الكاتب : محمد اليوسفي
رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة
في العديد من الدول الديمقراطيّة، يعتبر الإعلام العمومي قطب الرحى في عمليّة إدارة النقاش العام وتزويد الجمهور بالمعلومات الموثوقة التي تساعد على اتخاذ القرار المستنير في كلّ ما يهم الشأن العام.
على هذا الأساس، تمّ اعتماد فكرة تمويل الإعلام العمومي من قبل عموم المواطنين في شكل ضريبة مباشرة تختلف أشكالها وآلياتها من بلد إلى آخر.
منذ سنة 1946، تمّ إقرار رسوم الترخيص في بريطانيا لتوفير تمويلات لفائدة هيئة الإذاعة البريطانيّة “البي بي سي” التي تعدّ واحدة من أعرق وأهم مؤسسات الإعلام العمومي في العالم.
فبموجب القانون في بريطانيا، تدفع جميع الأسر ـمع بعض الاستثناءات والإعفاءات ـ سنويّا مبلغا قدره حاليا 159 جنيها إسترلينيا أي ما يعادل أكثر من 600 دينار تونسي.
هذه الضريبة السنوّية الاجباريّة ارتفعت تكلفتها في العقدين الماضيين بفعل التضخم حيث كانت تقدّر في سنة 2000 بما قدره 104 جنيها إسترلينيا، كما أنّ الشخص الذي لا يدفع رسوم الترخيص يمكن مقاضاته حيث يعتبر متهربا ضريبيّا إذ تمّ في عام 2019 رفع أكثر من 122 ألف دعوة قضائيّة وأكثر من 114 إدانة بتهمة التهرب من ترخيص التلفزيون حسب ما ورد في تقرير لموقع البي بي سي.
في عام 2019، تمّ جمع ما يقرب عن 3.7 مليار جنيه استرليني من خلال رسوم الترخيص وهو ما يمثل حوالي 76 بالمائة من إجمالي دخل البي بي سي البالغ 4.9 مليار جنيه استرليني.
مقابل هذه الضريبة، تلتزم مؤسسة البي بي سي في ميثاقها الملكي بـ” العمل من أجل المصلحة العامة” من خلال توفير محتوى “محايد وعالي الجودة ومميّز” والذي من شأنه “إخبار وتثقيف وترفيه” كلّ من يدفع رسوم الترخيص.
فأي أوجه اختلاف في التجربة التونسيّة التي تمّ فيها اعتماد أداء ضريبي تحت مسمّى”معلوم الإذاعة والتلفزة” يوظف في فاتورة استهلاك الكهرباء منذ زهاء 42 سنة؟
الكاتب : محمد اليوسفي
رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة
في العديد من الدول الديمقراطيّة، يعتبر الإعلام العمومي قطب الرحى في عمليّة إدارة النقاش العام وتزويد الجمهور بالمعلومات الموثوقة التي تساعد على اتخاذ القرار المستنير في كلّ ما يهم الشأن العام.
على هذا الأساس، تمّ اعتماد فكرة تمويل الإعلام العمومي من قبل عموم المواطنين في شكل ضريبة مباشرة تختلف أشكالها وآلياتها من بلد إلى آخر.
منذ سنة 1946، تمّ إقرار رسوم الترخيص في بريطانيا لتوفير تمويلات لفائدة هيئة الإذاعة البريطانيّة “البي بي سي” التي تعدّ واحدة من أعرق وأهم مؤسسات الإعلام العمومي في العالم.
فبموجب القانون في بريطانيا، تدفع جميع الأسر ـمع بعض الاستثناءات والإعفاءات ـ سنويّا مبلغا قدره حاليا 159 جنيها إسترلينيا أي ما يعادل أكثر من 600 دينار تونسي.
هذه الضريبة السنوّية الاجباريّة ارتفعت تكلفتها في العقدين الماضيين بفعل التضخم حيث كانت تقدّر في سنة 2000 بما قدره 104 جنيها إسترلينيا، كما أنّ الشخص الذي لا يدفع رسوم الترخيص يمكن مقاضاته حيث يعتبر متهربا ضريبيّا إذ تمّ في عام 2019 رفع أكثر من 122 ألف دعوة قضائيّة وأكثر من 114 إدانة بتهمة التهرب من ترخيص التلفزيون حسب ما ورد في تقرير لموقع البي بي سي.
في عام 2019، تمّ جمع ما يقرب عن 3.7 مليار جنيه استرليني من خلال رسوم الترخيص وهو ما يمثل حوالي 76 بالمائة من إجمالي دخل البي بي البالغ 4.9 مليار جنيه استرليني.
مقابل هذه الضريبة، تلتزم مؤسسة البي بي سي في ميثاقها الملكي بـ” العمل من أجل المصلحة العامة” من خلال توفير محتوى “محايد وعالي الجودة ومميّز” والذي من شأنه “إخبار وتثقيف وترفيه” كلّ من يدفع رسوم الترخيص.
فأي أوجه اختلاف في التجربة التونسيّة التي تمّ فيها اعتماد أداء ضريبي تحت مسمّى”معلوم الإذاعة والتلفزة” يوظف في فاتورة استهلاك الكهرباء منذ زهاء 42 سنة؟
معلوم الإذاعة والتلفزة…أداء ضريبي يعود إلى قانون المالية لسنة 1980
بعثت أوّل محطة إذاعية تونسيّة في سنة 1938. وبعد الاستقلال، أنشئت بمقتضى الأمر المؤرخ في 25 أفريل/نيسان 1957 “الإذاعة والتلفزة التونسيّة” والتي أصبحت تسمّى لاحقا “مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسيّة” طبقا للقانون عدد 49 المؤرخ في 7 ماي /أيار 1990.
بخصوص البثّ التلفزي فقد شهد انطلاقته في 31 ماي/ أيار 1966. وقد بقيت التلفزة والإذاعة في وضع اندماجي ضمن نفس المؤسسة إلى غاية سنة 2007 حيث تمّ فصل المجالين الإذاعي والتلفزي وإحداث التلفزة التونسيّة في شكل مؤسّسة عمومية تمّ تصنيفها كمنشأة عموميّة وفقا للقانون عدد 33 الصادر في 4 جوان/ حزيران من نفس السنة.
تتمثّل مهام التلفزة التونسية أساسا في القيام بالمرفق العمومي التلفزي وإثراء المشهد السمعي البصري وتطوير إنتاج الأعمال السمعيّة البصريّة والومضات وتسويقها وبيع مساحات الإشهار وشراء حقوق المنتوجات قصد بثها أو بيعها إضافة إلى استغلال فضاءات ومعدات الإنتاج التلفزي وإنتاج الأعمال الدراميّة والأفلام التلفزيّة والمسلسلات والأشرطة الوثائقيّة.
تضمّ مؤسسة التلفزة التونسيّة اليوم 3 قنوات تلفزيّة وهي القناة الوطنيّة الأولى التي تبثّ نشرة الأخبار الأشهر والأكثر مشاهدة في تونس يوميّا في الثامنة مساء، فضلا عن القناة الوطنيّة الثانية (قناة 21 سابقا) والقناة التربوية.
بدورها، تعتبر مؤسسة الإذاعة التونسية منشأة عموميّة منفصلة عن التلفزيون العمومي منذ سنة 2007 وهي الأخرى تخضع لإشراف رئاسة الحكومة وتتمثل مهامها خاصة في القيام بالمرفق العمومي الإذاعي وإنتاج الأعمال السمعيّة والومضات الإشهاريّة وتسويقها وبيع مساحات الإشهار والمحافظة على المخزون السمعي.
تضمّ مؤسسة الإذاعة التونسيّة حاليا 12 محطة إذاعيّة عموميّة من بينها 4 إذاعات مركزيّة (الإذاعة الوطنيّة، تونس الثقافيّة، تونس الدوليّة، إذاعة الشباب) و5 جهويّة (الكاف، صفاقس، تطاوين، المنستير، قفصة) بالإضافة إلى إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم (مؤسسة مصادرة ملحقة حديثا بالإعلام العمومي نظرا لخصوصيتها الدينيّة) وإذاعة بانوراما والإذاعة المحلّية القصرين.
إلى حدود سنة 1979، كانت الدولة التونسيّة تفرض معلوما مستخلصا على أجهزة تلقي الإذاعة والتلفزة وذلك بناء على القانون عدد 105 لسنة 1959 والذي نقح بالقانون عدد 13 لسنة 1966.
غير أنّ هذا المعلوم المستخلص على أجهزة التلقي سيلغى بمقتضى قانون المالية لسنة 1980 الذي أحدثت بمقتضاه مساهمة لفائدة الميزانية الملحقة للإذاعة والتلفزة التونسيّة تقع تأديتها من قبل المشتركين في شبكة الكهرباء الخاص بالتنوير المنزلي.
وقد كلّفت الشركة التونسيّة للكهرباء والغاز، وفق الفصل 27 من نفس القانون، باستخلاص هذه المساهمة كما تتوّلى ـنفس الشركةـ دفع المعاليم التي تمّ تجميعها لفائدة الميزانية الملحقة للإذاعة والتلفزة التونسيّة وذلك في أجل أقصاه موفى الشهر الذي يتمّ خلاله استخلاص المساهمة.
ما يمكن ملاحظته في هذا المضمار أنّ المدونة التشريعيّة الخاصة بمعلوم الإذاعة والتلفزة قد شهدت عديد التحويرات أوّلها في قانون المالية لسنة 1983 ثمّ في قانون المالية لسنة 1987.
ويعدّ قانون المالية لسنة 1992 آخر نصّ قانوني تمّ من خلاله تنقيح هذه الضريبة حيث تمّ الترفيع في قيمتها المالية خلال عمليّة الاحتساب وفقا لكميّة الاستهلاك بالكيلواط/ساعة.
ضريبة مباشرة لا تتجاوز قيمتها 52 دينارا سنويّا
على عكس ما يشاع من حين لآخر في صفحات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك من معطيات مضلّلة ومغلوطة حول زيادات قد تكون طرأت على هذا المعلوم، فإنّ هذه الضريبة المباشرة التي تدفع عبر فواتير الشركة التونسية للكهرباء والغاز حسب كميّة الاستهلاك ودون مراعاة للدخل المادي لكلّ أسرة تونسيّة (صاحبة عدّاد كهربائي) سواء كانت غنيّة أو فقيرة أو متوسطة، لم تشهد أي ترفيع فيها منذ سنة 1992 تاريخ آخر تنقيح قانوني.
فبحسب قانون المالية لسنة 1992، تمّ ضبط مقدار المساهمة حسب الفاتورة المحدّدة من قبل الشركة التونسيّة للكهرباء والغاز حيث تمّ إعفاء كلّ صاحب/ة عدّاد من دفع هذه الضريبة في حال ما كان إجمالي الاستهلاك يقدّر بما هو بين 1 و 50 كيلواط ساعة خلال شهرين.
في الصنف الثاني، أي من تكون كميّة الاستهلاك لديه بين 1 و 300 كيلواط ساعة خلال مدّة شهرين فإنّ مبلغ المساهمة يحتسب بما قيمته 10 مليمات توظف على كلّ كيلواط ساعة (مع فرض إعفاء على 50 كيلواط) .
وفي الفئة الثالثة والأخيرة، أي من يكون استهلاكه خلال شهرين بين 301 إلى ما فوق فإنّ كميّة الاستهلاك المحتسبة في هذا المستوى توظف عليها 4 مليمات حسب الكيلواط ساعة.
يؤكد مدير الإدارة التجارية والتسويق بالشركة التونسيّة للكهرباء والغاز سامي بن حميدة في تصريح لموقع الكتيبة أنّ المشرّع من خلال التنقيحات التي أدخلها على النصّ القانوني الخاص بمعلوم الإذاعة والتلفزة قد استثنى عددا من الشرائح من الدفع.
وتتمثّل هذه الإعفاءات من دفع الأداء الآنف ذكره في استثناء كلّ من له عدّادات تسخين الماء والري الفلاحي ودور الشباب والثقافة ودور العبادة والتنوير العمومي والجمعيات الرياضية والثقافية ذات الصبغة غير الربحيّة.
ويشدّد بن حميدة على أنّ المشرّع قام بوضع سقف مالي لهذا المعلوم حيث لا يتجاوز بالضرورة كحدّ أقصى 7 دينارات خلال مدّة الشهرين ما يعني أنّ أقصى ما يمكن أن يدفع سنويا ضمن هذا الإطار 52 دينارا (17 دولار).
على سبيل المثال، يوضح المدير التجاري بمؤسّسة “الستاغ” سامي بن حميدة كيفية احتساب هذا المعلوم قائلا: ” لنفترض أنّ عائلة تونسية قامت باستهلاك 450 كيلواط ساعة خلال فترة شهرين. في هذه الحالة تكون هناك 50 كيلواط ساعة معفاة في البداية ثمّ نقوم بضرب 250 كيلواط في 10 مليمات ما يساوي 2.5 دينارا تونسيّا بناء على التعريفة الخاصة بالفئة الثانية. بعد ذلك نقوم بضرب 150 كليواط ساعة المتبقيّة والتي تصنف في خانة الفئة الثالثة التي تبلغ قيمة استهلاك كلّ كيلواط ساعة فيها بـ 4 مليمات ما يساوي 600 مليم. في هذه الحالة يقدّر معلوم الاذاعة التلفزة في الفاتورة التي ترسل إلى الحريف بـ 3 دينارات ومائة مليم.”
ويضيف سامي بن حميدة أنّ معلوم الإذاعة والتلفزة يوظف على فواتير الاستهلاك المنزلي كما يوظف على فواتير الشركات لكن لا مفرّ من اعتماد المبلغ المقدّر بـ 7 دينارات في الشهرين حتّى وإن كانت كميّة الاستهلاك كبيرة جدا.
” مهما بلغت كميّة الاستهلاك في الفاتورة خلال مدّة شهرين، فإن معلوم الإذاعة والتلفزة لا يمكن أن يتجاوز سقف الـ 7 دينارات. هذا الحدّ الأقصى مضبوط بالقانون”.
المدير التجاري في “الستاغ” سامي بن حميدة
في هذا الإطار، ومن خلال العودة إلى نصّ قانون الماليّة لسنة 1992 الصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسيّة بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأوّل لسنة 1991 الذي تمّ فيه تعديل المساهمة الراجعة لمؤسّسة الإذاعة والتلفزة وقتها قبل الفصل، نعثر على الفصل 73 الذي ينص على أنّه لا يمكن أن يتجاوز مبلغ المساهمة دينارين وثمانمائة مليم بالنسبة لكلّ فاتورة استهلاك وذلك إذا لم يتجاوز الاستهلاك خلال فترة الشهرين المعتمدة لتحرير الفاتورة، 300 كليواط ساعة.
أمّا إذا تجاوز الاستهلاك 300 كيلواط/ ساعة خلال نفس الفترة فإنّ المبلغ الأقصى يكون أربعة دنانير ومائتي مليم زيادة عن المساهمة الأولى التي أقصاها ديناران وثمانمائة مليم.
هذه المعطيات تدفعنا مباشرة للتساؤل عن القيمة المالية السنوية المتأتية من هذا المعلوم وعن كيفية التصرف فيها لاحقا بعد جمعها من قبل الشركة التونسيّة للكهرباء والغاز.
405 مليون دينار في غضون 12 سنة
تفيد البيانات الرسميّة التي تحصّل عليها موقع الكتيبة من الشركة التونسية للكهرباء والغاز بناء على قانون النفاذ إلى المعلومة، أنّ القيمة الجملية السنويّة لاقتطاعات معاليم الإذاعة والتلفزة قد بلغت خلال الفترة الممتدة بين سنتي 2010 و2021 مبلغا يناهز 405 مليون دينار.
وقد تطوّر مجموع الاقتطاعات من قرابة 34.5 مليون دينار سنة 2010 إلى حوالي 43 مليون دينار سنة 2021.
خلال نفس الفترة الزمنية (2010ـ 2022) تحصّلت التلفزة التونسية على تحويلات مالية من الشركة التونسية للكهرباء والغاز تحت عنوان النصيب المتأتي من معلوم الإذاعة والتلفزة على مبلغ قدره 251 مليون دينار. في حين تحصلت مؤسسة الإذاعة التونسية على مبلغ قدره 154 مليون دينار.
في سنة 2021 على سبيل الذكر، تحصلت الإذاعة التونسية على أكثر من 16 مليون دينار متأتيّة من تحويلات “الستاغ”. أما نصيب التلفزة التونسيّة فقد بلغ حوالي 27 مليون دينار.
ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار، أنّ المبالغ التي يتمّ تجميعها من خلال معلوم الإذاعة والتلفزة لا توزّع بالتساوي بين مؤسستي الإذاعة والتلفزة. فنصيب مؤسسة التلفزة يقدّر بـ62 بالمائة من المبلغ الإجمالي. في حين يبلغ نصيب الإذاعة التونسيّة 38 بالمائة.
يوضح مدير الإدارة التجارية في “الستاغ” سامي بن حميدة، أنّ المبالغ المالية التي يتم تجميعها في إطار معلوم الإذاعة والتلفزة لا يتم تحويلها إلى وزارة المالية بل هي تذهب مباشرة إلى مؤسستي الإذاعة والتلفزة عبر صندوق خاص، نافيا أن تكون الشركة التونسية للكهرباء والغاز تتحصّل على نسبة من هذه الأموال في شكل اقتطاع أو أداء فهي مجرد وسيط في العملية وذلك وفق ما يضبطه القانون، وفق تعبيره.
“المبالغ المجمعة من معلوم الإذاعة والتلفزة تذهب مباشرة إلى المؤسستين دون المرور عبر وزارة المالية وذلك بشكل دوري. والشركة التونسية للكهرباء والغاز لا تتحصلّ على أي مليم من هذه العملية فهي مجرد وسيط”.
المدير التجاري في “الستاغ” سامي بن حميدة
على خلاف الفكرة المغلوطة السائدة لدى العديد من التونسيات/ين والتي مفادها أنّ تمويل الإعلام العمومي السمعي البصري في تونس يكون فقط عبر الأموال الضريبيّة المتأتيّة من فاتورة “الستاغ”، فإنّ معلوم الإذاعة والتلفزة لا يغطي سوى أقل من 50 % من مداخيل مؤسسة التلفزة التونسيّة.
بين سنتي 2010 و2020، ارتفعت ميزانية مؤسسة التلفزة التونسيّة من 47 مليون دينار إلى 63 مليون دينار.
خلال هذا العام المرجعي الأخير المشار إليه (2020)، تحصلت التلفزة التونسية على مبلغ قدره 24.5 مليون دينار من مداخيل متأتية من المبالغ المجمعة من قبل الشركة التونسية للكهرباء والغاز تحت عنوان معلوم الإذاعة والتلفزة.
هذه الثغرة المتواصلة في ميزانية التلفزة التونسيّة، ولاسيما مع تنامي المصاريف (خاصة كتلة الأجور وتكاليف الإنتاج مع ضعف مداخيل الإشهار)، ساهمت في تنامي القيمة المالية لما تسمىّ بمنحة التوازن التي تمنح من ميزانية رئاسة الحكومة في إطار دعم الإعلام العمومي السمعي البصري في مواجهة اختلال الميزانية بين قيمة المداخيل وقيمة المصاريف.
في سنة 1987، ووفقا لقانون الماليّة وقتها، بلغت ميزانية مؤسسة الاذاعة والتلفزة (معا قبل الانفصال في 2007) أكثر من 10,5 مليون دينار. وقد كان معلوم الإذاعة والتلفزة يوفر مداخيل للمؤسسة تقدّر بحوالي 7.5 مليون دينار أي حوالي ¾ الميزانية حيث لم تتجاوز منحة التوازن التي كانت تصرف من الميزانية العامة للدولة 3 مليون دينار.
بين سنتي 2008 و2021، تطورت منحة التوازن المسندة لفائدة التلفزة التونسيّة من 13 مليون دينار إلى 31 مليون دينار.
يبلغ حاليا عدد العاملين في التلفزة التونسيّة 1083 عونا. وتمثّل كتلة الأجور ⅔ من إجمالي الميزانية أي حوالي 42 مليون دينار من إجمالي 63 مليون وفق إحصائيات سنة 2020.
من المهم في هذا المضمار الإشارة إلى أنّ معدلّ الموارد الماليّة المتأتيّة شهريّا من “الستاغ” في إطار المعلوم المشار إليه آنفا لا يتجاوز 2 مليون دينار.
بين 2010 و2021، لم تشهد مداخيل مؤسّسة الإذاعة التونسية ارتفاعا كبيرا في عائداتها المتأتية من معلوم الإذاعة والتلفزة الذي يوظف على المواطنين في فاتورة استهلاك الكهرباء. فقد كانت تبلغ 13 مليون دينار في سنة 2010 لتستقرّ في حدود 16 مليون دينار سنة 2021.
وبحسب معطيات رسميّة تحصلّ عليها موقع الكتيبة وفقا لطلب نفاذ إلى المعلومة وجّه لإدارة الإذاعة التونسيّة، فإنّ عدد العاملين في المؤسسة حاليا يقدر 1064 عونا في مختلف الإذاعات (الـ12) المركزية والجهويّة والمحليّة.
في سنة 2021، بلغت ميزانية مؤسسة الإذاعة التونسيّة 51 مليون دينار. مثّلت كتلة الأجور المنجزة في نفس العام ما قدره 44 مليون دينار. وقد حصلت المؤسسة على مبلغ قدره حوالي 31 مليون دينار في صيغة منحة التوازن التي تمنح من الدولة مباشرة من ميزانية رئاسة الحكومة. ولم تتجاوز عائدات الإشهار سوى 1.6 مليون دينار.
من هذا المنطلق، تطرح الأزمة التي يعاني منها الإعلام العمومي في تونس اليوم لاسيما السمعي البصري، أسئلة واخزة وحارقة في الآن ذاته حول التكلفة الباهظة لاستمرارية غياب الرؤى الإصلاحية التي من شأنها دعم استقلالية هذا الصنف من الإعلام وآليات الحوكمة فيه، فضلا عن تحسين جودة مضامينه المقدمة لفائدة المواطن/ دافع الضرائب. فأيّ مستقبل ينتظر مؤسستي الإذاعة والتلفزة التونسيتين في ظلّ تنامي المصاريف بشكل جعل معلوم الإذاعة والتلفزة لا يغطي سوى النزر القليل من مداخيل الميزانية التي أصبحت رهينة منحة التوازن التي تمنحها رئاسة الحكومة/ السلطة التنفيذية.
أي مصير لمعلوم الإذاعة والتلفزة؟
في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، نشر إبراهيم الوسلاتي الصحفي والكرونيكور السابق في البرنامج الحواري السياسي “الوطنيّة الآن” الذي تقدمه المنشطة إنصاف اليحياوي على شاشة القناة الوطنية الأولى، تدوينة على صفحته في الفيسبوك معتبرا في متنها أنّ “التنكيل الحقيقي بالشعب يتمّ من قبل الشركة التونسية للكهرباء والغاز التي يتمتّع أعوانها بمجانية الحصول على الغاز والكهرباء”، مضيفا بالقول: “ما ذنب المواطن لكي يدفع مثل هذه المبالغ المنتفخة من الأداءات دون احتساب قيمة الاستهلاك…لماذا لا يتدخل رئيس الدولة ـ يقصد قيس سعيّد ـ الماسك بجميع السلطات للتخفيض من الأداءات والتقليص من امتيازات الأعوان ولم لا حذفها وإلغاء معلوم الإذاعة والتلفزة.”
في الحقيقة، لا تمثّل هذه الدعوة لإلغاء معلوم الإذاعة والتلفزة حالة شاذة حيث كثيرا ما يتم رصد دعوات من هذا القبيل من جمهور هذا الطرف السياسي أو ذاك أو حتى من مواطنين عاديين لاسيما حينما يكون هناك غضب على أداء مؤسسة التلفزة التونسيّة على وجه الخصوص التي وجّهت لها بعد 25 جويلية/ تموز 2021 اتهامات بالانحياز لفائدة الرئيس قيس سعيّد إثر التدابير الاستثنائية التي أقرّها.
في شهر ديسمبر/كانون الأوّل من سنة 2022، صرّح نقيب الصحفيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي بأنّ التلفزة التونسية ” صارت مؤسسة حكومية رئاسيّة ناطقة باسم السلطة.”
محمد ياسين الجلاصي نقيب الصحفيين التونسيين
محمد ياسين الجلاصي نقيب الصحفيين التونسيين
بعيدا عن الدعوات العدائية والشعبوية التي تنادي بإلغاء الإعلام العمومي وقطع صنبور التمويل عنه سواء المتأتي مباشرة من ميزانية الدولة أو عبر ضريبة توظف على الأُسر/ المواطنين، يقول عضو هيئة الاتصال السمعي البصري هشام السنوسي إنّ “السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح وأن يتم فيه الحسم من خلال قرار سياسي هو هل تريد الدولة إعلاما عموميا أم لا؟”.
ويضيف السنوسي في تصريحه لموقع الكتيبة أنّ الإعلام العمومي هو فضاء ديمقراطي يشجع على التداول السلمي على السلطة حينما يفتح أبوابه لممثلي المعارضة والسلطة والمجتمع المدني على حدّ سواء على قاعدة التعدّدية والتنوع، مؤكدا ضرورة التنصيص على هذا في النصوص القانونية.
“عندما يحسم مستقبل الإعلام العمومي بقرار سياسي واضح وقتها لن تكون مسألة التمويل صعبة، إذ يمكن مناقشتها داخل المجتمع لا في القطاع الإعلامي فقط. إنّ مصير الإعلام العمومي هو قضيّة مجتمعيّة بالأساس”.
عضو “الهايكا” هشام السنوسي
وفي السياق ذاته، يرى السنوسي أنّ الفاعل السياسي لم ينضج بعدُ تجاه فكرة استقلالية الإعلام العمومي الذي يفترض أن يفسح له المجال لمخاطبة الجمهور كما هو الحال بالنسبة إلى المعارضة، مشدّدا على أنّ الإعلام العمومي هو محرار يمكن من خلاله أن نحلّل ونقوم بتوصيف مدى ديمقراطية أي حكومة تمرّ بتجربة الحكم.
وقد دعا ذات المتحدث إلى ضرورة تنظيم وتقنين مسألة تمويل الإعلام العمومي من خلال وضع قواعد أساسيّة وفقا للمعايير الديمقراطية لكي لا يتحوّل هذا التمويل إلى وسيلة للضغط والتدخل في استقلاليّة المؤسسة الإعلاميّة العموميّة أو توجيه الخطّ التحريري، مردفا بالقول: “شخصيا أنا مع حوكمة الإشهار لا حرمان الإعلام العمومي منه لكن شريطة وضع ضوابط له من خلال مدّة محدّدة وهذا من شأنه أن يسمح بانتقاء الإشهار بناء على كرّاس شروط توضع للغرض مع ضرورة أن تكون مدّة الإشهار في الساعة في الإعلام العمومي أقلّ من الإعلام الخاص.
كما شدّد السنوسي على “ضرورة إنجاز دراسة شاملة ومستفيضة حول علاقة الإعلام العمومي بالجمهور لكي نعرف ماذا يريد هذا الجمهور/ دافع الضرائب من الإعلام العمومي”، مبينا أنّه “لا يمكن تطوير الإعلام العمومي في ظلّ كتلة أجور مرتفعة من إجمالي الميزانية وهو ما يحول دون تطوير المضامين”، ومبرزا في الآن ذاته أنّ هذا الإشكال يجب التفكير فيه خارج الضغط الذي تمارسه بعض النقابات وأيضا خارج منطق “رزق البيليك” والتوريث (مقولة تاريخية من التراث التونسي تستعمل لاستنكار إهدار المال العام واستباحة أملاك الدولة/ المجموعة الوطنية) وفق قوله.
كما يعتبر عضو هيئة الاتصال السمعي البصري هشام السنوسي أنّنا اليوم “لسنا بصدد إعلام عمومي بل نحن إزاء إعلام حكومي أو في أدنى الحالات هو إعلام هجين”.
في سنة 2019، وقّعت هيئة الإتصال السمعي البصري عقد أهداف ووسائل مع مؤسسة التلفزة التونسيّة في عهد حكومة يوسف الشاهد.
وقد وصفت “الهايكا” وقتها هذا العقد بأنّه من الخطوات المهمة في مسار إصلاح الإعلام العمومي إلى جانب تكريس آلية الرأي المطابق في تعيين الرؤساء المديرين العامين والقطع مع مخلفات الإعلام الحكومي والعبور للإعلام العمومي وحسم استقلاليته.
هذا العقد الذي وُقّع بين هيئة الاتصال السمعي البصري ومؤسسة التلفزة التونسيّة في عهد الرئيس المدير العام محمد لسعد الداهش، كان محلّ نقد من قبل الباحث الأكاديمي وأستاذ الإعلام والإتصال بجامعة منوبة الصادق الحمامي الذي انتقد ما أسماه استبعاد المؤسسات العمومية الأخرى مثل الإذاعة التونسية من آلية التعاقد.
الصادق الحمامي أستاذ جامعي مختص في مجال الإعلام والاتصال
الصادق الحمامي أستاذ جامعي مختص في مجال الإعلام والاتصال
كما انتقد الحمّامي غياب الاستشارة العمومية وغياب الشفافية، معتبرا أنّه لا يمكن إصلاح الإعلام العمومي بشكل جزئي وفوقي فالحلّ يكمن في إجتراح مقاربة إصلاحية شاملة تراعي الخصوصيّة التونسية بعيدا عن الاستنساخ وفق قوله.
في هذا السياق، يستشهد الحمّامي بالتجربة البريطانية أين نشرت الحكومة في سنة 2015 ما يسمّى بـ”الكتاب الأخضر” عن حالة “بي بي سي” ومستقبلها، وهو نتاج استشارة شارك فيها قرابة 190 ألف بريطاني/ة وبعد أن شارك أيضا مسؤولو نفس المؤسسة “هيئة الإذاعة البريطانية” في عشرات الورشات التي انتظمت في مختلف المدن.
يكشف تقرير صادر عن هيئة الاتصال السمعي، تراجع التعدّديّة السياسيّة في مؤسسة التلفزة التونسية بعد إجراءات 25 جويلية/ تموز 2021 التي أقرّها رئيس الجمهورية قيس سعيّد حيث تمّ تغييب العديد من الأحزاب السياسيّة، فضلا عن الانحياز الواضح لرئيس السلطة التنفيذية صاحب الصلاحيات الواسعة بعد تعليق عمل البرلمان المنتخب ثمّ حلّه.
في المحصلة، يمكن القول إنّ الديمقراطيات تكون أكثر قوّة حينما يكون لها إعلام عمومي حرّ ومستقلّ وتعدّدي يخدم الصالح العام. لكن في الحالة التونسية لا يمكن الحسم في موضوع تمويل الإعلام العمومي بما في ذلك مسألة معلوم الإذاعة والتلفزة الذي يثير جدلا واسعا منذ عقود في العديد من الدول، دون نقاش مجتمعي ديمقراطي يكون مشفوعا بقرار سياسي يبنى على قاعدة قواعد وشروط واضحة تكرّس مفهوم الإعلام العمومي وتقطع مع موروث الإعلام الحكومي المرتهن للحكومات والرؤساء والأحزاب الحاكمة.
يجمع هذا المقال بين الصحافة التفسيريّة وصحافة البيانات. وقد اعتمد فيه فريق الكتيبة أساسا على معطيات وبيانات رسميّة تحصلنا عليها من الشركة التونسية للكهرباء والغاز. ويهمنا في هذا الإطار التأكيد على أنّ الهدف الوحيد من طرح هذا الموضوع هو إنارة الرأي العام حول مصادر تمويل الإعلام العمومي السمعي البصري لاسيما تلك المتأتية من فاتورة "الستاغ" أي من دافعي الضرائب تكريسا للشفافية وتفنيدا للعديد من المعطيات الزائفة والمعلومات المغلوطة الرائجة حول هذا الملف. كما أنّه من المهم الإشارة أيضا إلى أنّ مؤسسة التلفزة التونسية ووزارة المالية لم يتجاوبا معنا في علاقة بمطالب النفاذ إلى المعلومة المقدمة إليهما وفقا للقانون المنظم للعمليّة.
يجمع هذا المقال بين الصحافة التفسيريّة وصحافة البيانات. وقد اعتمد فيه فريق الكتيبة أساسا على معطيات وبيانات رسميّة تحصلنا عليها من الشركة التونسية للكهرباء والغاز. ويهمنا في هذا الإطار التأكيد على أنّ الهدف الوحيد من طرح هذا الموضوع هو إنارة الرأي العام حول مصادر تمويل الإعلام العمومي السمعي البصري لاسيما تلك المتأتية من فاتورة "الستاغ" أي من دافعي الضرائب تكريسا للشفافية وتفنيدا للعديد من المعطيات الزائفة والمعلومات المغلوطة الرائجة حول هذا الملف. كما أنّه من المهم الإشارة أيضا إلى أنّ مؤسسة التلفزة التونسية ووزارة المالية لم يتجاوبا معنا في علاقة بمطالب النفاذ إلى المعلومة المقدمة إليهما وفقا للقانون المنظم للعمليّة.
الكاتب : محمد اليوسفي
رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة
الكاتب : محمد اليوسفي
رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة