الكاتب : الصادق الحمامي

دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.

ليورغن هابرماس مسيرة فكرية طويلة ومساهمات نظرية حاسمة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. ومن أهمّ إسهاماته مفهوم المجال العمومي la sphère publique الذي انتشر في كافة العلوم الإنسانية وتشكّل حوله إنتاج نظري نقدي غزير، كما ألهم بحوثا ميدانية في كل المجالات. وظهر مفهوم المجال العمومي في أطروحة الدكتوراه (في العلوم السياسية) التي ناقشها هابرماس عام 1961 ثم نشرها كتابا عام 1962، إضافة إلى مشروعه الفكري حول الديمقراطية التداولية (أو المداوليّة).

ويؤكد يورغن هابرماس من خلال هذا الكتاب أنّ الفلسفة يمكن أن “تحقّق” في القضايا المصيرية المعقدة التي يواجهها الناس في كل المجتمعات. وقد حظي الكتاب بتعليقات كثيرة في الصحافة الأوروبية في سياق تنامي القلق في الديمقراطيات الراسخة من نتائج الشبكات الاجتماعية والذكاء الاصطناعي على كل مجالات الحياة الإنسانية. والكتاب وإن كان يهتمّ بما تفعله الشبكات الاجتماعية بالسياسة في هذه الديمقراطيات الراسخة، فانّه أيضا يحفّز التفكير في أدوار الميديا والصحافة في المجتمعات العربية ويوفّر لنا أفقا ننظر من خلاله إلى السياسة ومستقبل الديمقراطية في تونس والعالم العربي.

الكاتب : الصادق الحمامي

دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.

ليورغن هابرماس مسيرة فكرية طويلة ومساهمات نظرية حاسمة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. ومن أهمّ إسهاماته مفهوم المجال العمومي la sphère publique الذي انتشر في كافة العلوم الإنسانية وتشكّل حوله إنتاج نظري نقدي غزير، كما ألهم بحوثا ميدانية في كل المجالات. وظهر مفهوم المجال العمومي في أطروحة الدكتوراه (في العلوم السياسية) التي ناقشها هابرماس عام 1961 ثم نشره كتابا عام 1962، إضافة إلى مشروعه الفكري حول الديمقراطية التداولية (أو المداوليّة).

ويؤكد يورغن هابرماس من خلال هذا الكتاب أنّ الفلسفة يمكن أن “تحقّق” في القضايا المصيرية المعقدة التي يواجهها الناس في كل المجتمعات. وقد حظي الكتاب بتعليقات كثيرة في الصحافة الأوروبية في سياق تنامي القلق في الديمقراطيات الراسخة من نتائج الشبكات الاجتماعية والذكاء الاصطناعي على كل مجالات الحياة الإنسانية. والكتاب وإن كان يهتمّ بما تفعله الشبكات الاجتماعية بالسياسة في هذه الديمقراطيات الراسخة، فانّه أيضا يحفّز التفكير في أدوار الميديا والصحافة في المجتمعات العربية ويوفّر لنا أفقا ننظر من خلاله إلى السياسة ومستقبل الديمقراطية في تونس والعالم العربي.

صدر الكتاب في الأشهر الاولى من عام 2023 وهو ترجمة للنسخة الألمانية المنشورة عام (2022) ويعالج فيه هابرماس ما يسمّيه “التحوّل البنيوي الثاني للمجال العمومي” المتصل بنتائج الميديا الاجتماعية على المجال العمومي السياسي. ويشمل الكتاب ثلاثة فصول. يجيب هابرماس في الفصل الأول عن السؤال “ماذا نقصد بالديمقراطية التداولية” (أو المُداوَلية) que signifie la démocratie délibérative، ويعالج فيه انتقادات تعرّض لها في السنوات الأخيرة. وتضمّن الفصل الثاني “الديمقراطية التداولية” حوارا خُصّص في الأصل لكتاب “دليل أكسفورد للديموقراطية التداولية” The Oxford Handbook of Deliberative Democracy . ويمثّل الفصل الثالث (افكار وفرضيات حول تحوّل بنيوي فعلي للمجال العمومي السياسي) المكوّن الأساسي للكتاب.

الكتاب وإن كان يهتمّ بما تفعله الشبكات الاجتماعية بالسياسة في هذه الديمقراطيات الراسخة، فانّه أيضا يحفّز التفكير في أدوار الميديا والصحافة في المجتمعات العربية ويوفّر لنا أفقا ننظر من خلاله إلى السياسة ومستقبل الديمقراطية في تونس والعالم العربي.

لهذا الفصل الثالث كما سنرى ذلك في المقال المقبل علاقة وطيدة بمشكلات السياسة في السياق التونسي في وقت تروّج فيه السلطة السياسية لمقاربات تقول إنّها “جديدة” لترك الأجسام الوسيطة من أحزاب وجمعيات وصحافة لصالح أدوات “الديمقراطية المباشرة” على غرار الاستشارة الإلكترونية التي سبقت إصدار دستور 25 جويلية 2022 أو تلك التي ستُستخدم قريبا لإرساء المجلس الأعلى للتربية. كما أنّ ما يقوله هابرماس عن الشبكات الاجتماعية يهمّنا أيضا في وقت أصبحت فيه بمثابة بيئة بالنسبة إلى ملايين التونسيين تحتضن كل أنشطتهم الحياتية.

الكتاب قائم على فكرة ما انفكّ هابرماس يبرزها منذ بداية مساره الفكري وهي أنّ الديمقراطية حتى تعيش وتستمر تحتاج إلى مجال عمومي يشارك فيه المواطنون في النقاش العام حول القضايا التي تهمّ مجتمعهم وحياتهم. وهذا المجال العمومي يحتاج بدوره إلى نظام متكامل من الميديا (بما في ذلك صحافة قوية تقوم بوظيفة إخبار الناس بمصداقية ومهنية) تساهم في تكوين “آراء عامة” وتساعد الناس على اتخاذ القرارات الانتخابية عن معرفة وإدراك بالقضايا الأساسية التي يجب أن تعالجها السلطة السياسية. هكذا يقول هابرماس في الفقرة التي ينهي بها الكتاب:

انّ المحافظة على نظام من الميديا ضامن لمجال عمومي اندماجي، يسمح في الوقت ذاته بأن تتشكل الإرادة وأن يتكوّن الرأي بطريقة تداولية، ليس مطلبا سياسيا فحسب بل هو مقتضى ذو طبيعة دستورية محضة”

والكتاب يقوم أيضا على فكرة ثانية لا تقلّ اهمية عن الأولى وهي أن الديمقراطيات الدستورية تحتاج إلى المجال العمومي السياسي حتى يضمن ما يسمّيه التكوّن التداولي la formation délibérative للرأي العام وللإرادة. وهذا يعني أنّ الصحافة والميديا التي تدير هذا المجال العمومي هي التي تتيح هذا النقاش العام وتنظمّه ما يسمح بأن تتشكّل الإرادة العامة عبر النقاش. بل إنّ هابرماس يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يبيّن أنّ استقرار النظام السياسي الديمقراطي وبناء الشرعية فيه مقترن بالضرورة بالمداولات التي تجعل حكم الأغلبية شرعيا ومقبولا في نظر الأقلية. فالمداولة الديمقراطية هي التي تؤسّس مقبولية القوانين والقرارات والسياسات التي تسيّر حياة الناس.

استمد هابرماس التصوّر الاول للمجال العمومي من الفيلسوف الالماني إيمانويل كانط الذي عرّف “الأنوار” في مقالته المشهورة “ما الأنوار؟” بأنّها خروج الإنسان عن حالة القصور الفكري حتى يسيّر نفسه بنفسه متحرّرا بذلك من كل وصاية فكرية.

والأنوار لدى كانط تعني أيضا أنّ الإنسان يفكّر بكل حرية في كل قضايا المجتمع الذي ينتمي إليه بطريقة علنية مع الآخرين، حتّى إنّ كانط وضع من التشريع العلني للقوانين شرطا أساسيا لمشروعيتها بما أنّها تهمّ حقوق الناس. ويطلق كانط على هذا النوع من النشاط الإنساني -أي التفكير العلني الذي يمارسه الانسان مع الاخرين- الاستخدام العلني للعقل L’usage public de la raison .

فلا معنى أن نفكّر منعزلين عن الآخرين. وهذا التفكير بحضور الآخرين ومعهم يجب ألّا يحدّه حدٌّ باستثناء آداب النقاش ونواميس الحوار العقلاني الذي يتبادل فيه المشاركون الحجج بشكل رصين. هكذا يمكن ان نقول إنّ الديمقراطية يجب أن تقوم على فكرة أنّ الانسان بما أنه مشارك في بناء المجتمع يساهم أيضا في التشريع للقوانين التي تسيّره والتي تسيّر الآخرين معه بواسطة حرية التفكير والتعبير. أما المجال العمومي فهو ذلك المجال الرمزي المجرد (صحافة الرأي مثلا) أو المادي الذي يقوم عندما يجتمع أفراد للنقاش في الشؤون العامة.

عن الديمقراطية التداولية والقرار الانتخابي في الديموقراطية

في الفصل الأول “ما هي الديمقراطية التداولية؟” يجيب هابرماس عن بعض الاعتراضات والانتقادات ويناقش خصوصية الديمقراطية الحديثة و اختلافاتها الجوهرية مع الديمقراطية اليونانية القديمة التي كانت موجّهة الى مجموعة بشرية محدودة تعيش في مجال جغرافي ضيق (النموذج الأثيني). فالمجتمعات الجماهيرية تقتضي ديمقراطية تمثيلية (يختار فيها المواطنون ممثلين عنهم للتشريع باسمهم) بالضرورة وتحتاج بدورها مجالا عموميا اندماجيا une la sphère publique inclusive جامعا للمواطنين المُنعزِل بعضُهم عن بعض بسبب المجال الجغرافي الواسع.

ويقوم الاتصال الجماهيري la communication de masse بعملية الدمج هذه لكافة المواطنين في مجال عام مشترك commun من جهة أولى وغير شخصي anonyme من جهة ثانية على عكس الاتصال الذي يجمع جماعات صغيرة من المواطنين في مجالات ضيقة (جمعيات، أحزاب، فضاءات الحياة اليومية….).

وبمعنى آخر فإنّ “الاتصال العام” (la communication publique) هو الآلية التواصلية التي تربط المواطنين الذين يحظون في الديموقراطية الدستورية بـ”الاستقلالية السياسية l’autonomie politique والتّي تعبّر عن نفسها بواسطة القرار الانتخابي la décision électorale والإرادة السياسية المشتركة la volonté politique commune.

والقرار الانتخابي (الاقتراع) هنا من منظور هابرماس، وإن كان عملية فردية تٌمارس في الخلوة، فإنها تستوجب مشاركة المواطنين في الاتصال العام الجماهيري. وبمعنى آخر فإذا كان القرار الانتخابي يمارس بشكل فردي بكل استقلالية، بعيدا عن الإكراهات ولا يخضع إلى أي نوع من الوصاية عليه تأمره بما يجب أن يضع في الصندوق يوم الانتخاب فإنه يتمخّض في الحقيقة عن مسار تشكّل فيه هذا القرار بالضرورة، وهذا المسار جماعي وغير فردي وتعددي.

المُداولة باعتبارها مصدرَ إضفاء المشروعية (الشرعنة)، وقبول القوانين

من هذا المنظور فإنّ المجال العمومي في المجتمعات الديموقراطية هو مجال إدارة المشاكل الجماعية ومعالجة تضارب المصالح بشكل تضامني le règlement solidaire des conflits d’intérêts أي أنّ المواطنين يتوافقون على المشاكل التي تهمّهم ويجتمعون لحلها جماعيا. فتستوجب الديمقراطية هكذا آليات وسيطة بين المصالح الفردية والصالح العام. وبمعنى آخر فالديمقراطية الدستورية تستمرّ بفضل إمكانات التوفيق بين المصالح الفردية والصالح العام. وفيها أيضا المواطنون منخرطون في الحياة العامة ومؤمنون بأنّ القوانين نابعة عن إرادتهم وأنّها صادرة عن مسار يحترم التعددية في مجال جامع لهم تتشكل فيه آراء عامة متنافسة des opinions publiques concurrentes. وبمعنى آخر فإنّ الديمقراطية لا تعني أن يخضع الناس فيها للقوانين التي بُنيت مشروعيتُها على التجميع الكمّي الخام لخيارات للمواطنين بدل أن تتكوّن في مسار تشاركي تشكّلت فيه الإرادة الجماعية بشكل تداولي.

لكن هل يعني هذا أنّ المجال الذي تتشكل فيه الآراء العامة المتنافسة التي تتمخّض عنها الإرادة العامة وفي مسار مشترك تعددي غير خاضع لمنطق القوة. يناقش هابرماس هذه الفكرة بالعودة إلى النقد الذي تعرّض له والذي يعيب عليه إنكار القوة puissance الفعلية التي تتيح لمن يمتلكها فرض إرادته على الآخرين في مجال عمومي غير متكافئ. وبمعنى آخر فإنّ المسار التداولي والتعددي الذي تتكوّن فيه الآراء الخاصة والآراء العامة مرتبط أيضا بالفعل الإستراتيجي أي ذلك السعي إلى الحصول على ولاء المواطنين لصالح الفاعلين السياسيين. هذه القوة التي تبحث عن الهيمنة “تؤدي إلى التلاعب بالإرادة” وتنخر بدورها المسار التعددي والتداولي.

بمعنى أخر فإنّ الديمقراطية لا تعني أن يخضع الناس فيها للقوانين التي بُنيت مشروعيتُها على التجميع الكمّي الخام لخيارات للمواطنين بدل أن تتكوّن في مسار تشاركي تشكّلت فيه الإرادة الجماعية بشكل تداولي.

يتصدّى هابرماس إلى هذا النقد بالعودة إلى مفهوم إضفاء الشرعية (أو الشرعنة) la légitimation في النظام الديمقراطي. فخيارات الأغلبية، وكذلك مسار صناعة القرارات، تتّخذ بالضرورة شرعيتها لأنّها خضعت إلى المداولة العامة. في هذا النظام السياسي الديموقراطي القائم على حقوق الانسان تضمن الحكومة انّ خيارات الأغلبية يمكن أن تٌطبق وتٌؤخذ في الاعتبار.

فالنقاش الذي يسبق عملية اتّخاذ القرارات يفسّر بشكل كبير كيف أنّ الاجراءات الديمقراطية تصبح ذات شرعية في نظر الأقلية، أي بتعبير آخر عندما تكون قد خضعت هذه القرارات الأغلبية الى النقاشات والمداولات. وهذه “الشرعنة” تكتسب قوتها، من زاوية المشاركين، من شرطين: حجم المشاركات في المداولات والطابع النقاشي أو الحجاجي للمداولة discursif الذي يجعل نتائج المداولات مقبولة عقلا او ذات مقبولية عقلانية. كما يقتضي هذا النقاش الحجاجي أن يكون المشاركون قد تحصّلوا على قدر كاف من المعلومات. وبتعبير آخر فإن هذا القبول يجب ألّا يكون نتيجة إستراتيجيات الاتصال السياسي التي تؤدي إلى قبول شكلي بواسطة تقنيات الإبهار والمؤثرات بأنواعها المختلفة.

هكذا يستقر النظام السياسي بقبول المواطنين بالخضوع الى القانون الذي أعطوه لأنفسهم بالمشاركة في تكوين الرأي العام والإرادة العامة التي تمخضت بطريقه مشتركة. تصبح الانتخابات من هذا المنظور الطور النهائي لمسار جماعي قام على النقاش والمداولة في مجال عمومي يجمع أكبر قدر ممكن من المواطنين “اجتمعوا” على أنّ هناك مشاكل ما (توافقوا على توصيفها هكذا باعتبارها مشكلا جماعيا) تحتاج إلى حلول منظمة، أي إلى معالجة سياسية قائمة بدورها على إرادة عامة.

تحتاج السياسة الديمقراطية إذن إلى هذا المسار المركب لحلّ المشاكل العملية خارج دائرة المصالح الأنانية. وهي في كل الأحوال تتكوّن أيضا في مجال يتّسم بالضرورة بالعقلانية espaces des raisons . فالمشاركون في النقاش العام، إذا تجاوزوا التوافق على توصيف الوقائع les faits كما هي، يتبادلون بالضرورة حججا وتبريرات عقلانية بطريقه حجاجية.

يقتضي هذا النقاش الحجاجي أن يكون المشاركون قد تحصّلوا على قدر كاف من المعلومات. وبتعبير آخر فإن هذا القبول يجب ألّا يكون نتيجة إستراتيجيات الاتصال السياسي التي تؤدي إلى قبول شكلي بواسطة تقنيات الإبهار والمؤثرات بأنواعها المختلفة.

مسألة التصور المعياري للمجال العمومي

تعرّضت نظرية هابرماس للمجال العمومي إلى انتقادات كثيرة كما أشرنا في مقدمة المقال بسبب أنّ النموذج الذي وضعه يوصف بأنه “معياري”، بالغ هابرماس في تصوّره بعيدا عن السياقات الفعلية (أو عن الديمقراطية كما هي فعلا la démocratie telle qu’elle existe réellement )، أي أنّ النموذج الذي وضعه هابرماس لا يتطابق مع المجال العمومي الفعلي كما وُجد تاريخيا ولا يُعير اهتماما إلى كل أنواع التفاوت الفعلية التي تعيق التصور الهابرماسي العقلاني (الليبرالي وفق منتقديه) للنقاش والمداولة وكأنّ المجال العمومي منفصل عن الحق الاجتماعي والسياسي.

يعالج هابرماس هذه الانتقادات ويرى أنّ الاكتفاء بالبحث في المجال العمومي في “الدولة الدستورية الديمقراطية” من زاوية الدراسات الإمبريقية (المجال العمومي كما هو فعلا) يفقد كل اهمية له إذا كانت نتائجه لا تُفسَّر في ضوء المقتضيات المعيارية التي يجب ان تستجيب لها عملية تشكّل الرأي العام في هذه الدولة الدستورية الديمقراطية.

فالنظام السياسي حتّى يتمكّن من إثبات استقراره يجب ان تكون “النواة” المعيارية للدستور الديمقراطي (كما يجب أن يمارس) محفورة في وعي المواطنين أي أنّ الحقوق المدنية التي يمارسها المواطنون يجب أن تكون قابلة دائما للتحقق. وبتعبير آخر أيضا فانّ المواطنين هم الذين يجب أن يكونوا في معظمهم مقتنعين تلقائيا بمبادئ الدستور و”ليس الفلاسفة” وفق تعبير هابرماس.

ويستشهد هنا هابرماس بالدعوة التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للهجوم على “الكابيتول” التي لقيت رواجا لدى الجمهور بسبب أنّ المؤسّسات لم تلبِّ المطالب المشروعة للمواطنين. هكذا فإنّ المؤسسات في النظام السياسي الديموقراطي يجب أن تكون موضوعا لثقة المواطنين وألاّ تتعارض أو أن تُكذّب على المدى الطويل هذه الانتظارات أو التصورات المثالية.

فالمواطنون يجب أن يكونوا مقتنعين بمبادئ معيارية راسخة في وعيهم، تجعلهم يؤمنون بأنّ الأصوات لها نفس القيمة في الانتخابات وأنّ التشريع وإصدار القوانين وإدارة البلاد تعمل بطريقة عادية وكما هو منتظر منها، بما في ذلك إمكانية التراجع عن قرارات لا تبدو صالحة. هذه الانتظارات ورغم أنّها تصورات مثالية ولا تُطابق بالضرورة دائما الممارسات الواقعية فإنها تسكن في ممارسات الناس وأحكامهم أو هي منطلق لها.

المواطنون يجب أن يكونوا مقتنعين بمبادئ معيارية راسخة في وعيهم، تجعلهم يؤمنون بأنّ الأصوات لها نفس القيمة في الانتخابات وأنّ التشريع وإصدار القوانين وإدارة البلاد تعمل بطريقة عادية وكما هو منتظر منها، بما في ذلك إمكانية التراجع عن قرارات لا تبدو صالحة.

السياسية التداولية la politique délibérative

إنّ تفكير هابرماس في المجال العمومي متّصل هنا بنوع مخصوص من المجتمعات تلك التي يطلق عليها “المجتمعات التعددية”، أي تلك التي لا يشترك أفرادها في الدين أو في رؤية واحدة للعالم. يمثّل إنتاج التوافق العفوي حول الدستور مشكلا عويصا في هذه المجتمعات. فالسياسة التداولية التي يدافع عنها هابرماس ليست من منظوره “مُثلا وُضعت بشكل تعسفي واعتباطي يُقاس في ضوئها “واقع بائس”، بل هي في المجتمعات التعددية الشرط الأولي المسبق لديموقراطية تستحق أن تسمّى كذلك. فهذه المجتمعات التعدّدية تتنوّع فيها الأوضاع الاجتماعية وأساليب الحياة الثقافية والفردية وكلما ازداد التنوع وعدم التجانس في كل مجالات الحياة، كلما كان تعويض غياب مرجعية مشتركة مستبطنة ممكنا بعملية تكوين جماعية للرأي العام والإرادة التي تصبح من المقتضيات الأساسية والضرورية.

تساهم “رقمنة الاتصال العام” في اضعاف ما يسمّيه هابرماس “التكوين التداولي للرأي العام والإرادة. وهذا مدخل لفهم الأزمات المتعددة التي تُعرّفها الديموقراطية الرأسمالية، بعزل الناس عن بعضهم بعض. فالمواطنة النشطة تقتضي “ثقافه سياسية ليبرالية” تمثل “نسيجا هشا من الاتجاهات والبَداهات”. وهذه الثقافة السياسية مرتبطة أيضا بتوافق ضمني بين المواطنين على جملة من المبادئ مستبطنة في الذاكرة التاريخية وراسخة في القناعات والممارسات والاتجاهات وهي قيم تتوارثها الأجيال بفضل نموذج من التنشئة السياسية. وهذه الثقافة “تتمأسس” في التربية السياسية ويتمخّض عنها الاعتراف المتبادل بأنّ المواطنين يعتبرون أنفسهم شركاء في المواطنة concitoyens وفي الحق في التشريع colégislateurs يتمتعون بالحقوق ذاتها، وهذه هي حسب هابرماس “النواة الصلبة” للثقافة السياسية الليبرالية.

تساهم “رقمنة الاتصال العام” في اضعاف ما يسمّيه هابرماس “التكوين التداولي للرأي العام والإرادة. وهذا مدخل لفهم الأزمات المتعددة التي تُعرّفها الديموقراطية الرأسمالية، بعزل الناس عن بعضهم بعض.

في أهمية الميديا بالنسبة إلى الديمقراطية

تسعى المداولات بهذه الطريقة الى تحقيق الوفاق العام l’entente حول القواعد التي تنظم الحياة العامة بواسطة النقاش. وتقوم الميديا بتنظيم الاتصال داخل المجال العام السياسي الذي يتشكّل وفق آراء عامة متنافسة والتي توجه المواطنين نحو اتخاذ القرارات الانتخابية. تحتاج الديمقراطية الأصيلة إلى ما يسمّيه هابرماس “مجالا عموميا اندماجيا” ذلك الذي يشارك فيه أكبر قدر ممكن من المواطنين والذي تضمنه الميديا بصفتها نظاما يسمح بتكوّن الرأي العام، ثم الإرادة التي يّعبر عنها في الانتخابات، بشكل تداولي أي بوساطة النقاش العام الذي تعرض فيها الوقائع والحجج المختلفة على الجمهور.

يتجاوز هابرماس التصوّر التقليدي لأدوار الصحافة باعتبارها مصدرا للأخبار عن الحياة العامة وللتثقيف والترفيه كما يقال عادة بل يجعل منها شرطا أساسيا ليس فقط لديمقراطية سليمة تشتغل بطريقة طبيعية وفعالة بل أيضا آلية بالضرورة للتشكيل التداولي للرأي العام والإرادة العامة وآلية أساسية ضامنة لما هو جوهر الديمقراطية أي شرعنة القوانين التي تسيّر الحياة العامة عبر المداولة.

والنتيجة أنّ للنظام الميديائي (الإعلامي) أهمية بالغة في المجال العمومي السياسي فهو الذي تتولد عنه آراء عامة متنافسة تستجيب إلى مقتضيات السياسة التداولية. كما أنّ الآراء العامة المناسبة opinions publiques pertinentes في الديمقراطية تُقاس بقدرة “صانعي الرأي العام” les fabricants d’opinions على تشخيص القضايا التي تحتاج إلى سياسات في المجتمع. و”صانعو الآراء” ينوبون (يتحدثون باسم)، من منظور هابرماس، “الأنظمة الوظيفية” (يمكن أن تكون نقابات/ جمعيات مدنية، أحزابا ومؤسسات عمومية ومؤسسات حكومية ومؤسسات اقتصادية، ومهن). فالآراء العامّة ليست فعالة إلاّ عندما تحظى القضايا والمسائل التي يطرحها “صانعو الرأي العام” بالظهور في المجال العمومي وباهتمام المواطنين الناخبين. كما أنّ الميديا تنتقي وتنظّم التفاعلات في الحياة اليومية أو في الأنشطة العامة أو التظاهرات العامّة. وهي تحوّل بذلك “الضجيج الاتصالي” le brouhaha إلى آراء عامّة “مناسبة” و”فعالة”.

تأثير الشبكات الاجتماعية على الصحافة والميديا

يتناول هابرماس في هذا الفصل الأخير مسألة الشبكات الاجتماعية والقضايا التي تثيرها على غرار طبيعة الخدمة التي تقدمها وهل هي خدمة ميديائية (إعلامية) تتمثل في “وضع” المضامين على شبكة (أو منصة) دون التدخل وبشكل محايد كما تدّعي ذلك. وعالج كذلك الطابع الاقتصادي لهذه الشبكات وما تقوم به من استراتيجيات إشهارية “مشخصنة” بفضل الخوارزميات.

ومن هذا المنظور فإنّ الميديا التقليدية لها أدوار “توجيهية ارشادية orientation” وتقوم بدور الرصد في عالم متشعب اجتماعيا تتكاثر فيه المضامين وتتداخل. وفي هذا العالم المتنوع من جهة أساليب الحياة وأنماط السلوك الاجتماعية والثقافية تقوم الميديا التقليدية أيضا بإبراز تأويلات هذه العوالم المتنافسة كما أنّ بإمكانها ان تسمح بإظهار وتكوين تأويل مشترك للواقع وفق منطق أو أسلوب إنساني وتفاعلي intersubjectif. وتسمح هذه الميديا التقليدية التي تشتغل على هذه الطريقة بأن يكون هذا التأويل المشترك للعالم مقبولا وعقلانيا. وهي على هذا النحو تقوم بأدوار الوساطة بين الناس في المجتمعات التعددية.

ويهتمّ هابرماس على وجه الخصوص بالتحديات التي تواجهها “الميديا التقليدية” بسبب ما تسلّطه عليها الشبكات الاجتماعية من ضغوط. فـ”الميديا التقليدية” تخضع الى “عقلانية” مخصوصة تتمثل، حسب هابرماس، في أنّ المضامين التي تقدمها يجب ان تخضع الى معايير ذهنية ومعيارية وجمالية. كما أنّ الجمهور الذي يتلقّى المضامين التي تنتج هذه الميديا يقيّمها وفق هذه المعايير ذات البعد المعرفي. épistémique ويقصد هابرماس مدى قدرتها (أي الميديا التقليدية) على الالتزام بمعالجة (الوقائع) التي تقوم على المعايير المهنية (تنوّع المصادر والموضوعية والتحرّي…).

تؤدي هيمنة الشبكات الاجتماعية على المجال العمومي الى اضطراب عميق في مستوى ادوار الميديا التقليدية، اضطراب لا يقتصر على “تخريب” disruption نماذجها الاقتصادية فقط بل يشمل أيضا أدوارها الديمقراطية والسياسية، وهابرماس يذهب الى أكثر من هذا بالقول إنّ هذه التأثيرات تشمل طبيعة العمل الصحفي. فالشبكات الاجتماعية تعزز ما يسمّى منعرج الجمهور audience Turn الذي لا يرى فيه هابرماس تحولا سلبيا بالضرورة. لكن الشبكات الاجتماعية تجبر الصحافة على التخلي تدريجيا على الاشكال الصحفية التقليدية مثل التحقيقات الصحفية والعمل الاستقصائي بشكل عام لصالح إدارة المعطيات واستقطاب الجمهور.

هكذا تتيح الميديا التقليدية المضامين والتأويلات للجمهور يوميا وتسمح بتأكيد صور العالم وتعديلها أو استكمالها. وبمعنى آخر فإن الميديا والصحافة هي التي تخبرنا عن الأحداث كما يراها الآخرون (تـاويلاتهم) وهي مصدر لهذا التصور المشترك للعالم كما هو موجود فعلا. ويمكن أن نفهم من هذا التعريف لهذا الدور (المعياري) المخصوص أن الميديا والصحافة (المتعددة والمتنوعة) تسمح بتكوين هذه الصورة الكاملة عن العالم.

هل تؤسّس الشبكات الاجتماعية مجالا عموميا جديدا ؟

يتشكّل المجال العمومي غير المنظم من تعليقات المستخدمين وتفاعلات (commentaires et Like) المتابعين في إطار “غرف الصدى” Chambres d’échos و”فقاعات معرفية” (Bulles). وهذه الفضاءات الجديدة يمكن أن تكون بعض من سمات “المجال العمومي غير التقليدي” بما انّها ايضا جزء من شبكة أو انها مشبّكة مع فضاءات اخرى (لا يذكرها هابرماس) لكنها جزء من مجال عمومي غير اندماجي بإمكانه أن يمنع الأصوات المختلفة والمغايرة les voix dissonantes ويستقطب فقط الأصوات الموالية.

وفي هذه الفضاءات تتشكّل فيها أنواع من المعرفة لم تخضع إلى أي شكل من أشكال من التقييم والتمحيص القائم على المعايير المهنية le filtrage professionnel التي تقوم بها الصحافة. وفي هذه المجموعات الرقمية التي هي “غرف صدى” أو “فقاعات معرفية” تحافظ الجماعات على هويتها بالتأكيد المتواصل على المعارف السائدة ورفض أي نوع من انتاج المعايير المشتركة universalisation الذي يصبح موضوعا للريبة والشك. وهذه الفضاءات الجديدة تمثّل ما يسمّيها هابرماس بشبه مجال عمومي espace semi public وهي مجالات منفصلة عن المجال العمومي الممؤسس بواسطة الصحافة.

نتائج الشبكات الاجتماعية على المجال العمومي

في المجتمعات الديموقراطية الدستورية يفقد المجال العمومي قدرته الجامعة والاندماجية كما أنه يفقد الأنشطة النقاشية الحوارية discursives بين الرؤى المختلفة. هكذا ينهار المجال العمومي السياسي او المجال المشترك للسياسة ليتحول إلى مجال يتشكل من فضاءات متضادة أو مجال للمعارك les batailles ويؤدّي ذلك إلى فقدان المؤسسات السياسية لثقة الناس وظهور أنواع من الاحتجاج غير الديمقراطي ذات التوجه الشعبوي السلطوي.

وينتقل الصراع من المجال العمومي الى المجال السياسي ليدمره من الداخل ويتم إتلاف النظام السياسي، حتى يمتد الصراع الى جوهر المجتمع. ومن مظاهر الاستقطاب السياسي أسلوب من الاتصال السياسي بواسطة شبكات اجتماعية يهدف للحصول على مبايعة المريدين للرئيس/القائد السياسي في مجال عمومي متداع. كما يفقد الجمهور القدرة على التمييز بين ما هو حقيقة وبين الأخبار الزائفة ما يؤدّي إلى تشويه عميق للمجال العمومي بل إنّ العيش في هذا العالم الذي لا يمكن التمييز فيه بين الكذب والحقيقة سيؤدّي الى نشأة شخصية مضطربة وذات أعراض إكلينيكية.

هذه القضايا كلها غير منفصلة بالنسبة إلى هابرماس عن نظرية الديمقراطية. فالاتصال في المجالات شبه العمومية غير منفصل عن السياسة ومتصل دائما بالسياسة. كما أنّ النظام الديموقراطي ينهار ويتدهور عندما تصبح، ما يسميها كذلك هابرماس، “البنية التحتية” للاتصال العمومي l’infrastructure de la communication publique عاجزة على إدماج الناس وجذب اهتمامهم للمسائل التي تحتاج إلى قرارات سياسية. وهذا يؤدي الى “مجال العمومي معطل ومخرب disrupted public sphere.

الكاتب : الصادق الحمامي

دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : الصادق الحمامي

دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.

sadokkkkkkk