: “من الشّهادات التي علقت بذاكرتي تعود لفتاة انقطعت عنها الدّورة الشّهريّة أربعة أشهر، وحين زارت الطّبيب قدّم لها الدّواء دون أن يزوّدها بأي معطى عن حالتها وأسباب تأخّر الحيض”.
كَسْرُ الصّمت الذي يُطبق على مواضيع الحيض ليس مسألةَ رفاهيّةٍ نفسيّةٍ أو تصالح مع الذّات والجسد، فالأمر يتخطّى هذا المعطى إلى مسائل أشدّ خطورة على صحّة النّساء والفتيات. إذ يوفّر هذا الصّمت مجالا خصبا لتكاثر الأفكار المغلوطة عن الحيض التي قد تؤدّي إلى ممارسات تسيء لأجساد النّساء أو تفضي إلى سيناريوهات مشابهة لسيناريو ماطر الذي أتينا على ذكره في أول المقال.
مدخل للتسرّب المدرسي
“الافتقار إلى التواؤم بين الاحتياجات الصحيّة المتعلّقة بالحيض لدى النّساء والفتيات في المؤسّسات التّعليميّة وأماكن العمل له أثره على المدارس والوظائف، وبالتّالي على النهوض الاقتصادي بالمرأة، مما يقوّض المساواة بين الجنسين”.
ورد هذا التّنبيه في البيان المشترك لخبراء الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي صدر بتاريخ 5 مارس/ آذار 2019 قبيل اليوم العالمي للمرأة الموافق لـ 8 مارس / آذار من كلّ عام.
ينسحب هذا المعطى على تونس التي استطاع فيها فقر الدّورة الشّهريّة اقتلاع نصيبه من مسبّبات التسرّب المدرسي وضعف التّحصيل العلمي في صفوف الإناث الحائضات، في ظلّ عدم قدرة هؤلاء الفتيات على الخروج من بوتقة الصّمت.
“اضطررت أحيانا إلى التغيّب عن مقاعد الدّراسة، بسبب عدم تمكّني من شراء ما يكفيني من الفوط الصحيّة. ولم يكن من المتاح تغيير قطع الأقمشة التي كنت أستخدمها داخل المعهد”.
يطارد الحرج آية (15 سنة) التي تنقل بصعوبة لموقع “الكتيبة” شعورها بالخوف من تفطّن زملائها أو أساتذتها إلى البدائل التي كانت تستخدمها لإدارة فترة الحيض. وتستحضر بمرارة لحظات الانتظار الطويلة التي قضّتها وهي تنتظر خروج زملائها من القسم للتأكد من خلو ملابسها من أيّ بقع.
قد لا يكون فقر الدّورة الشّهريّة سببا رئيسا للتسرّب المدرسي في صفوف الإناث، ولكنّه بالتأكيد واحد من الأسباب التي تعيق تقدّم هؤلاء الفتيات في مسارهنّ التّعليمي وحتّى المهني، بحسب سحر عبيد.
تضيف عبيد في نفس السياق:
“تجبَر عدد من الفتيات التّونسيات على التّغيب عن الدّراسة، إمّا لأسباب نفسيّة أو صحيّة أو ماديّة. بعضهنّ يجدن أنفسهن في وضعيات سيّئة بسبب استخدامهنّ لبدائل غير آمنة، وأخريات تخشين الجلوس على الكراسي وترك بقع الدّم خلفهنّ، وأخريات تهربن من نظرات السّخرية التي تنتشر في صفوف زملائهنّ”.
تختار 85 بالمائة من هؤلاء الفتيات عدم البوح بمشاعرهنّ ومشاركة تجاربهنّ مع فقر الدّورة الشّهريّة، خاصّة وأنّ المحيط المدرسي لا يساعدهنّ على ذلك. وتؤكّد عبيد وجود حواجز تقف بين الفتيات والأساتذة وحتّى القيّمات بالمبيتات وتعيق طرح موضوع فقر الدّورة الشّهريّة بكلّ أريحيّة.
وتترك هذه الوضعيات آثارا نفسيّة طويلة الأمد في صفوف الفتيات، تمتد إلى زعزعة ثقتهنّ بأنفسهنّ وقدرتهنّ على الاندماج داخل المجتمع والتّعبير عن أفكارهنّ.
وينسحب هذا الأمر على المحيط المهني الذي لا يحترم في أحيان كثيرة خصوصيّة فترة الحيض، فتضطرّ النّساء العاملات اللواتي تصاحب دوراتهنّ الشّهريّة آلام تمنعهنّ من مباشرة عملهنّ إلى أخذ إجازات غير مدفوعة الأجر.
وتعتبر بن جويرة أن الدّولة هي المسؤول الأوّل عن انتشار فقر الدّورة الشّهريّة من خلال عدم دعم مستلزمات الحيض وعدم تقنين أسعارها أو توفيرها بشكل مجّاني في أماكن الدّراسة والعمل، مشيرة إلى أن العديد من البلدان باشرت في اتّخاذ خطوات باتجاه دعم العدالة الحيضيّة.
وشرّعت بعض الدول، آخرها اسبانيا، قوانين تسمح للنّساء اللواتي يعانين من آلام الحيض بالحصول على “إجازة الدّورة الشّهريّة” مدفوعة الأجر لفترة تتراوح بين 3 و5 أيام، شريطة الاستظهار بتقرير طبيّ يثبت ذلك. ويطبّق اليابان هذا القانون منذ العام 1947 ويفرض غرامات ماليّة على المخالفين.
خطر يهدّد سلامة الحائضات
تتلافى الفتيات الحائضات عجزهنّ عن توفير مستلزمات الدّورة الشّهريّة باستخدام البدائل سالفة الذّكر أو الإبقاء على الفوط الصّحيّة لفترات طويلة، ولكنّهن تجهلن أنّهن تقفزن إلى خطرٍ من نوع آخر يهدّد سلامتهنّ الجسديّة وخاصّة الجنسيّة والإنجابيّة.
الأخصّائيّة في أمراض النّساء والتّوليد دلندة الشّلّي تشير في تصريح لموقع “الكتيبة” إلى أن البدائل التي تستخدمها هؤلاء الفتيات ليست آمنة وتهدّد بإصابتهنّ بالتهابات وتعفّنات في منطقة الحوض.
وتؤكّد الشّلّي أنّ قطع القماش هي البديل الأكثر أمنا، ولكنّه يتطلّب التّغيير المستمرّ والوصول إلى مرافق النّظافة ودورات المياه. وهو أمر يصعب تحقيقه في عدد من المؤسّسات التّربويّة، في ظلّ وجود 527 مدرسة ابتدائيّة غير مرتبطة تمامًا بشبكة المياه كشف عنها تقرير صدر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة في 18 أفريل 2024.
تنقل الشّلّي تجارب بعض الفتيات والنّساء اللاتي يلجأن إليها بعد إصابتهن بمشاكل في أجهزتهن التّناسليّة، فتقول:
“تستوجب الفوطة الصحيّة التّغيير 4 مرّات في اليوم، وبسبب قلّة ذات اليد تطيل بعض الفتيات عمر استخدامها، وهو ما يعرّضهنّ إلى مخاطر صحيّة من قبيل التّعفّنات النّاجمة عن تراكم الجراثيم المنبثقة عن مخلّفات جدار الرّحم”.
وتؤكّد الشّلّي أن تبعات هذه الممارسة تمتدّ إلى احمرار الجلد والتهرئة وتشكّل فطريات تصعب إزالتها، ناهيك عن الرّوائح الكريهة التي يسبّبها نموّ البكتيريا في منطقة المهبل.
تشير بعض الدّراسات إلى أن بعض الفوط الصحيّة ليست وسيلة آمنة للنّساء والفتيات حتّى وإن احترمن مواقيت استخدامها، والسبب يعود إلى المواد الكيميائيّة الموجودة فيها. حيث تستخدم بعض الماركات مادّة “الديوكسين” (مصنّفة كمادّة سميّة) التي تمنح اللون الأبيض للطّبقة الخارجيّة للفوط الصّحيّة، والبلاستيك الذي يستخدم كمادّة مانعة للتّسرّب، إلى جانب المعطّرات التي تسبّب الحساسيّة لبعض الإناث.
وفي هذا الصّدد، تقول الشّلّي إنّ جلّ المواد الصّناعيّة وخاصّة المعطّرات مرفوضة بشكل عام ويمنع استخدامها في المناطق الحسّاسة، خاصّة وأنّ الفوط الصّحيّة تلامس بشكل مباشر الجزء الخارجي من الرّحم، مشيرة إلى أنّ هذه المسألة تنسحب أيضا على المناديل المعطّرة التي تسبّب التهاب الجلد.
وتؤكّد الشلّي تعرّض عدد من مريضاتها إلى تهيّجات والتهابات ناجمة عن استخدامهن لماركات معيّنة من الفوط الصّحيّة، قائلة: “للأسف لا توجد طريقة للتأكّد من جودة هذه الماركات إلّا بالتّجربة”.
وتصاحب هذه الأضرار الصّحيّة أضرار بيئيّة ناجمة عن اعتماد جلّ الفوط الصّحيّة التّقليديّة التي تُستخدم مرّة واحدة على البلاستيك في تركيبتها، وتتطلّب وفقا للتّقديرات من 500 إلى 800 عام لتتحلّل.
وتطرح بعض الجمعيات والخبراء الفوط الصحيّة العضويّة كبديل آمن للنّساء وكخيار لمجابهة فقر الدّورة الشّهريّة على اعتبار أنّها قابلة لإعادة الاستخدام، فضلا عن كونها صديقة للبيئة بفضل تركيبتها الخالية من المواد المصنّعة.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة انتاجات صحفيّة حول قضايا تهمّ حقوق النساء والفتيات في تونس.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة انتاجات صحفيّة حول قضايا تهمّ حقوق النساء والفتيات في تونس.
الكاتب : رحاب حوّات
صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري
الكاتب : رحاب حوّات
صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري