الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

ماء صحي”، “ماء غني بالأملاح المعدنية”، “ماء ينقّي الجسم من الشوائب”.. كثيرا ما تستعمل هذه الشعارات التجارية وغيرها في عملية الدعاية التي تسوّق لها وحدات تعليب المياه المعدنية في سائر بلدان العالم لحثّ المستهلكين على اقتناء منتجاتهم.

تعوّل هذه الشركات على فكرة عامة سائدة تردّد أطروحة قائمة على اعتبار أنّ المياه المعدنية أكثر صحّة ومنفعة من مياه الحنفية.

على نقيض هذا الطرح، يقول الخبيران جوزيف زيرلوته Josef Zerluth المتخصص في الصناعات الغذائية وميشيل جينجر Michael Gienger أستاذ العلوم الطبيعية، في كتابيهما الماء وأسراره “L’eau et ses secrets” إنّ 99.8 في المائة من حاجة جسم الإنسان إلى المعادن يغطيها النظام الغذائي، أمّا النسبة المتبقية 0.2 في المائة فهي تغطيها الحاجة إلى الماء. ويضيف الخبيران أنّ المياه المعدنية المتداولة تجاريا لا تعدو أن تكون سوى خدعة تجارية ضخمة.

في تونس يختلف الوضع قليلا عمّا هو سائد في العالم، إذ لا يبحث أغلب التونسيين.ـات عند شراء المياه المعلّبة عن أملاح أو معادن أو زيادة في الكالسيوم بقدر ما يبحثون عن مياه بطعم مقبول يمكن لهم/هن شربها.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

ماء صحي”، “ماء غني بالأملاح المعدنية”، “ماء ينقّي الجسم من الشوائب”.. كثيرا ما تستعمل هذه الشعارات التجارية وغيرها في عملية الدعاية التي تسوّق لها وحدات تعليب المياه المعدنية في سائر بلدان العالم لحثّ المستهلكين على اقتناء منتجاتهم.

تعوّل هذه الشركات على فكرة عامة سائدة تردّد أطروحة قائمة على اعتبار أنّ المياه المعدنية أكثر صحّة ومنفعة من مياه الحنفية.

على نقيض هذا الطرح، يقول الخبيران جوزيف زيرلوته Josef Zerluth المتخصص في الصناعات الغذائية وميشيل جينجر Michael Gienger أستاذ العلوم الطبيعية، في كتابيهما الماء وأسراره “L’eau et ses secrets” إنّ 99.8 في المائة من حاجة جسم الإنسان إلى المعادن يغطيها النظام الغذائي، أمّا النسبة المتبقية 0.2 في المائة فهي تغطيها الحاجة إلى الماء. ويضيف الخبيران أنّ المياه المعدنية المتداولة تجاريا لا تعدو أن تكون سوى خدعة تجارية ضخمة.

في تونس يختلف الوضع قليلا عمّا هو سائد في العالم، إذ لا يبحث أغلب التونسيين.ـات عند شراء المياه المعلّبة عن أملاح أو معادن أو زيادة في الكالسيوم بقدر ما يبحثون عن مياه بطعم مقبول يمكن لهم/هن شربها.

يُجمع عدد من المواطنين.ـات كان موقع الكتيبة قد التقاهم أمام رواق بيع المياه المعدنية بإحدى المساحات التجارية الكبرى، على أنّ الكثير من العلامات التجارية للمياه المعدنية المروّجة في السوق ليست ذات جودة عالية، ورغم ذلك وحسب نفس المتحدّثين، فانّهم يضطرّون لشرائها لأنّها “في كلّ الأحوال أفضل من مياه الحنفية”، وفق تقديرهم.

هذا الوضع تؤكده الأرقام المتعلّقة بارتفاع استهلاك الفرد في تونس للمياه المعلّبة والتي تجاوزت وفق الديوان الوطني للمياه المعدنية الـ 247 لترا في في عام 2021 بعد أن كانت 19 لترا فقط في عام 1990 و100 لتر في عام 2011.

خلال هذه الفترة التي تزايد فيها إقبال التونسيين على استهلاك المياه المعدنية، تدنّت من سنة إلى أخرى جودة مياه الشرب المتأتية من الحنفية والتي تقوم الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه بإنتاجها.

فضلا عن ذلك، فاقمت تأثيرات التغيّرات المناخية التي تعرفها البلاد حالة الجفاف المتواصلة التي بلغت سنتها السادسة على التوالي، ما أثّر سلبا في مخزون السدود التونسية المصدر الأوّل للمياه المستغلّة من قبل الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه “صوناد” وزاد من حاجة هذه الأخيرة إلى التعويل على المياه الجوفية المستنزفة بشكل كبير من مختلف القطاعات الإقتصادية في تونس وأبرزها القطاع الفلاحي.

من هذا المنطلق، تلوحُ عديد الأسئلة التي باتت ملّحة أكثر من أي وقت مضى: لماذا يرفض التونسيون.ـات شرب مياه الحنفية؟ أيّ دور لوحدات تعليب المياه في التأثير في العادات الغذائية للتونسيين.ـات؟ هل تستجيب المياه المعلّبة المروّجة في السوق التونسية للمعايير الدولية؟ أي ضرر بيئي يمكن أن تتسبب فيه هذه الوحدات؟ وهل تؤثر الكميات التي تضخّها وحدات تعليب المياه على الموارد المائية في تونس؟

في هذا التحقيق نسعى للإجابة عن كل هذه الأسئلة وتبديد الغموض الذي يكتنف قطاع المياه المعدنية في تونس.

طفرة إستهلاكيّة

“في وقت ليس ببعيد، كان الأطباء يوصون بشرب عدد من أنواع المياه المعدنية لمن يشكو بعض الأمراض المزمنة على غرار تلك التي تصيب الكلى أو مرض السمنة، ولم تكن المياه المعلّبة مادّة حاضرة بالمرّة في عاداتنا الغذائية وعلى موائد إفطارنا، لكن اليوم تغّيرت هذه العادات بشكل جذري ولم يعد يقتصر استهلاكنا للمياه المعلّبة بغية الشرب فقط إنما حتى للطبخ”. هكذا تجيب سامية ربّة منزل في لقائها مع موقع الكتيبة.

تقطن سامية في ولاية منوبة جنوبي العاصمة تونس. هذه المنطقة حاضرة بشكل لافت في تقرير وزارة الفلاحة للمياه لعام 2021، أين احتلت المرتبة الثانية وطنيا من حيث سوء جودة مياه الحنفية وعدم تطابقها مع المواصفات الميكروبيولوجية التي تقوم الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه بترويجها عبر شبكتها.

تقول سامية في حديثها لموقع الكتيبة، إنّ عائلتها المتكوّنة من أربعة أفراد تستهلك في الأسبوع ما يناهز الـ 36 لترا وأحيانا أكثر من المياه المعلّبة التي تقتنيها بأحجام مختلفة، ومردّ هذا “انعدام كلّي للثقة” من طرفها في مياه الحنفية، على حدّ وصفها.

من الأسباب التي جعلتني استنكف عن استهلاك مياه الحنفية، تلك الروائح التي تنبعث منها في أوقات كثيرة، فضلا عن اللون الذي تكون عليه عادةً بعد تسجيل انقطاعات في الشبكة.

سامية، مواطنة تونسية تقطن بمدينة منوبة

وبحسب آخر تحديث للديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه صدر في نهاية عام 2021، يستهلك التونسي ما يناهز الـ247 لترا من الماء المعلّب في السنة ليحتل بذلك المرتبة الثالثة عالميا في استهلاك هذه المادّة، الشيء الذي يقود إلى أنّ هذا المنتج أصبح يتساوى من حيث الأهمية بالنسبة الى الأُسَر التونسية مع المواد الأساسية الأخرى كالخبز والزيت والحليب وغيرها.

وعلى الرغم من هذه الطفرة الاستهلاكية غير المسبوقة، لا يجد هذا المنتَج مكانه في تقارير المعهد الوطني للإحصاء المتصلة بالقدرة الشرائية للعائلات التونسية ومؤشرات التضخّم في الأسعار وغيرها، رغم ما تتكبّده الأُسر من مصاريف نظير الحصول على مياه صالحة للشرب.

وتُشير المعطيات المستقاة من الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه الى أنّ السوق التونسية استهلكت بحلول موفى عام 2022 ما يقارب الـ3.3 مليار لتر من المياه المعدنية التي تمّ تعليبها في أكثر من 1.8 مليار قارورة بلاستيكية في مختلف الأحجام، الأمر الذي يعطي مؤشرا تقريبيّا يفيد بأنّ استهلاك الفرد التونسي للمياه المعلّبة ارتفع ليبلغ نحو 300 لتر أي بزيادة ناهزت الـ50 لتر في غضون سنة واحدة فقط، وهو ما يعني أيضا ارتفاعا في ميزانية الأُسَر المخصصة لشراء هذه المادّة المقدّرة بنحو ما بين 800 و 1000 دينار سنويا (أسرة تتكوّن من أربعة أفراد).

مع العلم أنّ الأجر الأدنى المضمون في تونس بالنسبة إلى العمّال المشتغلين.ـات في المهن غير الفلاحيّة يبلغ حوالي 460 دينار كقيمة شهريّة بالنسبة إلى نظام العمل 48 ساعة في الأسبوع و 390 دينار بالنسبة لنظام العمل 40 ساعة في الأسبوع.

هذا الإرتفاع الملحوظ في مبيعات المياه المعلّبة يعرف ذروته في المدن ذات الكثافة السكانيّة العالية وفق دراسة علمية قام بها ثلّة من المهندسين الباحثين حول سلوك التونسيين.ـات في علاقتهم باستهلاك المياه المعلّبة، نُشرت في عام 2022 في المجلّة العلمية Journal of Academic Finance.

وقد أثبتت الدراسة أنّ معدّل الاستهلاك السنوي من المياه المعلّبة في ولايات تونس الكبرى التي يتجاوز عدد سكانها الـ3 مليون نسمة، يقدّر بحوالي 345 لترًا للشخص الواحد وتختلف النسبة وفقا لخصوصيّة كل منطقة وحسب الوضعية الإجتماعية للمستهلكين.ـات لتتراوح بين 41 و 720 لترًا للشخص الواحد سنويا.

ورغم توسع السوق التونسية من حيث مبيعات المياه المعلّبة، يكتنف هذا القطاع الكثير من الغموض حول فوارق الجودة بين مختلف العلامات التجارية المروّجة، حيث أشارت الدراسة ذاتها إلى أنّ 60 في المائة من المستجوبين لا يهتمون بالتركيبة الفيزيوكيميائية عند شرائهم لمختلف أنواع المياه في حين أشار 89 % إلى أنّ الدافع الأبرز في اقتنائهم المياه المعلّبة يكمن في اقتناع راسخ لديهم بأنّها مياه نقية وخاضعة إلى رقابة مشددة.

قصور في الرقابة

جوابا منها على سؤال أي أنواع المياه التي تفضلها، تقول المواطنة سامية : “اختياراتي تقوم بالأساس على مذاق المياه وتاريخ تعليبها أكثر من أيّ خاصية أخرى. لا أتأثر كثيرا بالمواد الإشهارية لكن عندما يتم الإعلام بوجود نوع جديد من المياه أقوم بتجربته.”

بالعودة إلى الدراسة العلمية المنشورة بالمجلّة العلمية Journal of Academic Finance، قام الباحثون اعتمادا على الملصقة التي تتضمّن التركيبة الفيزيوكيميائية الخاصة بكل علامة تجارية بتقسيم أنواع المياه المروّجة في السوق التونسية إلى سبع مجموعات وفق جودتها ومدى تطابقها والمعايير الدولية.

وخلصت الدراسة إلى أنّ أفضل أنواع المياه المروّجة (31 علامة في السوق التونسيّة) تمثّلها العلامة التجارية “حياة” وهو ماء معدني يتمّ استخراجه من سفح جبل بمنطقة باطن الغزال في معتمدية جلمة من ولاية سيدي بوزيد، تليها كلّ من العلامات “صابرين” و”تيجان” و”صافية 1″ (عين ميزاب/ ولاية الكاف)، فيما تتوزع بقية المنتجات بين العادي والمقبول، بحسب نفس البحث العلمي الآنف ذكره.

في هذا السياق، يرى الأستاذ الباحث ورئيس مخبر التحلية وتثمين المياه الطبيعية بمركز بحوث وتكنولوجيات المياه بتونس حمزة الفيل وجاهة علميّة في هذا التقسيم، مشيرا في مقابلة مع موقع الكتيبة، إلى أنّ أغلب المياه المروّجة واعتمادا على ما تدوّنه من تركيبة فيزيوكيميائية في ملصقات القوارير، تعتبر محترمة، لكنّه في ذات الوقت ينتقد بعض العلامات التي لا تحترم المواصفات على غرار العلامة التجارية صافية (عين قصيبة صرا ورتان) التي يظهر أنّ تركيبتها الفيزيوكيميائية تغيّرت بشكل جذري بما أثّر على جودتها وطعمها، وفق وصفه.

تُروّج بالسوق التونسية نوعان من العلامة التجارية “صافية ” الأولى يتمّ إنتاجها في منطقة عين ميزاب من ولاية الكاف والثانية في منطقة عين قصيبة من ذات الولاية.

وتُشير المعطيات المنشورة على موقع الديوان الوطني للمياه المعدنية الهيكل المُشرف على الرقابة على وحدات التعليب، إلى أنّ النوع الأوّل من مياه “صافية” (عين ميزاب) يتضمّن تركيبة أملاح معدنية تقدّر بـ308 ملغ في اللتر الواحد في حين يتضمن النوع الثاني (عين قصيبة) ما قيمته 437 ملغ في اللتر.

ومن خلال التدقيق في ملصقة قارورة المياه المروّجة بالنسبة إلى النوع الثاني من علامة صافية (عين قصيبة) يتّضح أنّ تركيبة الأملاح المعدنية ارتفعت منذ عام 2022 من 437 ملغ في اللتر إلى 602 ملغ أي بزيادة تُقدّر بنحو 38% دون أن يتمّ تغيير هذه المعطيات في الموقع الرسمي للديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه.

ولا تتوقف إشكاليات هذا النوع من المياه عند هذا الحدّ، إذا تُشير تحاليل قام بها الأستاذ الباحث حمزة الفيل إلى أنّ الفارق بين مجموع التركيبة الكيميائية (cation + anion) التي توّصل إليها في خصوص بعض المنتجات تصل إلى 20% والحال أنّه يجب ألاّ تتجاوز وفق المعايير الدولية والتونسية الـ 5% في أقصى الحالات.

ومن بين هذه العلامات سجلت صافية (عين قصيبة) حضورا بارزا، أين ارتفع الفارق بعد تغيير تركيبتها إلى ما يناهز الـ 40%، الأمر الذي يقود حسب الفيل إلى ضرورة مراجعة الترخيص الذي حصلت عليه هذه الوحدة وإيقاف ترويجها على أنّها مياه معدنية وإخضاعها مرّة أخرى لما جاء به القانون من إجراءات.

وتنص القوانين التونسية في علاقة بإحداث مشروع وحدة تعليب مياه معدنية على أن يمرّ المنتج بمراحل عديدة من أهمّها فترة تجريبية للمياه المعدنية المروّجة لا تقل عن سنتين للوقوف على استحالة أن يطرأ تغيير جذري في التركيبة الكيميائية لتلك المياه وخلال هذه الفترة يتم التنصيص على غلاف القارورات المروّجة على أنها “مياه منبع طبيعي” وتتحوّل إلى “مياه معدنية طبيعية” بمجرّد استيفاء جميع التحاليل والتأكد من عدم تسجيل أيّ تغيير في التركيبة خلال الفترة التجريبية.

تنقسم المياه المعلّبة المروّجة في تونس إلى ثلاثة أقسام أوّلها يصطلح على تسميتها بـ”مياه معدنية طبيعية” وهي التي تضمّ الأغلبية الساحقة من العلامات التجارية وتتميّز بتركيبة فيزيوكيميائية مستقرّة أمّا النوع الثاني فهي “مياه نبع طبيعية” تكون عادة ذات تركيبة فيزيوكيميائية غير مستقرّة ويحجر تغيير تركيبة كلّ منهما والنوع الثالث مياه المائدة التي يتم استخراجها من آبار جوفية ويتم إخضاعها صناعيا عبر تقنية التناضح العكسي (osmose inverse) لتنقيتها وتغيير تركيبتها الفيزيوكيميائية.

بالعودة إلى العلامة التجارية “صافية”، تبقى هذه التجربة مبعث استغراب، حيث أنّها تقوم بترويج منتج يحمل نفس الإسم ونفس الغلاف ونفس شكل القارورة رغم أنّ انتاجه يتأتّى من وحدتين متباعدتين مختلفتين من حيث التركيبة الفيزيوكيميائية لكليهما، علاوة على أنّ إحدى الوحدتين أصبحت تروّج مياها أقل جودة بكثير من الأخرى.

ويتجلّى القصور في الرقابة من قبل أجهزة الدولة المعنيّة خاصة في مدى احترام العلامات التجارية للمواصفات المنصوص عليها من طرف المعهد الوطني للمواصفات والملكية الصناعية (NT 09.33)، والتي من أهمّها وضوح الملصقة المتضمنة لمجموع المعادن على القوارير و كتابة الملاحظات على غلاف القارورات ذات الصلة بوجود نسبة عالية في إحدى المكوّنات الكيميائية، لتنبيه المستهلكين خاصة منهم الأطفال والحاملون لبعض الأمراض.

من بين هذه العلامات، نجد ماء “صابرين” الذي على الرغم من أنّه مُنتج ينتمي إلى كوكبة العلامات التجارية المصنّفة على أنها قريبة من الفئة الممتازة، إلا أنّها أغفلت منذ دخولها النشاط الفعلي تدوين ملاحظة على غلاف القارورة تنبه من وجود نسبة عالية جدّا من مادة الفليور Fluor التي تصل إلى زهاء الـ 1.85 ملغ في اللتر الواحد حيث لم تقم بتدوين هذه الملاحظة إلا في الآونة الأخيرة بعد أن تراجعت نسبة الفليور إلى حدود 1.44 ملغ.

وعلى الرغم ممّا تنصّ عليه القوانين التونسية المنظمة لقطاع تعليب المياه المعدنية من فصول تحجّر على الوحدات الصناعية إخضاع المياه المستخرجة من الينابيع الطبيعية لأي تغيير في تركيبتها الفيزيوكيميائية، إلا أنّ عديد الوحدات، وفق ما تحصلنا عليه من معطيات موثوقة، تستعمل آلات لمعالجة المياه على غرار تقنية التناضح العكسي وتقنية الأشعة فوق البنفسجية وهي من التقنيات التي يحجّر استعملها في علاقة بالمياه المعدنية الطبيعية ومياه المنبع الطبيعي.

وتأتي هذه التجاوزات وفق شهادات موثّقة تحصّل عليها موقع الكتيبة إلى ضعف الرقابة، بالإضافة إلى حالة التفكّك التي أصابت أجهزة الإشراف على هذا القطاع، بعد سحب مهام الرقابة على الجودة والمواصفات من الديوان الوطني للمياه وإسنادها إلى الهيئة الوطنية للسلامة الصحيّة على المنتجات الغذائية رغم رفض المدير العام السابق للديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء سليم رزيق الذي نبّه إلى خطورة هذا الخيار.

في عام 2019، صادق البرلمان التونسي على قانون جديد يتعلّق بالسلامة الصحيّة للمواد الغذائية وأغذية الحيوانات الذي نصّ على إحداث هيئة وطنية للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، تُلحق بها كافة الهياكل الرقابية ذات الصلة في مختلف الوزارات وتجمع كافة المتدخلين في كل ما له علاقة بالسلامة الصحية ومراقبة احترام المنتجات الغذائية للمواصفات.

بموجب هذا القانون، تمّ سحب مهمة الرقابة من اللجان الخاصة بالوزارات وإسنادها إلى الهيئة الجديدة التي لم يقع إصدار قانون ينظم هيكلتها إلا في شهر جانفي/كانون الثاني من العام 2021.

فمنذ ذلك التاريخ، أصبحت الرقابة على المنتجات الغذائية -ومن بينها المياه المعلّبة- تقتصر على التقارير التي تقوم بها الوحدات الصناعية ذاتيا والتي تقوم بإرسال نسخ منها إلى الهيئة الجديدة.

ووفق مصادر مطلّعة من داخل الهيئة الوطنية للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، لم يتجاوز عدد المهام الرقابية التي قامت بها هذه الهيئة في السنوات الثلاثة الأخيرة عدد أصابع اليد. تشير مصادرنا إلى أنّ الهيئة شبه معطّلة بعد تأخر إلحاق الموظفين بها وافتقارها حتى للمواد الضرورية للقيام بالتحاليل المخبرية.

وبناء على نفس المصادر -طلبت عدم نشر هويتها- فإنّ العديد من العلامات التجارية المروّجة بالسوق التونسيّة لا تقوم بإرسال تقاريرها المخبرية (تقارير أسبوعية وشهرية وسنوية) إلى الهيئة الوطنية للسلامة الغذائية، ومن بين أهم هذه العلامات تلك التي تنضوي تحت المجموعة الاقتصاديّة الكبرى والتي يصفها محدّثونا بأنّها “مجامع فوق المساءلة ولا يتجرّأ أحد على الإقتراب منها”.

واللافت للانتباه في قطاع تعليب المياه الكمّيةُ الكبيرة من البلاستيك التي يتمّ ترويجها سنويا، والتي ناهزت وفق إحصائيات العام 2022، الـ 1.8 مليار قارورة.

في المقابل، تكتفي مصالح الرقابة الصحيّة بالتوصية بضرورة حفظ المياه المعلّبة في أماكن مخصّصة لها مع تجنّب تعرضها لأشعة الشمس والأماكن الحارة. ووفق دراسات علمية فإنّ القوارير البلاستيكية تؤثر على محتوى الماء إذا كانت معرّضة إلى أشعة الشمس حيث تتحلّل بعض الجُزيئات منها داخل المياه.

قليل من الماء..كثير من البلاستيك

بحسب دراسة علميّة فرنسية أخرى، أثبت الباحثون أنّ حفظ المياه المعلّبة في قوارير بلاستيكية وفق ما هو منصوص عليه من إجراءات صحية، لا يعني بالضرورة عدم تحلّل جزيئات بلاستيكية وسط تلك المياه، حيث قاموا بأخذ عيّنات من مياه معلّبة لمختلف الماركات التجارية المروّجة في فرنسا، حيث وجدوا ما يناهز الـ 70 جُزيْئا في اللتر الواحد وفي بعض المنتجات تصل إلى 120 جُزيْئا رغم أنّها محفوظة في مخازن تستجيب إلى المعايير وبعيدة عن مصادر الحرارة.

فضلا عن كل هذا، تسعى الدول المتقدّمة إلى تشجيع الصناعات المتخصصة في رسكلة البلاستيك، ووضعت أغلبها هدفا يتمثّل في تدوير 100% من قوارير البلاستيك المستعملة في عدّة أغراض صناعية ومن بينها الغذائية بحلول عام 2030.
في تونس، وعلى الرغم من أنّ صناعات رسكلة البلاستيك بدأت تشقّ طريقها حيث تزايد عدد الشركات المتخصّصة في صناعة البلاستيك و تدويره لتبلغ ما يزيد عن 150 مؤسّسة إلاّ أنّها تبقى دون المأمول خاصة وأنّ تقارير وطنية ودولية تُشير إلى أنّ 60% من المواد البلاستيكية المنتجة في تونس مخصّصة للمواد الاستهلاكيّة الغذائية ومن أهمها المياه المعدنية والمشروبات الغازية.

ووفق تقرير صادر عن الصندوق العالمي للطبيعة في عام 2020، فإنّ تونس تلقي سنويا زهاء 0.8 مليون طن من المواد البلاستيكية في الطبيعية الأمر الذي يؤثّر بشكل كبير في الموارد الطبيعية ومن أهمّها الموائد المائيّة وهو أمر لطالما حذّر منه المختصون وكبار مسؤولي وزارة الفلاحة لما له من تأثير سلبي خاصة عند إلقائها في مجاري الأودية والغابات.

يقول موظف سام بإحدى وحدات تعليب المياه -طلب عدم نشر اسمه- في حديثه لموقع الكتيبة إنّ القطاع وعلى غرار قطاعات أخرى تكتنفه شبهات فساد عديدة خاصة على مستوى إسناد الرخص، مشيرا في ذات الوقت إلى أنّ عديد الوحدات الصناعية “تفعل كلّ شيء من أجل الضغط على الكلفة دون مراعاة للالتزامات المنوطة بعهدتها”.

هناك وحدات تقلّص في وزن القارورة (33 غرام) ووحدات أخرى تقوم بتجاوز نسبة الضخ المرخص فيها لها (5 / 10 لترات في الثانية) والهدف واضح تحصيل أرباح أكثر على حساب الجودة ضاربين عرض الحائط بكل ما تنص عليه القوانين والإجراءات المنظمة للقطاع.

مسؤول بإحدى وحدات تعليب المياه

يضيف محدّثنا أنّ جزءا كبيرا من تكلفة تصنيع قارورة مياه معدنية معلّبة يكمن في القارورة البلاستيكية نفسها، مشيرا في ذات الوقت إلى أنّ أسعار البلاستيك مرتبطة بالأساس بأسعار النفط في العالم، بما أنّها مادّة مستخرجة من البترول، وقد إرتفعت بشكل كبير في البورصات العالمية، منذ اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة وما تلاها من أحداث دولية، مردفا بالقول: “حن نبيع البلاستيك أكثر من الماء”.

تضخيم للكلفة وتشابه في أسعار البيع

في حوار صحفي أدلى به إلى موقع “أفريكان مانجر” في وقت سابق، قال الرئيس المدير العام السابق للديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه منجي الدويري، إنّ تكلفة التعليب تقدر بـ70% من الكلفة الجملية لقوارير المياه التي تخضع للأداء على القيمة المضافة في مستوى النقل والتوزيع.

ووفقا لما توصلنا إليه من معلومات مستقاة من وحدات صناعية متخصصة في إنتاج مادة البلاستيك التي تقوم بتزويد وحدات تعليب المياه بالقوارير، فإنّ البلاستيك المستعمل في حفظ المياه وهو نوع من البلاستيك يستعمل لأوّل مرّة لأغراض غذائية وقابل للتدوير والرسكلة لصناعات بلاستيكية أخرى أو ما يصطلح على تسميته بـ Polyéthylène Téréphtalate ينقسم إلى نوعين، الأوّل يمكن ملاحظته بالعين المجرّدة حيث يتضمن لونا أزرقَ بداخله. أمّا الثاني وهو الأغلى ثمنا فيكون أقرب إلى البياض أي أنّه شفّاف لا لون له وفي كلّ الأحوال يتراوح سعر النوعين في الوقت الحالي بين الـ 180 و220 ملّيما للقارورة الواحدة.

أما الأغطية فجميعها تقريبا تصنع من ذات المواد البلاستيكية Polyéthylène Haute Densité وهي مادّة أكثر سمكا وأمانا وقابلة كذلك للتدوير.

وعلى غرار القوارير تختلف أسعار الأغطية حسب صلابتها ووزنها وسمكها، ولا يتجاوز سعرها في أقصى الحالات الـ 40 ملّيما، فيما تختلف أسعار الغلاف والملصقة المتضمنة لتركيبة المعادن من وحدة إلى أخرى بناء على مواصفات كلّ منها وهي عادة ما تصنع من أرخص أنواع البلاستيك.
ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى أنّ هذه الأسعار تخضع إلى قاعدة العرض والطلب وخصوصيات كل وحدة صناعية. وتخضع أسعار الكيلوغرام الواحد من البلاستيك هي الأخرى إلى الكمّية المطلوبة من طرف وحدة تعليب المياه، أي يمكن لوحدة التعليب أن تشتري موادها الأوّلية بأسعار منخفضة ممّا عرضناه آنفا إذا كانت الكمّية كبيرة.

كما يمكن لهذه الوحدات اقتناء موادها الأوّلية من البلاستيك بأسعار أقل من غيرها إذا كان المجمع الإقتصادي الذي تنتمي إليه يمتلك وحدة مختصة في صنع البلاستيك الغذائي، كما هو الحال بالنسبة الى مجمع “دليس” الذي يضمّ شركة “دلتا بلاستيك DP” المتخصّصة في صنع جميع المواد البلاستيكية ذات الأغراض الغذائية، فيما تلجأ عديد الوحدات إلى توريد القوارير (préforme) من خارج تونس لعلّ أبرزها الجزائر وبعض الدول الخليجية باعتبار أنّ أسعارها أقلّ من الأسعار التي تطرحها المؤسسات التونسية.

إذا كنت مجمعا كبيرا وطاقة انتاجك عالية فيمكن أن تشتري القوارير البلاستيكية بسعر أقل بكثير مما تشتريه وحدة أخرى طاقتها الإنتاجية محدودة. لن تجدوا معلومات واضحة في هذا الصدد فهي أمور تكتنفها السريّة المُطلقة، وأغلب الوحدات تقتني مشترياتها من خارج تونس.

مصدر مسؤول بوحدة تعليب مياه

وبناء على هذه المعطيات، فإنّ ما يطرحه المصنّعون من سرديّة تسوّق إلى أنّ كلفة البلاستيك والغلاف عموما تستحوذ على 70% من إجمالي التكلفة تبدو غير دقيقة وبعيدة كل البعد عن الأرقام الحقيقيّة، حيث تقدّر وفق معطيات تقريبية تحصّلنا عليها تمّ تأكيدها من بعض المسؤولين بـ 50% للقوارير السميكة والتي لا يقل وزن الواحدة منها عن 33 غراما، فيما تتوزع بقية التكلفة على مصاريف شراء الماء من الدولة الذي تقتنيه هذه الوحدات بـ50 ملّيما نظير 1000 لتر والأجور (100 أجير على أقصى تقدير) والطاقة والصيانة والإستهلاك (amortissement) والنقل و المرابيح و الإشهار والتسويق.

في النهاية ووفقا لتأكيد مصادر متقاطعة من وحدات تعليب المياه، فإنّ تكلفة إنتاج قارورة (حجم 1.5 لتر) لا تتجاوز في أقصى الحالات الـ420 ملّيما غير خاضعة للأداء على القيمة المضافة (19%) و تتدنّى هذه التكلفة بارتفاع حجم المبيعات أو من خلال التقليص في وزن القارورة كما تفعل بعض العلامات التجارية.

وقد يبدو للبعض أنّ تكلفة إنتاج قارورة واحدة من المياه المعدنية زهيدا، لكن اللافت في الموضوع أنّ وحدات تعليب المياه مجتمعة تتراوح طاقة إنتاجها اليومي بين 7.6 و 10.4 مليون لتر، وفق ما يوفره الديوان الوطني للمياه المعدنية، بما يشي بحجم الأرباح الضخمة التي تجنيها مختلف هذه الوحدات وخاصة منها المنضوية تحت مجامع إقتصادية كبيرة.

وتتراوح أسعار قارورة المياه المعلّبة حجم 1.5 لتر لمختلف العلامات التجارية الكبرى المعروضة للعموم في المساحات التجارية الكبرى بين 670 و700 ملّيم (0.23 دولار) أما الأخرى ذات حجم 2 لتر و0.5 لتر فلا تعدو أن تكون سوى خدعة تجارية على اعتبار أنّ تكلفة هذه الأحجام لا تعرف تغييرا كبيرا سوى في سعر بيعها إلى العموم، وفق ذات المصادر.

بالعودة إلى الدراسة التي قام بها ثلة من المهندسين المنشورة بموقع Journal of Academic Finance لا يبدو أنّ التونسيين.ـات المستجوبين يهتمون بشكل كبير لأسعار مختلف الأنواع عند اقتناء حاجياتهم من المياه المعلّبة. فيما يتأثر هؤلاء المستهلكون بعروض التخفيض التي تقوم بها العلامات التجارية نفسها أو بعض المساحات التجارية الكبرى ويقبلون على شراء ذلك النوع.

هذه المفارقة تفسّرها محدّثتنا سامية قائلة انّ : “أسعار مختلف العلامات التجارية جدّ متقاربة فـ 20 أو 30 ملّيما كفارق بينها لا يعني لي شيئا، لكن عندما تقوم علامة ما بعرض تخفيض ملحوظ في الأسعار فمن الطبيعي أن يُقبل المستهلك على شرائها خاصة إذا كانوا مثل حالي يشترون كمّية كبيرة مع نهاية كلّ أسبوع.”

تطرح هذه الأسعار المتقاربة بين مختلف العلامات التجارية للمياه المعلّبة المروّجة في السوق التونسية، تساؤلات عديدة حول أسباب هذا التقارب خاصة وأنّ نوعية المياه المروّجة تختلف اختلافا عميقا من حيث الجودة والتركيبة الفيزيوكيميائية، بالإضافة إلى أنّ كلفة الإنتاج تختلف جذريا من وحدة تعليب إلى أخرى وفقا لطاقة إنتاج كلّ منها وأقدميتها في السوق ورواجها، بما يفتح الباب أمام شبهة إخلال بالمنافسة واعتماد سعر لا يجب على المتعاملين في سوق المياه المعلّبة النزول تحته.

يعلّق نفس المسؤول السامي بإحدى وحدات تعليب مياه (أشرنا اليه سابقا)، أنّ التقارب في الأسعار لا يشي بوجود شبهة إخلال بالمنافسة، مفسّرا أنّ أسعار المياه المعلّبة في تونس هي الأرخص على الإطلاق مقارنة بأسعار ذات المنتج في دول الجوار والدول الأوروبية، ومشيرا إلى أنّ المشكل لا يكمن في الأسعار التي يعتبرها في المتناول، بقدر ما يكمن في الكمية المروّجة، حيث تتجاوز بعض الوحدات الحدّ الأقصى المرخّص فيه لها بهدف تكثيف الإنتاج وجني مرابيح أكثر متناسين أنّ الخطر الذي يتهددهم والمتمثّل في نضوب العيون والموائد المائية وهو ما وقعت فيه بعض الشركات التي إضطرّت إلى التقليص من إنتاجها، وفق قوله.

أرباح طائلة واحتكار للسوق

وفق آخر الأرقام التي يوفرها الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه، بلغ رقم معاملات جميع وحدات تعليب المياه في تونس نهاية عام 2020، ما يزيد عن 850 مليون دينار نظير ترويج 2700 مليون لتر مياه معلّبة. هذه الأخيرة تجاوزت مبيعاتها بنهاية عام 2022 الـ 3275 لتر أي أنّ رقم المعاملات تجاوز في ذات العام الـ1 مليار دينار كحدّ أدنى.

لفهم التطوّر الكبير لقطاع المياه المعلّبة في تونس يجب العودة إلى عام 1989 السنة التي رفعت فيها الدولة يدها عن قطاع المياه المعدنية وفتحته أمام المستثمرين الخواص، وكانت بداياته من خلال التفويت في بعض الشركات المملوكة من طرفها إلى شركة صنع الجعة بتونس الإسم السابق لشركة صنع المشروبات في تونس SFBT.

منذ ذلك العام، أخذ قطاع تعليب المياه في تونس نسقا تصاعديا في الازدهار من سنة إلى أخرى، وبلغ ذروته بعد سنة 2011، حيث تضاعف عدد هذه الوحدات من 16 إلى 30 وحدة ناشطة إلى اليوم بالتمام والكمال، فضلا عن وحدات أخرى أغلقت أبوابها إما لعدم قدرتها على الصمود أو تنفيذا لقرارات بالغلق بسبب سوء جودة المياه التي تقوم بترويجها لعلّ أبرزها العلامة التجارية “عزيز”.

واللافت للانتباه في تواريخ إحداث وحدات تعليب المنشورة على موقع الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه، أنّ عددا كبيرا من هذه الوحدات فتح أبوابه بُعيد عام 2015، السنة التي سيبدأ فيها معدّل استهلاك التونسيين.ـات للمياه المعلّبة يرتفع من 115 لتر للشخص الواحد إلى 274 لتر في عام 2022، أي بنسبة تجاوزت الـ 100% في غضون سبع سنوات فقط.

ومثّل العام 2015، نقطة تحوّل بارزة في عدد الوحدات الصناعية الجديدة بدخول مجامع اقتصادية كبرى على خط الاستثمار في هذا المجال من بينها مجموعة الدغري صاحبة العلامة التجارية “دنيا” ومجمع حمدي المدب “دليس”، وعلامات جديدة أخرى تتبع مجامع اقتصادية عريقة في المجال على غرار مجموعة المزابي التي أضافت الى مجموعتها كلّا من صابرين la pétillante والعلامة الجديدة “تيجان”.

ووفق ما توفرّه هذه المجامع من معطيات إحصائية حول حصّتها من سوق المياه المعلّبة في تونس فإنّ كلّا من مجمع مزابي (صاحب ثلاث علامات تجارية) ومجمع SFBT (المالك لست علامات تجارية) يستحوذان لوحدهما على ما يزيد عن 60%، فيما تقدّر نسبة الوافد الجديد على القطاع “مجمع دليس” المالك لعلامة تجارية وحيدة فقط بـ 13% أمّا بقيّة الحصّة فتتوزّع على بقية العلامات والبالغ عددها 20 علامة.

هذه الأرقام الضخمة لمبيعات المياه المعلّبة ستعرف تراجعا ملحوظا في عام 2023، وفق ما تحصلنا عليه من معلومات من مصادر مطلّعة من داخل الهيئة الوطنية للسلامة الصحية على المنتجات الغذائية، حيث أشار مصدر مسؤول إلى أنّ عديد الوحدات أصبحت تعاني من شحّ الموارد المائية ونضوب عدّة عيون طبيعية وذلك جراء الاستنزاف المشط للمياه وكذلك من جراء الحفر العشوائي للآبار.

بسبب هذا الوضع تدهورت جودة مياه بعض العلامات التجارية كما بيّنا سابقا في خصوص العلامة صافية (عين قصيبة) واضطرت وحدات أخرى للتقليل من إنتاجها على غرار العلامة “صابرين” أكبر وحدة إنتاج في تونس، والتي صرفت النظر عن بعض المنتجات على غرار Sabrine la pétillante والمياه المعلّبة في قوارير من حجم نصف لتر، والعلامة “مليتي” التابعة لمجمع SFBT التي أودعت ملفا لدى مصالح وزارة الفلاحة للترخيص لها في حفر بئر جديدة بسبب قرب نضوب البئر التي تستغلها في الوقت الحالي والإشكاليات التي طرأت عليها في مستوى ضخ المياه.

“الصوناد” في خدمة وحدات تعليب المياه؟

خلال جولتنا الميدانية لاستطلاع آراء التونسيين.ـات حول أسباب إقبالهم على المياه المعلّبة كان هناك شبه إجماع على على ما وصفوه بسوء مذاق مياه الحنفية التي تراجعت جودتها بتقدّم السنوات. يقول فؤاد، شاب يقطن منطقة الكرم الغربي في العاصمة تونس، جوابا على سؤالنا حول ما إذا كان يستعمل مياه الحنفية للشرب أم هو في غنى عنها:

عندما درسنا مادة الإيقاظ العلمي في المرحلة الإبتدائية، كانوا يعلموننا أنّ الماء لا لون ولا طعم ولا رائحة له، هذه القاعدة ضربت بها “الصوناد” عرض الحائط ، فماؤنا طعمه غريب وينزل في كل مرّة برائحة جديدة ويمكن أن يكون أصفرَ في بعض الأحيان.

تعليقا منه على وجهة نظر المواطن فؤاد، فضلا عن شكاوى التونسيين.ـات عموما من تراجع جودة المياه الموزعة عبر الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه، يقول أحمد صولة رئيس مدير عام الشركة في تصريح أدلى به إلى موقع الكتيبة، إنّ “الشركة تعمل جاهدة للتقليص من هذا التناقض ومن أجل أن تكون المياه التي تتولى بيعها إلى حرفائها ذات جودة مقبولة”، مشيرا في ذات الصدد إلى أنّ المياه التي يتمّ توزيعها تخضع إلى رقابة مخابر الشركة ورقابة وزارة الصحة في الآن ذاته، وفق قوله.

يمنع علينا كشركة ترويج أو توزيع مياه غير صحيّة ونحن نخضع إلى رقابة مشددة من وزارة الصحة.

أحمد صولة رئيس مدير عام شركة توزيع المياه

ويُفسر صولة أنّ الشركة تعتمد بشكل عام على خلط مياه ذات ملوحة عالية نسبيا بمياه أخرى أقل ملوحة بهدف إنتاج مياه متوازنة من حيث الطعم، مشيرا إلى أنّ المياه المروّجة تستجيب إلى المواصفات التونسية التي تسمح بنسبة ملوحة تتراوح بين الـ 1.5 إلى 2 غرام في اللتر الواحد، وفق قوله.

على نقيض ما صرّح به صولة، يظهر تحليل مخبري لعيّنة من مياه حنفية، قام به مجموعة من المواطنين بمنطقة منزل بوزلفة بمحافظة نابل شمال شرقي البلاد بمخابر معهد باستور، أنّ المياه المروّجة عبر الشبكة في تلك المنطقة غير صالحة للشرب وحتى للاستحمام وذلك بسبب معاينة نسب عالية في مجموع القولونيات (coliformes totaux).

تكمن مشكلة المياه الموزّعة عبر شبكة الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه وفق عديد الخبراء في المعايير التونسية ذاتها، والتي تختلف اختلافا عميقا مع المعايير الأوروبية والتوجيهات التي تقدّمها منظمة الصحة العالمية والتي تنصّ على ألاّ تتجاوز نسبة الملوحة في اللتر الواحد من المياه المخصّصة للشرب الغرام الواحد في أقصى الحالات حتى يكون الماء مقبولا.

وينتقد بدوره الأستاذ الباحث ورئيس مخبر التحلية وتثمين المياه الطبيعية بمركز بحوث وتكنولوجيات المياه بتونس حمزة الفيل هذه المعايير التونسية التي وصفها بالفريدة من نوعها مقارنة حتى بدول الجوار مثل الجزائر والمغرب وباقي الدول العربية التي لا تسمح في أغلبها بأن تتجاوز نسبة الملوحة باللتر الواحد الـ 1.5 غرام.

كما يُفسّر الفيل أنّ نسبة الملوحة في المياه تختلف من منطقة إلى أخرى، ففي تونس العاصمة تبقى مياه الحنفية مقبولة حيث أنّ النسبة وفقا لدراسات قام بها المخبر لا تتجاوز الـ1 غرام باللتر الواحد في حين تصل في مناطق أخرى إلى مستوى يتراوح بين 1.5 و 1 غرام باللتر الواحد على غرار حاجب العيون بولاية القيروان و جرجيس من ولاية مدنين والمنستير ومناطق أخرى قائلا: “إذا ما تجاوزت نسبة الملوحة الـ 1.2 غرام في اللتر الواحد فلا يمكن شربها”.

بدورها، تقرّ وزارة الفلاحة في تقريرها الخاص بالمياه الصادر سنة 2021، بوجود إشكاليات كبيرة وعميقة تتعلّق بمياه الشرب العموميّة خاصة في مدى تطابقها مع المواصفات الميكروبيولوجية الواجب اعتمادها.

وتشير التحاليل المخبريّة التي قامت بها وزارة الصحة والمضمّنة بذات التقرير إلى أنّ المعدّل العام لمياه الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه غير المطابقة للمواصفات الميكروبيولوجية ارتفع من 9.6% في عام 2019 إلى 10.1% في عام 2020 وإلى 10.6% في عام 2021، وقد قدّرت الوزارة أنّ نسب عدم التطابق ترتفع في بعض المناطق على غرار ولايتي تطاوين 35 % ومنوبة 30%، تليهما كل من بن عروس وباجة وجندوبة بنسب على التوالي 20% و 14 %.

زيادة عن ذلك، أشارت وزارة الصحة إلى أنّ 29 % من مياه الشرب الموزّعة عبر المجامع المائية في الأرياف غير مطابقة للمواصفات الميكروبيولوجية، فيما سجلت عدم تطابق كلّي (100%) للمياه الموزعة عبر النقاط العمومية (نقاط توزيع مشتركة يتم تركيزها في الجبال والأماكن الوعرة) مع المواصفات الميكروبيولوجية بأرياف قبلّي فيما كانت النسبة العامة لعدم التطابق في هذا الصنف من المياه في حدود الـ 48%.

وتعود أسباب هذا التراجع في جودة مياه الشرب الموزعة من طرف الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه إلى الصعوبات المالية الكبيرة التي تعاني منها بشكل أثرت فيه على جودة خدماتها.

وتُشير تقارير الشركة إلى أنّ شبكتها الممتدة على طول 57 ألف كلم تعاني من اهتراء في بنيتها التحتية ناهزت الـ 20% الشيء الذي يتسبب في ضياع 33.5 % من المياه الموزعة عبرها، فضلا عن تأثير الشبكة السلبي على جودة المياه ولا تستطيع الشركة صيانة سوى 200 كلم منها في كلّ سنة.

من جهة أخرى، يُقرّ العديد من كبار المسؤولين في وزارة الفلاحة والموارد المائية بأنّ الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه تحتاج إلى استثمارات ضخمة بغية تجديد شبكتها وتحسين تقنيات عملها خاصة في ما يتعلّق بتحلية المياه المتأتية من السدود مثلما هو الحال بالنسبة الى المياه المتأتيّة من الآبار العميقة، إضافة إلى تجديد معدّاتها التي تشكو في جزء كبير منها من العطب، وهو أمر شبه مستحيل في الوقت الحالي نظرا لتزايد العجز المالي للشركة وارتفاع تكلفة إنتاج المتر المكعب من الماء (1 دينار) في ظل سعر بيع يعتبر هو الأقلّ مقارنة بباقي الدول (0.7 دينار / متر مكعب).

ومن بين أهمّ الدلالات على تأثر جودة خدمات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه بأوضاعها المالية، تعطّل عدّة معدّات مسؤولة عن تحديد جرعات الكلور التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مستوى الماء الخزانات.

يوضح الأستاذ الباحث حمزة الفيل أنّ نسبة الكلور الحر (ماء الجفال) الذي يستعمل من أجل تعقيم المياه في عدّة مناطق تمت دراستها تلُوح إما عالية أو منخفضة بشكل كبير الشيء الذي له تأثير مباشر في سلامة وصحة المواطنين وفق قوله.

هذه النسب العالية لعدم تطابق المياه العمومية مع المواصفات التونسية ذات الصلة بالجودة والصحة، تمثّل بحسب الخبراء الذين استندنا إليهم في هذا التحقيق أهمّ عامل يجعل من التونسيين.ـات ينفرون مياه الحنفية ويستبدلونها بأنواع أخرى على غرار المُحلاة (مياه الصهاريج،لا تخضع لأي رقابة من الدولة) التي ازدهرت تجارتها في السنوات الأخيرة، أو من خلال الإقبال أكثر على المياه المعلّبة والتي شهدت ارتفاعا ضخما في مبيعاتها خاصة في السنوات الخمس الأخيرة.

بين سوء الحوكمة والتغيّرات المناخية

“كيف لك أن تقنع فلاحا صغيرا له بعض عشرات من أشجار الزيتون بعدم حفر بئر عشوائية في الوقت الذي تمنح فيه الدولة رخصة لوحدة صناعية في ذات المنطقة؟”. هكذا يردّ، أحد صغار الفلاّح بمعتمدية جلمة من ولاية سيدي بوزيد يستغل بئرا عشوائية ليست بعيدة عن وحدة تعليب مياه تنشط بالقرب منه.

قد يلخّص هذا المشهد سياسة الدولة في حوكمة مواردها المائية على مدار عشرات السنين، بما زاد من عمليات الحفر عن الماء بطرق غير قانونيّة يعلمها القاصي والداني، حتى أنّ الدولة أصبحت عاجزة عن التصدي لمثل هذه العمليات نظرا لكثرتها وتعددها.

يتضح هذا الأمر في ولاية سيدي بوزيد وبالتحديد في جلمة. هذه المنطقة تستغلها ثلاث وحدات تعليب مياه لا تبعد عن بعضها البعض سوى قرابة ثلاث كيلومترات فقط.

دشّنت المنطقة أوّل وحدة تعليب مياه بها في عام 1990 وهي الوحدة التي تملك العلامة التجارية “حياة”. وفي عام 2016 منحت الدولة رخصة أخرى لمصنع العلامة الجديدة “تيجان” التابعة لمجمع مزابي، وفي عام 2019 منحت رخصة ثالثة لمجمع “دليس” رغم ما حفّ بملف هذه الأخيرة من انتقادات عديدة.

من المفارقات التي تكشفها تقارير وزارة الفلاحة التي منحت رخصا لهذه المصانع، إنّ محافظة سيدي بوزيد تعتبر منطقة إجهاد مائي أين تجاوزت نسبة استغلال مواردها الجوفية في عام 2021 الـ 280%.

يتكرّر الوضع الذي تعيشه منطقة جلمة بولاية سيدي بوزيد في كلّ من ولايات القيروان التي تضمّ ست وحدات وزغوان بخمس وحدات واللتين أصبحتا تعانيان كذلك من إجهاد مائي كبير، فضلا عن أنّ نسب استغلال المائدة المائية تفوق في بعض المناطق الـ 300%.

ووفق عديد الخبراء فإنّ الإجهاد المائي الذي تعاني منه تونس في الفترة الأخيرة، أسبابه معلومة وواضحة وهي التغيّرات المناخية وحالة الجفاف التي تضرب البلاد للعام السادس على التوالي. وينادي الخبراء بضرورة مراجعة كل السياسات المائية في البلاد من المنوال الفلاحي وصولا للوحدات الصناعية برمتها.

من بين هؤلاء الخبراء حكيم القبطني أستاذ التعليم العالي في الجيوفيزياء التطبيقية لاستكشاف الموارد الطبيعية، الذي دعا إلى ضرورة مراجعة التراخيص المسندة إلى وحدات تعليب المياه وكافة الوحدات الصناعية التي تستغل المياه في اتجاه ترشيد استعمالاتها وإخضاعها إلى رقابة دورية خاصة في علاقة بالنسب التي تتولّى ضخها، خاصة وأنّ البلاد تعاني الجفاف منذ ستة سنوات.

ويرى القبطني أنّ البلاد التونسية في العادة تعرف خمس سنوات جفاف تليها خمس سنوات ممطرة، غير أنّ الوضع الحالي تجاوزت فيه الست سنوات من حالة الجفاف بما يؤثر حتما في الموارد المائية وفي جودة المياه المعدنية كما تمت ملاحظته في خصوص بعض المنتجات التي تغيّرت تركيبتها بشكل جذري، وهو مؤشر واضح -حسب محدّثنا- على الإستغلال المفرط من مختلف الفاعلين الاقتصاديين والصناعيين للموارد المائية.

ويقول القبطني في حواره مع موقع الكتيبة، إنّ كل المؤشرات العلميّة تقود إلى أنّ تونس مقدمة على تغيّرات مناخية كبيرة، وارتفاع في درجات الحرارة مع تقلّص في التساقطات المطرية.

نحن مقدمون على تغيّرات حادّة و قاسية وجب معها مراجعة السياسات المائية والفلاحية من الآن، بما في ذلك إعادة النظر في جملة الرخص المسندة إلى الوحدات الصناعية ومن بينها وحدات تعليب المياه. لا يمكن لنا المواصلة بذات السياسات.

الخبير حكيم القبطني

منذ ما يزيد عن العام، بدأت وزارة الفلاحة في تطبيق إجراءات جديدة في ترشيد استهلاك الماء، عبر نظام التقسيط في مياه الشرب وتكثيف الرقابة على الحفر العشوائي للآبار، مع دعوة التونسيين.ـات إلى العودة لاستعمال طرق وآليات تقليدية قديمة على غرار الفسقيات والمواجل لتجميع مياه الأمطار، كما أوقفت مؤقتا منح الترخيص النهائي إلى عدد من وحدات تعليب مياه جديدة (عددها 10) كانت قد تحصلت على موافقات مبدئية من بين 40 ملف مودع لدى مصالح الوزارة.

هذه الإجراءات التي اتخذتها وزارة الفلاحة، لم تشمل مطلقا الرقابة على وحدات تعليب المياه الناشطة حاليا، خاصة وأنّ هناك العديد من التقارير تفيد بوجود ضرر واضح في الموائد المائية في بعض المناطق ما أثر في جودة تلك المياه والتغيّر الملحوظ في تركيبتها بما يشي بعمق الحفريات التي تقوم بها للوصول إلى الماء وما يؤشر كذلك على وصول البلاد إلى مستويات قياسية في استغلال المياه الجوفية.

كلمة الكتيبة:

يندرج هذا التحقيق ضمن سلسلة انتاجات صحفيّة يشتغل عليها موقع الكتيبة منذ فترة حول قطاع المياه في تونس وسياسات الدولة التونسيّة في هذا المجال التي باتت محلّ انتقادات عديدة.

كلمة الكتيبة:
يندرج هذا التحقيق ضمن سلسلة انتاجات صحفيّة يشتغل عليها موقع الكتيبة منذ فترة حول قطاع المياه في تونس وسياسات الدولة التونسيّة في هذا المجال التي باتت محلّ انتقادات عديدة.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

اشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
صوت: رافد الشمروخي
فيديو: محمد علي منصالي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
صوت: رافد الشمروخي
فيديو : محمد علي منصالي
تطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
غرافيك : منال بن رجب

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

wael