الكاتب : رحمة الباهي

صحفية شغلت عديد الخطط
في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.

”في ليبيا تُعامل مثل الحيوان“.. أمور تحصل هناك لا يمكن أن يتخيلها العقل والعالم برمته يعرف ذلك.. من تجارة بالأعضاء البشرية مرورًا بالعبودية والعنصرية والإهانة وصولا إلى الموت المفاجئ.. تغادر بيتك وأنت يعتريك الخوف من أن لا تعود سالما.. وإذا استيقظت على قيد الحياة صباحا فأنت لا تعرف ما إذا كنت ستعيش للظهر“

بهذه العبارات التي تنضح مرارة وألما، حاول حسني، مهاجر غير نظامي من السودان، لم يتجاوز من العمر الـ20 ربيعًا، التعبير عن معاناة آلاف من المهاجرين الذين فروا من أوطانهم في القارة السمراء بحثا عن غد أفضل، فوَجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة شبكات التهريب وعصابات الاتجار بالبشر في ليبيا وبين سندان سياسات أوروبية تغاضت عن معاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان في سبيل الحد من تدفق المهاجرين إلى أراضيها.
قصة حسني، الشاب السوداني الذي ينحدر من عائلة هاجرت إلى ليبيا قبل أن يحاول الفرار من جحيمها سنة 2018 عبر البحر آملا في الوصول إلى ”الجنة الأوروبية“، تجسد شهادة من بين آلاف الشهادات التراجيدية لمهاجرين أفارقة عاشوا هناك شتى أنواع العذابات.

الكاتب : رحمة الباهي

صحفية شغلت عديد الخطط
في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.

”في ليبيا تُعامل مثل الحيوان“.. أمور تحصل هناك لا يمكن أن يتخيلها العقل والعالم برمته يعرف ذلك.. من تجارة بالأعضاء البشرية مرورًا بالعبودية والعنصرية والإهانة وصولا إلى الموت المفاجئ.. تغادر بيتك وأنت يعتريك الخوف من أن لا تعود سالما.. وإذا استيقظت على قيد الحياة صباحا فأنت لا تعرف ما إذا كنت ستعيش للظهر“

بهذه العبارات التي تنضح مرارة وألما، حاول حسني، مهاجر غير نظامي من السودان، لم يتجاوز من العمر الـ20 ربيعًا، التعبير عن معاناة آلاف من المهاجرين الذين فروا من أوطانهم في القارة السمراء بحثا عن غد أفضل، فوَجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة شبكات التهريب وعصابات الاتجار بالبشر في ليبيا وبين سندان سياسات أوروبية تغاضت عن معاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان في سبيل الحد من تدفق المهاجرين إلى أراضيها.
قصة حسني، الشاب السوداني الذي ينحدر من عائلة هاجرت إلى ليبيا قبل أن يحاول الفرار من جحيمها سنة 2018 عبر البحر آملا في الوصول إلى ”الجنة الأوروبية“، تجسد شهادة من بين آلاف الشهادات التراجيدية لمهاجرين أفارقة عاشوا هناك شتى أنواع العذابات.

انتهاكات مروّعة

احتُجز حسني في سنة 2018 لأول مرّة في سجن الخُمس. كان ذلك اثر محاولة فاشلة للهجرة غير النظامية عبر البحر اعترضها خفر السواحل الليبي. أُبعد الشاب السوداني عن خطيبته وخالته بعد أن كانتا معه على متن الزورق. يستحضر محدثنا تجربته في سجن الخُمس وما تلاها من تراجيديا ذاتية لا يمكن أن تمحى من ذاكرته المثخنة بالجراح:


”في سجن الخُمس بقينا لمدة 3 أيام دون طعام أو شراب. طلبوا مني بعد ذلك الاتصال بعائلتي لحثّها على تقديم فدية من أجل الإفراج عني. المبلغ الذي يطلبه هؤلاء في العادة يتراوح بين 1000 و1500 دولار. لكنهم هذه المرة طلبوا مني 2500 دولار من أجل إطلاق سراحي.“

لم يكن بإمكان عائلة حسني توفير هذا المبلغ المشط. بسبب ذلك تم الاحتفاظ به في السجن لمدة 8 أشهر و15 يوما. لكن مأساة هذا الشاب أسود البشرة و نحيف الجسم لم تقتصر على سوء المعاملة والضرب والتعذيب الذي تعرّض له في سجن الخُمس، بل كان ضحية شبكة اتجار بالبشر قامت بتشغيله لمدة 4 أشهر في مجال البناء والفلاحة دون مقابل مادي. كانوا يقدمون له طعاما فقط متمثلا في خبز وبعض الجبن وأحيانا معكرونة مع بعض من الملح حتى يتمكن من مواصلة العمل.

خطيبة حسني التي لم يتجاوز عمرها في ذلك الوقت 16 عاما، كانت هي الأخرى ضحية شبكة استغلال جنسي للفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و20 عاما من المحتجزات في المركز. تم نقل هنادي من المكان الذي اقتيدت إليه قبل أن يتم بيعها مجددا إلى عصابة ثانية نقلتها إلى مصراتة أين تعرّضت للاغتصاب.
تروي هنادي، مهاجرة غير نظامية، سودانية الأصل، بحسرة عملية الاغتصاب التي تعرّضت إليها في مصراتة منذ حوالي السنتين. تقول ابنة الـ18 ربيعا وهي تكابد لإخفاء دموعها وارتباكها مسترجعة تفاصيل حادثة أليمة تزعجها كلّما حاولت الحديث عنها:

”اسمه حمزة، وهو قيادي كبير في مصراتة قام باغتصابي. كنت أتوّسل إليه لعدم ايذائي. كنت أصرخ بصوت عال لكنه لم يكترث لذلك. لقد تعمّد ضربي وخنقي. لا يمكن أن أنسى وجه ذلك الرجل ما حييت وإذا رأيته اليوم سأتعرف عليه بسهولة حتما.“

يعدّ المهاجرون وطالبو اللجوء القادمون من السودان وإريتريا والصومال الأكثر عرضة للتعذيب في مراكز الاحتجاز على أيدي العصابات التي تسيطر عليها، فهم يضاعفون قيمة الأموال التي يطلبونها للإفراج عنهم بغرض الابتزاز. كما يقومون باستغلالهم للعمل في حظائر بناء أو مزارع فلاحية دون مقابل. ومن بين الانتهاكات التي سجّلها فريق الخبراء المعني بليبيا في مراكز الاحتجاز، الحرمان غير القانوني من الحرية والسخرة والاغتصاب و الاستغلال الجنسي وحالات الاختفاء.

اقرأ أيضا في نفس السياق:

هنادي: اغتصبوني في مصراتة طيلة 3 أيام

ويُعتبر مركز احتجاز طريق السكّة أحد أسوإ المراكز، إذ يتم صُلبَه الاتّجار بأعضاء المهاجرين وطالبي اللجوء الذين لا يفهمون ولا يتحدثون اللغة العربية، خصوصا القادمين من الصومال ومالي وإريتريا وساحل العاج.
يسترجع حسني أطوار الفترة التي قضاها في هذا المركز، قائلا إنه ادعى آنذاك أنه لا يتحدث العربية، فأخذوه صحبة عدد من المهاجرين وطالبي اللجوء إلى مزرعة عملوا فيها فترة من الزمن دون أن يتقاضوا أي مبلغ مالي، قبل أن تأتي مجموعة ثانية وتقوم بشرائهم وتوجيههم للعمل في مكان آخر.

تطلب المليشيات المسلّحة من المهاجرين الذين يفهمون ويتكلّمون اللغة العربية المشاركة في القتال إلى جانبهم، مقابل منحهم مبلغا ماليا يتراوح في أقصى الحالات بين 8 و10 آلاف دينار ليبي. ولدى رفض المهاجرين وطالبي اللجوء هذا الطلب، يتعرّضون إلى أقسى أنواع التعذيب الذي قد يصل إلى القتل، وفق نفس المصدر.
عندما كان حسني في سنة 2019 يعمل في مدينة طرابلس، تم إيقافه بإحدى البوابات واقتياده إلى مخفر الشرطة، أين سُئل عن جنسيته، ولما أخبرهم أنه سوداني طلبوا منه أن يقاتل في صفوفهم، إلا أنه رفض المسألة تماما، ليتعرّض إثر ذلك إلى الضرب والإهانة، قبل أن يتمّ نقله إلى مركز أبوسليم أين وجد مجموعة من الشباب القادمين من بلدان مختلفة كالسودان وتونس ومصر وسوريا.
بقي حسني هناك دون أي طعام أو ماء، وفي اليوم الرابع والخامس، جاؤوا إلى السجن وأعادوا طرح سؤالهم بأكثر حزم. وكانت النتيجة أن قبل عدد من الشبان الذين كانوا معه طلب الليبيين. كانوا يأتون بشكل متواتر لطرح ذات السؤال، وفي كل مرة كان هناك من يقبل ومن يرفض.

”من كانت إجابته الرفض كان يتعرّض للتعذيب من خلال وضعه على كرسي حديدي بعد تقييده. كان اعتماد عملية سكب الماء والصعق بالكهرباء من ضمن أساليب التعذيب المستعملة للإجبار على القبول.“

حسني كان من ضمن المحتجزين الذين تمسكوا بموقفهم الرافض للمشاركة في القتال في صفوف التشكيلات المسلحة المتنازعة في ليبيا وهو ما كلّفه إصابة برصاصتين على مستوى القدم.

أحمد (اسم مستعار)، هو صحفي تونسي عمل بليبيا لمدة تناهز 3 سنوات رأى فيها الويلات وكان شاهدا على فظاعات ارتكبت في حقّ المهاجرين الأفارقة بدم بارد. يقول أحمد بنبرة شديدة التأثر:
”في إحدى الرحلات التي تمّ تنظيمها انطلاقا من السواحل الليبية باتجاه إيطاليا لحساب مهاجرين أفارقة من دول جنوب الصحراء، كان هناك مواطن ليبي مندسّ داخل الجموع. لم يتفطّن منظم الرحلة في البداية لهذا الشخص بسبب لون بشرته السوداء. وعندما سمعه يتحدث بالعربية وباللهجة الليبية طلب منه النزول. رفض الليبي مغادرة المركب متعلّلا بأنه دفع أموالا في سبيل ذلك. غير أنّ منظّم الرحلة أصرّ على ضرورة نزوله هامسا له بالقول إنّ المركب سيتمّ إغراقه في عرض البحر وأنّ راكبيه سيكون مصيرهم الموت وهو يريد إنقاذه لأنه ابن بلده“.

يؤكد الصحفي أحمد أن أفراد هذه الشبكات تحوّلوا في وقت قياسي إلى أصحاب ثروات. فالمبلغ الذي يدفعه المهاجر غير النظامي لتلك الشبكات من أجل إدراجه ضمن رحلة بحرية سرّية باتّجاه سواحل أوروبا يبلغ 3000 أورو.
أفراد تلك الشبكات لهم، في أغلب الأحيان، علاقة بأجهزة رسمية للدولة، ومن بينهم من يتحمّل مسؤوليات في وظائف لها صبغة نظامية. كما أن مراكز الاحتجاز منها ما هو معلن رسمّيا ومعلوم لدى العامة بما في ذلك الهيئات الأممية والمنظمات الحقوقية الدولية ومنها ما هو سري يخضع لسيطرة عصابات ومليشيات مسلّحة. علاوة على أن شبكات الاتجار بالبشر في ليبيا لها علاقات متشعّبة بالمليشيات المسلحة شبه النظامية وهي في حقيقة الأمر تحمي بعضها البعض حيث تكون العلاقة بين الطرفين قائمة على تبادل المصالح وتقاسم الأدوار، وفق تعبيره.

وتشدّد أناييس دوبراد، المستشارة الإعلامية بمنظمة أطباء بلا حدود، على أنّه يصعب تحديد عدد المهاجرين وطالبي اللجوء المحتجزين في هذه المراكز خصوصا مع قدوم دائم لأفراد جدد واختفاء آخرين وهروب البعض الآخر وبالتالي فإن الأرقام تتغيّر دائما وفق قولها.
ورغم تراجع نسبة الاكتظاظ في هذه المراكز مقارنة بسنة 2017، تظلّ ظروف احتجاز المهاجرين وطالبي اللجوء غير إنسانية مع ازدحام الزنازين وسوء التهوئة، بالإضافة إلى عدم توفير الرعاية الصحية والطعام والماء للمحتجزين، إلى جانب تواصل تسجيل انتهاكات وأفعال متكررة من العنف ضدهم.
وتشير ديبراد إلى أنه من المستحيل تحديد عدد مراكز الاحتجاز والمؤسسات غير الرسمية التي يقبع فيها المهاجرون وطالبو اللجوء والتي مازالت نشطة، مضيفة أنّه:

”انّ الأوضاع في هذه المستودعات وغيرها من البناءات التي يستخدمها المهربون لاحتجاز المهاجرين واللاجئين مروّعة. يتمّ احتجاز المئات في أماكن مظلمة، غير قادرين على الحركة أو الأكل بشكل جيّد لمدة أشهر. يُخضعونهم لأشدّ أنواع الانتهاكات، من أجل الحصول على مزيد من الأموال منهم.“

وتضمّ هذه المراكز نساء ورجالا وأطفالا في مكان واحد أحيانا. ويتولّى رجالُ حراسةٍ مراقبةَ جميع الغرف، بما فيها تلك التي تحتجز فيها النساء. وفي بعض الحالات، يكون هيكل المبنى الذي يضمّ مركز الاحتجاز مستودعا أو مصنعا مهجورا. وتكون نوافذ هذه الغرف في غالب الأحيان مغلقة بإحكام لمنع الهروب، ما يحُولُ دون تهوئة المكان أو تعرضّه لأشعة الشمس، وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية.
ويقوم مكتب شؤون الهجرة، ومقرّه طرابلس، بمعيّة جهاز ”مكافحة الهجرة غير الشرعية“، تحت رعاية وزارة الداخلية الليبية، بإدارة 20 مَرفقا بصورة رسمية، يوجد 15 منها في منطقة طرابلس. ومن بين المرافق الـ15، هناك 12 مرفقا قيد الاستخدام تضم حوالي 8000 مهاجرا من جملة المهاجرين الموجودين في ليبيا.
ويشدد فريق الخبراء على تواصل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مراكز الاحتجاز الرسمية ومرافق الاحتجاز غير الرسمية.

وكانت المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود قد كشفت في تقرير أعدته لفائدة الاتحاد الأوروبي في أفريل 2019، عن وجود 20 مركز إيواء تابع لجهاز ”مكافحة الهجرة غير الشرعية“، مقابل 14 مركزا يخضع لسلطة أطراف أخرى (مليشيات). ولم تحص المنظمة الدولية للهجرة، في تقرير لها سنة 2019، سوى 14 مركزا رسميا يتوزعون على عدة مناطق ليبية.

إلى حدود 22 مارس/آذار 2020، كان هناك 21 مركزا في المناطق الغربية والشرقية والجنوبية في ليبيا، وتم إغلاق المركزين الوحيدين في الجنوب الليبي في كل من سبها وبراك الشاطئ. بينما أغلقت مراكز أخرى في المنطقة الغربية في صلاح الدين وجنزور وطريق المطار وغريان. في حين مازالت المراكز المحصاة في المناطق الشرقية مفتوحة، في الوقت الذي لا تتوفر فيه أية معلومات دقيقة عن مركز طريق السكة، وفق دراسة أعدها مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان

خفر السواحل.. جرائم دولة

وثقّت عدة تقارير حقوقية نزوع خفر السواحل الليبي إلى العنف مع المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يتمّ اعتراضهم في البحر أو إنقاذهم، رغم أنه (أي جهاز خفر السواحل) يمثّل إحدى الهيئتين المكلفّتين بمكافحة الاتجار بالأشخاص والتهريب باعتباره قسما من أقسام وزارة الداخلية الليبية. وكانت منظمة العفو الدولية قد أكّدت أنّ البعض من موظفي خفر السّواحل من الذين قاموا بعمليات الاعتراض استخدموا التهديد والعنف ضدّ اللاجئين والمهاجرين الموجودين في القوارب التي توشك على الغرق.

يعود حسني بالذاكرة إلى محاولته الهجرة سنة 2018 عندما لحقت بالقارب الذي كان على متنه سفينة ليبية إثر مرور حوالي 12 ساعة على إبحارهم قائلا:

”عندما تكون في البحر وترى سفينة قادمة من أمامك أو على يمينك أو يسارك فذلك يعني أنها سفينة أوروبية.. أما إذا كانت السفينة قادمة من خلفك فذلك يعني أنها سفينة ليبية.. وإذا كانت كذلك فأنت كنت في جحيم وستعود إلى جحيم.“

لدى اقتراب السفينة الليبية من الزورق الذي كان يقلّ حسني، أقدم عدد من المهاجرين الذين كانوا معه على الانتحار، من بينهم شخص له طفلان رفض العودة إلى ليبيا ولم ير من سبيل للخلاص أمامه إلا إنهاء حياته، تاركا زوجة في حالة من البكاء والهستيريا وطفلين يتيمين.

بعد اعتراض المهاجرين الذين كانوا على متن القارب -يضيف حسني- استقبلهم خفر السواحل الليبي بالضرب والعنف والإهانة، ووضعوهم في مكان ساخن في السفينة قرب المحركات، دون أن يقدّموا لهم أيّ طعام أو ماء، رغم حالة التعب والوهن التي كان المهاجرون يشعرون بها جرّاء الإبحار لساعات. وفور نزولهم من السفينة، تمّت محاصرتهم بالسلاح من كل الجهات وتهديدهم وإعلامهم بأن كل من سيحاول الهرب سيتم إطلاق النار عليه.  ويفيد حسني أن أحد الشبان الذي تعرّف إليه عندما كان في الـ”كمبو“، وكان يتقن السباحة، رمى بنفسه في الماء اعتقادا منه أنه سينجح في الهرب إلا أن أعوان خفر السواحل أردوه قتيلا بعد أن أطلقوا عليه 5 أو 6 طلقات نارية، وتركوه في البحر دون أن يحاول أحد استرجاع جثمانه.

اقتاد خفر السواحل، إثر ذلك، المهاجرين إلى مكان في ميناء الخُمس. يروي حسني أطوار الكابوس الذي عاشه يومها بكثير من الألم:

”وضعونا قرب أكياس الموتى. لم يعتقد أحد لوهلة أن بداخلها جثامين حقيقية. تفطنت إلى تسرّب دماء من الأكياس التي كانت تحت أجسادنا فقمنا بالصراخ من هول الفاجعة“

”سألنا خفر السواحل عن الجثث الموجودة داخل الأكياس، فقالوا انّها تعود لأشخاص حاولوا الفرار وقد تم إطلاق النار عليهم. قالوا لنا بلهجة تنطوي على تهديد و وعيد أن ذلك سيكون مصير أي شخص منا يحاول الهروب“.
في الإطار ذاته، أفادت منظمة العفو الدولية أنّ سلوك موظفي خفر السواحل الليبي أدّى إلى تعريض حياة اللاجئين والمهاجرين للخطر، كما عرّض حياة فرق الإنقاذ التابعة لمنظمات غير حكومية للخطر أثناء انخراطها في عمليات الإنقاذ نتيجة عدم مراعاتهم للبروتوكولات والمعايير الأمنية الأساسية للعمل في عرض البحر. كما أظهرت وثائق للمنظمة أن بعض أعضاء خفر السواحل الليبي يتواطؤون مع المهربين من خلال توفير مرور آمن لهم مقابل دفعات مالية.

إقرأ أيضا في نفس السياق: من جحيم ليبيا إلى وجع تونس ومالطا

 

لا يختلف مسار تهريب حسن، وهو مهاجر غير نظامي من السودان، كثيرا عن الطريق الذي سلكه المهرّبون الذين تعامل معهم حسني. فحسن وجد نفسه مضطرا للهجرة بسبب النزاعات التي كانت قائمة في المنطقة التي أقام بها في السودان بين الحكومة والحركة الشعبية. ولما رأى أن أصدقاءه سيهاجرون إلى أوروبا قرّر المغادرة معهم.

وبلغت تكلفة الرحلة بالنسبة الى حسن 1500 جنيه سوداني دفعها مرة واحدة، وقد تم العبور به عبر الصحراء في سيارات وصفها بـ”الكبيرة والفخمة“، بعد أن تم إخفاؤه في صندوق إحدى السيارات تحت غطاء بلاستيكي. ويبيّن حسن أن المهرّب الذي تعامل معه كان يمتلك مزرعة هناك استقبلهم فيها، وأجبر من لم يدفع كامل مستحقاته على العمل لسداد ديونهم فيما سمح للبقية بالمغادرة.
ويشير حسن إلى أنه بعد الإبحار لمدة 3 أو 4 ساعات ثقب الزورق ما أدى إلى غرقه ووفاة عدد من المهاجرين الذين كانوا على متنه، في حين قام خفر السواحل الليبي بإنقاذ البقية ونقلهم إلى السجن، مؤكدا أنهم تعرضوا للضرب والإهانة من قبل خفر السواحل الليبي قبل أن يتم اقتيادهم إلى سجن طريق المطار في طرابلس.

خلق الانفلات الأمني في ليبيا فجوة سهّلت عمل المهربين وبارونات الاتجار بالبشر الذين كونوا شبكات مترابطة على طول الطريق الرابط بين الحدود الليبية مع التشاد والسودان والنيجر، وصولا إلى مدينتي زوارة وصبراتة غربي البلاد. ويختلف المسار الذي يسلكه المهرّبون وفق الدول التي ينحدر منها المهاجرون وطالبو اللجوء، ويمكن تقسيم هذه المسارات بين منطقة غرب ليبيا التي يتم فيها جمع المهاجرين القادمين من أغادير بالنيجر في مستودعات للبضائع موجودة في كل من قطرون وأوباري وسبها ومرزق، وبين منطقة شرق ليبيا أين يتولى إدارة الطريق الشرقي ”سماسرة“ من كل من أثيوبيا وإريتريا والصومال، في حين ينظم الليبيون النقل داخل أراضيهم، علما وأن عملية التنسيق تنظم في منطقة الكفرة الحدودية. وإلى غاية عام 2016، كان معظم المهاجرين يُنقلون من الكفرة إلى أجدابيا.

إلا أن تغيير القوانين في البلدان المجاورة لليبيا والاشتباكات المحلية على امتداد طرق الاتجار أجبرت شبكات التهريب والاتجار بالبشر على اتخاذ طرق جديدة، وفق ما جاء في تقرير فريق الخبراء المعني بليبيا لسنة 2019. وتجعل المسارات الجديدة الهجرة إلى ليبيا أطول وأكثر تكلفة وأكثر خطورة. كما انخفض حجم حركة المرور عبر الحدود إلى ليبيا من خلال تشاد والنيجر بشكل كبير خلال العامين الماضيين.

ويبرز التقرير أن نقل المهاجرين الحاليين عبر مراكز احتجاز متعددة داخل ليبيا لعدة أشهر أو سنوات سمة أكثر وضوحا للهجرة مقارنة بالوضع السابق. وعلى الرغم من أن الأفراد يدفعون مقابل أجزاء متعددة من الرحلة عبر ليبيا، فهم لا يزالون عرضة بشكل كبير للابتزاز والاختطاف مقابل الفدية والعمل القسري.

ولا تزال بلدة بني وليد نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من الشرق ومن أفريقيا جنوب الصحراء إما من السودان أو تشاد أو النيجر أو بالسفر عبرها إلى المدن الساحلية الغربية. وتعدّ المنطقة الواقعة بين بني وليد والخمس والقرة بوللي وزليطن مفتوحة أمام مرور الأشخاص نظرا لانزياح الطرق الشرقية إلى شرق طرابلس مباشرة لتجنب مناطق النزاع المباشر.

ويسلك المهاجرون وطالبو اللجوء مسارات مختلفة للوصول إلى ليبيا، فالقادمون من كلّ من الجزائر وتشاد ومصر والنيجر والسودان وتونس يصلون مباشرة إلى ليبيا دون المرور ببلد ثالث. أما القادمون من بنغلادش فإما يسافرون إلى تركيا ثم ليبيا أو يتوجهون إلى الإمارات العربية المتحدة فمصر ثم ليبيا.

في حين يعبر المهاجرون الوافدون من بوركينا فاسو النيجر وصولا إلى ليبيا. أما القادمون من مالي فيمرون أيضا بالنيجر قبل الوصول إلى ليبيا، وهذا المسار يعدّ الرئيسي، في حين يسلك آخرون مسلكا ثانيا ينطلق من بوركينا فاسو ثم النيجر فليبيا. كما يعبر غالبية المهاجرين الوافدين من نيجيريا النيجر للوصل إلى ليبيا.

وتمثل، في المقابل، كلّ من الخمس والقرة بوللي وزوارة نقاط المغادرة الرئيسية من ليبيا. كما تشكل الخمس وطرابلس والزاوية نقاط الإنزال الرئيسية بعد اعتراض السفن من جانب خفر السواحل الليبي.

 

بارونات فوق القانون

تضمّن تقرير فريق خبراء مجلس الأمن الدّولي المعني بليبيا الصادر بتاريخ 1 جوان 2017 معلومات تفيد بأنّ زورقا سريعا كان قد هاجم، يوم 17 أوت 2016، سفينة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود قبالة الساحل الليبي، وأنّ ضابطين من خفر سواحل ميناء ديلة شاركا في الهجوم. وكان المهاجمان اللذان تمّ التعرّف عليهما مواليين لعبد الرحمن ميلاد الملقّب بـ”البيجا”، وهو رئيس خفر سواحل الزاوية ومتورّط وفق تقارير أممية في أنشطة تهريب. كما أكّد تقرير الخبراء تورّط عبد الرحمن ميلاد وغيره من خفر السواحل بصورة مباشرة في إغراق قوارب المهاجرين باستخدام الأسلحة النارية.

اسم ميلاد لم يرِد وحيدا في هذا التقرير الذي أماط اللثام حول تورّط شخصيات أخرى لها علاقة بأجهزة الدولة، من بينها محمد كشلاف قائد جهاز حرس المنشآت النفطية في الزاوية، والمعروف أيضا باسم ”القاصب“ أو ”القصب“. ويقود كشلاف، كذلك، مليشيا النّصر المنبثقة عن قبيلة ”أولاد بوحميرة“. وكانت المنافسة من أجل السيطرة على أعمال تهريب الوقود في الزاوية قد عمّقت الانقسامات القبلية الموجودة منذ السابق بين قبيلتي أولاد بوحميرة وأولاد صقر. وتُحكم مليشيا النصر، بقيادة محمد كشلاف، منذ سنة 2012 سيطرتها على مصفاة الزاوية.

وكانت المنافسة قد احتدمت بين القبيلتين أواخر سنة 2014 مع توسّع أنشطة التهريب والاتجار بالبشر في الزاوية، الأمر الذي دفع قائد جهاز حرس المنشآت النفطية في الزاوية ورئيس ميليشيا النصر محمد كشلاف إلى فتح مركز احتجاز في المنطقة. هذا المركز الذي أشرف عليه عقيد سابق بالجيش يدعى ”فتحي الفار“، كان ”يبيع“ مهاجرين إلى مهربين آخرين. وبالتوازي مع ذلك، اقتحم كشلاف مجال تهريب المهاجرين غير النظاميين.

وفي سنة 2014، اكتسبت شبكة كشلاف نفوذا على عمليات خفر السواحل بالزاوية، وتحديدا من خلال الضابط عبد الرحمن ميلاد. وفي 2015، تولت سفينة تابعة لخفر السواحل يشرف عليها عبد الرحمن ميلاد (البيجا) اعتراض مهاجرين ونقلهم إلى مركز احتجاز ”النصر“ وفق ما توثّقه تقارير أممية.

أحمد الدباشي هومن بين الميسّرين الذين يعملون أيضا في سواحل ليبيا بالمنطقة الغربية، وهو قائد عشيرة الدباشي المرتبطة بمليشيا الدباشي، التي يقودها أنس الدباشي، والتي كانت تنشط رسميا في المنطقة الساحلية بين صبراتة ومليتا.
ومنذ اندلاع الحرب الأهلية، تورطت مليشيا الدباشي في أنشطة غير قانونية تتعلّق بتهريب الأشخاص. وفي أكتوبر 2017، أصبحت هذه المليشيا نشطة في منطقة الزاوية بعد أن تم طردها من مصراتة إثر اشتباكات عنيفة مع مليشيات أخرى. وقد طلب الدباشي من خفر السواحل في 2017 اعتراض سفن تقل مهاجرين غير نظاميين وتتبع مهربين آخرين وإعادتهم إلى مراكز احتجاز معينة في ليبيا، بحسب نفس التقرير الصادر عن هيئة الخبراء الأمميّين.

وكان تقرير المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للقارات قد أشار الى أن جهاز ”مكافحة الهجرة غير الشرعية“ التابع لوزارة الداخلية الليبي اعتَبَر، في إطار مساعيه لتركيز جميع المراكز في الغرب، أنّ الطريقة الوحيدة لإقناع أحمد الدباشي بالشروع في مراقبة المهربين هي فتح مركز احتجاز في صبراتة ومنحه السيطرة عليه.

ومن خلال القيام بهذه العملية، أصبح رجال الدباشي يتقاضون رواتبهم من الدولة، وهو ما يصبّ في مصلحة أحمد الدباشي، الذي رغم اتفاقه مع الجهاز، واصل احتجاز المهاجرين في مواقع أخرى. اتّفاق الدبّاشي مع وزارة الداخلية سرعان ما سقط في الماء بعد أن قامت مليشيات أخرى بقتاله وطرده من صبراتة.

وكان الدباشي و كشلاف قد تحالفا سنة 2014 خلال عملية فجر ليبيا وكذلك خلال القتال في صبراتة عام 2017. ولدى طرد الدباشي من مصراتة، انتقل إلى الزاوية التي تخضع لسيطرة كشلاف وعملا معا هناك حيث كان أحمد الدباشي يشتري المهاجرين غير النظاميين الذين كانوا يتواجدون بمركز النصر التابع لمليشيا كشلاف.

وفي أفريل 2016، تمكّن جهاز ”مكافحة الهجرة غير الشرعية“ من السيطرة على مركز النصر إلا أنّه فوّض لكتيبة النّصر بقيادة كشلاف عملية توفير الأمن للمركز، ليتمّ بذلك الاعتراف رسميا بمركز تمّ فتحه بطريقة غير قانونية من قبل جماعة مسلّحة، ما أضفى مشروعية على المليشيا التي أنشأت المركز رغم أنها معروفة بتورطّها الشديد في تهريب المهاجرين.

”رغم إدراج أسماء كلّ من عبد الرحمن ميلاد ومحمد كشلاف وأحمد الدباشي في قائمة الجزاءات بمجلس الأمن، إلا أنهم مازالوا طلقاء في ليبيا. بل إنّ بعضهم يتلقّى تمويلات من الاتحاد الأوروبي ويشارك في دورات تدريبية ولقاءات رسمية بين ليبيا وإيطاليا تتعلّق بالهجرة غير النظامية“

تجدر الاشارة الى أنّ عبد الرحمن ميلاد، وقبل إدراج اسمه في قائمة العقوبات، كان قد سافر سنة 2017 الى روما بمعيّة محمد الخوجة، وهو رئيس مليشيا ونائب رئيس جهاز ”مكافحة الهجرة غير الشرعية“، بصفته عضوا في وفد ليبي لحضور اجتماع حول الهجرة برعاية الأمم المتحدة.

كلمة الكتيبة:

في إطار هذا التحقيق تقدمت الزميلة رحمة الباهي بطلب للسفارة المالطية بتونس قصد الحصول على التأشيرة بهدف التنقل إلى مالطا وذلك لاستكمال عملها الاستقصائي. وعلى الرغم من أنّ ملفها لم تكن تشوبه أية شائبة إلا أنّ السفارة ما ان علمت بسبب الزيارة رفضت منحها الفيزا.

وكانت إدارة التحرير قد راسلت السلط الليبية ممثلة في حكومة الوفاق حيث اتصلت بوزير الداخلية فتحي باشاغا بغرض الحصول على توضيحات رسمية  إلا أنّه اعتذر عن الإدلاء بأي تصريح أو رد مكتوب.

alqatibaتأطير: محمد اليوسفي

alqatibaفيديو: حمزة فزّاني

alqatibaرسوم:مهدي الهمامي

alqatibaإشراف فني : وليد الماجري

alqatibaغرافيك:منال بن رجب

alqatibaتطوير تقني:PRODEXO

شارك في الانتاج: