الكاتبة : راضية الشرعبي

صحفية

“جفّت شرايين المائدة المائية السَطحيّة ونضبت آبارنا الارتوازية بسبب الحفريات العشوائية، وقلّت المراعي بفعل الجفاف فاضطرّنا الحال إلى بيع ابقارنا”، بحرقة حدّتنا عبد القادر بن هويدي شيخ سبعيني من فلاحي منطقة “قليب الجمل” الواقعة بمعتمدية الفحص من ولاية زغوان شمالي البلاد التونسية.

يضيف الشيخ السبعيني متحسّرا، أنّه في وقت سابق كان يمتلك 28 بقرة وفحلين وأكثر من ثلاثين رأس غنم لم يبق له منها سوى عشرُ بقرات فقط، قائلا: نحن منطقة فلاحية بالاساس، طالبنا بحقنا في الماء لإنقاذ مزارعنا وأغنامنا لكن ردّ الجهات المسؤولة في كلّ مرّة كان دائما بالرفض وتتعلل بأنّ المنطقة مستنزفة مائيا بسبب حفر آبار عشوائية ساهمت بشكل كبير في نضوب المائدة المائية بتلك المنطقة. أين كانت هذه الجهات الرسمية عندما تمّ استنزاف المنطقة من مياهها؟.”

الكاتبة : راضية الشرعبي

صحفية

“جفّت شرايين المائدة المائية السَطحيّة ونضبت آبارنا الارتوازية بسبب الحفريات العشوائية، وقلّت المراعي بفعل الجفاف فاضطرّنا الحال إلى بيع ابقارنا”، بحرقة حدّتنا عبد القادر بن هويدي شيخ سبعيني من فلاحي منطقة “قليب الجمل” الواقعة بمعتمدية الفحص من ولاية زغوان شمالي البلاد التونسية.

يضيف الشيخ السبعيني متحسّرا، أنّه في وقت سابق كان يمتلك 28 بقرة وفحلين وأكثر من ثلاثين رأس غنم لم يبق له منها سوى عشرُ بقرات فقط، قائلا: نحن منطقة فلاحية بالاساس، طالبنا بحقنا في الماء لإنقاذ مزارعنا وأغنامنا لكن ردّ الجهات المسؤولة في كلّ مرّة كان دائما بالرفض وتتعلل بأنّ المنطقة مستنزفة مائيا بسبب حفر آبار عشوائية ساهمت بشكل كبير في نضوب المائدة المائية بتلك المنطقة. أين كانت هذه الجهات الرسمية عندما تمّ استنزاف المنطقة من مياهها؟.”

يوثّق هذا التحقيق تواصل الاستغلال العشوائي للمائدة المائية من طرف الفلاّحين وتنامي أعداد الآبار العشوائية في عديد الولايات ما يتسبّب في انخفاض منسوب مياه المائدة المائية الجوفية وفي تضاعف ملوحتها، وسط عجز الرقابة الميدانية ما يهدد حق الأجيال القائمة والقادمة في حقها في الماء.

الأولوية للمصانع والجفاف لأراضي الفلاحين

بلغ حجم استخراج الماء عبر الآبار المرخّصة 1324 مليون متر مكعّب (عدد الآبار المرخّصة 13322) سنة 2019، فيما يقدّر الاستغلال السنوي للآبار غير المرخّصة بحوالي 519 مليون متر مكعّب أي أكثر من ثلث استغلال الآبار المرخّصة (يقدّر عدد الآبار غير المرخصة بحوالي 19 ألف وتشهد أوجها في الجنوب التونسي بنسبة 81.5%) حسب التقرير الوطني لقطاع المياه لسنة 2020 الصادر عن مكتب التخطيط والتوازنات المائية بوزارة الفلاحة والموارد المائيّة والصيد البحري.

وتُشير تقارير الوزارة ذاتها إلى وجود استنزاف مشطّ للمائدة المائية حيث حذّرت من الاستغلال المفرط للمياه الجوفية. مع ذلك يواصل الفلاحون سياسة الحفر العشوائي للآبار والتي بلغ عددها الـ26341 بئرا غير قانونية بنهاية عام 2021 فضلا عن 14842 بئرا أخرى مرخص لها وفق ما تحصلنا عليه من معلومات بناء على مطلب نفاذ إلى المعلومة تقدمنا به إلى وزارة الفلاحة.

مع النقص الحادّ في التساقطات المطرية والتغيرات المناخية التي تعرفها تونس، أصبح البحث عن الماء هاجس الفلاحين في مختلف مناطق البلاد، ما شجّع على ظاهرة الحفر العشوائي للآبار كما تبينه أرقام وزارة الفلاحة خاصة في ولايات نابل والقيروان وقبلّي أين يتجاوز عدد الآبار العشوائية عدد الآبار النظامية أو المرخص لها.

يقول عبد القادر، أحد فلّاحي منطقة الهوايدية، في حديثه لموقع الكتيبة إنّ المنطقة الفلاحية التي ينتمي إليها كانت تزوّد الولاية (زغوان) بمنتجات فلاحية عديدة على غرار الخضار والألبان. وبعد أن جفّت الآبار أصبحت أراضيهم قاحلة يصعب استغلالها ما أثّر سلبا في كامل سلسلة الإنتاج الفلاحي بالمنطقة على حدّ وصفه.

لا يختلف الوضع كثيرا أو ربما هو أكثر مأساوية، في ولاية سليانة شمال غربي تونس المشهورة بمياهها العذبة. بالحرقة ذاتها يروي فرج الضاوي، فلاح بمنطقة يطلق عليها اسم “البحيرين”، قصّة معاناته مع نقص المياه قائلا: “قضّيت سنوات طويلة من حياتي في خدمة هذه الأرض، في السابق كان الماء وفيرا وكانت المنطقة تسحر أنظار من يزورها أو يمرّ عليها لما تمتاز به من خضرة ومناظر طبيعية خلابة وأشجار مثمرة.”

يُشير الضاوي في حديثه مع معدّة هذا التحقيق إلى أنّ أشجاره التي قضّى سنوات عمره في رعايتها تيبّست وذبلت وبقيت شاهدة فقط على سنوات من الخُضرة والثمار. لا يخفي الشيخ السبعيني حنقه مما آلت إليه الأوضاع في قريته بسبب الاستنزاف الحاد للمياه من طرف مصانع تعليب المياه المعدنية على حسابهم وفق قوله.

لا نريد لما تبقّى من أشجارنا أن تموت هي الأخرى، نحن نقتات من هذه المساحات الخضراء. منذ سنوات ونحن نطالب برخص تنقيب عن الماء لإنقاذ ما تبقّى لكنّ مطالبنا رُفضت بدعوى استنزاف المائدة المائية.

في الوقت الذي يعاني منه فلاحو منطقة برقو من نضوب آبارهم ونقص فادح في المياه ما ألحق ضررا كبيرا بأشجارهم وحقولهم، تواصل الدولة منح تراخيص جديدة لشركات تعليب المياه المعدنية للحفر والتنقيب عن مياه عذبة جوفية.
حسب شهادة عدد من فلاحي برقو ومن بينهم محدّثنا فرج الضاوي، استيقظت المنطقة في شهر فيفري/ أيار من هذا العام على صوت آلة حفر للتنقيب عن الماء لفائدة وحدة تعليب مياه معدنية، في ذات الوقت تمّ حرمانهم من رخص لحفر آبار بأراضيهم الفلاحية مستغربين من قرار وزارة الفلاحة بتمكين شركة صناعية من رخصة حفر لأغراض صناعية في الوقت الذي تحرمهم منها لأغراض فلاحية؟

من بين هؤلاء الفلاحين الذين تمّ رفض مطالبهم في الحصول على ترخيص حفر بئر في أراضيهم الفلاحية رضا بن خليفة قيراطي في منطقة “البحيرين” وهي نفس المنطقة التي تحصّل فيها مصنع تعليب مياه على رخصة تنقيب، حيث استظهر بوثائق تؤكد رفض الإدارة الجهوية للفلاحة طلباته في الحصول على رخصة حفر بئر عميقة منذ عام 2018.

أرضي تمسح 8 هكتارات بها 400 شجرة زيتون و 700 شجرة تفاح وحبّ الملوك (الكرز) يتهددها التيبّس والتلف.

خليفة قيراطي فلاح

تشهد عمادة “البحيرين” الواقعة على مقربة من جبل السرج على اهتراء البنية التحتية الفلاحية بالمنطقة، بعد أن يبست أشجار الخوخ وثمار أخرى مزروعة على مساحة تتجاوز الـ 40 هكتارا تمثل مصدر رزق نحو 99 عائلة.

ويعتمد فلاحو منطقة برقو بالأساس على 8 آبار ارتوازية عموميّة تستفيد منها 6 مجامع مائية تقوم بتزويد نحو 500 هكتار من الأراضي الفلاحية بالماء، كما تتضمن ستّ عيون مياه طبيعية أغلبها جفت بفعل الاستغلال المجحف لها من طرف شركات تعليب المياه الأمر الذي تسبّب بدوره في نقص الموارد المائية بالمنطقة.

وكان فلاحو منطقة “البحيرين” وباقي فلاحي منطقة برقو عموما قد قاموا بعديد التحرّكات الإحتجاجية من أجل وضع حدّ لشركات استنزفت مياه المنطقة بما عاد بالضرر على الأراضي الفلاحية هناك.

وتُظهر معاينات قام بها عدد من الفلاحين عن طريق عدول تنفيذ حالة الضرر الكبير الذي أصاب أشجار الزيتون والخوخ والكرز والفستق.

دفع الوضع الحرج الذي وصل إليه فلاحو منطقة برقو بالمنتدى التونسية للحقوق الإقتصادية والإجتماعية إلى إصدار بيان شديد اللهجة في شهر مارس من هذا العام، ندد فيه بما وصفها بالانتهاكات التي تقوم بها شركات تعليب المياه للمائدة المائية والضرر الكبير الذي لحق أراضي الفلاحين.

وكان المنتدى قد وصف سياسة الدولة المتعلّقة بالمياه في منطقة برقو بـ”سياسة الكيل بمكيالين” التي تحرم مواطني الجهة من مزاولة نشاطهم الفلاحي وتهدّد مورد رزقهم بينما تفتح الطريق أمام وحدات تعليب المياه مع ما تتسبب به من استنزاف للطبقات المائية وتهديد للأمن المائي للجهة والبلاد وفق نص البيان.

أمام غياب سياسات واضحة، الآبار العشوائية قِبلةُ الفلاحين

“الإدارة تتأخر كثيرا في الردّ على طلبات الفلاحين في الحصول على رخص حفر آبار، رغم أنّ ملفات أغلبهم تكون مستوفية الشروط، وهذا أهمّ عامل يفسّر ظاهرة لجوء الفلاحين إلى حفر آبار عشوائية”. هذا ما ذهب إليه طارق المخزومي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري المكلّف بالموارد المائية.

ويضيف المخزومي في حواره مع معدّة التحقيق أنّ التأخر في دراسة الملفات يخلق نوعا من الضغط على الإدارة وعلى الفلاحين في الآن ذاته، مشيرا الى أنّ لجوء الفلاحين إلى حفر آبار عشوائية مردّه الحاجة الكبيرة للماء حتى لا تتعطّل فلاحتهم خاصة وأنّ 80 % من العاملين في القطاع الفلاحي في تونس هم من صغار الفلاحين، أي لا إمكانيات مادية لهم ولا مورد رزق لهم غير خدمة أراضيهم، على حدّ تعبيره.

الاتحاد لا يشجّع على استنزاف المائدة المائية ومن يعمل خارج إطار القانون، ولكن في المقابل من يقوم بالحفر العشوائي يوفّر أيام عمل ويزوّد السوق بكميات كبيرة من مختلف المنتوجات الفلاحية.

طارق المخزومي عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحين

في ردّها على مطلب نفاذ إلى المعلومة كنا قدّ تقدّمنا به قالت وزارة الفلاحة انّ عدد الملفات المتعلّقة بالحصول على رخص حفر آبار والمعروضة أمام لجانها بلغت في الأشهر السبعة الأولى من عام 2023، نحو 1852 مطلبا تمت دراسة 40 % منها وتحصل نحو 746 طالب على رخص.

من بين أهمّ المناطق التي تشهد أعدادا كبيرة من الحفريات لآبار عشوائية، ولاية القيروان وسط البلاد، والتي تعرف نقصا فادحا في المياه السطحية ما فتح المجال أمام الفلاحين لاستغلال الموائد العميقة.

وتُشير إحصائيات وزارة الفلاحة الى أنّ عدد الآبار العشوائية بولاية القيروان كان قد بلغ سنة 2021 نحو 4671 بئرا في الوقت الذي لا تتجاوز فيه أعداد الآبار المرخص لها الـ705 بئرا. يشي هذا الوضع بضعف رقابة الدولة على الأراضي الفلاحية بهذه الولاية والتي ازدهرت فيها زراعات سقوية عديدة تستهلك الكثير من الماء على غرار الطماطم والقرعيات.

ولا يحتاج حفر بئر عشوائية إلى كثير من العناء والجهد، إذ يكفي أن تتفق مع مهندس مائي ومقاول حفريات وتمرير سلك كهرباء من أحد المنازل القريبة وانتظار حلول الليل، هذا ما خلصنا إليه بعد سؤال توجهنا به إلى عدد من فلاحي الجهة حول كيفية حفر الآبار دون أن يبلغ الأمر إلى مسامع أجهزة الدولة.

ويعتبر جزء لا بأس به من الفلاحين خلال عرض شهاداتهم على معدّة التحقيق أنّ المياه الكامنة تحت أراضيهم هي في الأصل مياههم وهم أولى بها في استغلالها وأنّ المطالب التي يتمّ تقديمها من طرف الفلاحين لا يتلقون نظيرها جوابا من أجهزة الدولة، الشيء الذي يعتبرونه موافقة ضمنية.

من بين هؤلاء رضا فلاح شاب له أرض فلاحية بإحدى قرى ولاية القيروان، قام بحفر بئر عشوائية بعد تقدّمه بطلب إلى مصالح وزارة الفلاحة بالولاية، وقد طال انتظاره للردّ على طلبه.

تقدّمت للحصول على رخصة حفر بئر، منذ أن تمّ غلق سدّ نبهانة في عام 2016، طبعا كنت علي يقين بأنّ الإدارة سترفض طلبي لذلك اغتنمت الوقت الذي تتولّى فيه الأخيرة دراسة الملف و حفرت بئرا.

ولتشغيل مضخات المياه يعمد الفلاحون المخالفون للقانون إلى بناء بيوت صغيرة بعيدة عن الأعين يضعون فيها محرّكا و يمررون إليها سلكا كهربائيا من أحد المنازل القريبة، فيما اختار آخرون الإعتماد على الطاقة الشمسية عبر تركيب ألواح شمسية لتشغيل المضخات.

نقوم ببناء بيت صغير نطالب على اثره بإيصال الكهرباء المنزلي اليه ومن ثم نستغلّ الكهرباء لتشغيل المضخة. البعض منّا يقوم بتركيز ألواح شمسية.

يُفسّر “شكري” وهو من أشهر المقاولين المختصين في حفر الآبار في ولايات الوسط أنّه في أغلب الأوقات يعتمد طرقا بدائية في البحث عن مكان وجود الماء وفي أحيان أخرى يستعين مُلّاك الأراضي بمهندسين يعتمدون تقنيات حديثة.

وحول العلاقة التعاقدية التي تجمعه بالفلاحين خاصة الراغبين منهم في حفر آبار عشوائية يقول شكري انّه يتفق مع مالكي الأراضي حسب الامتار التي يتمّ حفرها أو في شكل اتفاق كلي، مشيرا في هذا الصدد الى أنّ كلفة الوصول إلى الماء على بعد عشرات الأمتار من سطح الأرض تختلف عن كلفة حفر بئر عمقها يتجاوز الـ 350 مترا، وقد تتجاوز الـ 40 ألف دينارا.

وعن حرفائه أكّد مقاول الحفريات أنّهم ليسوا من المجال الفلاحي فقط إذ هناك من يقوم بحفر آبار دون ترخيص لاستعمالات منزلية وصناعية وحتى سياحية وترفيهية (المسابح المنزلية)، وفق شهادته.

تفاقمت ظاهرة الحفر العشوائي بصفة مهولة ومفزعة خلال السنوات الأخيرة التي تتّسم بنقص حاد في هطول الأمطار. وتعتبر ولاية قبلي جنوبي البلاد، من أبرز الولايات التي عرفت ارتفاعا كبيرا في عدد الآبار غير القانونية، حيث قفز العدد من 4559 بئر عشوائية في عام 2017 إلى 9712 بنهاية عام 2021، وبهذا تكون قبلي هي الولاية الأكثر تسجيلا للآبار غير المرخص لها باستحواذها على 37 % من العدد الجملي للآبار العشوائية على المستوى الوطني.

أما ولاية نابل فتبلغ الحفريّات العشوائيّة فيها 1961. وتحتوي على 31 مائدة مائية جوفية عميقة معظمها مستغل بصفة مفرطة. فالمائدة الجوفية بقرمبالية، مثلا، تحتوي على 9.5 مليون متر مكعب من الموارد المائية في حين يقع استغلال 28.68 مليون متر مكعب. ووفق ما جاء في تقرير”مشروع استغلال طبقات المياه الجوفية العميقة للمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بنابل”، فإنّ استغلال طبقات المياه الجوفية العميقة سنة 2021 بلغ 77.92 مليون متر مكعب من مجموع 32.8 مليون متر مكعب.

وطالبت التقارير التي تحصلنا عليها بضرورة تجهيز جميع الآبار بعدادات قيس من أجل اعادة تقييم الموارد المتجددّة لجميع المياه الجوفية بشكل صحيح. وتحتوي ولاية نابل على 79 نقطة مراقبة للمائدة الجوفية و74 نقطة مراقبة للمائدة السطحيّة موزعة على الموائد المائية الموجودة بالجهة تعطّل البعض منها في السنوات الأخيرة.

ووفق التقارير ذاتها تم، خلال سنة 2022 والنصف الأوّل من سنة 2023، تسجيل 118 محضر مخالفة، 37 شملها 18 قرار ردم نفّذت منها 13 قرارا في حين تعطّلت بقية القرارات إما لعدم تعاون السلط المحلّية -المعتمد أساسا- أو بسبب تعنّت مالك البئر وعدم فتح الأبواب برغم وجود الجهة الامنية او لعدم تعاون الجهة الأمنية لحجز الحفارة.

رقابة الدولة ضعيفة حتّى على الآبار المرخّص لها

يُظهر تقرير محكمة المحاسبات الصادر في عام 2021 لمهمّتها الرقابية حول التصرّف في مياه الريّ (2013- 2019) أنّ طبقات المياه الجوفية في تونس تعرّضت لاستغلال مفرط بسبب الضخ المفرط للمياه وغياب المراقبة للآبار القانونية فضلا عن تواصل تزايد أعداد الآبار غير القانونية والتي باتت موضع تساؤل لأنّها تؤدّي إلى انخفاض مستوى منسوب المياه الجوفية.

وكانت محكمة المحاسبات قد أشارت في تقريرها السابق ذكره الى أنّ المندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية تتحوّز على دليل إجراءات يضبط مختلف الوثائق المكوّنة لملف طلب الحصول على رخصة تنقيب عن المياه الجوفية. ورغم ذلك لاحظ التقرير غياب جدول قيادة يتضمن مجموع المؤشرات التقنية والاجتماعية والاقتصادية والمعطيات الهيدرولوجية التي يتعيّن اعتمادها من كلّ المندوبيات الجهوية عند دراسة مطالب الرخص ما أدّى إلى وجود اختلاف في المؤشرات المعتمدة من مندوبية إلى أخرى وتباين في الأراء في شأن ملفات متشابهة وفق ما ورد في التقرير.

وحسب تقرير المحكمة، تبلغ الموارد المائيّة المتاحة التّي يمكن تجميعها سنويّا بواسطة المنشآت المائية ما يناهز الـ 4929 مليون متر مكعّب تتكون من مياه سطحية مقدّرة بنحو 2731 مليون متر مكعّب و مياه جوفية غير عميقة تناهز 768 مليون متر مكعّب و1429 مليون متر مكعّب من المياه الجوفية العميقة.

ونظرا إلى غياب ضوابط موحّدة، كانت اللجنة الوطنية لإسناد الرخص وهي إدارة مركزية تتولّى التمعّن في طلبات الحصول على حفر واستغلال الآبار والموافقة عليها بشكل نهائي، قد قامت عدلت عن إسناد رخص لما يناهز الـ 4 آلاف ملف كان قدّ تم منحها موافقة مبدئية في مستوى الإدارات الجهوية وذلك في الفترة المنحصرة بين عامي 2013 و2019 وهو ما يمثل 86% من مجموع الملفات التي تمّ النظر فيها.

وأشارت محكمة المحاسبات الى أنّ رفض اللجنة الوطنية إسناد موافقات نهائية لتلك الملفات يعود الى تراجع منسوب المياه في عدّة مناطق إلى ما دون الـ 0.3 مترا أو لتجاوز نسبة الإستنزاف للمائدة المائية لما يفوق الـ 130 بالمائة وغيرها من المخاطر المهددة لمخزون المياه الإستراتيجي.

رغم ذلك تواصلت عمليات الحفر العشوائي من طرف الفلاحين بحثا عن الماء خاصة في ظل تراجع التساقطات المطرية وحالة الجفاف التي تعاني منها البلاد في الأعوام الأخيرة في مخالفة صريحة لما تنصّ عليه فصول مجلة المياه والتي يرجع إصدارها إلى عام 1975.

التنقيبات والآبار التي لا يتجاوز عمقها خمسين مترا وغير موجودة داخل منطقة تحجير أو صيانة يمكن القيام بها دون رخصة سابقة شرط اعلام الادارة. ويقصد بمناطق الصيانة تلك المناطق التي تحتوي على طبقات مائية باطنية يخشى استنزافها ويحجر استغلالها دون ترخيص مسبق من الوزير المكلف بالمياه، أما مناطق التحجير فهي مناطق تحتوي على طبقات مائية باطنية مستنزفة ويحجر القيام داخلها بتنقيبات جديدة.

الفصل 7 من مجلة المياه

وفي سياق ذي صلة كان التقرير الصادر عن محكمة المحاسبات قد أشار إلى وجود ضعف كبير في منظومة الرقابة على الآبار العميقة المرخص لها من قبل الدولة خاصة من حيث مستوى الاستنزاف وكميات المياه المستعملة.

وبيّن تقرير المحكمة أنّ أكثر من 90% من الآبار المرخصة غير مجهزة بعدادات تمكّن أجهزة الدولة من مراقبة مدى احترام مستغلّي هذه الآبار للمعايير المنصوص عليها بمجلّة المياه، ملاحظة أنّ نقاط الرقابة على أكثر من 12 ألف بئر مرخص لها لم تتجاوز الـ 146 نقطة كما أنّ 74% من تجهيزات المراقبة والقيس معطّلة بالكامل ما أدّى إلى غياب تقارير رسمية عن وضعية منسوب المياه في أكثر من 18 مائدة مائية فاقت نسبة استغلالها الـ 170%.

حمادي الحبيّب، مدير عام مكتب التخطيط التوازنات المائية بوزارة الفلاحة، حدثنثا عن منظومة الرقابة شارحا في حوار جمعنا به أنّ الوزارة تعتمد مقياسين أوّلهما يتعلّق بنسبة استغلال المائدة والتي يجب أن لا تتعدّى الـ 130% وثاني المقاييس حسب ذات المتحدّث يعتمد على مراقبة انخفاض المائدة والتي يجب أن لا يتجاوز 40 سم بين السنة الماضية والحالية، مشيرا إلى وجود دليل إجراءات تمّ توزيعه على المندوبيات الجهوية الفلاحية.

وفي خصوص غياب استراتيجية لمواجهة الحفر العشوائي للآبار يوضّح الحبيّب أنّ الدّولة بصدد وضع خطّة لمراقبتها أمام عدم كفاية الإجراءات الرّدعية مع مواصلة الاعتماد على مجلة (قانون) المياه القديمة، مبيّنا أنّه تمّ ردم عدة آبار خاصة الجديدة منها وإحالة ملفات أخرى تخص الآبار القديمة إلى القضاء لم يحسم في مآلاتها بعدُ.

ويُرجع الحبّيب تفشي ظاهرة الحفر العشوائي للآبار إلى عدم ملاءمة مجلّة المياه للتحدّيات الجديدة، خاصة في ظل التغيّرات المناخية وحالة الجفاف المتواصلة التي تعرفها البلاد والتي أصبح معها البحث عن الماء هاجس كل الفلاحين، مشيرا في ذات السياق الى أنّ مجلّة المياه الحالية مازلت تَعتبر الإعتداء على الملك المائي العمومي جنحة عقوبتها لا تتجاوز الخطية المالية.

وعلى عكس ما هو متداول من أنّ مجالات السياحة والاستعمالات المنزلية هي الأكثر استغلالا للموارد المائية في كامل البلاد، تشي أرقام وزارة الفلاحة بغير ذلك، حيث تستحوذ الفلاحة على ما يناهز الـ 75%، الشيء الذي يجرّ مباشرة إلى ضرورة تغيير السياسة الفلاحية برمتها في اتجاه زراعات أقل استهلاكا للمياه خاصة في المناطق الحمراء والتي تشهد نقصا فادحا في منسوب المائدة المائية بها.

غياب الاستدامة يهدّد مخزون تونس المائي

يُشير تقرير حديث صادر عن وزارة الفلاحة حول أدائها السنوي إلى أنّ الموائد المائية السطحية والعميقة على كامل البلاد التونسية إجمالا مستغلة فوق طاقتها.

وقدّرت الوزارة معدّل نسبة الاستغلال خلال سنة 2022 بما يتجاوز الـ 125 بالمائة بالنسبة الى المائدة السطحية و129% في الموائد المائية الجوفية العميقة بإحتساب الآبار العشوائية وغير القانونية و 101 % دون إعتبار الآبار العشوائية.

ويُفسّر المهندس والخبير في المجال المائي والمسؤول السابق في وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيّد البحري محمد صالح القلايد، أنّ النسب الأمثل لاستغلال الموائد المائية تتراوح بين 70 و 80 % وذلك قصد ترك مخزون احتياطي سنوي تفاديا لتواتر سنوات الجفاف.

وحذّر الخبير من تواصل الاستغلال المفرط للمياه خاصة في المجال الفلاحي. وطالب بتحديد مناطق الإستغلال المكثّف للخزّانات المائية الجوفية وحمايتها.

كما يظهر التقرير الذي أشرنا إليه أعلاه، الصادر عن وزارة الفلاحة، تطورا واضحا لنسب استغلال الموائد المائية في الطبقات الجوفية (المياه العميقة الجوفية) حيث ارتفعت النسبة إلى ما فوق 134% بنهاية عام 2020 بعد أن كانت في حدود الـ4% في عام 2012، وهو ما يوضح بشكل جلي لجوء الفلاحين إلى حفر آبار عشوائية عميقة بسبب تقلّص التساقطات المطرية وحالة الجفاف التي تعاني منها البلاد على مدار السنة.

الدكتورة والباحثة في مجال المياه راضية السّمين كانت قد نبّهت في لقاء جمعها مع موقع الكتيبة الى وجود نقص في عمليّة المراقبة على مستوى تجهيزات القيس والموارد البشريّة للوزارة. وطالبت بضرورة رقمنة المجال لمعرفة الكميّات الفعليّة التي يتمّ ضخّها حتّى لا يُترك الأمر للتوقّعات. ودعت الى ضرورة مراقبة نوعيّة المياه لأنّ عديد الموائد أصبحت مهددة بالتملّح، حسب تصريحها.

وحمّلت محدّثتنا المسؤولية للدولة وللمواطن.ـة على حدّ سواء، مشيرة الى ما وصفته بـ”غياب الوعي الكامل بالمخاطر التي تهدد مخزون تونس المائي”، مبرزة أنّ ظاهرة انتشار الآبار العشوائية وخاصة تلك التي تستنزف الموارد المائية السطحية تفضح بشكل جلي غياب الوعي.

انّ إسناد رخص الحفر لما دون 50 متر بمجرد إعلام الادارة هو أمر غير معقول، لا بدّ من قوانين جديدة ردعية لحماية الموائد السطحية لأنّ عديد المواطنين يتعاملون بنوع من الأنانية و الاستسهال مع عمليّات الحفر.

الباحثة في مجال المياه راضية السمين

وكانت الدّكتور راضية السمين قد انتقدت المعايير التي يتمّ اعتمادها لاسناد الرخص والتي تتعلّق بنسبة استغلال المائدة المحددّة بــ130 بالمائة. نقول محدّثتنا في هذا السياق:

على الدولة اعتماد نسبة تجدد المائدة المائيّة كمعيار وليس نسبة الاستغلال فمن غير المعقول اعتماد نفس ضوابط استغلال المائدة السطحيّة على الموائد الجوفيّة وخاصّة منها غير المتجدّدة في قبلّي مثلا

الباحثة في مجال المياه راضية السمين

وأرجع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ظاهرة استئناف الموارد المائية، في دراسة كان قد أصدرها في بداية هذا العام تحت عنوان “أزمة المياه في تونس، سوء التصرف في الموارد المائية يهدد بالشحّ المائي”، إلى السياسة الفلاحيّة المتّبعة منذ عقود والتي تحتاج -حسب ذات الدراسة- إلى مراجعات عميقة لتجنّب إهدار الموارد المائية غير المتجدّدة إضافة إلى إيجاد حلول تقطع مع اعتماد الفلاحين المفرط على المياه الباطنية.

وأجمعت التقارير الوطنية المتعلّقة باستغلال المياه في تونس على أنّ عملية السحب العشوائي للمياه الجوفية وصلت الى مرحلة “مقلقة” تجاوزت بكثير معدل تجديد الموارد الشيء الذي يعزّز احتمال زيادة ملوحة المياه كما يُفسره ذلك التقرير السنوي للمياه لعام 2021.

وتؤكد دراسات المراكز الفنية التابعة لوزارة الفلاحة التونسية وجود تأثير واضح في المنتوجات الفلاحية التي ارتفعت نسبة الملوحة فيها بسبب ارتفاع نسبة ملوحة المياه، الشيء الذي أدّى بدوره إلى تراجع في جودة تلك المنتجات وانخفاض انتاجيّة الأراضي.

يجمع الخبراء على دخول تونس مستوى الخطر الداهم في علاقة بالحفاظ على مخزونها الاستراتيجي من المياه، وتحذّر عديد المنظمات الدولية من النقص الفادح للمياه في تونس التي دخلت مستوى الفقر المائي المدقع. وكان مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان، بيدرو أروخو أغودو، قد نبّه في ختام زيارته إلى تونس في شهر جويلية من عام 2022، من حالات الجفاف غير العادية التي تضرب المنطقة والتي تميل لأن تصبح أكثر إطالة وكثافة داعيا السلطات التونسية إلى وجوب إعداد استراتيجية ناجحة في إدارة الطبقات المائية الجوفية باعتبارها احتياطات استراتيجيّة.

في الأثناء، مازال الشيخ السبعيني عبد القادر بن هويدي، أحد فلاحي منطقة “قليب الجمل” الواقعة بمعتمدية الفحص يشتكي دون جدوى كساد نشاطه الفلاحي وخسارة أبقاره يوما بعد يوم بسبب الجفاف من جهة وتجاهل السلطات استغاثاته المتكرّرة لحماية المنطقة من الحفر العشوائي للآبار التي استنزفت بئره الارتوازية وعجّلت بانهيار منظومته الانتاجية.

كلمة الكتيبة:

في إطار انفتاحه على منظّمات المجتمع المدني الناشطة في مجال دعم الصحافة والصحفّيين ينشر موقع الكتيبة هذا التحقيق الذّي أنجزته الزميلة راضية الشرعبي بدعم من مركز تطوير الإعلام

كلمة الكتيبة:
في إطار انفتاحه على منظّمات المجتمع المدني الناشطة في مجال دعم الصحافة والصحفّيين ينشر موقع الكتيبة هذا التحقيق الذّي أنجزته الزميلة راضية الشرعبي بدعم من مركز تطوير الإعلام

الكاتبة : راضية الشرعبي

صحفية

تأطير : د.أمين بن مسعود
بودكاست: حمزة فزاني
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
غرافيك: منال بن رجب
بودكاست : حمزة فزاني
تطوير تقني: بلال الشارني
تأطير: د.أمين بن مسعود

الكاتبة : راضية الشرعبي

صحفية

alqatiba