الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
معزّ، شابّ ثلاثيني كان يعمل تقني سامي في معالجة وتحليل المياه، أصيل ولاية الكاف، أجبرته آلام مبرحة وانتفاخ في مستوى بطنه على التوجّه إلى مصحّة خاصّة بالعاصمة تونس. لم يُسمح له بدخول المصحّة قبل أن يدفع مبلغا نقديّا قيمته 5000 دينار تونسي (حوالي 1635 دولار أمريكي) أو أن يقدّم شيكا بهذا المبلغ.
بعد أن دفعت عائلته هذا المبلغ، جاء طبيب إلى معزّ واكتفى بطرح بعض الأسئلة عليه قبل أن يعلمه بأنّه يجب أن يخضع فورا إلى تدخّل جراحي نتيجة انغلاف الأمعاء، وأخبره أنّ كلفة العمليّة تتجاوز الـ16 ألف دينار (حوالي 5232 دولار أمريكي) وأنّه يحتاج إلى دخول الإنعاش بشكل فوري لقضاء ليلة هناك.
علم معزّ بعد أن استمع إلى محادثة جانبية بين الطبيب والعاملين في المصحّة أنّه لا يوجد مكان في الإنعاش وأنهم سيجدون سريرا يضعونه عليه في الممرّ أمام غرفة الإنعاش. عندها فهمت عائلته التي كانت معه أنّ الوضع في المصحّة سيّء والخدمات لم تكن جيّدة خاصّة أنّ الطبيب لم يفحص معزّ واكتفى بالحديث معه.
اتّصلوا حينها بطبيبة تربطهم بها صلة قرابة تعمل في مستشفى الرابطة العمومي وطلبت منهم عدم دفع أيّ مبلغ والالتحاق مباشرة بقسم الاستعجالي في المستشفى. بعد فحصه، طلب الطبيب من زوجة معزّ أن تعدّ له كوبا من شاي الأعشاب فاستجابت مستغربة. بعد ذلك بنصف ساعة، غادر معز المستشفى بصحّة جيّدة بعد أن تبيّن أنّ الغازات هي التي تسبّبت في آلام معزّ وانتفاخ بطنه، وفق ما رواه أحد أقاربه لموقع الكتيبة.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
معزّ، شابّ ثلاثيني كان يعمل تقني سامي في معالجة وتحليل المياه، أصيل ولاية الكاف، أجبرته آلام مبرحة وانتفاخ في مستوى بطنه على التوجّه إلى مصحّة خاصّة بالعاصمة تونس. لم يُسمح له بدخول المصحّة قبل أن يدفع مبلغا نقديّا قيمته 5000 دينار تونسي (حوالي 1635 دولار أمريكي) أو أن يقدّم شيكا بهذا المبلغ.
بعد أن دفعت عائلته هذا المبلغ، جاء طبيب إلى معزّ واكتفى بطرح بعض الأسئلة عليه قبل أن يعلمه بأنّه يجب أن يخضع فورا إلى تدخّل جراحي نتيجة انغلاف الأمعاء، وأخبره أنّ كلفة العمليّة تتجاوز الـ16 ألف دينار (حوالي 5232 دولار أمريكي) وأنّه يحتاج إلى دخول الإنعاش بشكل فوري لقضاء ليلة هناك.
علم معزّ بعد أن استمع إلى محادثة جانبية بين الطبيب والعاملين في المصحّة أنّه لا يوجد مكان في الإنعاش وأنهم سيجدون سريرا يضعونه عليه في الممرّ أمام غرفة الإنعاش. عندها فهمت عائلته التي كانت معه أنّ الوضع في المصحّة سيّء والخدمات لم تكن جيّدة خاصّة أنّ الطبيب لم يفحص معزّ واكتفى بالحديث معه.
اتّصلوا حينها بطبيبة تربطهم بها صلة قرابة تعمل في مستشفى الرابطة العمومي وطلبت منهم عدم دفع أيّ مبلغ والالتحاق مباشرة بقسم الاستعجالي في المستشفى. بعد فحصه، طلب الطبيب من زوجة معزّ أن تعدّ له كوبا من شاي الأعشاب فاستجابت مستغربة. بعد ذلك بنصف ساعة، غادر معز المستشفى بصحّة جيّدة بعد أن تبيّن أنّ الغازات هي التي تسبّبت في آلام معزّ وانتفاخ بطنه، وفق ما رواه أحد أقاربه لموقع الكتيبة.
نجا معزّ من خطأ كان يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على صحّته وعلى وضعه المادي في حال دفع المبلغ المالي الذي طلبته المصحّة، إلّا أنّ مواطنين.ـات آخرين كانوا ضحايا لعمليّات تضخيم في الفواتير وأخطاء طبّية أودت بحياة بعضهم في مصحّات خاصّة بات همّها الوحيد تحقيق أرباح طائلة لأصحابها، ضاربة بعرض الحائط الحقّ الإنساني في الصحّة في ظلّ صمت رسمي وسياسات تشجّع الاستثمار الخاص في “قطاع الصحّة” دون أي مجهود يبذل لإنقاذ القطاع الاستشفائي العمومي.
رأسماليّة متوحشّة تعبث بالحقّ في الصحّة
عرف عدد المصحّات الخاصّة في الجمهورية التونسيّة تطوّرا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، حيث ارتفع من 83 مصحّة سنة 2013 إلى 114 مصحّة في 2022، وفق إحصائيات نشرها المعهد الوطني للإحصاء. عدد الأسرّة في المصحّات الخاصّة ارتفع بدوره من 4092 سرير في 2014 إلى 7334 سرير سنة 2022.
تُصنّف المصحّات الخاصّة ضمن المؤسّسات الصحّية الخاصّة وفقا للفصل 40 من القانون عدد 63 لسنة 1991 المتعلّق بالتنظيم الصحّي. وباتت تحتلّ مكانة هامّة ومتنامية صلب المنظومة الصحّية تتجسّم من خلال إرساء المبادرة الحرّة والتخلّي عن نظام التراخيص الإداريّة المسندة من قبل وزارة الصحّة وتعويضها بنظام كرّاس الشروط خاصّة فيما يتعلّق بإحداث أو توسيع اختصاص أو بإدخال تغييرات أو بنقل مؤسسة صحّية خاصّة، بمقتضى قرار وزير الصحّة العمومية بتاريخ 28 ماي/ أيّار 2001 المنقّح والمتمّم بالقرار المؤّرخ في 24 ديسمبر/ كانون الأوّل 2007، وفق ما جاء في التقرير السنوي العام الثاني والثلاثون لمحكمة المحاسبات.
يمثّل هذا التطوّر في عدد المصحّات الخاصّة نتيجة مباشرة للسّياسات التي تنتهجها الدولة التونسية بموجب القرار السياسي الذي فُرض عليها في إطار ما يُعرف بالإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي.
في هذا السياق، يقول رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الحقّ في الصحّة بلقاسم صبري في حديثه لموقع الكتيبة، إنّ تونس توجّهت إلى صندوق النقد الدولي في ثمانينات القرن المنقضي بعد أن عرفت أزمة اقتصادية أجبرتها على الاقتراض من الصندوق مقابل شروط تتمثّل في تخلّي الدولة عن دورها في قطاعات اجتماعية كالتعليم والصحّة والنقل والتوجّه نحو الخصخصة.
ويبيّن صبري أنّ الصحّة في تونس منذ الاستقلال وإلى غاية أواخر سبعينات القرن الماضي كانت مجانيّة ومتاحة لجميع التونسيين، وأنّه في بداية الستيّنات فرضت مساهمة على المواطنين بدأت تتصاعد قيمتها تدريجيا، مشيرا إلى أنّه من ضمن الشروط التي نصّ عليها الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي تشجيع القطاع الخاصّ في الميدان الصحّي علما أنّ القطاع الخاصّ في ذلك الوقت في هذا المجال لم يكن له إمكانات كبيرة.
ويفيد محدّثنا أنّ الدولة بدأت تعطي قروضا من البنوك الوطنية، أي أموال المواطنين، لبناء المصحّات وهو ما يفسّر التطوّر الكبير في القطاع الخاصّ باعتبار أنّه مثّل توجّها سياسيا من الدولة لدعم القطاع الخاص وفي الوقت ذاته مغادرة تدريجية للقطاع العمومي.
يمكن تقسيم خصخصة الخدمات الصحّية إلى نوعين، خصخصة نشطة وأخرى سلبيّة، بحسب ما جاء في دراسة صادرة عن جمعية الدفاع عن الحقّ في الصحّة تحت عنوان “خصخصة الخدمات الصحّية في تونس وأثرها على المرفق العمومي والحقّ الدستوري في الصحّة”، تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منها.
يوضّح بلقاسم صبري أنّ الخصخصة التي شهدها قطاع الصحّة في تونس تشمل كلاَ النوعين. ولا تزال الخصخصة النشطة موجودة إلى اليوم ولم تعد تقتصر على القروض المتأتية من دافعي الضرائب فحسب أو من البنوك العمومية بل تطوّرت ودخل أيضا رأس المال الأجنبي حيث اشترت أهمّ المصحّات الكبرى اليوم المؤسسة الإماراتية “أبراج”، وفق قوله.
أمّا الخصخصة السلبية فهي نتيجة تراجع الدولة في القطاعات الاجتماعية بحسب المتحدّث ذاته الذي أضاف:
كأنّ الشخص يُطرد من حقّه في المنظومة الصحّية العمومية ويُدفع نحو شراء خدمات القطاع الخاصّ.
تشير دراسة “خصخصة الخدمات الصحّية في تونس وأثرها على المرفق العمومي والحقّ الدستوري في الصحّة” إلى أنّ إنشاء الصندوق الوطني للتأمين على المرض ساعد على حشد الموارد لتمويل الخدمات الصحّية إلّا أنّ جزءا هامّا من هذا التمويل وُجّه للتعاقد مع مقدّمي الخدمة من القطاع الخاصّ.
وتعتبر الدراسة أنّ فتح تغطية الضمان الاجتماعي في مجال الصحّة للقطاع الخاصّ يُعتبر أحد المحدّدات الرئيسية للطفرة التي عرفها القطاع الصحّي الخاصّ، خاصّة في علاقة بالإجراءات التمييزية في ميدان أمراض وجراحة القلب والأوعية الدموية والسرطانات.
تلفت الدراسة ذاتها النظر إلى أنّ تطوّر الاستثمارات الخاصّة في غياب الدور التنظيمي والرقابي لوزارة الصحّة يطرح أسئلة عديدة حول محدّدات هذا التطوّر وآفاقه المستقبليّة وتأثير ذلك على زيادة النفقات الصحّية والتضخّم.
يقول وزير الصحّة الأسبق عبد اللطيف المكّي في حديث لموقع الكتيبة إنّ “الدولة التونسية لا تستطيع إيلاء القطاع الخاصّ الاهتمام الكافي سواء للمراقبة أو التطوير أو إدماجه مع القطاع العامّ باعتبار أنّ الإدارة المكلّفة بالقطاع الخاص في وزارة الصحّة هي إدارة فرعيّة”.
ويضيف المكّي أنّه منذ أن وُضعت هيكلة صندوق التأمين على المرض (الكنام) بات القطاع الخاصّ في ديناميكيّة نمو والقطاع العامّ في ديناميكيّة انخفاض.
انّ هيكلة الكنام فاسدة وأُحدثت لتشجيع القطاع الخاصّ وتمويله.
عبد اللطيف المكي وزير أسبق للصحّة
يبيّن محدّثنا أنّ الصندوق الوطني للتأمين على المرض هو الوحيد في العالم الذي يشمل 3 أنظمة، وهي العمومي واسترجاع مصاريف وطبيب العائلة، في حين أنّه من المفترض أن يكون هناك نظام واحد ويكون المواطن.ـة حرّا في اختيار ما إذا كان يريد تلقّي العلاج في القطاع العامّ أو الخاصّ، إلّا أنّ ذلك يحتاج إلى ملفّ طبّي رقمي.
ويشير إلى أنّ نظام رقمنة الصحّة لم يقع إنجازه منذ 2005، مؤكّدا وجود أموال كبيرة يقع تداولها في القطاع الصحّي.
ويفيد أنّ أموال قطاع الصحّة تقدّر بحوالي 8000 مليون دينار على الأقلّ بما في ذلك ميزانية وزارة الصحّة، إلى جانب ما يوفّره صندوق التأمين على المرض وما يدفعه المواطنون.ـات، لافتا إلى أنّ المواطن التونسي يدفع ما بين 35 و46% من هذا المبلغ.
ويردف وزير الصحّة الأسبق بالقول إنّ وزارة الصحّة تتكفّل بـ2500 مليون دينار وصندوق التأمين على المرض بحوالي 1000 مليون دينار، ولكن عند مقارنة القدرة لاستيعاب المرضى بين القطاع العامّ والقطاع الخاصّ، يتبيّن أنّ الأوّل يضمّ 22 ألف سرير، في حين يوفّر الثاني قرابة 7000 سرير.
في المحصّلة، يوضّح المكّي قائلا إنّه يتمّ توزيع 4000 مليون دينار على 22 ألف سرير في القطاع العامّ، فيما تحصل 100 مصحّة خاصّة توفّر 7000 سرير على المبلغ ذاته، بحسب المتحدّث ذاته.
يعتبر عبد اللطيف المكّي أنّ منظومة النشاط الخاصّ التكميلي التي وضعها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي كانت بمثابة “فخّ يجازي بواسطته الموالين له”، مشيرا إلى وجود عديد الملفات في التعاقدات حول نقل مرضى من المستشفيات العمومية إلى المصحّات الخاصّة وأنّه قدّم شكايات ضدّ أشخاص في هذا الإطار.
وكشف أن هناك 2200 طبيب جامعي يعملون في المستشفيات العمومية وأنّ هناك معلومات حول قيام البعض منهم، وهم أقلّية، بالحصول على مبلغ مالي معيّن مقابل نقل مريض من مستشفى إلى مصحّة خاصّة. كما أبرز أنّ غالبيّة الأطباء ذوي الاختصاص يعملون في القطاع الخاصّ، وفق قوله.
بدوره، يعتبر رئيس جمعية الدفاع عن الحقّ في الصحّة بلقاسم صبري أنّ النشاط الخاصّ التكميلي “كارثة”، واصفا إياه بـ”السرطان الذي أدخل الفساد في المنظمات الصحّية في القطاع العمومي”.
وأوضح أنّ “هناك شبكات كاملة من الفاسدين تبدأ من الحارس مرورا بالعملة والممرّضين لتعيين موعد بعيد الأجل وإذا رغب المريض في تقريب الموعد يمكنه الاتّصال بفلان والتوجه إلى عيادة في القطاع الخاصّ”، مبيّنا أنّ الطبيب يستفيد من هذه العمليّة ولكن في نهاية المطاف المريض ذو الإمكانيات المحدودة لا يمكنه تلقّي العلاج إلّا إذا تمكّن من تأمين مبلغ مالي كبير أو انتظار موعد في المؤسسات الصحيّة العموميّة، وفق قول محدثنا.
في المقابل، يرفض بلقاسم صبري وصف ما يحصل في المنظومة الصحّية العمومية ب”الانهيار وتخلّي الدولة تماما عن مسؤوليتها”، قائلا إنّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحاليّة تحُول دون توفير الإمكانات اللازمة للنهوض بالصحّة العمومية، فضلا عن أنّ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي مازالا يفرضان مساندة القطاع الخاصّ ورفض الاستثمار في القطاع العام مقابل الحصول على قروض.
ويؤكّد أنّ المشكلة الحاليّة تتعلّق بنقص الموارد المالية من جهة ومشكلة الحوكمة بما في ذلك مقاومة الفساد من جهة أخرى، مشيرا إلى نزيف الموارد البشرية من القطاع العمومي إلى القطاع الخاصّ في مرحلة أولى وحاليّا مغادرة البلاد.
ويضيف:
الفساد موجود.. بإمكان الطبيب مثلا أن يجري عمليّة لمريض في المستشفى مجّانا لأنه حقّ من حقوق هذا الأخير لكنّه يدفعه إلى إجرائها في القطاع الخاصّ كي يستفيد.
إخلالات بالجملة والدولة في غيبوبة
أدّى تردّي الخدمات في المؤسسات الصحية العمومية، بالتزامن مع مسار الخصخصة ودعم القطاع الخاصّ، إلى إرتفاع كبير في عدد المصحّات ونوعية الخدمات التي تروّج لها، بالإضافة إلى استقطابها إطارات طبّية وشبه طبّية.
هذا الأمر دفع نسبة كبيرة من المواطنين.ـات -عدد منهم يكون مُكرها- إلى التوجّه للمصحّات الخاصّة لتلقّي العلاج وإجراء العمليّات. وقد سُجّل ارتفاع عدد العمليات الجراحيّة وعدد الولادات التي يتكفّل بها الصندوق الوطني للتأمين على المرض في المصحّات الخاصة.
ازدهار المصحّات الخاصّة في ظلّ ضعف رقابة الدولة فتح المجال أمام حالات عديدة من الإخلالات التي ترتكبها هذه المؤسسات الصحّية الخاصة والتي تبدأ من التلاعب بالتعريفات وتضخيم الفواتير وتصل إلى أخطاء طبّية قد تودي بحياة بعض المرضى أحيانا.
تكشف محكمة المحاسبات في تقريرها السنوي الثاني والثلاثين أنّ اعتماد نظام كرّاس الشروط المتعلّق بالمؤسسات الصحية الخاصّة -دون وضع استراتيجية واضحة المعالم بخصوص إحداثها تأخذ بعين الاعتبار الأولويّات وتبيّن سبل الشراكة الممكنة بين القطاعين العامّ والخاصّ- ساهم في تمركز 90% من المصحّات الخاصّة على الشريط الساحلي.
وانجرّ عن محدودية الرقابة عند إحداث المصحّات الخاصة القيام بأشغال توسعة وإدخال تغييرات عليها دون احترام كرّاس الشروط، وبعث مصحّات لا تتطابق تصاميمها الهندسية مع الأمثلة المصادق عليها من قبل الوزارة، فضلا عن انشاء عدد من المصحّات داخل مناطق غير مهيّئة عمرانيا لتركيز منشآت صحّية.
علاوة على ذلك، سجّل ضعف الرقابة عند الإعلام ببداية النشاط التي تتمّ غالبا بتأخير قارب في بعض الأحيان سنة كاملة، ما أدّى إلى دخول بعض المصحّات حيّز الاستغلال دون الاستجابة للشروط، وفق المصدر ذاته.
يفيد تقرير محكمة المحاسبات كذلك بأنّ الصندوق الوطني للتأمين على المرض تكفّل بعمليّات جراحيّة مسداة بالمصحّات الخاصّة خارج العمليّات المسموح بها واتّضح إسنادها استثنائيا في إطار اللجنة الاستشارية لتطبيق أنظمة الضمان الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية بكلفة جمليّة تفوق 6 مليون دينار خلال الفترة الممتدّة بين 2015 و2019.
سجّلت المحكمة أيضا فوترة مبالغ إضافية دون وجه قانوني في عدد من المصحّات وفوترة مشطّة للمرضى الأجانب بالمقارنة مع المرضى التونسيين وتوظيف هوامش ربح مشطّة بالنسبة لبعض المستلزمات الطبّية والتي بلغت أحيانا 300%.
كما تمّ الترفيع في أسعار بعض الأدوية الممسوكة من طرف بعض المصحّات من خلال توظيف هوامش ربح غير قانونية تراوحت بين 26 و160% عوضا عن الـ10% المنصوص عليها بكرّاس الشروط.
يعزّز تقرير محكمة المحاسبات شهادات تحصّل عليها موقع الكتيبة من مواطنين.ـات التقاهم/هن أثناء إعداد هذا التحقيق. سامية، صحفية تقطن بالعاصمة تونس، وضعت مولودها في مصحّة خاصّة قضّت فيها ليلتين.
نتيجة لمضاعفات صحّية، بقيت سامية شبه غائبة على الوعي طيلة فترة إقامتها في المصحّة، إلّا أنّها فوجئت يوم مغادرتها بفاتورة مبالغ فيها بشكل فجّ. فعلى سبيل المثال تمّت فوترة 4 قوارير مياه في اليوم الواحد زعمت المصحّة أنها استهلكتها رغم أنّها لم تتمكّن من تناول أي شيء، علما أنّ سعر قارورة المياه يتجاوز 30 دينارا تونسيا.
تلقّت سامية حقنة ثمنها مرتفع إلّا أنّ الفاتورة التي تسلّمتها تفيد بأنّها كانت قد تلقّت 4 حقن. لم تقبل سامية بدفع ما جاء في الفاتورة وأصرّت على موقفها ودخلت في نقاش حادّ معهم إلى أن اعتذروا منها مدّعين أنّ ما جاء في الفاتورة “خطأ”.
يبلغ عدد المصحّات الخاصّة المتعاقدة مع الصندوق الوطني للتأمين على المرض106 مصحّة بحسب الموقع الإلكتروني للصندوق، موزّعة في مختلف ولايات الجمهورية التونسية.
يتمّ تحديد تعريفات العمليّات الجراحيّة التي يخضع إليها المنخرطون/ات في صندوق التأمين على المرض وفق اتفاقيات بين الصندوق والغرفة النقابية الوطنية للمصحّات الخاصّة. إلّا أنّ ذلك لم يمنع عديد المصحّات الخاصّة المتعاقدة مع الكنام من فرض تعريفات مشطّة على المرضى، وهو ما حصل على سبيل المثال مع سامية.
في هذا الإطار، أصدر مجلس المنافسة في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2021، قرارا يقضي بتسليط عقوبة ماليّة جمليّة قدرها 10 مليون دينار و827 ألف دينار ضدّ 4 نقابات مهنيّة -وهي غرفة المصحّات الخاصّة والنقابة التونسية لأطبّاء القطاع الخاصّ والمجلس الوطني لعمادة الأطبّاء ونقابة جرّاحي القلب والأوعية الدموية الناشطين بالقطاع الخاصّ- إلى جانب 22 مصحّة خاصّة، وذلك لثبوت قيام اتفاق بينهم للترفيع في تعريفات التدخلات الطبّية وعمليّات القلب والشرايين المجراة على المضمونين الاجتماعيين بالمصحّات الخاصّة.
مريم، اسم مستعار لشابّة ثلاثينية تزوّجت حديثا وأنجبت مؤخّرا في مصحّة خاصّة، صرّحت لموقع الكتيبة أنّها دفعت لقاء العمليّة القيصريّة التي أجرتها 3 آلاف دينار في حين أنّ التعريفة المتّفق عليها مع الكنام تتراوح بين 1400 و1600 دينار.
لا تشمل الفواتير المضخّمة حالات الولادة فقط. بل تطال تدخّلات جراحيّة دقيقة خاصّة عمليّات القلب.
شيماء، شابّة ثلاثينيّة، وجدت نفسها مضطرّة إلى التداين من أصدقائها ومعارفها حتّى تغطّي مصاريف التدخّل الجراحي الذي خضع له والدها على مستوى قلبه في مصحّة خاصّة في تونس الكبرى.
تقول شيماء في حديثها لموقع الكتيبة إنها احتاجت إلى مبلغ قيمته 30 ألف دينار لتغطية تكاليف العمليّة الجراحية والإقامة في المصحّة، مشيرة إلى أنّها وجدت الفاتورة مضخّمة بشكل كبير إلّا أنّها خيّرت دفع المبلغ الذي طُلب منها دون الدخول في سجال مع المصحّة خوفا على صحّة والدها.
خلال فترة انتشار فيروس كورونا ومع ارتفاع عدد الإصابات مقابل امتلاء المستشفيات العمومية وعدم قدرة المؤسسات الصحّية العمومية على توفير أماكن كافية للإنعاش، استغلّ عدد كبير من المصحّات الخاصّة هذه الظروف القاسية وفرض بعضها على المرضى وعائلاتهم تقديم شيكات بمبالغ ماليّة كبيرة قبل الموافقة على استقبالهم وعلاجهم. بل إنّ بعض المصحّات رفضت تسليم جثث المرضى الذين توفّوا إلى ذويهم قبل استلام مبالغ ماليّة ضخمة.
تحدّث ريّان عن الأحداث التي سبقت وفاة والدته في صائفة 2021 بنبرة لا تخلو من التأثر. يقول إنّ والدته المسنّة أصيبت بفيروس كورونا في جوان/ حزيران 2021 وشفيت. إلّا أنّ صحّتها تدهورت مجدّدا في شهر جويلية/ تموز من السنة نفسها. وطلب الطبيب المعالج آنذاك نقلها إلى مصحّة كي تجري تحاليل وتبقى هناك.
أخذتها عائلتها إلى مصحّة خاصة بالعاصمة. وفور دخولهم مبنى المصحّة، طُلب منهم تقديم شيك ضمان بـ20 ألف دينار وهو مبلغ اعتبره ريّان تعجيزيا، إلّا أنّهم تمكّنوا من توفيره بعد الاتصال بأحد معارفهم.
يقول محدّثنا إنّهم أدخلوا والدته بعد ذلك إلى قسم الطوارئ ووضعوا لها آلة الأوكسجين، إلّا أنّهم تركوها فوق سرير غير مؤمّن لا يوجد فيه ما يحول دون سقوطها رغم أنّها كانت غائبة عن الوعي، فضلا عن وزنها المرتفع.
ويضيف أنّهم كانوا يستكملون الإجراءات حين سمعوا “لطخة” ليتبّن أنّها سقطت من السرير الذي وُضعت فيه بعد أن تُركت وحيدة هناك. وقع سجال حينها بين ريّان والعاملين في المصحّة ما استدعى تدخّل الشرطة. وعندما حاولت العائلة المغادرة مع والدتهم طُلب منهم دفع 3 آلاف دينار.
لم تجد عائلة المريضة من بدّ سوى التداين وتقديم مبلغ 3 آلاف دينار ونقلها إلى مصحّة أخرى، أين بقيت 6 أيّام قبل أن تتوفى.
يقول موظّف سابق بالصندوق الوطني للتأمين على المرض، طلب عدم الكشف عن هويّته، إنّ مصحّة واحدة على سبيل الذكر تحصّلت من الصندوق على مبلغ قيمته 500 مليون دينار، مؤكّدا أنّ مثل هذه الحالات تحصل كثيرا في إطار تكفّل الكنام بالمرضى.
ويضيف أنّه في بعض الأحيان يأتي ملفّ يتضمّن إجراء شخص لعمليّة جراحيّة في مصحّة إلّا أنّ التدقيق في هذا الملف يفضي إلى أنّه في حقيقة الأمر خضع إلى التدخل الجراحي في مستشفى عمومي، إلّا أنّه لا يتمّ اكتشاف هذه المسائل بسبب غياب الرقابة على المصحّات الخاصّة من قبل صندوق التأمين على المرض، محذّرا من وجود العديد من حالات التلاعب.
رغم الأرباح التي تحقّقها المصحّات الخاصّة، يعتبر بعض المطّلعين على الملفّ أنّها تمتنع عن الّتصريح بكامل أرباحها كي تخفّف من أعبائها الجبائيّة.
تفيد معطيات تحصّل عليها موقع الكتيبة من وزارة الماليّة أنّ المداخيل الجبائيّة المتأتّية من المصحّات الخاصّة خلال سنة 2022 بلغت حوالي 451, 45 مليون دينار. وقد بلغت نسبة الإيداع المتعلّقة بالضرائب المباشرة 81,91% وتلك التي تهمّ الأداء على القيمة المضافة 90,44%.
بلغ عدد تدخّلات مصالح المراقبة الجبائية بالنسبة الى المصحّات الخاصّة 50 تدخّلا خلال سنة 2023 وفق المصدر ذاته. وقد تمّ بمقتضى أحكام الفصل 31 من القانون عدد 78 لسنة 2016 إرساء واجب الاشارة ضمن الفواتير التي تصدرها المؤسّسات الصحّية والاستشفائية الى كلّ العمليّات المتعلّقة بالخدمات الصحّية والطبّية وشبه الطبّية المسداة من قبلها أو من قبل المتدخّلين لديها بصفة مستقلّة لغاية إسداء هذه الخدمات.
ويتعيّن الإشارة خاصّة إلى هويّة مسدي الخدمات ومعرّفه الجبائي ونوعيّة الخدمة المسداة ومبلغها خال من الأداء على القيمة المضافة ونسبة ومبلغ الأداء المتعلّق بها.
وقد أشارت مراسلة وزارة المالية التي تحصّلنا عليها إلى أنّه تمّ الانطلاق منذ سنة 2023 في التدقيق في عدد كبير من ملفّات الأطبّاء من القطاع الخاصّ.
ضرورة مراجعة المنظومة الصحّية
يُعتبر الحقّ في الصحّة من الحقوق الأساسية بل أنّه قد يضاهي الحقّ في الحياة إذ أنّ حرمان إنسان من الخضوع لتدخّل جراحي قد يعني الحكم عليه بالموت. في هذا الإطار، يقول رئيس جمعية الدفاع عن الحقّ في الصحّة بلقاسم صبري إنّ مجال الصحّة يجب ألّا يُعالج في إطار ما يسمّى بالبرامج الإصلاحية مثل النقل والصناعة بل لا بدّ من الحفاظ على الطبيعة الإنسانية والحق الإنساني للخدمات الصحّية.
ويضيف صبري أنّ هذه المسائل لا تتوفّر عادة إلّا عندما يكون القطاع العمومي متطوّرا ويكون هو المسؤول الأوّل عن المنظومة الصحّية وتُوفّر له الإمكانيّات. كما يجب أن يكون مسؤولا على تدريب الموارد البشريّة التي تمثّل العنصر الأساسي في هذا القطاع.
ويشير إلى أنّه مع فتح المجال أمام القطاع الخاصّ في علاقة بصندوق التأمين على المرض حصل نوع من غياب العدالة بعد أن أصبحت نسبة كبيرة من موارد الصندوق تتوجّه إلى الخدمات التي توفّرها المؤسسات الصحّية الخاصّة، وهذا الأمر فيه حيف باعتبار أنّ نسبة كبيرة من هذه الموارد مصدرها المواطنون الذين يتلقّون علاجهم في المؤسسات العمومية ولا يقدرون على تحمّل تكاليف العلاج في القطاع الخاصّ.
ويؤكّد محدّثنا ضرورة الانطلاق من مبدأ أساسي وهو التكامل بين القطاعين العام والخاصّ وضرورة أن يكون هناك خارطة صحّية متكاملة يتعاون فيها الطرفان، موضحّا أنّ جمعية الدفاع عن الحقّ في الصحّة تريد من الدولة إعطاء الأولوية للقطاع العام لقيادة المنظومة الصحّية من خلال تحسين الحوكمة وتوفير الموارد.
من جهته، يؤكّد رئيس النقابة التونسية لأطبّاء القطاع الخاصّ خميّس زايد ضرورة إعادة النظر في المنظومة الصحّية كاملة مبرزا ضرورة اعتماد تغطية صحّية شاملة تسمح بتوفير خدمات بذات الجودة في المؤسسات الصحّية العمومية والخاصّة.
ويبيّن زايد أنّ “التركة” ثقلت على القطاع العمومي وباتت آجال العلاج لأمراض كالسرطان وتلك التي تستوجب عمليّات جراحية كبرى طويلة جدّا ما يدفع المواطنين إلى اللجوء إلى أساليب أخرى، مشدّدا على ضرورة تقسيم مصاريف الصحّة على النحو الآتي، 40% تتحمّلها الصناديق الاجتماعية، و40% يتحمّلها التأمين و20% يتحمّل كلفتها المواطنون. أمّا أولئك الذين لا يستطيعون تأمين هذه المبالغ فيقع إيجاد حلول خاصّة بهم.
ويعتبر رئيس نقابة أطبّاء القطاع الخاصّ في حديثه لموقع الكتيبة أنّ أسعار المؤسسات الصحّية الخاصّة تبدو مرتفعة لأنها تلتزم بالأسعار الحقيقة لتكلفة العلاج والآلات، مقرّا بوجود تجاوزات ومؤكّدا في المقابل ضرورة تنسيبها ووجود عديد الوسائل للرقابة مثل عمادة الأطبّاء وتفقدية الصحّة.
ويشدد خميّس زايد على أنّ القطاع الخاصّ قادر على تقديم خدمات بذات جودة الخدمات التي يقدّمها القطاع العام وأنّه لا بدّ من إيجاد طريقة كي يتمتّع كلّ تونسي.ـة بالتغطية الصحّية الشاملة، وهو أمر موجود في دول عديدة على غرار فرنسا.
تجدر الإشارة إلى أنّ موقع الكتيبة حاول الاتصال بالغرفة الوطنية النقابية للمصحّات الخاصّة في إطار حقّ الردّ على ما ورد من معطيات إلّا أنّنا لم نتلقّ تفاعلا إلى غاية كتابة هذه السطور.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة تحقيقات يعكف على إنجازها موقع الكتيبة حول الوضع في قطاع الصحة.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة تحقيقات يعكف على إنجازها موقع الكتيبة حول الوضع في قطاع الصحة.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة