الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
يعيش العالم اليوم على وقع سباق محموم بين مختلف الدول التي باتت تبحث عن بدائل لمصادر الطاقة الأحفورية، في ظلّ تفاقم تداعيات التغيّر المناخي وآثاره التي يبدو أنّها تتسارع في ظلّ غياب أيّ تغيير فعلي في سياسات الدول الكبرى والأكثر تلويثا للحدّ من التغيّرات المناخيّة.
وكانت الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتّحدة لتغيّر المناخ “كوب 28” (COP28)، الذي انعقد في ديسمبر/ كانون الأوّل 2023 في إمارة دبي بالإمارات العربيّة المتّحدة، قد وافقت على خارطة طريق “للتحوّل بعيدا عن الوقود الأحفوري”.
يُطرح الهيدروجين الأخضر كأحد أبرز البدائل للوقود الأحفوري وهو توجّه تتسابق نحوه الدول المتقدّمة، فيما تعمل دول العالم الثالث، التي تمتلك الإمكانيّات الطبيعيّة التي تمكّنها من تحقيق مكاسب كبيرة في مجال الطاقات المتجدّدة، على إعداد استراتيجيّات لإنتاج الهيدروجين وتصديره إلى الخارج وتحديدا إلى دول الاتحاد الأوروبي.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
يعيش العالم اليوم على وقع سباق محموم بين مختلف الدول التي باتت تبحث عن بدائل لمصادر الطاقة الأحفورية، في ظلّ تفاقم تداعيات التغيّر المناخي وآثاره التي يبدو أنّها تتسارع في ظلّ غياب أيّ تغيير فعلي في سياسات الدول الكبرى والأكثر تلويثا للحدّ من التغيّرات المناخيّة.
وكانت الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتّحدة لتغيّر المناخ “كوب 28” (COP28)، الذي انعقد في ديسمبر/ كانون الأوّل 2023 في إمارة دبي بالإمارات العربيّة المتّحدة، قد وافقت على خارطة طريق “للتحوّل بعيدا عن الوقود الأحفوري”.
يُطرح الهيدروجين الأخضر كأحد أبرز البدائل للوقود الأحفوري وهو توجّه تتسابق نحوه الدول المتقدّمة، فيما تعمل دول العالم الثالث، التي تمتلك الإمكانيّات الطبيعيّة التي تمكّنها من تحقيق مكاسب كبيرة في مجال الطاقات المتجدّدة، على إعداد استراتيجيّات لإنتاج الهيدروجين وتصديره إلى الخارج وتحديدا إلى دول الاتحاد الأوروبي.
في هذا الإطار، وضعت تونس استراتيجيّة وطنيّة طاقيّة حدّدت فيها أهدافها من إنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقّاته والكمّيات التي سيقع تصديرها إلى الخارج وتلك التي ستوجّه إلى السوق المحلّية التونسيّة.
وأثارت هذه المسألة جدلا كبيرا في تونس خلال الآونة الأخيرة خاصة بعد توقيع مذكّرة تفاهم بين الجمهورية التونسيّة ومجمع الشركات الفرنسيّة “توتال للطاقات” والنمساوية “فاربوند” والتي تتعلّق بتطوير وإنجاز مشاريع للهيدروجين الأخضر في تونس. وبينما رحّب البعض بهذه الخطوة باعتبارها تمهّد لشروع تونس في الانتقال نحو الطاقات المتجدّدة، يحذّر آخرون من أنّ هذه الاتفاقيّات هي نوع من الهيمنة الجديدة واستغلال للثروات المائيّة في تونس والتي تعدّ محدودة بالأساس.
استراتيجية “طموحة” لتنمية الهيدروجين الأخضر
يمكن الحصول على الهيدروجين الأخضر عن طريق تحليل كهربائي للمياه وفصل جسيمات الأوكسجين عن جسيمات الهيدروجين. ويتطلّب إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر 9 لترات من المياه المحلّاة، بحسب ما أفادنا به المهندس البيئي والناشط المهتمّ بقضايا المناخ حمدي حشاد.
يزعم موقع منظمة الهيدروجين الأخضر أنّ انبعاثات كربونيّة منخفضة جدّا أو معدومة تنتج عن هذه العمليّة.
ويشير الموقع ذاته إلى أنّ الاستراتيجيّات والسياسات الناشئة للهيدروجين الأخضر تختلف بشكل كبير ممّا يؤدي إلى إضعاف الجهود المبذولة لتسريع استخدام الهيدروجين الأخضر.
وكانت وزارة الصناعة والمناجم والطّاقة قد أصدرت، في ماي/ أيّار 2024، ملخّصا للاستراتيجية الوطنيّة لتنمية الهيدروجين الأخضر ومشتقّاته في تونس، قدّمت فيه خططها لإنتاج الهيدروجين الأخضر ورؤيتها الاستراتيجيّة له في إطار عمليّة انتقالها إلى الطاقات المتجدّدة بنسبة 80% بحلول 2050.
تتضمّن استراتيجيّة تنمية الهيدروجين الأخضر خطوات متعدّدة تشمل مجالات متنوّعة كالإطار التشريعي والاستثمار في البحث والتطوير. ويتمثّل الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجيّة في وصول تونس إلى التمتّع باقتصاد مستدام ومحايد للكربون وشامل للهيدروجين الأخضر.
وتشمل الأهداف أيضا تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة والتطوّر الاقتصادي والانتقال العادل. ومن نتائج تطبيق هذه الاستراتيجية التخلّي عن الكربون في قطاعات عديدة.
تتوقّع الاستراتيجية أن تصل تونس إلى إنتاج حوالي 8 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر بحلول سنة 2050. وتطمح إلى أن توفّر من خلال الاستثمارات في هذا القطاع نحو 434 ألف موطن شغل.
وتبيّن ذات الوثيقة أنّه سيقع الاعتماد على تحلية مياه البحر كمصدر رئيسي لإنتاج الهيدروجين الأخضر دون أن يؤثّر ذلك كثيرا على كلفة الإنتاج التي سترتفع من 0,01 إلى 0,02 دولار/كليوغرام.
تثير مسألة كمّيات المياه الكبيرة الضرورية لإنتاج الهيدروجين الأخضر مخاوف وحفيظة عدد من الناشطين البيئيين خاصّة أنّ تونس تعدّ بلدا يواجه شحّا مائيّا من المتوقع أن تتفاقم آثاره خلال السنوات المقبلة باعتبار أنّ البلاد التونسية من البلدان التي ستتأثّر كثيرا بالتغيّرات المناخية.
يقول الباحث بالمعهد العابر للقوميّات TNI صابر عمّار في حديثه لموقع الكتيبة إنّ “إنتاج 8 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر في 2050 يعني استهلاك 248 مليون متر مكعّب من المياه المتأتّية من تحلية مياه البحر أي ما يعادل ما يستهلكه 5 ملايين مواطن.ة تونسي.ة من المياه”.
ويعتبر عمّار أنّ “التونسيّين.ـات أولى بعمليّة تحلية مياه البحر باعتبارها تعدّ موردا مائيّا ومن الأجدى أن تفكّر الدولة في إيفاء احتياجات مواطنيها”، مشيرا في الآن ذاته إلى “الآثار البيئية التي ستنجم عن عمليّة التحلية والتي من شأنها أن تدمّر الاقتصاد الأزرق وتهدّد نشاط الصيد البحري وصغار الصيادين”، وفق قوله.
ويؤكد ضرورة “رفض مشاريع تحلية مياه البحر لأنّها تضرّ بالمنظومة الإيكولوجية، علاوة على أنّه لن يقع توجيهها لفائدة السكّان المحلّيين”.
يشير مصدرنا السابق في سياق ذي صلة الى أنّ “إنتاج تلك الكمّيات من الهيدروجين وتصديرها يحتاج إلى مساحات واسعة من الأراضي لإعداد مشاريع الطاقات المتجدّدة وهي تبلغ حوالي 500 ألف هكتار”.
وتعتزم الدولة التونسية في إطار استراتيجيتها استعمال ما تعتبره “أراض غير منتجة أو صحراوية” لهذا الغرض، بحسب صابر عمّار الذي عبّر عن رفضه لعبارة “أراض غير منتجة” واصفا إيّاها بـ”العنصرية البيئية”، ومبيّنا أنّه سواء كانت هذه الأراضي اشتراكية أو خاصّة سيتمّ التفويت فيها بأسعار زهيدة جدّا ومهينة.
من جهة أخرى، أبدى عمّار استغرابه من الحديث عن “توفير أكثر من 400 ألف موطن شغل خاصّة وأنّ تونس لن تقوم بالتصنيع بل ستورّد التكنولوجيا والمحلّلات الكهربائية من الخارج وستصدّر مادّة أوّلية خام ذات قيمة منخفضة جدّا”.
ويذكّر بدراسة “الجزئيات الخضراء: الثورة القادمة في سوق العمل الأوروبي” التي توقّعت أن يوفّر الاستثمار في الاقتصاد الأخضر حوالي 2 مليون موطن شغل في دول أوروبية إلى جانب المملكة المتحدة، قائلا:
“لا أعرف على أيّ أساس تستند الأرقام التي تتحدّث عنها الدولة التونسية في علاقة بتوفير حوالي 400 موطن شغل بحلول 2050”.
تحدّيات إنتاج الهيدروجين الأخضر
يؤكّد صابر عمّار وجود “تناقض بين العجز الطاقي الذي تعيشه تونس واستراتيجيتها لتصدير الهيدروجين الأخضر باعتبار أنّهما خطّان لا يسيران معا وأنّ الكمّية الصغيرة التي ستبقى موجّهة للسّوق المحلّية التونسية ستستخدم لإنتاج الأمونيا الخضراء، وهي بدورها سيقع استعمالها لإنتاج أسمدة وتصديرها كذلك إلى الخارج”.
ويوضّح أنّ “إنتاج الهيدروجين لا يمكن أن يكون حلّا للعجز الطاقي لأنّ هذا الأخير يحتاج إلى طاقة ما سواء كانت كهرباء أو غازا أو طاقات متجدّدة يمكن لتونس استعمالها لسدّ احتياجاتها قبل التفكير في إنتاج الهيدروجين الأخضر الذي يجب ألّا يكون أولوية في المرحلة الحالية التي تحتاج إلى توفير موارد طاقية لحاجيات تونس ومن ثمّ عند تحقيق فائض بواسطة الطاقات المتجدّدة يمكن الشروع في إنتاجه واستغلاله لفائدة السوق المحلّية”، وفق تقديره.
في المقابل، يؤكّد المهندس البيئي والخبير في المناخ حمدي حشاد لموقع الكتيبة أنّ “تونس يمكنها أن تنتج الهيدروجين الأخضر رغم الشحّ المائي الذي تشكو منه وذلك من خلال استعمال المياه المستعملة وتحلية مياه البحر”.
ويقرّ حشاد بأنّ “محطّات تحلية المياه لها تأثيرات بيئية سلبية على المنظومة الايكولوجية البحرية خاصّة وأنّ هناك نيّة لإحداث هذه المحطّات في مناطق قليلة العمق مثل ولاية قابس، وهو ما من شأنه أن يزيد من مخاطر تلويث البحر”، مشيرا إلى “ضرورة إيجاد حلّ لهذه المعضلة”.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ الدولة التونسية تعتزم إحداث مشروع تجريبي في قابس يتكوّن من حديقة كهروضوئيّة متّصلة بشبكة الكهرباء التونسية بقدرة 8 ميغاوات، ووحدة لتحلية مياه البحر، ومحلّل كهربائي، ووحدة توليف هابر-بوش. ويقع التخطيط لبناء نظام تخزين الهيدروجين وتركيب خليّة وقود كتقنيّة عازلة.
وبحسب ما جاء في استراتيجية تنمية الهيدروجين الأخضر ومشتقاته، ستكون كمّية الهيدروجين الأخضر المنتجة في هذا المشروع التجريبي في حدود 220 طن سنويّا، حوالي 70% منها موجّهة لإنتاج الأمونيا الخضراء، فيما سيقع استخدام الـ30% المتبقّية في تخزين الطاقة لتشغيل خليّة الوقود وضمان استمرارية إمداد وحدة إنتاج الأمونيا بالكهرباء الخضراء، علما أنّ الإنتاج السنوي من الأمونيا الخضراء قدّر بحوالي 630 طنّا.
تقدّر الدولة التونسية في استراتيجيتها لتنمية الهيدروجين الأخضر ومشتقّاته قيمة الاستثمارات الضرورية بحوالي 120 مليار يورو. وبحسب هذا المخطّط، سيتمّ إحداث أوّل مشروع لإنتاج الأمونيا في ولاية قابس في سنة 2030 التي ستشهد أيضا بناء خطوط أنابيب ستسمح بتصدير 300 كيلو طن من الهيدروجين الأخضر والتي ستمثّل العمود الفقري لنقل الهيدروجين في تونس.
اللافت في هذا الإطار هو أنّ الدولة تتحدّث عن تمويل بناء البنية التحتية لنقل الهيدروجين الأخضر، سواء عبر الأنابيب أو الموانئ، من خلال الحصول على منح ومساعدات وقروض من الخارج.
يعتبر صابر عمّار أنّ “هذه المسألة ستجعل تونس تغرق في مزيد من الديون خاصّة أنّها لا تملك الموارد الماليّة لتمويل مشاريع البنية التحتية لتصدير الهيدروجين الأخضر، علاوة على أنّها ستوفّر المياه الضرورية واليد العاملة الرّخيصة ولن تربح الكثير من الأموال باعتبار أنّ المستثمرين الذّين سينتجون الهيدروجين الأخضر ويبيعونه إلى الخارج شركات أجنبية”.
ويختم بالتأكيد على أنّهم “لا يعارضون إنتاج الطاقات المتجدّدة بل تصديرها ويطالبون بالإيفاء بالحاجيات الوطنية والمحلّية وضرورة تشجيع القطاع العامّ على الاستثمار في الطاقات المتجدّدة، وتشجيع التونسيين.ـات على إنتاج الطاقة المتجدّدة للاستهلاك الذاتي الخاصّ بهم فقط، مع ضرورة الابتعاد عن خوصصة قطاع الطاقات المتجدّدة”.
يعتبر الخبير في قضايا المناخ حمدي حشاد أنّ “استفادة تونس من إنتاج الهيدروجين الأخضر تبقى مرتبطة برؤية سياسية استثمارية واضحة وأساليب مفاوضات جيّدة، معتبرا أنّ ما قامت به تونس إلى اليوم من تفاوض لا يرتقي إلى مفاوضات دبلوماسية قادرة على تحقيق مكاسب”.
ويشدّد حشاد على “ضرورة أن يتحمّل المستثمرون تكاليف بناء البنية التحتية الضرورية لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره وذلك أمر يجب على تونس أن تتفاوض من أجل الحصول عليه على الصعيد الدولي”.
إنّ المشكل ليس في الهيدروجين الأخضر باعتبار أنّه طاقة وككلّ الطاقات الأخرى فيه إيجابيّات وسلبيّات ولكنّ المشكلة تتعلّق بصنّاع القرار، مبيّنا أنّه لا يرى ما يدلّ على أنّ تونس ستحقّق مكاسب من الهيدروجين الأخضر ولن يقع هناك انتقال معرفي وتكنولوجي بحسب ما تظهره الاستراتيجية المعلن عنها.
ويؤكّد حشّاد أنّه “يتعيّن على تونس أن تحقّق أكثر ما يمكن من مكاسب اقتصادية وتكنولوجية بأقلّ تكلفة بيئية واجتماعية”، مشدّدا في الآن ذاته على أنّ “البلاد التونسية تحتاج إلى الهيدروجين الأخضر وإلى أي مصدر آخر من الطاقات المتجدّدة ولكن عليها إعادة صياغة التفاوض”.
يمثّل الانتقال الطاقي وإنتاج الهيدروجين الأخضر أحد أهمّ العناصر في اقتصادات العالم التي تتجّه اليوم بشكل كبير إلى الطاقات البديلة للحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة وتداعيات التغيّرات المناخية التي تهدّد كوكب الأرض. وتعدّ الطاقات المتجدّدة بديلا يمكن أن تلجأ إليه تونس للحدّ من العجز الطاقي الذي يتسبّب في جزء كبير من عجزها المالي في مرحلة أولى، ومن ثمّ تصدير هذه الطاقات بطريقة تضمن لها مكاسب اقتصادية ومعرفية وتكنولوجية.
إلّا أنّ هذه المسألة تحتاج إلى إرادة سياسية واستراتيجية وطنية شاملة يجتمع حولها كافة المعنيّين من مسؤولين ووزارات ومجتمع مدني وخبراء.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة