الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

“كانت لحظة مؤثرة جدا”، بهذه الكلمات تحدثّ يوسي بيلان الدبلوماسي الإسرائيلي بعيد وصوله إلى تونس لوسائل الإعلام خلال ندوة صحفيّة عقدها آنذاك على هامش الزيارة.

تعتبر تلك الزيارة التي تعود إلى يوم 11 أكتوبر/تشرين الأوّل 1993، من الزيارات الرسميّة القليلة المعلنة بين تونس وإسرائيل رغم تعدّد اللقاءات المتبادلة بين الطرفين سواء خلال عهد الرئيس الحبيب بورقيبة أو في فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي.

لقد كان السياق وقتها محفوفا بمسار عملية السلام في الشرق الأوسط التي أطلقت بعد مؤتمر مدريد برعاية أمريكية سوفياتية وصولا إلى إتفاق أوسلو.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

“كانت لحظة مؤثرة جدا”، بهذه الكلمات تحدثّ يوسي بيلان الدبلوماسي الإسرائيلي بعيد وصوله إلى تونس لوسائل الإعلام خلال ندوة صحفيّة عقدها آنذاك على هامش الزيارة.

تعتبر تلك الزيارة التي تعود إلى يوم 11 أكتوبر/تشرين الأوّل 1993، من الزيارات الرسميّة القليلة المعلنة بين تونس وإسرائيل رغم تعدّد اللقاءات المتبادلة بين الطرفين سواء خلال عهد الرئيس الحبيب بورقيبة أو في فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي.

لقد كان السياق وقتها محفوفا بمسار عملية السلام في الشرق الأوسط التي أطلقت بعد مؤتمر مدريد برعاية أمريكية سوفياتية وصولا إلى إتفاق أوسلو.

بعد هذه الزيارة التي أداها نائب وزير الخارجية يوسي بيلان، سيتطلب الأمر قرابة 12 سنة لكي تسجلّ تونس قدوم مسؤول سياسي ودبلوماسي رفيع المستوى في الحكومة الإسرائليّة في زيارة رسميّة معلنة.

غير أنّه بين الزيارتين جرت مياه كثيرة من تحت الجسور. فسياقات إتفاقية أوسلو المثيرة للجدل ليست هي نفسها سياقات ما بعد الإنتفاضة الفلسيطينة الثانية (2000 ـ 2005).

إنّ سنة 2005 تمثّل بلا شكّ محطة مفصليّة في مسار قطار التطبيع السياسي الرسمي بين تونس وإسرائيل. تطبيع كان ومازال لا يحظى بتأييد شعبي رغم قدم فصوله التاريخية التي كانت تنسج في العلن حينا وفي السرّ أحيانا أخرى.

تونسي في حكومة شارون

كان سيلفان شالوم يمشي هبوطا بخطى متثاقلة في مدرج الطائرة التي رفع في شبابيك قمرتها الرايتان التونسية والاسرائيلية. نزل وزير خارجية الكيان المحتلّ لفلسطين في المقدمة صحبة والدته السيّدة العجوز مريم اليهودية من أصل تونسي، مستندة في ذلك الى عكازها.

بدا الوزير الإسرائيلي القادم من تل أبيب وكأنّه لا يكاد يصدّق أنّه قد عاد للبلد الذي ولد فيه قبل ما يقارب نصف القرن. كان حينها طفلا صغيرا لم يتجاوز بعد عامه الأوّل.

كانت العودة إلى مسقط الرأس هذه المرّة بمذاق خاص جدّا بالنسبة الى سيلفان شالوم. فهي زيارة لا يمكن أن تماثلها أيّ زيارة أخرى لبلد عربي من البلدان التي زارها شرقا ومغربا. لقد تحقّق حلم كان أشبه باللحظات السريالية بالنسبة الى سيلفان ابن مريم الذي عاد إلى تونس وهو نائب لرئيس الوزراء في إسرائيل ووزير للخارجية يتطلّع إلى أن يكون خليفة أرييل شارون في زعامة الكيان المحتّل لفلسطين.

لقد كانت تلك الزيارة التي وصفها بالتاريخية في بلاغ وزارة الخارجية الإسرائيلية، بمثابة الفتح المبين بالنسبة الى سيلفان شالوم. فيما اعتبرتها قطاعات واسعة من عموم الشعب التونسي ونخب البلاد طعنة في الظهر للقضيّة الفلسطينية وتدنيسا لأرض تونس التي امتزج على ترابها الدم الفلسطيني بالدم التونسي في حادثة حمّام الشطّ 1985 وغيرها من الأحداث الأخرى التي تروي قصص وشائج قوّية بين الشعبين.

كان وقتها وقع الصدمة كبيرا في أوساط المعارضة الديمقراطية وصلب الحركة الحقوقية والنقابية والطلابية. فتونس التي قدمت خيرة شبابها كشهداء في سبيل المقاومة والكفاح دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني يجد شعبها نفسه هذه المرّة بشكل يبعث على الحرج والخجل في صدارة اهتمامات كبرى وكالات الأنباء الدولية ووسائل الإعلام الإسرائيلية التي احتفت بهذه الزيارة أيّما احتفاء.

في أوت/ أغسطس 1958، ولد سيلفان شالوم صلب عائلة يهودية تونسية تقطن في مدينة قابس (جنوب البلاد) التي تبعد حوالي من 400 كلم عن العاصمة تونس.كان وقتها لم يمض بعد عن حصول تونس على استقلالها من الاستعمار الفرنسي سوى سنتين ونيف.

تتكوّن قابس المدينة التي قسّمت سنة 1957 إلى 4 دوائر من البلدتين القديمتين المعروفتين بـ”المنزل” في عالية وادي قابس و”جارة” في سافلة هذا الوادي.وقد انضاف إلى هذين التجمعين منذ حلول الاستعمار الفرنسي حيّ عصري جديد أطلق عليه اسم “باب البحر قابس الميناء” كما يقع في أدنى المدينة مبان أخرى أُحدثت عهدئذ ونمت في اتجاه الجنوب.

تُعرف قابس بواحات النخيل الباسق وكذلك بأشجار الرمان المنتشرة فيها.كانت قابس المدينة بالاضافة إلى منطقة الحامة من معاقل الطائفة اليهودية في تونس على امتداد قرون من الزمن.

في ثلاثينات القرن الماضي،كانت تجمع بين يهود الحامة وقابس مشيخة واحدة (عمادة) كان على رأسها حواتي بن شالوم الحدّاد.

تعدّ المهن الحرفية كالمصاغة والحدادة والنجارة والصباغة وصناعة الغرابيل وأدوات الصوف إلى جانب تجارة الأقمشة ومواد التنظيف من أشهر المجالات التي اشتهر فيها يهود ولاية قابس وقتها.

كان عدد سكان الطائفة اليهودية في تونس عشيّة استقلال البلاد يناهز 100 ألف نسمة. غير أنّ نسق الهجرة والاستقطاب نحو فرنسا ولاسيما في اتجاه إسرائيل قد تكثف خلال الفترة الممتدة بين 1948 و1967 بدعم وإشراف من المنظمات الصهونيّة.

يعتبر سيلفان شالوم ثاني يهودي شرقي في تاريخ إسرائيل وقتها يتوّلى منصب وزير الخارجية بعد ديفيد ليفي. وصل شالوم إلى عالم السياسة من مقاعد الدراسة الجامعية حيث درس الاقتصاد والحقوق، فضلا عن ممارسته العمل الصحفي.

في هذه البيئة المشار إليها آنفا، رأى شالوم النور في أسرة يهوديّة تونسية كانت ميسورة الحال إجتماعيا.لكنّ عائلته قرّرت الهجرة نحو إسرائيل سنة 1959 وهو لم يكمل بعد سنته الأولى.

أنا ولدت في دولة عربية ونشأت في بيت العربيةُ فيه هي لغة التخاطب. أعرف العقلية العربية ووالدتي تكلمني فقط باللغة العربية. انّها اللغة التي نشأت عليها وقد أحببتها ومن خلالها أحببت أغاني عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.

سيلفان شالوم متحدثا عن البيئة التي نشأ فيها

كان شالوم كلّما تتاح له الفرصة يحاول مغازلة العرب عموما والتونسيين على وجه الخصوص. في هذا السياق، نفى أن تكون عائلته قد تعرّضت إلى تمييز أو اضطهاد في تونس بسبب يهوديتها قائلا:

أعوذ بالله. لم تكن هناك أيّة معاناة على الاطلاق. بل كانت عائلتي غنيّة وأقامت علاقات اجتماعية ممتازة.

لقد مثّلت فترة إشراف سيلفان شالوم على وزارة الخارجية في إسرائيل منعرجا في تاريخ تطبيع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع تونس لاسيما خلال نفس الفترة التي كان خلالها الحبيب بن يحي وزيرا للخارجية التونسية.

كان لقائي بالحبيب بن يحيى في الأمم المتحدة حارا جدّا فقد اكتشفت أنّ عائلتي وعائلته تنحدران من نفس البلدة وهي قابس. وقد شعرت بصدق أنّنا قريبان. أنا تونسي وفي الألعاب الأولمبية كنت أشجّع المنتخب التونسي في جميع مبارياته. نحن لدينا جذور عربية و شيء من الانتماء”.

سيلفان شالوم متحدثا عن البيئة التي نشأ فيها

ينتمي سيلفان شالوم إلى الليكود وهو حزب سياسي يميني متشدّد يؤمن بفكرة “إسرائيل الكبرى” وخصوصية الأمّة اليهودية.

وقد تشكلّ الليكود باسمه اليوم عام 1973 بتكتل يميني من أحزاب صهيونية. وهو يتبنّى توجّها ليبراليا يمينيا يغالي في التطرف في موقفه تجاه القضيّة الفلسطينيّة والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

دخل الليكود انتخابات 1977 واستطاع تشكيل تحالف مكنّه من قيادة الحكومة متسبّبا في هزيمة حزب العمل اليساري لأوّل مرّة منذ النكبة في 1948. وقد بقي في الحكم إلى غاية 1984 بقيادة مناحيم بيغن الذي قام بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 ديسمبر/كان الأوّل 1978 مع الرئيس المصري وقتها محمد أنور السادات برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر.

عاد الليكود إلى الحكم بين 1986 و1992 بقيادة إسحاق شامير مرّة ثانية، ومرّة ثالثة بقيادة بنيامين نتنياهو بين 1996 و1999، ورابعة بقيادة شارون بين 2001 و2005 قبل أن ينشق هذا الأخير في نفس السنة ليشكلّ مع عدد من القيادات الصهيونية اليمينية حزب كاديما.

وفي سنة 2009، عاد الليكود مجدّدا بقوة في الساحة السياسيّة الاسرائيلية بتحالف يميني مع حزب “إسرائيل بيتنا” وهو مازال يحكم إلى اليوم -2023- بقيادة بنيامين نتنياهو رغم حالة الترهل التي بدا عليها الحزب في السنوات الماضية والتي كلّفته خسارة رئاسة الوزراء في سنة 2021 على سبيل الذكر.
مثّلت سنة 1992 أوّل منعطف في المسيرة السياسية لسيلفان شالوم حيث تمكّن من الوصول إلى الكنيست الاسرائيلي (البرلمان).
كان منصب وزير العلوم الذي تولاه في 1999 أوّل حقيبة وزارية كاملة يتحملها في مساره السياسي. قبل ذلك وفي 1998 شغل خطة نائب وزير الدفاع. وفي 2001 عيّن لأوّل مرّة نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية. وقد تولى في 2003 منصب نائب رئيس الوزراء و وزير الخارجية إلى غاية 2006.
على امتداد الفترة التي توّلى فيها حقيبة الخارجية، كان سيلفان شالوم يسعى جاهدا لتقديم نفسه في الأوساط السياسية الاسرائيلية على أنّه “حصان طروادة” الذي سينجح في اختراق العالم العربي من أجل إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية التي كانت معلنة مع عديد الأقطار من المشرق والمغرب على حدّ سواء بعيْد توقيع اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين والتي استمرت في مدّ وجزر إلى حدود سنة 2000 تاريخ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي عرفت أيضا باسم انتفاضة الأقصى.
في هذا السياق، حاول استغلال زيارته المعلنة إلى تونس في نوفمبر/تشرين الثاني 2005 أيّما استغلال من أجل دفع عجلة قطار التطبيع مجددا مع بلدان العالم العربي والإسلامي، مستعملا في ذلك كلّ أدوات الدعاية السياسية والتاريخية وحتّى العاطفية الإنسانية.

صرّح سيلفان شالوم وقتها لوسائل الإعلام قبل امتطاء الطائرة والقدوم إلى تونس قائلا:

سأواصل دفع الملف الاقتصادي قدما في الحلبة السياسية خلال الأسابيع القادمة. ستكون زيارة تونس فرصة أخرى لدفع أجندة إسرائيل حول مسألة التطبيع مع العالم العربي والدول الإسلامية. إنّني أعتقد أنّ هذه الزيارة ستكون لبنة أخرى في المبنى الذي نشيّده مع الدول العربية.

لقد اعتبرت وقتها الخارجية الإسرائيلية أنّ هذه الزيارة تثير مشاعر شخصية لدى الوزير شالوم الذي سيزور مسقط رأسه قابس صحبة أمه وشقيقه وعمه وزوجته الذين قاموا بمرافقته في هذه الرحلة إلى تونس.
فلنترك سيلفان شالوم في مطار جربة وهو بصدد النزول من الطائرة لكي نعود إلى الخلف للنبش في أرشيف السياق التاريخي الذي تنزلت فيها هذه الزيارة المثيرة للجدل إلى اليوم.

تفجير جربة

صباح 11 أفريل/نيسان من سنة 2002 لم يكن يوما عاديا في تاريخ جزيرة جربة الهادئة رغم كلّ التناقضات العرقية والمذهبية والدينية التي تشقّها منذ قرون من الزمن.
استيقظ يومها المواطنون في جربة على نبإ تفجير انتحاري استهدف المعبد اليهودي وقد هزّ كلّ العالم و أربك القبضة الأمنية الحديديّة لنظام الرئيس بن علي الذي كان يعتبر من بين أعتى الأنظمة البوليسية في العالم.
أقدم شاب تونسي غير معروف لدى الأجهزة الأمنية يدعى نزار نوّار على تفجير الشاحنة التي كان يقودها أمتارا قليلة على مقربة من مبنى المعبد اليهودي الذي يعدّ من أقدم المعابد اليهودية في شمال إفريقيا حيث تعود جذور عملية بنائه حسب السردية التاريخية المتداولة إلى القرن السادس قبل الميلاد.
يقع هذا الكنيس في قرية صغيرة ذات غالبية يهودية في الماضي وتسمّى “الحارة الصغيرة” وحاليا يطلق عليها “الرياض”. وهي تبعد بضعة كيلومترات جنوب غرب “حومة السوق” التي تعدّ مركز جزيرة جربة التابعة إداريا لولاية مدنين التي تقع على الحدود مع الجارة ليبيا.

كان وقتها مازال لم يمض على وقوع هجمات 11 من سبتمبر/ أيلول في 2001 الدموية التي جدّت في الولايات المتحدة الأمريكية سوى 6 أشهر والتي تبناها تنظيم القاعدة بقيادة زعيمه أسامة بن لادن.
كان من تداعيات هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي قُتل فيها ما يقارب الـ3 آلاف شخص من جنسيات كثيرة وعرقيات متعدّدة، سلسلة أحداث سياسيّة وعسكريّة غيّرت مجرى تاريخ شعوب بأكملها وأثارت دوامات من الحروب وأعمال عنف دموية راح ضحيتها مئات الألاف من البشر بين قتلى وجرحى ومعتقلين ومشردين في أفغانستان والعراق وغيرها حيث كرسّت مزيدا من الغطرسة الأمريكية في العالم وفي المنطقة الإسلامية والعربيّة.
بالعودة إلى حدث استهداف معبد الغريبة اليهودي في جربة الذي خلّف ما لا يقلّ عن 14 قتيلا من السيّاح الألمان وفرنسيا واحدا و 6 من التونسيين،كشفت -أنذاك- صحيفة القدس العربي الصادرة في لندن أنّها قد تلقت رسالة من تنظيم القاعدة الإرهابي يعلن فيه مسؤوليته عن الهجوم. برّر وقتها تنظيم القاعدة الهجوم بأنّه “يأتي ردا على الجرائم الإسرائيلية التي تمارس ضدّ الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة.”
وفي 23 جوان/ حزيران 2002، أعلن سليمان أبو الغيث الناطق الرسمي باسم تنظيم القاعدة الإرهابي في تصريحات بثتها قناة الجزيرة القطرية عن تبني التنظيم للعملية قائلا: “إنّ هذه العملية قام بها شاب لم يتمكن من رؤية إخوانه في فلسطين يقتلون ويذبحون وتسفك دماؤهم وتنتهك أعراضهم وهو ينظر وعنده اليهود في مدينة جربة يسرحون ويمرحون ويقومون بطقوسهم كما يشاؤون فثارت تلك الحميّة وتلك الروح الجهاديّة في نفسه.”

كانت تحقيقات القاضي الفرنسي جون لوي بريقير المتعهد بملف قضيّة نزار نوّار -منفّذ هجوم جربة- قد أعطت رواية أكثر مصداقية حسب المصدر الآنف ذكره. فقد تمكنّ نوّار من الخروج من تونس سنة 1999 في اتجاه باكستان ومن ثمّ إلى أفغانستان أين تلقى في قندهار تدريبات من قبل تنظيم القاعدة خلال بضعة أشهر قبل أن يعود إلى تونس لتنفيذ العملية.
أحدث هذا الحدث المدوّي زلزلا هزّ أركان نظام حكم الرئيس بن علي الذي سارع بإقالة أحد أبرز صقور منظومته الأمنية محمد علي القنزوعي الذي اشتهر في مطلع التسعينات بقمعه للمعارضين لاسيما من الإسلاميين التابعين لحركة النهضة المحظورة وقتها.
كان القنزوعي وقتها يشغل منصب كاتب الدولة لدى وزير الداخلية مكلفا بالأمن الوطني.كما أجرى الرئيس التونسي تعديلا جزئيا على الحكومة تمّ بموجبه تعيين الهادي مهني وزيرا للداخلية خلفا لعبد الله الكعبي.
ساهم هذا التفجير في ضرب السمعة الدولية التي بنى عليها الرئيس بن علي أركان حكمه من خلال التسويق لتونس على أنّها بلد “الأمن والأمان” و”الإستقرار السياسي” الذي استفاد منه كثيرا قطاع السياحة.
كان الحدث مدويّا بالنسبة لنظام الرئيس بن علي وهو ما يفسّر الطريقة التي تمّ التعامل بها لإدارة الأزمة وقتها. سارع حينئذ بيراز الطرابلسي رئيس جمعية الغريبة إلى التصريح بأنّ هذه الحادثة لا علاقة لها بما يحدث في الشرق الأوسط. وانتقدت صحيفة الشروق التونسية المقربّة من السلطة وقتها تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة الاسرائيلية الذي سارع بالقول: “إنّ الأمر يتعلق بعملية مدبرة ضدّ اليهود في إطار حقد العرب علينا.”

أمّا على صعيد الرأي العام الداخلي التونسي، فقد عبّر العديد من السياسيين وتشكيلات المجتمع المدني ورجال الأعمال عن تخوفهم من احتمال أن تكون العملية نابعة عن تأثر بما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مشدّدين على ضرورة عدم الخلط وكذلك اعتبار اليهود التونسيين جزءا لا يتجزأ من الشعب التونسي الذي هو موحد ضدّ العنف والكراهية والإرهاب، فضلا عن موقفه المبدئي المساند للقضيّة الفلسطينية.
كانت تلك الفترة قد شهدت مسيرات شعبية نظمت في تونس تضامنا مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. وقد كان عدد اليهود التونسيين وقتها يقدّر بحوالي 5000 مواطن/ة من بينهم زهاء 2000 مازالوا حينها يقطنون في جزيرة جربة.
كان الاحتفال اليهودي الذي ينتظم بمعبد الغريبة بجربة كلّ سنة خلال شهر أفريل/نيسان حدثا يتباهى به النظام التونسي للتأكيد على قيم التسامح والتعايش السلمي في المجتمع التونسي بين اليهود والمسلمين الذي يمثلون السواد الأعظم ديمغرافيا.
هذه المناسبة السنوية كانت تمثّل بلا شك رافدا هاما للسياحة التونسية حيث بلغ وقتها سنة 2001 قبل تنفيذ العملية الارهابيّة عدد السياح الذين زاروا جربة في إطار حج الغريبة حوالي 5000 سائح. كانت احتفالات الغريبة أيضا تمثل رسالة طمأنة لكبرى وكالات الأسفار وللسيّاح الذين يعتزمون زيارة تونس في أوج الموسم السياحي خلال فصل الصيف.
من المهم في هذا السياق الإشارة إلى أنّ تفجير جربة تسبّب وقتها في أزمة دبلوماسية بين تونس وألمانيا التي كان نصيب الاسد من ضحايا هذه العملية الارهابية من ضحاياها. كانت ألمانيا وقتها من أهم البلدان الغربية التي يأتي منها السياح إلى تونس للاستمتاع خاصة بالعطل الصيفية في الشواطئ التونسية مثل جربة وسوسة والحمامات والمنستير. فضلا عن كونها تعدّ من أهم شركاء تونس الاقتصاديين في فضاء الاتحاد الأوروبي بعد اتفاق الشراكة الموقع منذ 1995.
لم تستسغ ألمانيا الطريقة التي تعامل بها النظام التونسي في البداية مع الحادثة حيث حاول التقليل من شأنها من خلال السعي لإخفاء حقيقة ما حصل وهو ما جعلها تفرض على السلطات التونسية السماح لها بإجراء تحقيق خاص في الموضوع.

هذا الوضع ستحاول إسرائيل استغلاله من أجل مغازلة النظام التونسي لدفعه نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية والسياسيّة مجددا بعد قطعها في سنة 2000 حينما قرّر الرئيس بن علي بشكل أحادي غلق مكتب “رعاية المصالح” في تل أبيب.

لقد كانت تداعيات هذه الجريمة الارهابية وخيمة على وضع قطاع السياحة في تونس، علاوة عن صورة نظام الرئيس بن علي في العالم الغربي رغم ما أبداه من انخراط لا مشروط فيما سميّت وقتها الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب لاسيما من خلال إصدار قانون مثير للجدل من الناحية الحقوقيّة سنة 2003.

مغازلة إسرائيلية

كانت الفترة الممتدة بين 2002 و2005 بمثابة مرحلة جسّ النبض بامتياز بين الطرفين في علاقة بامكانية تجديد تطبيع العلاقات الدبلوماسية التونسية ـ الاسرائيلية.
كان الطرف الإسرائيلي أكثر اندفاعا في محاولة مغازلة وترويض النظام التونسي من أجل تطبيع العلاقات الدبلوماسية والسياسية بوجه سافر مجدّدا، مستغلا في ذلك المآرب الاقتصادية لتونس ورئيسها بن علي الذي وجد نفسه إزاء تحديّات إقليميّة ودوليّة متشعبة بعد حادثة التفجير الانتحاري في جربة.
كان الحبيب بن يحي قد عاد لتولي حقيبة الخارجية التونسية في نوفمبر/تشرين الثاني 1999 قبل أن يتمّ إعفاءه في سنة 2004 حيث تولّى حينها عبد الباقي الهرماسي هذا المنصب.لكن سرعان ما قام الرئيس بن علي بتغييره مقدما على تعيين عبد الوهاب عبد الله على رأس الدبلوماسية التونسية.

في الجهة الأخرى، برز في إسرائيل وزير جديد للخارجية بدا نجمه صاعدا في الساحة السياسيّة وهو سيلفان شالوم الذي سيبذل قصارى جهده خلال تلك الفترة بين 2003 و 2006 لمحاولة اقناع الطرف التونسي بمسألة تطبيع العلاقات الدبلوماسيّة والسياسيّة بشكل معلن.
وقد مثّلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد الاحتلال الاسرائيلي التي اندلعت يوم 28 سبتمبر/أيلول 2000 وتوقفت فعليا في 8 فيفري/ شباط 2005 الحدث الأبرز في الشرق الأوسط خلال تلك الفترة.
و تميّزت انتفاضة الأقصى مقارنة بسابقتها بكثرة المواجهات المسلّحة وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي. وقد راح ضحيتها حوالي 4412 شهيدا فلسطينيا، فضلا عن الجرحى. أمّا خسائر الجيش الاسرائيلي فقد تمّ تعدادها بحوالي 1069 قتيلا من الجنود والمستوطنين الاسرائيليين.
عاشت خلال تلك الفترة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة عديد الاجتياحات الاسرائيلية وقد كانت شرارة اندلاعها اثر دخول رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتها أرييل شارون الذي ارتبط اسمه في المخيال العربي والاسلامي بجريمة صبرا وشتيلا إلى باحة المسجد الأقصى برفقة حرّاسه الأمر الذي دفع جموع المصلين إلى التجمهر ومحاولة التصدي له. كان من نتائج ذلك اندلاع هذه الانتفاضة الثانية في تاريخ المقاومة الفلسطينية.

ويعتبر الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرّة رمزا لهذه الانتفاضة حيث تم اغتياله رميا بالرصاص وبدم بارد من قبل الجنود الصهاينة حينما كان يحتمي بوالده خلف برميل إسمنتي في شارع صلاح الدين جنوبي مدينة غزة.
هزّت هذه الجريمة الإسرائيلية الفظيعة المرتكبة في حق طفل مدني أعزل كان يبلغ من العمر 11 سنة فقط الضمير الإنساني وقد خلّفت ردود فعل عديدة عربية وغربية.
وقد شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية محطّة أخرى في تاريخ الجرائم الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ما ساهم في إحراجها دوليا لا سيما في المنابر الحقوقية رغم الدعم اللامتناهي الذي كانت تحظى به من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و عديد العواصم الغربية.
دخلت وقتها العلاقات العربية-الاسرائيلية منذ أكتوبر 2000 منعطفا جديدا حيث أقدمت عديد الدول العربية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب. كانت تونس من بين هذه الدول بعد أن قرّر الرئيس بن علي قطع العلاقات مع إسرائيل التي كانت تتمثل في مكاتب متبادلة لرعاية المصالح بين البلدين.
وقد علّلت الجمهورية التونسية قرارها بقطع علاقاتها الدبلوماسية محدودة المستوى مع إسرائيل في 22 أكتوبر/تشرين الأوّل 2000 احتجاجا منها على العنف الاسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني خاصة وأنّ الرئيس بن علي أقرن تمديد هذه العلاقات بالتقدّم في مسار عملية السلام بعد اتفاقية أوسلو.

في الحقيقة، لم تكن تونس البلد العربي الوحيد الذي يتخذ مثل هذه الخطوة التصعيدية تجاه تل أبيب، بل كانت قد نسجت على منوالها دول عربية أخرى فسّرت قطع العلاقات مع إسرائيل بالتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية ووحدة الصف العربي تجاه القضيّة الفلسطينية.
لقد ساهمت انتفاضة الأقصى في إنهاك إسرائيل داخليا وتضييق الخناق عليها دبلوماسيا في الفضاء العربي وعلى المستوى الدولي أيضا.
قوبل قرار قطع العلاقات الدبلوماسية بين تل أبيب وتونس وقتها بترحيب فلسطيني في حين اكتفت إسرائيل بالتعبير عن خيبة أملها بعد قرار الحكومة التونسية الإغلاق الفوري لمكتبي رعاية المصالح. واعتبرت تل أبيب أنّ تونس بهذا القرار الذي وصفته بالمفاجئ، وفق تقديرها، قد تخلّت عن دورها كجهة وصل لإقرار المصالحة بين إسرائيل وجيرانها.
بعد هذا القرار، في سنة 2000، ستدخل العلاقات بين تونس وإسرائيل فترة من الركود والبرود الذي سيشهد تحوّلا تدريجيا في المواقف انطلاقا من سنة 2003 حيث كشفت وقتها مصادر سياسيّة في وزارة الخارجية الاسرائيلية أنّ تونس بعثت إشارات إلى تل أبيب تقول فيها إنّ في حالة إقدام المغرب على استئناف العلاقات مع إسرائيل فإنها ستحذو حذوها.

كانت هذه التصريحات كردّ فعل على خبر أوردته صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية خلال يوم 8 سبتمبر/أيلول 2003 كشفت فيه أنّ شالوم كوهين رئيس دائرة المغرب العربي وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية والمدير السابق لمكتب رعاية المصالح بين تونس وإسرائيل بين 1996 و1999 قد زار تونس والتقى المدير العام لوزارة الخارجية التونسية وسلّمه رسالة من الوزير سيلفان شالوم، والتقى مسؤولين آخرين من الحكومة وفي ديوان الرئاسة التونسية.
وقد أفادت الصحيفة الإسرائيلية أنّ موضوع هذه اللقاءات التي أجراها شالوم كوهين الدبلوماسي الاسرائيلي تونسي الأصل كانت مقترح استئناف الزيارات السياحية للمواطنين بين البلدين وإعادة فتح مكتبي رعاية المصالح.
وأسفر ذلك اللقاء وفق نفس المصدر الإسرائيلي عن قرار يقضي باستئناف الزيارات السياحية واستعداد تونس لتدارس إمكانية إعادة فتح المكتب الإسرائيلي بها. أما بخصوص المكتب التونسي في تل أبيب فإنّ تونس وضعت مسألة إعادة فتحه رهين عودة فتح المكتب المغربي، فضلا عن عودة السفيرين المصري والأردني إلى إسرائيل.

عقب هذه الزيارة صرّح شالوم كوهين:

لا يوجد ما يبرّر عدم اتخاذ تونس خطوة مثل إستئناف العلاقات الدبلوماسية لتعود وتلعب دورا فعالا في عملية السلام بالشرق الاوسط.

كانت هذه الزيارة غير المعلنة من الطرف التونسي التي أداها شالوم كوهين فرصة لكي تطلب تونس إلغاء التحذير الذي أصدرته الخارجية الإسرائيلية باعتبار تونس بلدا غير آمن للاسرائيليين وفق صحيفة “يديعوت أحرنوت”.
من هذا المنطلق ستكون سنة 2004 حبلى بالاتصالات السياسية الثنائية بين البلدين خاصة على مستوى وزراء الخارجية حيث ستعرف مرحلة جسّ النبض حول امكانية إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بشكل علني أوجها.
وقد انتهجت وقتها إسرائيل خلال فترة وزير الخارجية سيلفان شالوم سياسة تقوم على الاتصالات الهادئة بهدف جرّ العرب ومن بينهم تونس إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية.

صديق عزيز

بداية من مطلع سنة 2004 تلقت إسرائيل مجدّدا تلميحات تونسية وصفت وقتها بالايجابية حول وجود نوايا بخصوص إمكانية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. فقد صرّح وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحي في محادثات أجراها مع جهات أمريكية أنّ تونس معنية بالمساهمة في عملية السلام في الشرق الأوسط. كما أعرب بن يحي عن كون أنّ تونس ترى خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون في مؤتمر هرتسليا “بالغ الأهمية”.

أكثر من ذلك، فقد عبّر بن يحي أنّه معني جدا بزيارة وزير الخارجية الاسرائيلي إلى تونس.

الوزير شالوم هو صديق عزيز. وأنا مسرور لوجود علاقات مفتوحة في ما بيننا.

وزير الخارجية التونسي الأسبق الحبيب بن يحي

بعد ذلك، وتحديدا في شهر سبتمبر/أيلول من نفس السنة، وقف وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحي في منبر الأمم المتحدة مخاطبا المجتمع الدولي: “إنّ تعدّد بؤر التوتر في عدّة مناطق من العالم وتفاقم التحديات التي تواجه الإنسانية، تتطلّب منا دعوة الأسرة الدولية إلى العمل على ترتيب علاقاتها وفق رؤية جديدة تقوم على التضامن والتعايش بين كافة الشعوب. تونس دعمت هذا التوجه خلال القمة العربيّة الأخيرة التي احتضنتها في ماي/أيار 2004.”
وطالب الوزير التونسي المجتمع الدولي بـ”وضع حدّ للعنف الذي يتعرّض إليه الشعب الفلسطيني وتأمين الحماية الدولية له ورفع الحصار عن قيادته الشرعية وإيقاف الاستيطان وتطبيق قرار محكمة العدل الدولية بخصوص الجدار العازل، فضلا عن تمكين سوريا ولبنان من استعادة أراضيها المحتلة.”

كان من الواضح من خلال هذا الخطاب أن تونس تبحث وقتها عن لعب دور دبلوماسي طلائعي على الصعيد العربي والعالمي في علاقة بمسألة السلام في الشرق الاوسط. دور يمكن أن يساعدها على قطف ثماره الاقتصادية والمالية من الغرب ولاسيما من الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها إسرائيل.
من المهم في هذا السياق الاشارة إلى أنّ الرئيس التونسي زين العابدين بن علي كان قد أدى زيارة إلى واشنطن في شهر فيفري/شباط من سنة 2004. زيارة سبقت القمة العربية التي كانت مقرّرة خلال شهر مارس/آذار من نفس السنة إلا أنّها تأجلت بقرار من الرئيس بن علي إلى شهر ماي/أيّار من العام ذاته.
وقد بذلت الدبلوماسية التونسية خلال تلك الفترة جهودا واسعة لإيجاد جسر بين مشروع الأمير عبد الله لتسوية الصراع العربي-الاسرائيلي الذي بات يعرف بمشروع “السلام العربي” من جهة، و”مبادرة جنيف” من جهة ثانية والتي تسلّم وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحي نسخة منها في 5 مارس/آذار 2004 عبر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه الذي تردّد عنه وقتها أنّه التقى بالمسؤول الاسرائيلي يوسي بيلين.

وكانت مصادر إعلاميّة قد كشفت بعد زيارة الرئيس بن علي إلى واشنطن أنّه قد تلقى إشارة من الادارة الأمريكية عبر الرئيس جورج بوش و وزير خارجيته كولن باول تفيد بضرورة دعم تونس لصيغ جديدة تتضمّن تنازلات قد تجعل إسرائيل تجنح نحو السلام.
وخلال زيارته إلى نيويورك في سبتمبر/أيلول 2004، كان وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحيى قد التقى على هامش اجتماعات الدورة 59 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنظيره الإسرائيلي سيلفان شالوم في منزل مندوب الجمهورية التونسية الدائم لدى الأمم المتحدة.
وقد أفادت وقتها وزارة الخارجية الإسرائيلية في بلاغ لها أنّ اللقاء الذي استغرق قرابة 90 دقيقة كان الثالث بين الطرفين خلال ذلك العام. كما أثار شالوم يومها اقتراحات بشأن مختلف المسائل الثنائية بما في ذلك فكرة إقامة لجنة مشتركة.
ونسب بلاغ الخارجية الإسرائيلية إلى بن يحي قوله إنّ تونس مهتمة بتشجيع السياحة الإسرائيلية إلى جزيرة جربة . كما أثير اقتراح يتعلّق بإمكانية إقامة حوار إسرائيلي فلسطيني برعاية تونسية.
وقد أعرب بن يحي عن قلق تونس تجاه نوايا إسرائيل إزاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وأوضح شالوم أنّ إسرائيل لا تنوي إيذاءه ولكنّ قرار الحكومة الإسرائيلية فيما يتعلق بطرده ما يزال قائما، وفق نفس البلاغ.

وقبل نهاية العام 2004، التقى وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم بنظيره التونسي عبد الباقي الهرماسي الذي حلّ محلّ الحبيب بن يحي. كان اللقاء في مدينة لاهاي الهولندية على هامش مداولات مؤتمر المنتدى الأوروبي المتوسطي المعروف بمسار “عملية برشلونة”.
أكّد الوزير التونسي عبد الباقي الهرماسي خلال هذا اللقاء أنّ تونس ستواصل دعم أيّ جهد من أجل تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، مستغلاّ الفرصة لمغازلة نظيره الإسرائيلي قائلا: “إنّ اليهود كانوا دائما مقبولين لدى الشعب التونسي.”
وقد نسبت إليه وزارة الخارجية الإسرائيلية في بلاغ لها حول فحوى اللقاء أنّه قد أعرب عن تطلّع تونس لتوطيد العلاقات مع إسرائيل.
من خلال ما سبق ذكره يمكن المجازفة بالقول إنّ سنة 2004 قد مثّلت منعرجا جديدا في مسار تحريك المياه الآسنة التي اكتنفت العلاقات الدبلوماسية بين تونس وإسرائيل بعيد قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سنة 2000.
لقد مثّلت هذه السنة التي تكثّفت فيها الاتّصالات المباشرة والعلنية بشكل غير مسبوق محطة لتهيئة الأرضية لاستضافة الوفد الإسرائيلي في قمة المعلومات في تونس في أواخر سنة 2005.
وبدا من الواضح أنّ الدبلوماسية التونسية قد ارتأت تبنى مقاربة براغماتية مع إسرائيل بهدف كسب ودّ الولايات المتحدة الأمريكية واللوبي الصهيوني العالمي لما يمثله من تأثير على قطاع السياحة في العالم من أجل تجاوز مخلفات تفجير جربة الإرهابي.
كانت إسرائيل تبحث وقتها عن فكّ العزلة عن نفسها عربيا في أعقاب منعرج قطع العلاقات البينية إثر انتفاضة الأقصى وقد وجدت ضالتها في تونس تحت ذريعة المصالح البراغماتية المتبادلة.

هذه الاتصالات الثنائية ستتعزّز سنة 2005 من خلال لقاء وزير الخارجية التونسي عبد الوهاب عبد الله بنظيره الإسرائيلي سيلفان شالوم في الأمم المتحدة على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك خلال شهر سبتمبر/أيلول من نفس العام.
صرّح سيلفان شالوم بعد هذا اللقاء

أنا واثق من أنّ هذا هو أفضل توقيت بالنسبة إلى العرب ولنا كإسرائيل للمضي قدما نحو علاقات أفضل وربما علاقة دبلوماسية كاملة.

كان هذا اللقاء بين عبد الله وشالوم في سياق فلسطيني شهد انسحاب إسرائيل من قطاع غزّة في إطار الخطّة أحادية الجانب التي نفذتها تحت مسمى “فكّ الارتباط”. وقد أحدثت هذه الخطة جدلا واسعا في إسرائيل وكانت مخالفة لوعود شارون قبل انتخابه مازاد في تضييق الخناق عليه داخليا.

ساهم هذا السياق الجديد بين الطرفين في مضي إسرائيل قدما في سياسة جسّ النبض من أجل الضغط على تونس لاستئناف العلاقات بين البلدين. فقد كشفت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية في شهر أفريل/نيسان من سنة 2005 أنّ شركة “قرطاج للطيران” (كانت تابعة لصهر الرئيس التونسي بلحسن الطرابلسي) تستعد لفتح خط جوي رسمي بين تونس وإسرائيل لأوّل مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
وقالت إنّه بحسب إتفاق يجري الإعداد له من خلال المناقشات بين تونس وتل أبيب فإنّ الخط الجوي المزمع إحداثه يهدف إلى القيام برحلة واحدة كلّ أسبوع. واعتبرت صحيفة “معاريف” وقتها أنّ خط الطيران المرتقب سيخدم السياحة الإسرائيلية نحو تونس التي يراد أن تصبح بشكل علني مباشر وليس عبر محطات ثالثة.
كما ذكرت نفس الصحيفة أنّ خطّ الاتصالات السياسية يديره سيلفان شالوم بعلم من ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية ومن الجانب التونسي عبر مستشار رئيس الجمهورية التونسي وزير الخارجية السابق الحبيب بن يحي.
وقد رأت “معاريف” في علاقة بنفس الموضوع أنّ استئناف الاتصالات مع تونس هو جزء من “تسخين العلاقات” الإسرائيلية مع العالم العربي بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، معتبرة أنّ “خطوات الرئيس التونسي تعتبر خطوات جريئة في ضوء ما تعرضت له تونس من عمليات إرهابية من جانب تنظيم القاعدة.”

هكذا سيدخل التطبيع بين تونس وإسرائيل سنة 2005 مرحلة جديدة ولكن هذه المرة بوجه سافر على الأراضي التونسية حينما سيتم استقبال وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم في زيارة تاريخية لم يسبق لها مثيل بدعوة رسمية من الدولة التونسية. مثّل هذا الحدث قادحا لتأجيج الشارع التونسي وقوى المعارضة الديمقراطية ضدّ الرئيس بن علي الذي سيجد نفسه على صفيح ساخن إجتماعيا وسياسيا.
انطلق الجدل منذ شهر فيفري/ شباط 2005. بدأ الخبر ينتشر كالنار في الهشيم رويدا رويدا حتّى بات متصدرا عناوين الأخبار الدوليّة: “الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يوجه دعوة رسميّة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون للمشاركة في قمّة مجتمع المعلومات التي ستعقد في تونس في أواخر العام.”

كان إعلان مكتب رئاسة الحكومة الإسرائيليّة عن تلقي الدعوة والموافقة على تلبيتها بمثابة الصاعقة التي نزلت على قطاعات واسعة من التونسيين.

صرّح وقتها المتحدّث باسم الخارجية الإسرائيليّة يوشوا مور يوسف أنّ سيلفان شالوم عبّر عن ارتياحه لهذه الدعوة التي يمكن أن تدشّن عهدا جديدا من العلاقات بين البلدين وبين الدولة العبرية ودول عربية أخرى، وفق تعبيره.

في المقابل، تسبّبت هذه الدعوة التي وصفت بالمستفزّة لمشاعر الشعب التونسي المساند للقضيّة الفلسطينيّة، في سيل من الانتقادات والاتهامات لنظام بن علي الذي حاول تبرير الزيارة المرتقبة من خلال بعض أبواق الدعاية المتحدثة باسمه من قبيل الموظف في وكالة الاتصال الخارجي برهان بسيّس الذي اعتبر أنّ الدعوة لا تمثّل زيارة خاصة إلى تونس بل هي تتنزّل في إطار دعوة أشمل لحوالي 160 رئيس دولة وحكومة لحضور المؤتمر، مضيفا أنّ من يرفضون الدعوة ينطلقون من الحساسيّة المتعلقة بإسرائيل وبشكل أخص من شارون الذي تستحضر الذاكرة العربية صورته في صبرا وشاتيلا.

هذه الزيارة هي واحدة من الزيارات التي قام بها مسؤولون إسرائيليون إلى دول عربيّة دعتهم لزيارتها من أجل حضور مؤتمرات عقدت على أراض عربيّة ولا تخرج عن هذا السياق.

برهان بسيّس

تسبّبت هذه الدعوة في موجة من الاحتجاجات والتحركات المندّدة والرافضة لاسيما في أوساط صحف المعارضة الديمقراطية و طيف من المجتمع المدني خاصة في صفوف نقابات التعليم في تونس.
في النهاية، فإنّ شارون لن يأتي إلى تونس، بل سيكلّف وزيره تونسي الأصل سيلفان شالوم بقيادة الوفد الرسمي الإسرائيلي إلى تونس.

دامت وقتها زيارة شالوم إلى تونس 3 أيّام حيث انطلقت من جربة مرورا بمحافظة قابس مسقط رأسه وصولا إلى العاصمة تونس أين ألقى كلمة في قمّة مجتمع المعلومات، وأجرى جملة من الاتصالات واللقاءات على هامشها.

فضلا عن ذلك، زار شالوم رفقة الوفد الذي كان معه منطقة لافيات أين اطلع على المعبد اليهودي الشهير في قلب العاصمة تونس.
على الرغم من محاولات نظام بن علي وقتها تخفيف الضغط الدولي عليه من خلال كسب بعض النقاط لصالحه من خلال هذه الزيارة الرسميّة التي وصفت بالخطوة التطبيعيّة المستفزّة، فإنّ الخناق سيشتدّ عليه من قبل المعارضين له سواء أثناء القمّة أو على هامشها حيث سيتمّ تنظيم إضراب جوع شهير ضمّ مجموعة من الشخصيات السياسية والمدنيّة المعارضة سيفضي لاحقا إلى تشكيل هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحرّيات التي ستضمّ طيفا واسعا من تشكيلات المعارضة الإسلاميّة والشيوعيّة والليبراليّة والحقوقيّة والنقابيّة.

في المحصّلة، ولئن ستتراجع موجة التطبيع السياسي والدبلوماسي الرسمي المعلن منذ زيارة شالوم إلى تونس، فإنّ العلاقات السياحية والتجارية ستتواصل إلى حدود سنة 2011، فضلا عن بروز ظاهرة تحوّل العديد من المغنيين التونسيين للغناء في إسرائيل بشكل علني على غرار المغني محسن الشريف الذي سيظهر سنة 2010 في مقطع فيديو تمّ تداوله بكثافة على صفحات التواصل الاجتماعي وهو يهتف بحياة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حفل خاص.

كلمة الكتيبة:

يعدّ هذا العمل التأريخي والتوثيقي لبنة من لبنات المقاربة التحريرية لموقع الكتيبة الذي يولي أهميّة للمعرفة التاريخيّة وخاصة لما يسمّى أكاديميا تاريخ الزّمن الرّاهن. وهو يعتبر باكورة مجموعة من المقالات والتحقيقات التاريخيّة والشهادات الشفويّة والمقابلات الصحفيّة التي ستنشر تباعا حول التاريخ المجهول للتطبيع بين تونس و إسرائيل.

كلمة الكتيبة:
يعدّ هذا العمل التأريخي والتوثيقي لبنة من لبنات المقاربة التحريرية لموقع الكتيبة الذي يولي أهميّة للمعرفة التاريخيّة وخاصة لما يسمّى أكاديميا تاريخ الزّمن الرّاهن. وهو يعتبر باكورة مجموعة من المقالات والتحقيقات التاريخيّة والشهادات الشفويّة والمقابلات الصحفيّة التي ستنشر تباعا حول التاريخ المجهول للتطبيع بين تونس و إسرائيل.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
تدقيق : وليد الماجري

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

cropped-med00-1.png