الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير المحتوى العربي بموقع ”الكتيبة“. صحفي ومدرب في مجال الإعلام وباحث دكتوراه.

” راتبي الشّهري يقدّر بـ 1350 دينارا، لكن في نفس الوقت يتمّ اقتطاع قرابة 150 دينارا من قبل البنك الخاصّ الذي فتحت فيه حسابي .. حينما حاولت في عديد المرّات البحث عن تبريرات وتفسيرات من قبل أعوان البنك أجد نفسي دون أي إجابة مقنعة فهم -مثلما يقول المثل- يدخلونني من الباب ليخرجوني من النافذة خالي الوفاض .. لقد أصبح البنك شريكا لي في جرايتي الشهرية .. اقتطاعات لا تحصى ولا تعدّ تارة بقيمة 36 دينارا وتارة أخرى بقيمة 9 دينارات .. حينا آخر بقيمة 42 دينارا وأحيانا أخرى بقيمة 25 دينارا .. نحن إزاء سطو شهري غير قانوني يطال حساباتنا البنكيّة تحت يافطة اقتطاعات وأداءات لا نعلم عنها شيئا رغم أنّي أحمد الله لأنّني لم أتقّدم للحصول على أيّ قرض وإلاّ لكان الوضع أكثر كارثية”.

بنبرة صوت حانقة تنطوي على أسلوب ساخر لا يخلو من مرارة واستغراب، تحدّثت الأستاذة إيمان (42 سنة)، وهي موظفة في وزارة التربية التونسيّة تعمل كمدرّسة في التعليم الثانوي، إلى موقع الكتيبة عن تجربتها مع البنوك الخاصّة التي وصفتها بالمتوحشّة، متسائلة عن سرّ تعطيل مشروع البنك البريدي الذي بات بمثابة المطلب الشعبي لاسيّما لدى الفئات الاجتماعية المتوسّطة والضعيفة في تونس.

تضيف محدّثتنا في نفس السياق:” أعتقد أنّ البنك البريدي أصبح ضرورة قصوى .. أنا لم أفهم لماذا تمّ تعطيل هذا المشروع .. لي الكثير من الزميلات والزملاء الذين رفضوا الدخول تحت عباءة البنوك القائمة حاليّا .. لقد اختاروا فتح حسابات جارية في مؤسسة البريد لتنزيل رواتبهم الشهريّة فيها .. اختاروا هذا الحلّ هربا من البنوك الجشعة والمتوحشة”.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير المحتوى العربي بموقع ”الكتيبة“. صحفي ومدرب في مجال الإعلام وباحث دكتوراه.

” راتبي الشّهري يقدّر بـ 1350 دينارا، لكن في نفس الوقت يتمّ اقتطاع قرابة 150 دينارا من قبل البنك الخاصّ الذي فتحت فيه حسابي .. حينما حاولت في عديد المرّات البحث عن تبريرات وتفسيرات من قبل أعوان البنك أجد نفسي دون أي إجابة مقنعة فهم -مثلما يقول المثل- يدخلونني من الباب ليخرجوني من النافذة خالي الوفاض .. لقد أصبح البنك شريكا لي في جرايتي الشهرية .. اقتطاعات لا تحصى ولا تعدّ تارة بقيمة 36 دينارا وتارة أخرى بقيمة 9 دينارات .. حينا آخر بقيمة 42 دينارا وأحيانا أخرى بقيمة 25 دينارا .. نحن إزاء سطو شهري غير قانوني يطال حساباتنا البنكيّة تحت يافطة اقتطاعات وأداءات لا نعلم عنها شيئا رغم أنّي أحمد الله لأنّني لم أتقّدم للحصول على أيّ قرض وإلاّ لكان الوضع أكثر كارثية”.

بنبرة صوت حانقة تنطوي على أسلوب ساخر لا يخلو من مرارة واستغراب، تحدّثت الأستاذة إيمان (42 سنة)، وهي موظفة في وزارة التربية التونسيّة تعمل كمدرّسة في التعليم الثانوي، إلى موقع الكتيبة عن تجربتها مع البنوك الخاصّة التي وصفتها بالمتوحشّة، متسائلة عن سرّ تعطيل مشروع البنك البريدي الذي بات بمثابة المطلب الشعبي لاسيّما لدى الفئات الاجتماعية المتوسّطة والضعيفة في تونس.

تضيف محدّثتنا في نفس السياق:” أعتقد أنّ البنك البريدي أصبح ضرورة قصوى .. أنا لم أفهم لماذا تمّ تعطيل هذا المشروع .. لي الكثير من الزميلات والزملاء الذين رفضوا الدخول تحت عباءة البنوك القائمة حاليّا .. لقد اختاروا فتح حسابات جارية في مؤسسة البريد لتنزيل رواتبهم الشهريّة فيها .. اختاروا هذا الحلّ هربا من البنوك الجشعة والمتوحشة”.

ماذا يمكن أن نعرف عن قصّة مشروع “البنك البريدي” والذي تعود جذوره إلى ما قبل الثورة في 2011؟ لماذا رفض البنك المركزي مؤخّرا منح البريد التونسي رخصة بعث بنك بريدي رغم أنّ مثل هذا المشروع رأى النور في العديد من الدول القريبة من تونس على غرار المغرب، فرنسا، مالطا الخ؟

من المستفيد من تعطيل هذا المشروع الوطني الذي يمكن أن يكون له دفع ايجابي للاقتصاد التونسي المتدهور بطبعه من خلال الترفيع في نسبة الإدماج المالي وفتح آفاق تنموية جديدة خاصة في الجهات الداخلية المحرومة والمنكوبة تنمويا؟

ومن هي الأطراف السياسيّة التي وقفت حجر عثرة أمام هذا المشروع الذي كان يمكن أن يتجسّد من خلال شراء البريد التونسي (منشأة عمومية) لحصص الدولة في رأسمال بنك تونس الإمارات أو البنك التونسي الكويتي الذي استحوذت عليه عائلة اللومي ذائعة الصيت في عمليّة مثيرة للجدل تحوم حولها شبهات تضارب مصالح وصفقة سياسيّة وفق مصادر مختلفة قريبة من الملف سنأتي على ذكر حيثياتها لاحقا في هذا التحقيق؟

تعليمات من رئاسة الحكومة أجهضت المحاولة الأولى

في شهر مارس/آذار من سنة 2016، كانت مؤسّسسة البريد التونسي (المؤسسة الرسميّة لخدمات البريد في الجمهوريّة التونسيّة التي تقدّم خدمات البريد العادي والبريد السريع والدفع الإلكتروني وتحويل الأموال وإيداعها، فضلا عن فتح حسابات جارية أو حسابات ادّخار دون الحقّ في منح قروض) قد قامت بتقديم خطّتها الاستراتيجية في مجلس وزاري ترأّسه رئيس الحكومة وقتها الحبيب الصيد.

وقد نصّت هذه الاستراتيجيّة في إحدى نقاطها على المشاركة في رأس مال أحد البنوك العمومية أو الخاصة لكي يتسنّى للمؤسّسة مستقبلا تقديم مجموعة من الخدمات المصرفية الجديدة.

على هذا الأساس، كان البريد التونسي قد أعلن في بلاغ إعلامي نشر بعد المجلس الوزاري المشار إليه آنفا أنّه من المنتظر أن يصبح قادرا على تقديم جملة من الخدمات المصرفيّة في مكاتبه بجميع أنحاء البلاد التونسيّة. ستشمل هذه الخدمات المواطنين الذين لا تتوفّر فيهم شروط الحصول على قروض بنكيّة.

وكان البريد التونسي وقد أعرب في نفس البلاغ عن رغبته، من خلال هذه الخدمات، في دفع التنمية بالمناطق المحرومة من خلال شبكة المكاتب الموزعة في كامل أنحاء البلاد حيث يمكن للحرفيّين وباعثي المشاريع الشبّان الحصول على قروض صغرى لبدء مشاريعهم الخاصة وبعد ذلك يمكنهم أيضا خلاص أقساط القرض عن طريق الهاتف الجوّال (أون لاين).

في الواقع، لم يكشف هذا البلاغ الرسمي المقتضب جميع حيثيات هذه الاستراتيجية التي كانت تحتوي على 3 سيناريوهات، وفق ما كشفه مصدر مطلع -طلب عدم كشف هويّته- خلال حديثه لموقع الكتيبة.

يقول مصدرنا، وهو مسؤول رفيع المستوى في المؤسّسة في ذلك الوقت، حول كواليس المجلس الوزاري المخصّص لملف البريد التونسي: “كانت هناك 3 سيناريوهات عرضت على أنظار رئيس الحكومة الحبيب الصّيد بحضور الوزراء المعنيين. سيناريو أوّل يتمثّل في اقتناء أسهم من بنك قائم من المحبّذ أن يكون عموميّا وهو أسهل حلّ لكي ترى فكرة البنك البريدي النور. السيناريو الثاني يتمثّل في بعث بنك جديد بالشراكة مع مؤسسات أخرى خاصة وعمومية وهذا يفترض الحصول على ترخيص من البنك المركزي مثلما هو الحال لبنك الوفاق الذي بعث بعد 2011 في ظروف سياسيّة يعلمها الجميع. أمّا السيناريو الثالث فهو أيضا يقوم على فكرة إحداث بنك جديد ولكن ليس مثل البنوك التقليدية الموجودة حاليّا بل الفكرة كانت تقوم على بعث بنك أون لاين بشراكة بين القطاعين العام والخاص خاصة وأنّ البريد التونسي له منصّة نقدية على ملكه”.

قام المجلس الوزاري آنذاك بترحيل الحسم السياسي في علاقة بفكرة بعث بنك بريدي إلى دراسة جديدة اشترط إنجازها عوض الحسم سياسيّا في دعم أحد السيناريوهات المعروضة على أنظاره.

كان، وقتها، على ذمّة البريد التونسي تمويل أوروبي بقيمة 1.2 مليون دينار لإنجاز هذه الدراسة الاستراتيجية التي تهمّ مجال تطوير خدمات المؤسّسة. وقد خلصت هذه الدراسة التي أنجزتها جهة فرنسية إلى تبنّي سيناريوهين اثنين، بحسب المصدر ذاته.

بعد رحيل حكومة الحبيب الصّيد ومجيء يوسف الشاهد للإشراف على مقاليد الحكم في القصبة في صيف 2016، حاول مجلس إدارة البريد التونسي جاهدا طيلة سنة 2017 عقد مجلس وزاري لمتابعة الموضوع المتعلق بالاستراتيجية المستقبلية للمؤسسة، ولاسيّما تطارح صيغة بعث البنك البريدي. غير أنّ حكومة الشاهد لم تُولِ أهمّية لمراسلات إدارة البريد التونسي التي ارتأت في النهاية الذهاب في سيناريو شراء أسهم الدولة التونسية في بنك تونس الإمارات، وهو الأكثر فاعليّة من حيث فرص النجاح لاعتبارات متعلقة بوضعية هذا البنك الذي كان في وضع أفضل من البنك التونسي الفرنسي الذي كان يمثّل السيناريو الثاني، وفق تعبير نفس المصدر.

يقول ذات المصدر:

في النهاية قمنا بإعداد ملفّ مشترك لاقتناء أسهم الدولة في بنك تونس الإمارات رفقة اتصالات تونس التي كانت تحتاج إلى ذراع مالية، فضلا عن مؤسسة “لاكارت” الخاصّة والتي تعمل في مجال التأمينات وتسعى الى الدخول في رأسمال مؤسسة بنكية وذلك قبل أن ينتهي بها المطاف لشراء أسهم في بنك “أُ بِ سِ إِ” (UBCI).

ويضيف المتحدّث ذاته، مسؤول سابق رفيع المستوى في مجلس إدارة البريد التونسي : “لقد اكتشفنا في 2017 أنّ الدولة التونسية كانت تريد التفويت في مساهمتها في رأسمال بنك تونس الإمارات الذي كان وضعه أفضل بكثير من وضع البنك التونسي الفرنسي. قمنا بإعداد ملفّ تقني مشترك في شكل تحالف وشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ بالتعاون مع مؤسسة “كاب بنك” المتخصّصة في إعداد الدراسات وتقديم الاستشارات في هذا المجال والتي يديرها الحبيب كراولي. كانت الفكرة تقوم على اقتناء مساهمة الدولة وتوزيعها بشكل ثلاثي يكون نصيب البريد التونسي فيها 49% فقط لكي لا تتحوّل المؤسسة إلى بنك عمومي لأنّ هذا السيناريو يطرح تعقيدات عديدة في علاقة بالقانون الخاص بالمنشآت العموميّة. كان المشروع عبارة عن بنك مختلط يقدّم من جهة خدمات مصرفية تقليدية وأخرى أون لاين (إلكترونية بصفر وثائق ورقية)”.

ومع بداية انتشار الخبر إعلاميا، وفي الوقت الذي كان فيه هذا التحالف الثلاثي يعدّ العدّة لتقديم عرض مالي رسمي للظفر بالصفقة مع مراعاة عدم التأثير لا على التوازنات المالية للبريد التونسي واتصالات تونس ولا على المالية العمومية، حصلت المفاجأة التي أسقطت العمليّة برمّتها في الماء وفق محدّثنا.

كان تدخّلُ وزير تكنولوجيات الاتصال وقتها أنور معروف حاسما في هذا المسار، حيث أنّ اتصالا هاتفيّا من الوزير المشار إليه أجهض العمليّة، إذ طلب الوزير من رئيس مجلس إدارة البريد التونسي معز شقشوق حينئذ سحب الملف بناء على تعليمات من رئاسة الحكومة في القصبة.

كانت حجّة رئيس الحكومة يوسف الشاهد وقتها ومستشاره الاقتصادي لطفي بن ساسي ظاهريّا -بحسب مصادر متقاطعة على اطّلاع وثيق على الملف- أنّ الدولة لا يمكن أن تعوّضها مؤسسات عمومية في البنوك التي تنوي التفويت في مساهماتها فيها بدعوى ” الرغبة في التفويت فيها للخواص”.

في نهاية شهر مارس/ آذار من سنة 2018، تمّ تعيين الرئيس المدير العام لمؤسسة البريد التونسي معز شقشوق الذي كان من أشدّ المتحمّسين والمدافعين عن فكرة بعث بنك بريدي في منصب مساعد مدير عام الاتصالات باليونسكو، ليتمّ بذلك إسدال الستار عن محاولة أولى أجهضت بإرادة سياسيّة لاسيما وأنّ هذا المدخل (اقتناء أسهم في بنك قائم الذات) كان يمثّل الطريق الأسهل والأقصر لتجنّب عقبة البنك المركزي الذي كان ومازال يمثّل عائقا حقيقيّا إزاء المشروع.

حول التعطيلات المتأتيّة من البنك المركزي، يقول محدثنا: “هناك لوبي قوي في الإدارة العميقة بالبنك المركزي ليس مساندا للمشروع .. لهذا حاولنا البحث عن طريقة أخرى لبعث المشروع. لقد كانت تحدونا قناعة راسخة بأنّ البنك المركزي لن يقبل أبدا بهذه الفكرة رغم أنّه بعد الثورة منح لبنك الوفاق، وهو بنك إسلامي، رخصة في سياق حكم حركة النهضة الإسلاميّة.”

للردّ على هذه المعطيات، حاول موقع الكتيبة طيلة أسابيع عديدة عقد لقاء صحفي في أكثر من محاولة مع محافظ البنك المركزي مروان العباسي ومدير الرقابة المصرفية بنفس المؤسسة نبيل فلفال، إلا أنّ جميع المحاولات باءت بالفشل. كما حاولنا التواصل مع الوزير السابق والقيادي بحركة النهضة أنور معروف الذي يخضع لملاحقات قضائيّة حاليّا في تونس وقد علمنا من مصادر في حزبه أنّه في فرنسا.

على الرغم من فشل هذه المحاولة الجدّية الأولى في بعث البنك البريدي دون التوجه إلى البنك المركزي للحصول على ترخيص إنشاء مؤسسة بنكية جديدة، فإنّ مساعي المؤسسة (البريد التونسي) لن تقف عند هذا الحدّ حيث تجدّدت المحاولات مع حلول الرئيس المدير العام الجديد جوهر الفرجاوي الذي سيعيّن في شهر مارس/ آذار 2018 في نفس المنصب خلفا لمعز شقشوق.

فيتو جديد ينضح بشبهات تضارب مصالح

على عكس ما يعتقد العديد من التونسيين.ـات، فإنّ مؤسسة البريد التونسي تخضع إلى إشراف وزارة تكنولوجيات الاتصال، فهي لا تتبع وزارة الماليّة كما يتبادر إلى ذهن البعض.
غير أنّه من المهمّ الإشارة إلى أنّ أموال المدّخرين (وهي تمثّل أرقاما ضخمة تقدّر بأكثر من 7 مليار دينار) في البريد التونسي تذهب إلى الخزينة العامّة للبلاد التونسية التي هي تحت إشراف وزارة المالية.

وبحسب مصادر من وزارة الماليّة التونسيّة فإنّ هذه الأخيرة لها مخاوف في علاقة بإمكانيّة خسارة موارد ماليّة ضخمة متأتية من موارد ادخار الحرفاء في البريد التونسي، علاوة عن أموال الحسابات البريديّة الجارية في حال بعث البنك البريدي. كما أنّ تأسيس بنك جديد (بريدي) يعني أنّ أمواله ستكون تحت مراقبة البنك المركزي وهو أمر ليس من السهل أن تستسيغه الوزارة ذاتها.

غير أنّ مصادر رفيعة المستوى في البريد التونسي صرّحت لموقع الكتيبة بأنّ الأموال التي كانت ستخصّص لاقتناء بنك قائم الذات في السوق المصرفية البنكية رفقة شركاء آخرين لن تكون مصادرها أموال الادّخار التي هي تحت إشراف وزارة الماليّة في الخزينة العامة للدولة، بل هي متأتّية من أموال الخدمات التكميليّة التي يقوم بها البريد والتي هي متوفّرة في خزائنه، وأنّ استعمال هذه الأموال لا يمكن أن يشكلّ خطرا لا على المؤسّسة ولا على الماليّة العموميّة.

كان من الواضح أنّه لا وجود لقرار سياسي واضح داعم لمشروع البنك البريدي. فزيادة عن هذا الإشكال المتعلّق بالتباين في وجهات النظر بين وزارتي الماليّة وتكنولوجيات الاتصال، فإنّ هذه الأخيرة ستمثّل مرّة أخرى عقبة أمام مجلس إدارة البريد التونسي الذي كان قريبا من شراء أسهم الدولة التونسيّة في البنك التونسي الكويتي.

“كنّا قريبين من اقتناء مساهمات الدولة التونسية في البنك التونسي الكويتي .. لكنّ الوزير فاضل كريّم أمر بسحب الملف”: بشيء من الحسرة تحدّث إلى موقع الكتيبة مصدر مسؤول في البريد التونسي وقتها -طلب عدم نشر هويّته- قائلا إنّ “الصفقة تمّ تمريرها إلى مجمع اللومي“.

يوضّح المصدر ذاته أنّه خلال إشراف جوهر الفرجاوي على مؤسسة البريد التونسي بين 2018 و2020 تمّ تغيير الاستراتيجية لكي يرى المشروع النّور حيث تمّ وضع مسارين اثنين في نفس الوقت.

ويضيف قائلا: “هناك حاليّا حوالي 65% من الشعب التونسي خارج شبكة الاندماج البنكي .. كنّا نسعى إلى بعث المشروع من أجل خدمة الفئات الهشة الفقيرة والمتوسّطة في بئر الحفي وفي حاسي الفريد وغيرها، لكن للأسف كانت هناك مصالح لرؤوس أموال كبيرة ونافذة حسمت الموضوع”.

يؤكد نفس المصدر رفيع المستوى أنّ عملية شراء البنك التونسي الكويتي كان يمكن أن تساعد البريد التونسي على ربح سنة على الأقلّ في مسار بعث البنك البريدي وقتها، حيث أكّدت الدراسة المنجزة للغرض أنّه يمكن تحقيق 100 مليون دينار من الأرباح على الأقل منذ العام الأوّل. غير أنّ هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب الفيتو الذي رفعه وزير تكنولوجيات الاتصال فاضل كريّم حول هذه المسألة، وفق قوله.

تجدر الاشارة في هذا السياق إلى وجود شبهات قويّة متعلّقة بتضارب مصالح في هذا الملف تحيط بوزير تكنولوجيات الاتصال، آنذاك، فاضل كريّم الذي تمّ تعيينه -بعد الاطاحة بحكومة المشيشي- عضوا بمجلس إدارة البنك التونسي الكويتي بمجرّد فوز مجمع اللومي بالصفقة.

تكشف وثائق داخلية للبريد التونسي تسنّى لموقع الكتيبة الاطّلاع عليها أنّ مشروع اقتناء مساهمات الدولة في البنك التونسي الكويتي لبعث مشروع البنك البريدي كان يقوم على فكرة تحالف وشراكة بين المؤسسة الآنف ذكرها التي كانت ترغب في الحصول على 49% من رأس المال و صندوق الودائع والأمانات الذي كانت ستحتسب مساهمته على أنّها مساهمة خاصّة، وذلك لتجنّب تعقيدات قانون المنشآت العمومية مجدّدا كما كان الحال في عمليّة محاولة شراء بنك تونس الإمارات.

ردّا على اتهامه بتضارب المصالح، يُجيب الوزير السابق لتكنولوجيات الاتصال فاضل كريّم انّ عملية اقتناء البنك التونسي الكويتي من قبل مجمع اللومي تمّت في جويلية/تمّوز 2021 وأنّ المنصب الذي عرض عليه من قبل أحد أعمدة المجمع رجل الأعمال فوزي اللومي (قيادي سابق في حركة نداء تونس الحزب الحاكم بين 2014 و2019 صحبة شقيقته سلمى اللومي الرقيق وزيرة السياحة ثمّ مديرة الديوان الرئاسي في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي) كان في شهر أكتوبر/تشرين الأوّل من العام نفسه في إشارة إلى عدم وجود ترابط بين الحدثين حسب زعمه.

ويضيف فاضل كريّم في نفس السياق: “كنت متردّدا في البداية في قبول المنصب في البنك التونسي الكويتي لكن في الأخير وافقت…الوضعية الماليّة للبنك هي التي كانت وراء رفض اقتنائه حينما كنت وزيرااستشرت محافظ البنك المركزي مروان العباسي ووزير الماليّة نزار يعيش في الغرض وأعلماني أنّ شراء البنك من قبل البريد قد تكون له نتائج وخيمة وأنا لي ثقة في رأيهما”.

يضيف فاضل كريّم متحدّثا عن أسباب تعطيل بعث البنك البريدي قائلا: ” لقد أعلمني البنك المركزي بأنّ وضعية البنك التونسي الكويتي صعبة أكثر من بنك تونس الإمارات ولهذا ارتأينا عدم الموافقة والتوجّه نحو إيداع ملفّ لدى البنك المركزي لبعث بنك جديد يعكس فكرة البنك البريدي. إيداع هذا الملف كان بناء على مقترح من البنك المركزي الذي حذّرني من تداعيات العمليّة في حال المضي في الصّيغة الأولى المقترحة. كنت بشكل شهري أعقد لقاءات مع محافظ البنك المركزي مروان العبّاسي في علاقة بهذا الملف الجديد. لو كنت اليوم وزيرا لتمّت الموافقة على المشروع. المشروع كان بالشراكة مع شركة أوريدو وقد تحصّلنا على الموافقة المبدئية وقتها. هناك لجان في البنك المركزي هي المسؤولة عن دراسة الملفّ ويبدو أنّها هي المسؤولة عن هذا التعطيل لأنّ العباسي مساند للفكرة”.

يؤكّد فاضل كريّم في نفس السياق أنّه فعلا حينما كان رئيسا مديرا عاما لاتصالات تونس (2017 ـ 2020) كان هناك مشروع مشترك مع البريد التونسي زمن إشراف معز شقشوق عليه بمعيّة شركة خاصة (في إشارة لتأمينات لا كارت) لاقتناء بنك تونس الإمارات وبعث البنك البريدي، قبل أن يستدرك بالقول إنّ هناك كارثة قد حصلت بعد أن توجّه أحدهم (رفض الكشف عن اسم الشخص) إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد وطلب منه رفض الملفّ بتعلّة وجود مؤسّسات عمومية في المشروع وهو ما سيفضي إلى بعث بنك عمومي جديد، معتبرا أنّ ما حصل وقتئذ ينمّ عن معلومات خاطئة ومغالطات حيث لم يتمّ تفسير القيمة المضافة التي يمكن أن يحقّقها المشروع.

ويشدّد فاضل كرّيم على أنّه يساند مشروع بعث بنك بريدي، مستشهدا بالتجربة المغربية في هذا الإطار التي قال عنها إنّها قد ساهمت في إدخال حركية وخلق انتعاشة اقتصاديّة في المغرب، مُقرّا بوجود مخاوف لدى البنوك الحاليّة من المشروع مردُّها “الفهم الخاطئ”، حيث بيّن أنّ البنك البريدي سيعطي إضافة كبيرة جدّا على المستوى المالي وهو ما من شأنه أن يخدم كلّ الفئات التونسية ويسهّل حياة المواطنين، وفق تعبيره.

بعيدا عن الاتهامات الموجّهة إلى الوزير السابق فاضل كريّم بتضارب المصالح، فإنّ ما كشفه في معرض ردّه هذا هو فعلا المسار الثاني الذي اتجه فيه مجلس إدارة البريد التونسي في عهد الرئيس المدير العام جوهر الفرجاوي، بعد أن قام بالتوازي مع مساعي اقتناء البنك التونسي الكويتي بالاستعانة بمؤسسة ” كاب بنك” (CAP BANK) لإعداد دراسة شاملة انتهت بإيداع ملف رسمي لدى البنك المركزي للحصول على رخصة بعث بنك بريدي استئناسا بالتجارب المقارنة عربيّا ودوليّا. فهل سيستجيب البنك المركزي التونسي لهذا المطلب أم سيعرف الملفّ فصلا جديدا من محاولات التعطيل والإجهاض؟

البنك المركزي “يُجهز” على المشروع

بعد فشل محاولات موقع الكتيبة المتكرّرة لعقد لقاء مع محافظ البنك المركزي مروان العباسي أو مساعده نبيل فلفال مدير الرقابة المصرفية، التجأنا إلى تقديم مطلب نفاذ إلى المعلومات وفقا للقانون المخصّص للغرض وقد تحصّلنا على الردّ بتاريخ 15 ماي/ أيار 2023.

يؤكد البنك المركزي في ردّه على مطلب النفاذ إلى المعلومة أنّه فعلا بتاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأوّل 2019 ورد عليه مطلب حصول على ترخيص من قبل البريد التونسي لإحداث بنك في شكل مؤسسة تابعة له.

وقد شدّد البنك المركزي في ردّه أيضا على أنّ الملفّ الذي ورد عليه جاء منقوصا من عدّة عناصر جوهريّة مطلوبة لخّصها في عدم التّنصيص على هويّة جميع المساهمين في رأس مال البنك المزمع إحداثه، فضلا عن تحديد رأس مال لا يتلاءم مع برنامج النّشاط الطموح المبيّن بمخطّط الأعمال.

ويضيف البنك المركزي في نفس الردّ على مطلب النفاذ إلى المعلومات أنّ الملفّ تضمّن إبقاء على النشاط المالي الحالي ضمن نشاط البريد التونسي بالتوازي مع النشاط المالي للبنك المزمع إحداثه، بالإضافة إلى عدم تقديم مشاريع الاتفاقيات المزمع إبرامها بين البنك البريدي والبريد التونسي بصفته المؤسّسة الأمّ والتي تؤطر العلاقة اللوجستيّة والمالية بينهما لاسيّما فيما يتعلّق باستغلال فروع الديوان الوطني للبريد من قبل البنك البريدي المزمع إحداثه.

كما أوضح البنك المركزي في ردّه أنّ الملف غابت عنه رؤية واضحة بخصوص إعادة توظيف ورسكلة جزء من الموظّفين الحاليّين الذين يشتغلون بديوان البريد بالبنك الجديد، علما أنّ العدد الجملي لموظفي البريد يناهز 10 آلاف موظف، مبرزا أنّ الملف كان منقوصا أيضا من تبيان مخطط الأعمال لتموقع البنك البريدي ضمن آليات التمويل الأخرى المتاحة بالساحة على غرار صندوق الودائع والأمانات والبنوك العمومية وبنك الجهات (غير موجود) والبنك التونسي للتضامن ومؤسسات التمويل الصغير وغيرها، وفقا لنفس المصدر.

حسب التجارب المقارنة، نجاح هذه التجربة يقتضي تحويل جميع الخدمات المالية من جميع الودائع ومنح القروض وخدمات الدفع إلى المؤسسة الجديدة بعد حلحلة جميع الإشكاليات القانونية ذات العلاقة مع ضرورة إخضاع جلّ النشاط لاحقا إلى رقابة البنك المركزي وذلك بهدف تطبيق جميع الشروط القانونية والترتيبية على البنك المزمع إحداثه وذلك ضمانا لمنافسة عادلة بين جميع المتدخلين.

مقتطف من ردّ البنك المركزي

وقد أفاد البنك المركزي أنّه تمّت مراسلة البريد التونسي وإعلامه بجميع الإشكاليّات المطروحة، داعيا إياه منذ ذلك الحين إلى مراجعة الملفّ وعرضه مجدّدا على البنك المركزي التونسي، موضّحا في نفس السياق أنّه قد تمّ تشكيل لجنة للغرض من أجل تقديم المساعدة التقنية اللازمة لهذا المشروع باعتباره مشروعا وطنيّا ذَا بُعد استراتيجي مع مراعاة ضرورة الحفاظ على الحيادية اللازمة للبقاء على نفس المسافة من جميع طالبي التراخيص.

وقد خلصت اللجنة التي عقدت عديد الاجتماعات في سنة 2020 إلى وجوب الأخذ بعين الاعتبار بجميع الملاحظات والتوصيات استئناسا بالتجارب المقارنة الناجحة ولضمان أوفر حظوظ النجاح لمشروع البنك البريدي حتّى يتمكّن في نفس الوقت من تقديم الإضافة المرجوّة على الساحة الماليّة والبنكيّة لاسيّما من خلال تمويله لشريحة خاصّة من الحرفاء دون إرباك النظام البنكي وزعزعة استقراره بالنظر إلى حجمه النظامي.

غير أنّ الجديد الذي كشفه ردّ البنك المركزي بعيدا عن هذا العرض الإنشائي يتمثّل في كونه قد أعلمنا رسميّا أنّه قد راسل الديوان الوطني للبريد في شهر مارس/ آذار 2022 لإعلامه بأنّ المطلب أصبح لاغيا على معنى أحكام الفصل 28 من القانون البنكي، متعلّلا بأنّ البنك المركزي نفسه لم يرد عليه مطلب جديد محيّن يأخذ بعين الاعتبار النقاط المذكورة سلفا.

لا يوجد أيّ رفض قطعي من قبل البنك المركزي التونسي بخصوص مشروع البنك البريدي شريطة تقديم ملفّ يتضمّن جميع المعطيات والوثائق المطلوبة ليتولّى حينها البنك المركزي دراسته وعرضه مجدّدا على لجنة التراخيص للبتّ فيها.

