الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“كنت حاملا في الشهر الثامن عندما حصلت مضاعفات وطلبت منّي طبيبة الأمراض النسائية والتوليد المتابعة لحالتي أن أبقى تحت الرعاية الصحّية لمدّة أسبوع، ونظرا إلى الظروف الماديّة الصعبة، لم أستطع البقاء في مصحّة خاصّة، الأمر الذي دفعني إلى اللجوء إلى مستشفى عمومي بعد أن اتصلت بقريبة لي تعمل فيه كإطار، ولكن يا ليتني لم أدخل إلى المستشفى “بالمعارف ولّا بلاش”..”، بهذه العبارات تستذكر “مريم” – اسم مستعار-، بنبرة جمعت بين السخريّة والألم، تجربتها المريرة في مستشفى عمومي عندما كادت تفقد جنينها الذي انتظرته سنوات قبل أن تحمل به.
وجدت “مريم” منذ الدقائق الأولى لدخولها المُستشفى معاملة سيّئة من قبل العاملين.ـات زادت من توتّرها وخوفها على جنينها، فضلا عن نقص في الآلات الطبّية التي يُفترض أن تتوفّر في المراكز الصحّية التي توفّر خدمات الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، ممّا دفعها إلى المُخاطرة ومغادرة المُستشفى بعد الإقامة فيه لليلة واحدة فقط.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“كنت حاملا في الشهر الثامن عندما حصلت مضاعفات وطلبت منّي طبيبة الأمراض النسائية والتوليد المتابعة لحالتي أن أبقى تحت الرعاية الصحّية لمدّة أسبوع، ونظرا إلى الظروف الماديّة الصعبة، لم أستطع البقاء في مصحّة خاصّة، الأمر الذي دفعني إلى اللجوء إلى مستشفى عمومي بعد أن اتصلت بقريبة لي تعمل فيه كإطار، ولكن يا ليتني لم أدخل إلى المستشفى “بالمعارف ولّا بلاش”..”، بهذه العبارات تستذكر “مريم” – اسم مستعار-، بنبرة جمعت بين السخريّة والألم، تجربتها المريرة في مستشفى عمومي عندما كادت تفقد جنينها الذي انتظرته سنوات قبل أن تحمل به.
وجدت “مريم” منذ الدقائق الأولى لدخولها المُستشفى معاملة سيّئة من قبل العاملين.ـات زادت من توتّرها وخوفها على جنينها، فضلا عن نقص في الآلات الطبّية التي يُفترض أن تتوفّر في المراكز الصحّية التي توفّر خدمات الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، ممّا دفعها إلى المُخاطرة ومغادرة المُستشفى بعد الإقامة فيه لليلة واحدة فقط.
لا تمثّل قصّة مريم إلّا الشجرة التي تخفي غابة من النقائص و الاخلالات التي تشكو منها النساء الراغبات في التمتّع بحقّهن في النفاذ إلى خدمات الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، خصوصا اللواتي ينتمين إلى الطبقات المهمّشة والفئات الهشّة في المناطق الشعبيّة والجهات الداخليّة على وجه الخصوص.
على الرغم من القوانين التي تضمن حقوق النساء- بما فيها تلك المتعلّقة بالحقوق الجنسيّة والإنجابيّة – والتي يعتبرها البعض رياديّة، إلّا أنّ التجارب التي تعيشها الكثيرات لدى التوجّه إلى المرافق العمومية للتمتّع بهذه الحقوق تُبرز تناقضا شاسعا بين التشريعات المكتوبة والواقع المعيش.


هُوّة سحيقة بين النصوص والواقع
يعرّف صندوق الأمم المتّحدة للسكّان الصحّة الجنسيّة والإنجابية الجيّدة بـ”حالة من الرفاه التامّ على المستويات البدنيّة والعقليّة في كلّ الأمور المُتعلّقة بالجهاز التناسلي. وتنطوي الصحّة الإنجابية على أن يكون للإنسان حياة جنسيّة مُرضية وآمنة، والقدرة على الإنجاب وحرّية اتخاذ القرار بشأن الإنجاب من عدمه، وموعده وعدد مرّاته”.
كذلك، يشير تعريف صندوق الأمم المتّحدة للصحة الجنسيّة والإنجابية إلى “ضرورة تمكين الأفراد من الوصول إلى معلومات دقيقة وإلى وسائل منع حمل آمنة وفعّالة ميسورة التكلفة ومقبولة باختيارهم، وذلك حفاظا على الصحّة الجنسية والإنجابية للفرد”. فضلا عن “ضرورة تبصيرهم وتمكينهم من حماية أنفسهم من حالات العدوى المنقولة جنسيّا. وعند اتخاذ قرار الإنجاب، يجب أن يُتاح للنساء الوصول إلى الخدمات الكفيلة بمساعدتهنّ في الحمل الصحّي والولادة الآمنة وإنجاب مولود بصحّة جيّدة”، وفق المصدر ذاته.
تُعدّ تونس من الدول الريادية، مقارنة بمحيطها الإقليمي (العربي والإسلامي)، عندما يتعلّق الأمر بالقوانين والتشريعات التي وضعتها الدولة لضمان الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة للنساء ونفاذهنّ إلى الصحة الجنسيّة والإنجابيّة.
على سبيل المثال، تعدّ تونس من أولى الدول التي اعترفت بحقّ الإجهاض للنساء وتقنينه، وذلك من خلال القانون عدد 24 لسنة 1965 الذي خوّل حينها للمرأة المتزوّجة فقط الحقّ في الإجهاض بشروط أن تكون قد أنجبت خمسة أطفال على الأقلّ وأن يكون زوجها موافقا على ذلك.
وفي 1973، أصبح الحقّ في الإجهاض متاحا لجميع النساء اللواتي تجاوزن السنّ القانونيّة (18 سنة) بغضّ النظر عن الحالة الزوجيّة، وذلك بموجب القانون عدد 53 لسنة 1973 الذي وقع بمقتضاه تنقيح الفصل 214 من المجلّة الجزائية.


وقد عملت الدولة منذ ستّينات القرن الماضي على وضع سياسات ضمنت النفاذ المجّاني لوسائل منع الحمل. وفي التسعينات، قامت بتركيز مجانية الرعاية الصحّية للأمّهات. كما وقع تدعيم الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة للنساء من خلال القانون عدد 58 لسنة 2017. كما أنّ كلّا من دستوري 2014 و2022 تضمّنا تنصيصا على مجموعة من الحقوق التي من شأنها ضمان نفاذ النساء إلى الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة.
علاوة على ذلك، وقّعت الجمهورية التونسية على جملة من المعاهدات الدولية التي تضمن هذه الحقوق لعلّ أبرزها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة (سيدوا) وبرنامج عمل مؤتمر القاهرة 1994.
تجعل هذه الترسانة الهامّة من القوانين والمعاهدات الدوليّة تُونس في مكانة متقدّمة في ما يتعلّق بالحقوق الجنسيّة والإنجابيّة للنساء، على المستوى النظريّ على الأقلّ، إلّا أنّ النساء التونسيات، وبشكل خاصّ اللواتي ينتمين إلى الفئات الهشّة والمهمّشة، يعشن واقعا يختلف بشكل كبير عن التشريعات المكتوبة، وهو ما تؤكّده شهادات العديد منهنّ والناشطين.ـات الذين تحدّث معهم.ن موقع الكتيبة في إطار إنجاز هذا المقال.
تؤكّد الناشطة النسوية والحقوقية سمر سحيّق، في حديثها مع الكتيبة، أنّه “لا يمكن القول إنّ هناك عدالة بين النساء اللواتي ينتمين خاصّة إلى الطبقات الهشّة واللواتي ينتمين إلى طبقات اقتصادية واجتماعيّة مرفّهة، بل هناك مشكلة كبيرة في ولوج النساء إلى خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة خصوصا في الجهات الداخلية”، مذكّرة أنّ “نسبة الفقر في تونس في علاقة بالنساء مُرتفعة جدّا”.
“توجد عديد المشاكل التي تحول دون توفير هذه الخدمات على غرار عدم توفّر التجهيزات في عديد المستشفيات العمومية ومراكز الصحة التي تقدّم خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة، وأحيانا عدم توفّر مستشفى أو مستوصف في عدد من الجهات، فضلا عن غياب مسارات خاصّة للنساء ضحايا العنف مثلا وبشكل خاصّ العنف الجنسي أو النساء اللواتي يتوجّهن للحصول على وسائل منع الحمل أو يقمن بعمليّة إجهاض”، وفق المُتحدّثة ذاتها.
وتشير سحيّق أيضا إلى إشكال “الثقافة الذكوريّة المُتفشّية في عديد المستشفيات والمستوصفات في تونس حيث أنّ العديد من الأطبّاء ومهنيّي الطبّ يقومون بوصم النساء اللواتي يتوجّهن للحصول على خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة”.
عندما توجّهت “مريم” بشكل استعجالي إلى مستشفى عمومي بعد أن عرف حملها مضاعفات كان من الممكن أن تودي بحياة جنينها، تحدّثت القابلة التي قامت بفحصها بطريقة فجّة معها، وفق تعبيرها، إذ كانت تصرخ طالبة منها أن تصعد فوق الطاولة رغم حالتها الصعبة حيث كانت تعاني من حرارة مرتفعة وتتحرّك بصعوبة كبيرة نظرا إلى حملها المُتقدّم.
بعد صعودها على الطاولة، واصلت القابلة صراخها وهي تطلب من “مريم” أن تفتح ساقيها كي تقوم بفحصها، إلّا أنّ طريقة حديث القابلة جعلتها تشعر بنوع من الحرج، لتصرخ لاحقا في وجهها قائلة:
“افتحي ساقيك.. الآن أصبحت تشعرين بالخجل، لم تشعري بذلك عندما فتحت ساقيك أمام زوجك لتحملي”.
أجابت “مريم” القابلة بشكل حادّ الأمر الذي جعلها تتراجع عن صراخها، إلّا أنّ معاناتها لم تنته هنا. خلال فحصها من قبل الطبيب كي يوقّع على قرار إقامتها في المستشفى، تبيّن أنّ هذه المؤسّسة الصحيّة العموميّة لا تملك آلة قياس دقات قلب الرضيع حيث كانوا يستعملون آلة أخرى أقلّ دقّة، وقد قال توجّه إليها الطبيب قائلا:”نحن نقوم بما نستطيع إلّا أنّهم لا يوفرون لنا التجهيزات”.
تمّ نقل “مريم” إلى قسم النساء والتوليد في المستشفى ووجدت نفسها في غرفة تقاسمها مع امرأتان إحداهما تعمل في المستشفى نفسه. كادت “مريم” تقع وهي تحاول الصعود على السرير لعدم وجود فرامل فيه، ولم تتمكّن من الاستلقاء على متنه إلا بعد جهود كبيرة، بحسب شهادتها.
كانت الغرفة مُتّسخة بشكل كبير، تفوح منها رائحة كريهة مردّها رفض العاملة في المستشفى- والتي تقيم معها في الغرفة ذاتها- استخدام الحمام والتبّول في سطل. المرأة ذاتها كانت تستحوذ أيضا على آلة قيس دقات القلب الوحيدة الموجودة في القسم، حيث رفضت أن تعطيها للطبيبة المقيمة التي جاءت لتفحص “مريم” إلا بعد إلحاح شديد. وكانت تكتفي بالقول: “أنا أعمل في هذا المستشفى”.
منذ دخولها إلى المستشفى حوالي الساعة الخامسة أو السادسة مساء وإلى غاية منتصف الليل، لم تستطع “مريم” دخول الحمام لأنه كان متّسخا جدّا رغم أنّ المرأة الحامل من المفترض أنّها تحتاج إلى استعمال الحمّام بشكل متواصل.
رجت “مريم” من عاملة التنظيف أن تنظّفه ولو قليلا إلّا أنها رفضت، فطلبت منها أن تعطيها ماء “الجافيل” كي تتولّى هي تنظيفه إلّا أنّها جوبهت برفض آخر من العاملة التي قالت لها:
“تجدون كلّ شيء متوفّر في المصحّات الخاصّة لا هنا”.
في نهاية المطاف، اضطرّت “مريم” إلى تنظيف الحمّام مُستخدمة المياه فقط كي تتمكّن من استعماله. كذلك، بقيت ساعات طويلة دون أن تأكل شيئا، لذلك قرّرت أن تنهي إقامتها وتغادر صباح اليوم الموالي رغم أنّ طبيبتها كانت قد طلبت منها الإقامة تحت الرعاية الصحيّة لمدّة أسبوع.


التفاوت الجهوي.. الوجه الآخر للتمييز
لا تمثّل قصّة “مريم” إلّا جانبا من الحيف التي تعانيه النساء في ما يتعلّق بنفاذهنّ إلى الصحة الجنسيّة والإنجابيّة، خصوصا اللواتي ينتمين إلى طبقات مهمّشة ويقطنّ في المناطق الداخلية أو الأحياء الشعبية للعاصمة تونس.
يُعدّ عدم وجود عدد كاف من المستشفيات ومراكز الصحة العمومية في بعض الجهات أحد أكبر الإشكالات، الأمر الذي يجعل مراكز الصحة الجنسيّة والإنجابيّة بعيدة عن الكثير من النساء في مناطق عديدة.
تقول منسقة المشاريع في مجموعة توحيدة بالشيخ، منى التليلي، في حوار مع موقع الكتيبة، إنّ ” وسائل النقل في المناطق الداخلية والمهمّشة غير متوفرة دائما”، مُبرزة أنّه “أحيانا يكون المركز الوحيد للصحة الجنسيّة والإنجابيّة في منطقة أو مدينة كبيرة وبالتالي لا تستطيع كلّ النساء الوصول إليه”.
وأضافت التليلي أنّ “هناك نساء لا يعرفن أنّ هناك مركزا أو مستشفى يقدّم خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة يمكنهنّ اللجوء إليه في كنف الأمان ويلبّي حاجياتهن في ما يخصّ الصحة الجنسيّة والإنجابيّة”، مشيرة كذلك إلى “وجود مشاكل تتعلّق بعدم توفر عدد كاف من الأطباء والقابلات”.
تفيد دراسة “هجرة مهنيّي الصحّة: تحدّيات لنظام الصحة التونسي” الصادرة عن المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في مارس/ آذار 2024، أنّ كثافة أطباء النساء والتوليد في ولايتي سليانة وتطاوين تبلغ 0.7 لكلّ 10 آلاف مُتساكن، مقابل 8.2 في تونس العاصمة، علما وأنّ المُعدّل الوطني يبلغ 3.1 لكلّ 10 آلاف مُتساكن.


في السياق ذاته، تؤكّد دراسة حول النفاذ وجودة خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في تونس، صادرة سنة 2021، تدهور النفاذ إلى خدمات الصحة الجنسية والإنجابية سواء من حيث المعلومات أو الخدمات، مرجعة ذلك إلى نقص التجهيزات والأدوية ووسائل منع الحمل، علاوة على نقص في الموارد البشرية المؤهلة.
تقول الناشطة الحقوقية والنسوية سمر سحيّق إنّه في تونس اليوم، “مازالت نساء كثيرات تأتي قابلة للقيام بعمليّة الولادة في منازلهن لأنه لا توجد مستشفيات قريبة، وإذا وجد مركز الصحة العمومي، فالموعد الذي يتمّ إعطاؤه لهنّ يكون بعيدا جدّا”.
وتضيف سحيّق أنّه “أحيانا لا يقع استقبال النساء لوجود عديد المشاكل المرتبطة بالتجهيزات في المستشفيات العمومية مثل جهاز الموجات فوق الصوتية وكلّ ما يتعلّق بتوليد النساء، الأمر الذي يدفع عديد النساء إمّا للتوجه إلى المصحّات الخاصة، أو في المناطق الريفية تعرّض العديدات حياتهن وحياة جنينهنّ للخطر من خلال الإنجاب في المنزل على يد قابلة أو امرأة ليس لها أي تكوين طبّي أو شبه طبّي لكنّها راكمت خبرة سنوات من عمليّات التوليد منذ سنّ صغيرة، وقد توفّيت نساء كثيرات جرّاء هذه العملية أو خسرن جنينهنّ”.
“ياسمين، امرأة تونسيّة توفّيت عندما كانت تبلغ من العمر 28 سنة وذلك خلال إنجابها لتوأمها. تزوجت ياسمين وأنجبت طفلها الأوّل، وبقيت كذلك سنوات إلى أن ألحّ عليها أفراد عائلتها من أجل إنجاب طفل ثان. كانت ياسمين تقول إنّها تعذّبت كثيرا خلال حملها وولادتها لطفلها، حيث كان هناك نقص كبير في الرعاية ولم تكن تذهب للمتابعة لدى الطبيب بشكل دائم لكونها تقطن في منطقة داخلية لا يوجد بها حتّى مستشفى بل كانت تتوجّه إلى المستوصف”، وفق ما روته صديقة لها في شهادة نقلتها مجموعة توحيدة بالشيخ.
بعد انقضاء ستّ سنوات من إنجابها لطفلها الأول، حملت ياسمين بتوأم، فتاتين، وعندما حان آوان ولادتها تمّ إعلامها أنّ حالة التوأم ليست جيّدة وأنها لن تتمكّن من الولادة بطريقة طبيعيّة واضطرّوا إلى إجراء عمليّة قيصريّة.
“تعرّضت ياسمين خلال العملية إلى نزيف، وقد حاولوا نقلها إلى المستشفى الجهوي للحدّ من النزيف إلّا أنّ تأخر وصول الإسعاف وغياب وسائل النقل وغياب التجهيزات في مركز الصحة الذي أجرت فيه العمليّة أدّا إلى وفاتها، وبقي التوأم على قيد الحياة”، وفق المصدر ذاته.


تقول طبيبة تونسيّة مقيمة في طبّ النساء والتوليد (في القطاع العمومي) -طلبت عدم نشر هويّتها- في حديثها مع موقع الكتيبة، إنّ “نسبة وفيّات الأمّهات في تونس مستقرّة منذ سنوات وهي تعدّ من المشاكل القديمة التي لم يكن هناك معلومات حولها قبل الثورة وقد وقع تركيز إعلامي عليها لاحقا”.
وتُبيّن محدّثتنا أنّه “قبل 2018 وقعت حالات وفيّات نتيجة غياب طبيب مختصّ في الجهات الداخليّة إلا أنّ العامل البشري اليوم، وأساسا الإطار الطبّي، أصبح متوفّرا أكثر في المناطق الداخلية رغم أنّه بشكل عامّ يبقى عدد الأطباء المتوفرين أكبر في المركز( تقصد خاصة العاصمة والمدن الكبرى مثل صفاقس)”.
وتضيف أنّ “الوفيّات المسجّلة لا تعود فقط إلى عدم توفّر طبيب ولكن هناك عوامل أخرى، أحيانا لا توجد وسيلة نقل وتكون المسافة بين منزل المرأة ومركز الصحة العمومي بعيدة وبالتالي لا تستطيع النساء الوصول في الوقت المناسب خاصة إذا حصلت مضاعفات والقابلة لا يمكنها فعل الكثير”.
فضلا عن ذلك، “هناك أدوية غير متوفّرة في بعض الجهات، وهي أدوية يتمّ استعمالها من قبل أطبّاء النساء والتوليد لمواجهة النزيف الذي تتعرّض إليه النساء خلال الولادة، والذي يمثّل السبب الرئيسي لوفيّات الأمّهات في تونس”، وفق المصدر ذاته.
وتشير الطبيبة المقيمة إلى أنّ “وفاة النساء نتيجة نزيف خلال الولادة أمر مخجل لأنّه من المفترض أن يكون هناك بروتوكول كامل للتدخل لا طبيبا فقط، باعتبار أنّ النزيف الحادّ يحتاج إلى طبيب نساء للقيام بالجراحة ولكن أيضا إلى طبيب إنعاش جيّد لأن المريضة ستموت إذا غابت الرعاية الصحّية الملائمة المتعلّقة بالإنعاش، بالإضافة إلى ضرورة توفّر الأدوية وتكوين القابلات والأطباء ووسائل النقل”.


الحقّ في الإجهاض.. مُقنّن ولكن
تُجمع الناشطات النسويّات والحقوقيّات اللواتي تحدّث معهنّ موقع الكتيبة على أنّ أحد أهمّ العوائق التي تحول دون نفاذ النساء إلى خدمات الصحّة الجنسيّة والانجابيّة، هي عدم معرفتهنّ واطلاعهنّ على الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة التي يكفلها لها الدُستور والقوانين والمعاهدات الدولية.
هذا الأمر يجعلهنّ يُحجمن عن التوجّه إلى مراكز الصحة الجنسيّة والإنجابيّة التي تقدّم خدمات مجانيّة وفي كنف السرّية. وحتّى عندما يتوجّهن إلى أحد هذه المراكز ويتمّ رفض إسداء خدمة معيّنة لهنّ يغادرن مباشرة دون التمسّك بممارسة حقوقهنّ.
توضّح منسّقة المشاريع بمجموعة توحيدة بالشيخ، هاجر ناصر، في حوار مع موقع الكتيبة، أنّ “القانون التونسي يعطي الحقّ لأي امرأة كي تجهض في الـ12 أسبوعا الأوائل من حملها دون أيّ شروط كأن يكون ذلك بحضور زوجها أو أن تكون مُتزوجة أو غيره”.
وتستدرك ناصر بالقول:
“على الرغم من ذلك، مازالت النساء تواجهنّ عديد الصعوبات للتمتّع بخدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالإجهاض. في بعض الجهات يقع رفض تقديم هذه الخدمة للنساء رفضا تامّا إمّا لعدم معرفة مهنيّي الصحّة بالقانون الذي يخوّل لهنّ التمتّع بهذا الحقّ، أو لدوافع دينيّة وقناعات العاملين.ـات في مراكز الصحّة الجنسية والإنجابيّة”.
تبرز دراسة “النفاذ وجودة خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة في تونس” أنّ مهنيّي الصحّة في بعض مراكز الصحّة الجنسية والإنجابية في المناطق الريفية لديهم موقف مثير للقلق في علاقة بالإجهاض والدين، حيث أنّ 60% من الممرّضين.ـات يعتبرون أنّ الدين يمنع الإجهاض، مقابل 50% لدى القابلات و38% في صفوف الأطبّاء.
في الإطار ذاته، تشير الناشطة النسويّة والحقوقيّة سمر سحيّق إلى “تفشّي الثقافة الذكوريّة في علاقة بموضوع ولوج النساء إلى خدمات الصحّة الجنسية والإنجابية خاصّة بعد الثورة ومع الخطابات الإسلاموية بشكل خاصّ بين 2011 و2016، ممّا يبدو أنّه أدى إلى أخونة المجتمع التونسي وعزل النساء عن حقوقهنّ الجنسيّة والإنجابيّة والجسديّة وخصوصا أخونة الإطارات المختصّة”، وفق تعبيرها.
وتضيف أنّ الشهادات تُبرز أنّه “عندما تذهب النساء للقيام بعمليّة إجهاض يجدن أنفسهنّ أمام خطاب يقول لهم “حرام” أو “زوجك يجب أن يكون حاضرا”، وهي ثقافة تحيل إلى أن النساء لا يتحمّلن مسؤولية اختياراتهنّ خاصّة الإنجابية”.
كذلك، من بين الأسباب التي تحول دون تمتّع النساء بحقّهن في الإجهاض هي “نقص الموارد البشرية، حيث في كثير من الأحيان لا يوجد طبيب في مراكز الصحة الجنسية والإنجابية -خاصة في المناطق الريفية-، وفي أحيان كثيرة يتمّ إعطاء المرأة موعدا بعيدا جدّا يفوق الـ12 أسبوعا، الأمر الذي يجعلها تتجاوز الآجال القانونية”، وفق تصريحات منسّقة المشاريع بمجموعة توحيدة بالشيخ هاجر ناصر.
تبيّن ناصر أنّ “النساء اللواتي يتمتّعن بإمكانيات مادّية يمكنهنّ التنقّل إلى جهة أخرى للانتفاع بعمليّة الإجهاض إلّا أنّ النساء اللواتي ينتمين إلى فئات هشة أو ضحايا العنف ليس لديهنّ هذه الإمكانية”.
فضلا عن العوائق الاقتصادية والمادّية وخصوصيّة المجتمع الثقافية والدينية، هناك أيضا “نقص في تكوين مهنّيي الصحّة الذين يجدون أنفسهم دون أدوات ولا يستطيعون تقديم النصيحة لهؤلاء النساء”، وفق المتحدّثة ذاتها التي أشارت إلى أنّ “أقسام الصحّة الجنسية والإنجابية تعاني من نقص كبير خاصّة في وسائل منع الحمل والأدوية والأدوات التي تمكّنهم من تقديم خدمات الصحة الجنسية والإنجابية وخاصّة الإجهاض”.
نساء بين الوصم والحقوق غير المكفولة
رغم القوانين المتقدّمة، شهدت تونس خلال السنوات الأخيرة تراجعا في مؤشرات الصحة الجنسية والإنجابية، إذ بلغ معدّل عدم استخدام أيّ وسيلة من وسائل منع الحمل على المستوى الوطني في تونس 45,9% سنة 2023. فيما بلغ معدّل الاحتياجات غير الملبّاة المرتبطة بتنظيم الأسرة 16.1% في السنة ذاتها.
تشير الناشطة النسوية والحقوقية سمر سحيّق إلى أن “تونس كانت قد وقّعت عديد الاتفاقيات الدولية في علاقة بوسائل منع الحمل التي تفترض مجانيّة هذه الأدوية لفائدة النساء أو من يطلبها، إلّا أنّها في الواقع إمّا تكون مفقودة أو يقول مهنيو الصحّة للنساء إنّه عليهنّ شراؤها بمقابل مادّي”.
من جانبها، تؤكّد منسّقة المشاريع في مجموعة توحيدة بالشيخ منى التليلي أنّ “هناك صعوبات عديدة في حصول النساء على وسائل منع الحمل رغم القانون ورغم توفّر مراكز الصحة الجنسية والإنجابية، والأمر لا يتعلّق فقط بالنساء اللواتي يعشن وضعيّة هشّة بل الكثير من النساء يجدن صعوبة في الحصول على وسائل منع الحمل”.


وتُرجع التليلي ذلك إلى “قلّة معرفة النساء وغياب المعلومة المتعلّقة بالقانون وبتوفّر وسائل منع الحمل بصفة مجانية”، مُضيفة أنّه “يمكن أن تكون المرأة على دراية بهذه المعلومات ولكنّها لا تستعمل وسائل منع الحمل نتيجة ضغط العائلة أو الزوج أو الخوف من أحاديث الناس وردود فعل القابلة التي قد ترفض إعطاءها وسيلة منع الحمل. هذا فضلا عن صعوبة التنقّل إلى مركز الصحة الجنسيّة والإنجابيّة”.
وتُردف محدّثتنا بالقول:
“في المناطق المهمّشة والداخليّة تكون المراكز غير مُجهّزة بشكل جيّد أو يكون هناك نقص في وسائل منع الحمل أو انقطاع تامّ”.
تتعرّض النساء أيضا إلى الوصم بشكل كبير عند توجّههنّ للحصول على خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالإجهاض ووسائل منع الحمل.
في هذا الإطار، تقول منى التليلي إنّه “يُفترض أن يكون هناك سرّية عندما تتوجّه المرأة لمركز الصحة الجنسيّة والإنجابيّة للتمتّع بحقوقها إلّا أنّها تتعرّض للوصم والأحكام – الأخلاقوية – خاصّة إذا لم تكن متزوّجة”.
وتوضّح المتحدثّة ذاتها أنّ “المرأة قد تتعرّض إلى العديد من الأشياء، كالتحرّش أو العنف، التي تخلق لديها مشكلة مع جسدها وبالتالي يُزرع داخلها خوف من عيادة المُتخصّصين والتمتّع بحقوقها الجنسيّة والإنجابيّة، علاوة على أنّ الكثير من النساء في المناطق الداخلية يعتقدن أنّه ليس لديهنّ الحقّ بالتمتع بهذه الحقوق باعتبار أن الفتاة التي تذهب إلى طبيب النساء والتوليد تصبح موصومة إذا لم تكن مُتزوجة”.
من جانبها، تؤكّد الناشطة النسويّة والحقوقيّة سمر سحيّق أنّ “نسبة كبيرة من الأطبّاء يقومون بوصم النساء أو يرفضون إعطائهن وسائل منع الحمل أو يرفضون مجانيّة هذه الخدمات ويقومون بتوجيههنّ إلى المصحّات الخاصّة رغم كلفتها العالية ورغم نسبة الفقر المرتفعة في صفوف النساء في تونس في المناطق الداخلية خصوصا”،مضيفة بالقول إنّ “الوصم يختار الفئات الأكثر هشاشّة”.
واجهت سارّة (اسم مستعار)، شابّة تونسية في العشرينات من عمرها، تجربة قاسية مع طبيب نساء وتوليد عندما كانت بالكاد تبلغ 18 سنة. في تلك الفترة، تعرّضت سارة للاغتصاب من طرف صديق والدها وحملت منه. قام الأب بطرد ابنته من المنزل ووجدت نفسها أمّا عزباء تعيش ظروف قاسيّة رغما عنها.
عندما حلّ موعد ولادتها، قام طبيب بفحصها وقد شعرت بالخوف عندما كان يقوم بإجراء بعض التحاليل والصور، فصرخ الطبيب في وجهها قائلا باللهجة التونسيّة:
“حلّيت ساقيك بش حبلت وتوّة خايفة من الـecho”.
يطال الوصم كذلك عديد النساء من الفئات الهشّة على غرار النساء من الهويّات الجندرية غير المعيارية، والمُهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء اللواتي تبرز شهادات ودراسات أنّهنّ فقدن حياتهنّ وأبناءهنّ لأنّ الولوج إلى خدمات الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة بالنسبة إليهنّ كان صعبا جدّا وكان هناك وصم وتمييز ضدّهن، وفق تصريح سمر سحيّق للكتيبة.
تبيّن سحيّق أنّ “القانون عدد 58 لسنة 2017 ينصّ على ضرورة أن توفّر المستشفيات العمومية مسارات خاصّة للنساء ضحايا العنف لضمان ألّا يكون هناك وصم، باعتبار أنّ مسار الوصم الذي يتعرّضن إليه يستوجب شجاعة كبيرة للتوجّه إلى مراكز الصحة العمومية إلّا أنّ هذا الأمر غير مطبّق على أرض الواقع”.


كذلك، “لا توفّر المستشفيات العمومية ومراكز الصحة الجنسية والإنجابية مسارات خاصّة للنساء ذوات الإعاقة إذ لا يوجد في عدد من المستوصفات مسافة مخصّصة لهنّ كي يمررن بها إلى جانب الدرج، أيضا إذا كانت المرأة لا تبصر أو لا تسمع أو لا تستطيع التكلّم فلا يوجد في هذه المراكز من يقوم بعمليّة تسهيل النقاش مع مهنيّي الصحّة”، بحسب تأكيد سمر سحيّق.
في سياق متّصل، تؤكّد الطبيبة المُقيمة في طبّ النساء والتوليد، التي تحدّث معها موقع الكتيبة، أنّها في كثير من الأحيان “تجد نفسها مضطرّة إلى التعامل بنوع من الحدّة مع القابلات والإطار شبه الطبّي كي يقبل بالقيام بعمليّة إجهاض أو أن يشارك فيها خاصّة إذا كان ذلك في شهر رمضان أو في “العواشر” في حين أنّهم موظفون بالدولة وينبغي أن يضعوا معتقداتهم جانبا ويطبّقوا سياسات الدولة المُتعلّقة بالصحّة الجنسيّة والإنجابيّة”.
وتضيف محدّثتنا “من الصعب إثبات انعدام المساواة التي تظهر أكثر لدى النساء في وضعية محفوفة بالمخاطر في علاقة بنفاذهن إلى هذه الخدمات – من بينهن الأمهات العازبات – ، وذلك لأنهنّ لسن على دراية بمجّانية هذه الخدمات وإمكانية الحفاظ على سرّية هويّاتهنّ وأنّه من حقّهنّ أن تطلب التمتّع بهذا الحقّ في أيّ مكان من الجمهورية التونسية”.
وتبيّن ذات المتحدّثة أنّ “النفاذ إلى خدمة لا يعني فقط النفاذ الجسدي أو المالي بشكل يشمل أيضا النفاذ الجغرافي والجانب النفسي والاجتماعي والفكري للنساء”، مُبرزة أنّه هنا “يدخل دور الترويج لهذه الخدمات في تونس وهو أمر غير موجود”.
وتشدّد مُحدّثتنا على “ضرورة أن يكون مهنيو الصحّة في مراكز الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة على اطّلاع بأهمية نفاذ النساء إلى هذه الخدمات”.


الحقوق المنسيّة للسجينات التونسيّات
تنتصب في تونس 9 سجون مًُخصّصة للنساء تضمّ 730 امرأة، 480 منهنّ موقوفات و250 صدرت ضدّهنّ أحكام، وفق تقرير رصد السجون التونسية 2022 – 2025 الصادر عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والذي تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منه.
تشير الرابطة في تقريرها إلى أنّ ظروف إيواء النساء، رغم قلّتهنّ العدديّة، تعدّ هشّة بشكل كبير بسبب نقص المرافق الصحّية داخل الزنزانات ومحدودية الخدمات الصحّية والجنسيّة والإنجابيّة على غرار انعدام المتابعة الخاصّة بالحوامل أو الأمهات المرضعات، فضلا عن تعرّض عدد من الموقوفات لسوء المعاملة والتحرّش خاصة أثناء الإيقاف الأولي أو التحقيق.
في ماي/ أيّار 2024، تمّ إيقاف رئيسة جمعية “تونس أرض اللجوء” شريفة الرياحي عندما كانت في إجازة أمومة للشهر الثاني. ولم يُسمح لها منذ ذلك الحين بإرضاع طفلها.
تقول المحامية رانية الزغدودي – وهي تنوب الرياحي – إنّ القانون يفرض أن “تقع معاملة المرأة الحامل والمرضعة معاملة خاصّة وأن يكون لديها ضمانات أكثر، كما يُفترض أن تتمتّع بجناح خاصّ إلّا أنّ هذا الأمر غير متوفّر نظرا إلى الاكتظاظ في السجون”.
وأفادت الزغدودي أنّ “شريفة الرياحي اشتكت أيضا لأنّه لم تقع معاملتها معاملة لائقة خاصّة أنّ لديها رضيع وتمّ منعها من إرضاعه وهو من حقّها كأمّ وحقّ طفلها أن يتمتّع بها وهو ما يخوله القانون”.
وتشير المحامية إلى أنّه “عند الحديث عن السجينات من النساء نتحدّث عن خصوصيّة أخرى منها توفير الشروط الضرورية خلال الدورة الشهريّة والتي على عكس ما يتصّوره البعض لا يقع توفيرها بصورة آلية ومجانية”.


في هذا الصدد، تقول الناشطة النسوية والحقوقية سمر سحيّق إنّ “العديد من السجينات يشتكين من صعوبة الولوج إلى الفوط الصحّية وتضطرّ العديد من النساء إلى استعمال قميص أو أيّ شيء موجود لديهن أثناء العادة الشهرية، وهذه الاستعمالات ليست صحيّة وقد تؤدّي إلى أمراض”.
إضافة إلى أنّ “نسبة النظافة في السجون متدنّية جدّا وهو ما يجعلهنّ عرضة لعدّة أمراض خاصة أن النفاذ إلى الخدمات الصحيّة في السجون للنساء صعب جدّا ويكاد يكون غير موجود”، بحسب المتحدّثة ذاتها.
وتشير سحيّق أيضا إلى أنّه “في كافة أنحاء العالم يتمتع السجين أو السجينة بالحق في الخلوة إلّا أنه في تونس لا يوجد حقّ في الخلوة بالنسبة إلى النساء”.


التثقيف والتوعيّة.. الفريضة الغائبة
يمثّل غياب الثقافة الجنسيّة وعدم معرفة الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة أحد أبرز العوائق لنفاذ النساءـ خاصة من الطبقات الهشّة – إلى الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، لا لدى النساء فقط بل لدى عدد لا بأس به من مهنيّي الصحّة العاملين في مراكز الصحة الجنسية والإنجابية العمومية، وفق ما تؤكده شهادات النساء وأيضا دراسات وتصريحات الناشطات النسويات اللواتي تحدّثنا معهن.
تعتبر منسّقة المشاريع في مجموعة توحيدة بالشيخ، منى التليلي، أنّ “غياب الثقافة الجنسّية يعود إلى التربية الجنسية الشاملة التي مازالت غائبة عن المناهج المدرسيّة وبالتالي لا يوجد إطار يمكن أن يتحدّث فيه الطفل.ة ويحمي نفسه/ا ويستوعب مفهوم الرضا وجسمه ومعنى الحُرمة الجسديّة”.
“في الوسط العائلي كذلك، يتمّ رفض الحديث عن الثقافة الجنسية إلّا لسبب وحيد وهو ترهيب الفتاة خصوصا في ما يتعلّق بهاجس العذرية، ممّا يخلق لديها عقدا نفسيّة، أي أنّ الموضوع يُطرح بطريقة غير سليمة”، بحسب تصريحات التليلي.
فضلا عن ذلك، تشير مُحدّثتنا إلى “دور الإعلام الذي لا يتداول موضوع الثقافة الجنسية بطريقة صحيحة وعلميّة كما يُفترض أن يفعل”، مضيفة أنّه “في المناطق المهمّشة أين تغيب الإمكانيات للنفاذ للتربية ليس لديهم.ن حتّى المعلومات الأساسية حول أجسادهن، حتّى عندما يتعلّق الأمر بالعادة الشهرية والمسار الذي يمررن به والتعامل معها على أنّها “وسخ” وعيب”.
كما “أنّهن لا يمتلكن الوعي بأجسادهنّ ووسائل الوقاية من التعفنات وغيرها ومنع الحمل وليست لديهن دراية كافية بحقوقهنّ، الأمر الذي يخلق تناقضا بين القانون والتطبيق”، وفق التليلي.
وتلفت النظر إلى أنّ “الإنترنت تتضمّن معلومات صحيحة وخاطئة، ولهذا يتعيّن أن يتمتّع الفرد بالتربية الجنسية الشاملة كي يتمكّن من التفريق بين المعلومات الصحيحة والخاطئة. كما تتضمن الانترنت المواقع الإباحية التي تعدّ من أهم المصادر من منظور الجنسانية والعلاقات الجنسانية في حين أنّه ليس لها أيّ علاقة بالواقع، ممّا يؤدّي إلى خيبة ومن ثمّ إلى العنف في العلاقات الجنسية والتعدّي على الحرمة الجسدية للمرأة”، على حدّ قولها.
وكانت تونس قد أعلنت في 2019 أنّها ستقوم بإدراج التربية الجنسية الشاملة ضمن البرامج التعليمية، الأمر الذي أثار جدلا كبيرا في صفوف الأولياء والمربّين. وعبّر الكثيرون حينها عن رفضهم لهذا المشروع معتبرين أنّها “تربية الطفل على الممارسة الجنسية” رغم الجهود التي قامت بها وزارة التربية والمجتمع المدني لتوضيح اللبس والتأكيد أنها تربية على صحّة جنسية متوازنة تسمح للأطفال بالتصالح مع أجسادهم وتقبّلها وتعلّم كيفية حمايتها.
يذكر أنّ هذا المسار المتعلّق بالتربيّة الجنسيّة الشاملة عبر المناهج التعليميّة الرسميّة مازال معطّلا بسبب بعض المواقف الدينية والأخلاقوية والمجتمعيّة المحافظة ذات الطابع الأصولي.


السياسة العموميّة للدولة.. مدخل للإصلاح
يمثّل الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري – التابع لوزارة الصحّة التونسيّة – خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في تونس. ويقدّم الديوان، بحسب القانون عدد 70 لسنة 1984 الذي تمّ إحداثه بموجبه، خدمات طبّية وخدمات إعلام وتثقيف واتصال.
ويقوم الديوان بمهامّه من خلال 24 مندوبيّة جهويّة يتوفّر بها 36 مركزا للصحّة الإنجابية. تقدّر قيمة نفقات ديوان الأسرة لسنة 2025 بحوالي 49,6 مليون دينار منها 45,4 مليون دينار منحة من الدولة والبقيّة موارد ذاتية. ويغطّي هذا المبلغ نفقات التأجير والتسيير والتدخلات التي يقوم بها الديوان، بحسب ما جاء في مهمة الصحة الواردة بميزانية الدولة لسنة 2025.
تفيد دراسة “النفاذ وجودة خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في تونس” أنّ بعض مراكز الصحة الإنجابية التابعة لديوان الأسرة-وبشكل خاصّ المؤجرة- تعاني من ضعف ملاءمة الفضاءات لطبيعة الأنشطة ممّا يؤثّر سلبا على أداء الإطار الطبّي ورضا المنتفعات.
وسجّلت الدراسة كذلك نقصا في الموارد البشريّة خاصّة في المناطق الداخلية، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع جودة الخدمات أحيانا والاكتظاظ. ويعدّ انقطاع وسائل منع الحمل إحدى أبرز المشكلات التي تعاني منها هذه المراكز، فبين أواخر 2017 وبداية 2018، تمّ تسجيل فترات انقطاع في مخزون بعض الوسائل، خصوصا اللولب والحبوب.
يشير المصدر ذاته أيضا إلى ضعف التنسيق بين القابلات والأخصائيين النفسيين خاصّة في ما يتعلّق بالتكفّل بحالات العنف ضدّ النساء، بالإضافة إلى ضعف التثقيف الصحّي حيث وقع تسجيل تراجع واضح في أنشطة التثقيف الصحّي الميداني مع غياب فرق متنقّلة كما كان عليه الأمر في التسعينات. كما خلص إلى أنّ العديد من المنتفعات بخدمات مراكز الصحّة الإنجابية في المناطق الريفية يواجهن صعوبات أكبر في التنقّل والوصول إلى المراكز.
ولاحظت الدراسة نفسها نقص التكوين المستمرّ، إذ تراجعت دورات التكوين خصوصا بعد 2011 ممّا انعكس على كفاءة الطواقم.


تؤكّد منسّقة المشاريع بمجموعة توحيدة بالشيخ هاجر ناصر أنّ “مراكز الصحة الجنسية والإنجابية تعاني من نقص كبير على مستوى وسائل منع الحمل والمعدّات التي تمكّن من تقديم الخدمات للنساء كالإجهاض”، مشدّدة على أنّ “مهنيّي الصحّة أكدوا أنّ التكوين الذي تلقّوه غير كاف لأنهم يجدون أنفسهم في وضعيّات لا يعرفون كيف يتصرّفون فيها مع النساء طالبات الخدمة”.
وقد قامت جمعية توحيدة بالشيخ بإعداد دليل لتكوين مهنيي الصحة العاملين.ـات في مراكز الصحة الجنسيّة والإنجابية وعقد دورات تكوينية لفائدة عدد منهم في جهات مختلفة.
وتفيد ناصر في حديثها مع موقع الكتيبة أنّ “هناك مشاركات في هذه الدورات التدريبية لم يكنّ على علم بقانون 1973 المتعلّق بالحقّ في الإجهاض”، مؤكدة “ضرورة العمل من أجل توفير التكوين المستمرّ لمهنيي الصحة العاملين.ـات في هذه المراكز من أجل ضمان خدمات لائقة بالنساء اللواتي يتوجهن إليها”.
وكان مدير عام الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري محمد الدوعاجي قد قال، في تصريح إذاعي أدلى به في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، إنّ “الحاجيات الإنجابية غير الملبّاة في تونس مرتفعة لعدّة أسباب من بينها نقص الموارد البشرية نظرا للإحالة السنوية لعدد كبير على شرف المهنة، وغياب مناظرات الانتداب في الوظيفة العمومية خلال السنوات الأخيرة، وكذلك الموارد اللوجستية على غرار تقادم وضعية أسطول النقل وتهرّمه خاصة بالجهات، وهو ما يشكل عائقا أمام الفرق المتنقلة، فضلا عن اهتراء البنية التحتية لمعظم البنايات الخاصة بالمندوبيات الجهوية للديوان، فبعضها تخلّت عن مقراتها ولجأت إلى الكراء، ومنها في طور التهيئة، والبعض الآخر بصدد إتمام الإجراءات القانونية للبناء (العقارية والإدارية)”.
وفي علاقة بوفيات الأمهات، اعتبر الدوعاجي أنّ “نسبة وفيات الأمهات منخفضة لكنها مازالت دون أهداف الألفية الثالثة، وقد تمّ وضع استراتيجية وطنية لصحّة الأم والمولود خلال الفترة المتراوحة 2020 – 2024 وتهدف إلى التقليص من نسبة وفيات الأمهات إلى أقلّ من 22.8 لكلّ 100 ولادة حيّة سنة 2024”.
وأفاد أنّ ديوان الأسرة طرح مقترحا على وزارة الصحّة يتضمّن مخطّطا في أفق 2030 يشمل حزمة خدمات صحّية لفائدة النساء الحوامل تمنحها حقّ النفاذ إلى الخدمات الصحّية طيلة فترة الحمل مجانا.


تُعدّ الحقوق الجنسية والإنجابية جزءا لا يتجزّأ من الحقوق التي ينبغي أن يتمتّع بها كلّ إنسان، وهي تضمن للفرد الحقّ في اتخاذ قرارات حرّة ومسؤولة في علاقة بحياته الجنسية والإنجابية وجسده. ويمثّل ضمان نفاذ جميع النساء في تونس، بغضّ النظر عن انتماءاتهنّ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مسؤولية تتحمّلها بشكل أساسي الدولة التونسي التي تسطّر السياسات العامة ومن بينها المرتبطة بالصحة الجنسية والإنجابية.
وإزاء النقائص التي تحول دون ولوج كلّ التونسيات إلى خدمات الصحّة الجنسية والإنجابية في إطار المساواة وغياب التمييز، على الدولة أن تقوم بدورها كاملا من أجل إزالة هذه العوائق والتحدّيات.
تؤكّد الناشطة النسوية والحقوقية سمر سحيّق ضرورة “تطبيق القوانين وملاءمتها مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية والتي تضمن الحقوق الجنسية والإنجابية وحقوق النساء بصفة عامّة، فضلا عن ضرورة تطبيق القانون الأساسي للميزانية وخاصّة الفصل 18 منه الذي من شأنه ضمان وضع ميزانية مُجندرة تأخذ في عين الاعتبار الفرق بين مختلف الهويات الجندرية”.
فضلا عن “ضرورة تطبيق القانون عدد 58 لسنة 2017 في كافة جوانبه ومجالاته وهو ما يحتاج إلى تفاعل كلّ الوزارات على غرار وزارات الشؤون الدينية والعدل والمرأة والثقافة والتربية والتعليم العالي والداخلية”، بحسب سحيّق التي شدّدت على أنّ “كلّ الوزارات معنيّة لأن العنف المسلّط على النساء ظاهرة تنخر المجتمع في الأسرة وفي كافة المؤسسات والمدارس والشوارع” إلخ.
من جهتها، تقول منسّقة المشاريع بمجموعة توحيدة بالشيخ منى التليلي إنّ “توفّر مراكز الصحّة الجنسية والإنجابية ووسائل منع الحمل والقوانين المتعلّقة بها يمثّل إنجازا لا يمكن خسارته”، مشيرة إلى أنّ “مجموعة توحيدة بالشيخ تقوم بحملات مناصرة للحفاظ على هذا المستوى والتقدّم الذي وصلت إليه تونس في مجال الصحة الجنسية والإنجابية”.
وتقرّ التليلي بوجود “مشاكل وتراجع”، مؤكدة في المقابل، ضرورة “ايجاد بدائل لإصلاح الخدمات وطريقة التعامل ونقص المعلومات من خلال الجهود التي يقوم بها المجتمع المدني”، لافتة النظر إلى “حملات التنقل إلى النساء ومحاولة خلق فضاءات آمنة للنقاش فيها والقيام بحملات تحسيسية”.
وتعتبر أنّ “القانون وحده لا يكفي”، مؤكدة “ضرورة أن تصل هذه الخدمات إلى الجميع ولا تبقى في المركز أين يوجد كلّ شيء في العاصمة أو في مناطق معيّنة، علاوة على ضرورة التكوين المستمرّ للعاملين.ـات والإطار الطبي”، ومضيفة أنّه “لا بدّ أن يكون هناك تقييم ومراقبة للخدمات وتحسينها وتوفير كمّيات كبيرة من وسائل منع الحمل والمعدّات وتوزيع الإطار الطبّي كي يكون الأطباء المختصّون في النساء والتوليد موجودين في مختلف المناطق”.
وختمت بالإشارة إلى “توقيع وزارة الصحّة اتفاقيات مع جمعيّات في هذا المجال وهو ما اعتبرته أمرا إيجابيّا”، قائلة إنّه “لا يمكن إنكار جهود مؤسسات الدولة لكن المجتمع المدني يجب أن يعمل معها لمحاولة التغيير قليلا من الواقع، ويجب العمل أيضا على إدماج التربية الجنسية الشاملة التي من شأنها أن تحلّ مشاكل قد تقع لاحقا”.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة مقالات ومضامين تفسيريّة سمعية بصرية يشتغل عليها موقع الكتيبة في علاقة بملف الصحّة الجنسية والإنجابية في تونس بعيدا عن أسلوب الإثارة أو المواقف الأخلاقويّة والأطروحات الدينيّة العقديّة الصرفة.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة مقالات ومضامين تفسيريّة سمعية بصرية يشتغل عليها موقع الكتيبة في علاقة بملف الصحّة الجنسية والإنجابية في تونس بعيدا عن أسلوب الإثارة أو المواقف الأخلاقويّة والأطروحات الدينيّة العقديّة الصرفة.

الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة












الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