مقتطف من ردّ البنك المركزي

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ البنك المركزي رفض مدّنا بنسخة من المؤيدات والوثائق المتعلّقة بملفّ البريد التونسي الذي تمّ إيداعه سنة 2019 لدى نفس المؤسسة، متعلّلا بأحكام الفصل 20 من القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016.

يقول الرئيس المدير العام الحالي للبريد التونسي سامي المكي خلال اتصالنا به هاتفيا إنّ المؤسسة تعتبر أنّ الملفّ الذي قامت بإيداعه مكتمل خاصّة وقد أشرف على إعداده مختصّون في المجال (في إشارة إلى كاب بنك)، وقد تضمّن كلّ ما هو مطلوب لإعداد البنك البريدي كمؤسسة من شأنها أن تسدّ فراغا كبيرا.

ويضيف المكي قائلا:

أيّ إنسان عاقل وموضوعي لا يستطيع معارضة مشروع إحداث البنك البريدي خاصّة أنّ هذا المشروع موجود في جلّ بلدان العالم وقد ساهم على سبيل الذكر في تطوير الجانب المالي للبريد في المغرب.

ويؤكد المكي أنّ مؤسسة البريد مازالت متشبّثة بالمشروع وأنّ الهدف مازال قائما وسيظلّ يدافع عنه في انتظار الظرف الملائم الذي يسمح بإعادة طرحه من جديد حسب قوله.

ويقول أيضا في نفس السياق:

لم نعلم رئيس الجمهورية بصفة خاصّة لكن على المستوى الحكومي كانت الوزارة (يقصد وزارة تكنولوجيات الاتصال) هي المشرفة وتتابع معنا الملفّ الذي تمّ تعطيله في سنتي 2020 و2021 بتعلّة أزمة كوفيد 19. إنّ ملف البنك البريدي مكتمل من جميع النواحي وفي صورة تقديم ملفّ آخر سيكون بنفس الصيغة.

ويوضّح المكي أنّه “لا نيّة للبريد التونسي لمزاحمة القطاع البنكي الموجود حاليّا”، فالمؤسّسة تريد فقط الاستجابة لمتطلّبات المواطنين حيث أنّ البريد له 4 ملايين حريف لهم دفاتر ادخار و2 مليون حساب جاري بريدي و 2.7 مليون لهم بطاقة بريديّة، وكلّ الحرفاء يطالبون بإحداث بنك بريدي ليتمكّنوا من الحصول على قروض وفق ما جاء على لسانه.

وأضاف أنّه في صورة إحداث البنك البريدي ستكون هناك أنشطة ربحيّة لكن بنسب عمولات معقولة استجابة للسّوق حيث تتموقع تونس اليوم في آخر المراتب في علاقة بالإدماج المالي وفق قوله.

واستشهد محدثنا بمثال من الواقع التونسي قائلا: “في المناطق الداخلية والأحياء الشعبية هناك مواطنون بصدد تقديم قروض خلسة نظرا لغياب القطاع البنكي في تلك الأماكن. البنوك الحاليّة لا تتعامل مع هذه الفئات الهشّة نظرا لغياب الضمانات العينيّة والبنك المركزي على علم بكلّ هذا. نحن لن نقدّم قروضا للشركات الكبرى إذ ليست لنا الإمكانيات للقيام بذلك”.

فما وجاهة هذا الطّرح الذي تدافع عنه مؤسسة البريد التّونسي؟ وهل فعلا هناك جدوى من هذا المشروع الذي أقرّ البنك المركزي نفسه بأبعاده الوطنيّة الاستراتيجية رغم أنّه يُتّهم بتعطيله خدمة لمصالح لوبي البنوك؟

ما الجدوى من مشروع البنك البريدي؟

يتكوّن النّسيج البنكي والمالي في تونس من 43 مؤسّسة، وفقا للمدير العام السابق للسياسات النقدية بالبنك المركزي محمد سويلم، من بينها 30 بنكا (22 بنكا مقيما و7 بنوك غير مقيمة). كما يضمّ المشهد المصرفي التونسي 14 مؤسّسة مالية من بينها 8 مؤسسات ايجار و2 مؤسسات أعمال و2 مؤسسات فاكتورينغ، بحسب نفس المصدر الذي يقول إنّه في حال بعث بنك بريدي عمومي فإنّ عدد البنوك العمومية سيقدّر بـ 6 بنوك بالإضافة إلى 3 بنوك مختلطة (للدولة التونسية مساهمات في رأس مالها) وهو أمر غير معقول، وفق تعبيره.

يضيف المتحدث ذاته أنّ التوجّه الأسلم اليوم يكمن في ضرورة التّقليص في عدد البنوك بشكل عامّ لخلق بنوك كبيرة قادرة على دعم الاقتصاد والانفتاح على الخارج ومرافقة الشركات التونسية في إفريقيا وغيرها من خلال فتح فروع هناك، معربا عن عدم دعمه لهذه الفكرة (البنك البريدي) التي يرى أنّها لن تحقّق أيّة إضافة حيث من الأجدى تحسين خدمات البريد ومرافقه التي لا تقوم بدورها على أحسن وجه، إذ كثيرا ما نلاحظ تذمّرا من المواطنين وصفوفا طويلة في فروعه المنتشرة في كامل أنحاء البلاد.

صحيح أنّه من الضروري إدخال تحسينات على الخدمات البنكيّة، لكنّي لست متشجّعا لمنح البريد التونسي رخصة بعث بنك لأنّ ذلك لن يحقّق إضافة كبرى. ومن يتحدّثون اليوم عن كرتال في القطاع البنكي التونسي هم يغالطون الرأي العام وليست لهم دراية بالاقتصاد.

محمد سويلم مدير عام سابق للسياسات النقدية بالبنك المركزي

ويشدّد محمد سويلم على أنّ المنافسة موجودة حاليّا في المشهد البنكي الحالي وهي شرسة لاسيّما بين البنوك الصغيرة والبنوك الكبرى، معتبرا أنّ بعث البنك البريدي لن يضيف شيئا بل ربّما يعود بالوبال على مؤسسة البريد التي لا تقوم حاليّا بخدماتها الأساسيّة على الوجه الأكمل وفق تقديره.

ويبيّن المصدر ذاته أنّه من الطبيعي جدّا أن تكون هناك كلفة للمعاملات البنكيّة فـ”من حقّ البنوك أن تحقّق أرباحا على اعتبار أنّها تقوم بنشاط تجاري”، نافيا الاتهامات التي تُوجّه إلى البنوك الحاليّة، حيث دعا إلى ضرورة تسليط الضوء على الدّيون المتعثّرة لهذه المؤسسات البنكيّة.

على نقيض هذا الطرح، يعتبر الخبير في مجال الاقتصاد والأسواق المالية معز حديدان أنّ البنوك في تونس لم تعد تقوم بدورها الفاعل في تمويل الاقتصاد فهي تموّل فقط الشركات الكبرى والحرفاء الذين لديهم مداخيل قارّة.
ويرى حديدان أنّ هناك لوبي بنكيّا قويّا جعل مداخيل العمولات لوحدها خلال سنة 2022 ترتفع لتقدّر بـ 1.2 مليار دينار، محمّلا البنك المركزي مسؤوليّة ما أسماه التقصير في علاقة بالدور الرقابي تجاه البنوك التي تفرض عمولات مشطّة ومجحفة.

ويوضّح المتحدّث ذاته أنّ البنوك تكاد تتحوّل إلى شريك للحرفاء والشركات بسبب العمولات الكبيرة التي تفرضها عليهم، فضلا عن استفادتها من ارتفاع مداخيل محفظة السندات التجارية أو الاستثمارية (لاسيّما القروض التي تقدمها البنوك للدولة) التي سجّلت ارتفاعا بنسبة 25 %، مفيدا أنّ الناتج الصافي البنكي للعام المنقضي فاق 6 مليار دينار في إرتفاع قدّر بـ 12 % أي حوالي 675 مليون دينار مقارنة بسنة 2021.

كما يفيد معز حديدان أنّ البنوك حقّقت كتلة ناتج صافي في العام الماضي هي بمثابة رقم قياسي جديد يقدّر بـ2 مليار دينار (ربح صافي) وذلك بعد خصم المصاريف والجباية المفروضة، مبرزا أن ثلث هذه المكاسب يذهب إلى حسابات المساهمين من أصحاب البنوك في شكل عائدات مرابيح في حين يتمّ ضخّ البقيّة في الدورة المالية للبنوك.
ويؤكد نفس الخبير في الاقتصاد والأسواق المالية وجود وفاق بنكي (كارتال) غير قانوني ما جعل القطاع البنكي لا يخضع لقاعدة المنافسة، مضيفا أنّ هذا اللّوبي هو أقوى من البنك المركزي ومن الدولة نفسها التي أصبحت غير قادرة حتى على القيام بتحقيق في التّجاوزات التي تقوم بها البنوك من خلال العمولات المشطّة وغير القانونيّة.

الدولة التونسية اليوم في وضع ضعف تجاه البنوك. الجمعية المهنية للبنوك قويّة والبنك المركزي يغضّ البصر عن التجاوزات. هناك من كانوا يعملون في البنك المركزي وهم الآن يشتغلون في البنوك. البنك المركزي والبنوك عائلة واحدة. على الحرفاء عدم الصّمت والتقدم بشكايات في علاقة بالعمولات غير القانونية.

معز حديدان خبير في الاقتصاد والأسواق الماليّة

ويذكّر حديدان بأنّ اليوم في تونس هناك فقط 35 % من التونسيين.ـات هم/هن داخل المنظومة البنكية من خلال امتلاكهم لحسابات في البنوك في حين نجد قرابة 65 % لهم/هن حساب بنكي أو بريدي أو هم/هن متحصّلون.ـات على تمويل من المؤسسات التي تمنح القروض الصغرى (ميكرو فينانس)، ممّا يعني أنّ أكثر من ثلث الشعب التونسي (35 %) يعيش خارج المنظومة المالية وهو ما يتطلب توسيع دائرة الإدماج المالي.

يدافع ذات المتحدّث عن فكرة البنك البريدي معتبرا أنّها ضروريّة من أجل الحصول على قروض بنسب فائدة معقولة بالنسبة إلى عموم المواطنين.ـات خاصّة المنتمين.ـات إلى الطبقات الوسطى والضعيفة، مشدّدا على الارتفاع المشطّ لنسبة الفائدة بالنسبة إلى مؤسسات القروض الصغرى القائمة حاليّا والتي تصل إلى 32%.

ويفسّر معز حديدان عدم خروج مشروع البنك البريدي إلى النور بما أسماه التعطيل الصّادر عن البنك المركزي بفعل “لوبي البنوك” التي تعتبر أنّ مؤسسة البريد تشكّل منافسا من الحجم الثّقيل لها خاصّة في المناطق الداخلية، وهي قادرة على اقتطاع قطعة كبيرة من الكعكة ما يعني خسارة البنوك للكثير من الحرفاء الأرباح مستقبلا.

رئيس الجمهورية قيس سعيّد يتحدّث دائما في خطبه عن الفقراء والطبقة المتوسطة. أقول له انّ البنك البريدي هو أكبر فرصة لمساعدة التونسيين عوض الشركات الأهليّة فهو سيساعد على فتح باب كبير لتمويل العديد من العائلات الهشّة خاصّة في الأحياء الشعبية والمناطق المحرومة.

معز حديدان خبير في الاقتصاد والأسواق الماليّة

ودعا الخبير معز حديدان رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى ضرورة مساءلة محافظ البنك المركزي مروان العباسي حول هذا الموضوع مع دعوة وزارة الماليّة إلى التدخل إيجابيّا في هذا الملف كي يكون أولوية وطنيّة، مشدّدا على أنّ العائق الوحيد إلى حدّ الآن هو “لوبي البنوك” الذي نجح في تعطيل الملف وذلك خشية منافسة البنك البريدي الذي يمكن أن ينتزع منهم منذ العام الأوّل قرابة 20 % من السوق في الوقت الذي حققت فيه البنوك في سنة 2022 أرباحا قدّرت بـ 2000 مليون دينار، أي ما يضاهي القسط الأول والثاني وربما الثالث من القرض الذي تريد تونس الحصول عليه من صندوق النقد الدولي وهي مفارقة تلخّص كلّ شيء وفق قوله.

في شهر مارس/آذار من العام 2023، أطلقت منظمة آلرت التونسية (مستقلّة غير حكوميّة) المختصّة في مقاومة الاقتصاد الريعي ما أسمتها الحملة الوطنيّة ضد كارتال البنوك لتحسيس الرأي العام الوطني بخطورة التجاوزات والسياسات التي تقوم بها المنظومة البنكية الحالية.

ويطلق توصيف الاقتصاد الريعي على النمط الاقتصادي الحالي في تونس الذي يرى عديد الخبراء والباحثين.ـات أنّه مغلق تحكم مجموعة من العائلات الريعية النافذة منذ عقود قبضتها عليها بفعل منظومة الامتيازات والرّخص والقروض لاسيّما العمومية التي كانت ومازالت تتحصّل عليها لاحتكار الثروة والاستحواذ على قطاعات بعينها ليست ذات قيمة مضافة ولا تنطوي على براءة اختراع أو بحث علمي أو ابتكار، علاوة عن كونها ليست ذات طاقة تشغيليّة كبيرة.

لا يتوّرع رئيس منظمة “آلرت” وأحد الشباب الذين يقودون “الحملة الوطنية ضد كارتال البنوك” لؤي الشابي عن القول دون مواربة إنّ كسر المنظومة الريعيّة في تونس يستوجب بالضرورة الانطلاق من كسر الكرتال البنكي بأسهل طريقة وهي بعث البنك البريدي الذي يمكن أن يعطي متنفّسا جديدا للمواطنين.ـات.

ويستشهد الشابي بما حصل لمنظمة “آلرت” التي رغبت في فتح حساب بنكي غير أنّ 8 بنوك بما فيها مؤسّسات عمومية رفضت ذلك، مضيفا أنّ المنظمة وجدت ضالّتها في البريد التونسي الذي فتحت فيه حسابا حيث قبل تقديم خدمة عموميّة يفترض أن تقدّم لدى أي بنك.

وبخصوص صفوف الانتظار في مكاتب البريد، يرى محدثنا أنّ سببها هرب الناس من البنوك وخدماتها السيّئة حيث يحظى البريد التونسي بثقة المواطنين.ـات رغم ضعف الإمكانيات.
وقد أعرب عن استغرابه من كلفة الخدمات البنكية في تونس لدرجة أنّ صاحب الحساب البنكي حينما يقوم بايداع أموال في حسابه يجد نفسه قد قام بدفع أموال للبنك على هذه الخدمة والحال أنّ البنوك في العالم تقوم بمنح الحرفاء مبالغ معيّنة مقابل إيداعهم الأموال في حساباتهم البنكية، منتقدا القانون التونسي الذي يجرّم حمل أكثر 5 آلاف دينار “كاش” بطريقة يراد منها إجبار الناس على إيداع أموالهم في البنوك لكي تقتطع منها ما تيسّر.

البريد التونسي مؤسسة عمومية يمكن أن تقدّم خدمات ذات بعد وطني اجتماعي. في حين أنّ المساهمين في البنوك هم كبار الريعيين من أصحاب المجمّعات الاقتصادية الكبرى مثل المبروك والحرشاني وبن يدر. هؤلاء وغيرهم يشكلّ البنك البريدي خطرا على مصالحهم.

لؤي الشابي رئيس منظمة آلرت

الشابي أضاف قائلا: “هناك لوبي بنكي متمركز طيلة 10 سنوات في البنك المركزي أجهض مشروع البنك البريدي. هم يعلمون أنّه في حال بعث هذا البنك من قبل البريد فإنّه إمّا سيقوم بالقضاء على الكارتال البنكي أو أنّه سيجبر هذا الكارتال على التخفيض في العمولات وتحسين الخدمات ودخول لعبة المنافسة بشكل معقول. لهذا نحن كمنظمة آلرت نضغط لكي يصبح للبريد بنكا لأنّه هو حقّ للمواطنين التونسيين”.

ويعتبر المتحدّث باسم منظمة “آلرت” أنّ الفئات الهشّة في تونس مثل الطّلبة والمتقاعدين والنساء الحرفيات والعمّال من أصحاب الوظائف غير القارّة، علاوة عن العاطلين عن العمل، والتي هي ليست في دائرة اهتمام الكرتال البنكي، هي المستهدفة من خلال مشروع البنك البريدي الذي هو أهمّ وأفضل من فكرة بنك الجهات وفق قوله.

واتّهم لؤي الشابي البنك المركزي بأنّه لسان دفاع البنوك التي لا حاجة لها لجمعيّة مهنيّة تدافع عنها، معتبرا أنّ السلطة السياسية في تونس تعيش في حالة تبعية لهذه الكرتالات، ومبرزا في الآن ذاته أنّ صفقة بيع البنك التونسي الكويتي لعائلة اللومي تمثّل خير دليل على تحوّل البنك الى جهاز في خدمة مجمع اقتصادي معيّن.

كما نبّه الشابي من خطورة هذا الكارتال البنكي الذي قال إنّه موجود في كلّ مكان حيث ولج حتّى الى مؤسسات الاقراض الأصغر (ميكرو كريدي) ومؤسّسات خدمات الدفع عبر الهاتف الجوّال، مشدّدا على أنّ هذا الكرتال خنق الاقتصاد وجعل المنافسة منعدمة وقتل الحرّية الاقتصادية وخير مثال على ذلك تعامل المنظومة البنكية مع فكرة مشروع البنك البريدي وفق تقديره.

كلمة الكتيبة:

يندرج هذا العمل الصحفي ضمن سلسلة من المقالات والمحتويات الصحفية التي دأب موقع الكتيبة على إنتاجها بهدف تفكيك بعض الظواهر والأحداث المعقّدة وكشف خفاياها وتبسيط فهمها لعموم الناس في إطار صحافة الحلول والصحافة الاستقصائية البناءة.

كلمة الكتيبة:
يندرج هذا العمل الصحفي ضمن سلسلة من المقالات والمحتويات الصحفية التي دأب موقع الكتيبة على إنتاجها بهدف تفكيك بعض الظواهر والأحداث المعقّدة وكشف خفاياها وتبسيط فهمها لعموم الناس في إطار صحافة الحلول والصحافة الاستقصائية البناءة.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير المحتوى العربي بموقع ”الكتيبة“. صحفي ومدرب في مجال الإعلام وباحث دكتوراه

ساعد في التحقيق: نورهان كناني
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
مونتاج: حمزة الفزاني
تصوير: بلال الشارني
تصوير: بلال الشارني
مونتاج: حمزة الفزاني
ساعد في التحقيق : نورهان كناني
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير المحتوى العربي بموقع ”الكتيبة“. صحفي ومدرب في مجال الإعلام وباحث دكتوراه.

med213