الكاتب : رحاب حوّات

صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري

لم تشفع لها سنوات عمرها السّبعين ولا انحناءة ظهرها ولا الأمراض التي أطبقت على جسدها المنهك للخروج إلى الشّارع بحثا عن لقمة عيش حيث وجدتها في مكبّات القمامة وبين مخلّفات البشر.

اضطرّت فاطمة، امرأة سبعينيّة، مكرهة إلى الالتحام يوميا برائحة الفضلات لدرء شبح الفقر والنجاة من فرضية الموت جوعا والمجازفة بالمرور إلى فرضية الموت بأمراض النّفايات، ولا فرق بينهما سوى أنهما تجربتان لموت إحداهما سريع والآخر بطيء.

هي واحدة من مئات النّساء “البرباشة” اللواتي أجبرهن ضنك العيش على النّبش في القمامة وفرز ما يمكن أن يصلح لإعادة الاستهلاك والرسكلة من قوارير بلاستيكية ومعادن وخبز وقطع ملابس وغيرها.

رحلة نبش يومية، واكبتها “الكتيبة”، تختزن بداخلها قصصا من المعاناة والاستغلال والميز الجندري، يفاقمها صمت رسمي تجاه “مجتمع الهامش” الذي حدّد لنفسه وجودا بعيدا عن مخططات الدولة وأجهزتها.

الكاتب : رحاب حوّات

صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري

لم تشفع لها سنوات عمرها السّبعين ولا انحناءة ظهرها ولا الأمراض التي أطبقت على جسدها المنهك للخروج إلى الشّارع بحثا عن لقمة عيش حيث وجدتها في مكبّات القمامة وبين مخلّفات البشر.

اضطرّت فاطمة، امرأة سبعينيّة، مكرهة إلى الالتحام يوميا برائحة الفضلات لدرء شبح الفقر والنجاة من فرضية الموت جوعا والمجازفة بالمرور إلى فرضية الموت بأمراض النّفايات، ولا فرق بينهما سوى أنهما تجربتان لموت إحداهما سريع والآخر بطيء.

هي واحدة من مئات النّساء “البرباشة” اللواتي أجبرهن ضنك العيش على النّبش في القمامة وفرز ما يمكن أن يصلح لإعادة الاستهلاك والرسكلة من قوارير بلاستيكية ومعادن وخبز وقطع ملابس وغيرها.

رحلة نبش يومية، واكبتها “الكتيبة”، تختزن بداخلها قصصا من المعاناة والاستغلال والميز الجندري، يفاقمها صمت رسمي تجاه “مجتمع الهامش” الذي حدّد لنفسه وجودا بعيدا عن مخططات الدولة وأجهزتها.

لقمة عيش من القمامة

يسترزق من مهنة جمع النفايات القابلة للرسكلة حوالي 70 ألف برباش.ـة، يتوزّعون على مختلف جهات الجمهورية. ويتركّز أكثر من نصفهم في الأحياء الشعبيّة لولايات تونس الكبرى، وفقا لإحصاءات الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات.

وتستفيد هذه الفئة من ارتفاع إنتاج النفايات البلاستيكية بكمية تناهز 350 ألف طن سنويا، وهو ما يضع تونس في المرتبة الـ 13 في بلدان المتوسط من حيث إنتاج المواد البلاستيكية، وفقا لمعطيات وزارة البيئة.
وتمثّل النّساء ثلث عدد البرباشة، يتقاسمن الهشاشة الاجتماعية نفسها، ويتشاركن المصير الصّحي ذاته، ويتحمّلن مخاطر جمّة فُرضت عليهن، ويُواجهن مستقبلا مجهولا يختفي فيه الأمل بتحصيل ضمانات مريحة للتقاعد.
تعيش فاطمة داخل بيت على وجه الكراء في حيّ شعبي بمنطقة حيّ النسيم بالضاحية الشمالية للعاصمة، جلّ مكوّناته مطبخ وغرفة استقبال صغيرة تتقاسمها مع ابنتها (23 سنة) التي أصيبت بمرض تنفسي مزمن قطع آمال فاطمة في وجود يد تتقاسم معها ثقل المعاناة.

وتفرض مهنة “التبربيش” على فاطمة ومثيلاتها من جامعات القمامة قوانينها القاسية واكراهاتها التي تستنبط منها فعل المقاومة لمواصلة الحياة، وقد أيقنت أنّها لن تجد الرّغيف بغير كفّ المشقّة.
لا تفقه هذه المرأة قوانين الزّمن ولا حتّى المكان بعد أن عبثت الحياة بذاكرتها، ولكنّها تدرك جيّدا أنّ رحلة البحث عن قوت يومها تنطلق ببزوغ الشمس وتنتهي بغروبها. وبين هذين الزّمنيْن تصارع فاطمة من أجل جمع أكبر عدد ممكن من القوارير البلاستيكية التي تضعها داخل عربة تجرّها بأنامل طبع فيها النبش عن القمامة آثارا عميقة. لا توقفها حرارة الشّمس ولا برد الشّتاء، ولكنّها تجبر على التّوقّف حينما تخونها رجْلاها أو تعجز عن رؤية ما حولها، بعد أن أفقدها التلوّث الناجم عن الاحتكاك المباشر بالنفايات إحدى عينيها وأضرّ بالأخرى.
ولا تجد النّساء البرباشة سلاحا لتغيير واقعهن، في ظلّ صمت الجهات الرسمية عن تبنّي مشروع يحمي حقوقهن الاقتصادية ويضمن لهن عدالة بيئية وصحية، على الرغم من أنّ تونس تعتبر إحدى دول حوض البحر المتوسط الأكثر تأثّرا بأزمة المناخ.

من هم البرباشة؟

و”البرباشة” هو مصطلح غير رسمي، يُطلق على الأشخاص الذين جعلوا من النّبش في النفايات والتنقيب عمّا يصلح منها للبيع مهنة لهم، وهم ينشطون بشكل غير نظامي بعيدا عن تأطير الدولة ورقابتها.
اشتقّت هذه الكلمة من الكلمة العامّية “يبَربِش” وهو فعل يحيل على النّبش والبحث والفرز، بحسب رئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع عبد الستار السحباني، الذي أكّد لـ “الكتيبة” أنّ هذه الكلمة كانت تطلق سابقا على البحث في أسواق الملابس المستعملة (الفريب).

هذه الظاهرة تعود إلى تسعينات القرن الماضي حين كان البرباشة يبيعون بضاعتهم المتمثلة أساسا في أواني الطبخ المتروكة في أسواق مخصّصة لذلك، أشهرها “سوق العصر” بباب الجديد الذي كانت تباع فيه حتّى أعقاب السجائر و”هنشير اليهودية” بمنطقة المروج.

عبد الستار السحباني

وبدأت ظاهرة “البرباشة” تتّخذ مفهومها الحاضر في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، حيث ارتبطت أساسا بجامعي النفايات البلاستيكية ومختلف المواد القابلة للرسكلة، قبل أن تتحوّل إلى عمل شبكي مربح تتداخل فيه أطراف عديدة، من بينها “البرباشة” والوسطاء ومصانع الرسكلة والوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات.
ويتقاطع مفهوم “البرباشة” في تونس مع مفاهيم أخرى في دول عربية أخرى، فهم في المغرب يسمّون “البُوعارَة” أو “مِيخالَة” أو “الهَبَّاشة”، وفي فلسطين ومصر “النّباشة”.
وشهدت أعداد البرباشة تصاعدا ملحوظا بعد الثورة تغذّيها أساسا الأوضاع الاجتماعية الهشّة التي أسهمت في ظهور أشكال شغليّة وضعت في خانة “الهامشيين” أو “الطفيليين”، واتّخذت لاحقا أشكالا جديدة على غرار التّسوّل الذي تحوّل إلى صناعة، وفقا للسحباني.
ويرى محدّثنا أنّه لا يمكن واقعيا حصر أعداد البرباشة وأنّ الأرقام التي تقدّمها الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات تقديرية، وهي قابلة للانفجار في ظل “التغافل الكبير” للجهات الرسمية عن هيكلة نشاطهم.

تشبه علاقة الدولة بالبرباشة علاقتها بالمهربين، حيث تغمض الجهات الرسمية أعينها عن التجارة الموازية التي تقفل لها أبواب أزمة اجتماعية تشمل مئات الآلاف من العائلات في البلاد.

عبد الستار السحباني

وقال السحباني إن تشعّب المتدخلين في عملية فرز النفايات ورسكلتها ساعد على انتشار هذا النشاط الذي تستفيد الأطراف الفاعلة فيه من وضعية التهرّب من دفع الضرائب.

النّساء البرباشة .. هشاشة مركّبة

رحلة التنقيب بين النفايات قد تكون محفوفة بالمخاطر بالنسبة الى النّساء المشتغلات في هذا المجال، حيث يُعرّضهنّ الشّارع إلى حوادث ومضايقات تصل حدّ التحرش والتعرّض للعنف.
وتعيش النساء “البرباشة” هشاشة مركّبة وتمييزا جندريا مضاعفا في قطاع يسيطر عليه الرّجال، هذا ما تؤكده عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إيناس الأبيض لـ “الكتيبة”.

لا تختار النّساء هذه المهنة بل تُجبرهنّ الظروف الاجتماعية الصعبة وحالتهن المدنية على امتهانها، فمعظمهن تكنّ مطلّقات أو أمهات عزباوات أو أرامل، وعادة ما تكنّ المُعيل الوحيد للعائلة في غياب الزّوج أو في ظلّ عدم قدرته على العمل.

إيناس الأبيض، عضو المنتدى التونسي

هذه الهشاشة تمتدّ إلى نشاطهنّ في النبش في النفايات، فهيمنة الرجال لهذا العمل يُقصيهن من ولوج بعض الأحياء ويجبرهنّ على بدء العمل في ساعات مبكّرة جدا تجنّبا للصدامات مع زملائهن من “البرباشة” وتفاديا لحالات التحرّش والعنف، وهو ما ينعكس على قدرتهنّ على جمع كمية مناسبة من البلاستيك تضمن لهن مردودا ماديا “محترما”.
تُمضي فاطمة أكثر من 5 ساعات وهي تجلس في حديقة عمومية بانتظار زبائنها الذين خبروا مكان مكوثها. ورغم أنّ نقطة الالتقاء تلك لا تبعد سوى بضعة أمتار عن مركز للشرطة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع عنها المضايقات اليومية التي تتعرّض لها أثناء رحلة بحثها عن “النفايات القيّمة”.
تصف فاطمة الشارع بالمكان “المخيف”، وتقول:

مررت بالكثير من المتاعب، افتُكت منّي القوارير البلاستيكية التي كنت أجمعها بصعوبة، وتعرّضت للضرب والتحرّش والإهانة.. البعض ينعتني بـ”المسخّة”[القذرة].

تحمل النساء “البرباشة” على ظهورهن بقايا النفايات وعلى عاتقهنّ أكياسًا من الوصم الاجتماعي والإقصاء والتّمييز، فهن في المخيّلة الشعبية فئات “غير مرئية” أو “خطرة” في بعض الأحيان.
تقول إيناس الأبيض إنّ نظرة المجتمع التونسي للنساء البرباشة هي “نظرة دونية” وفيها الكثير من الوصم الذي يخلّف لهن آثارا نفسية عميقة.

في نظر البعض هؤلاء النساء هنّ مصدر للتلوّث والعدوى بحكم احتكاكهنّ المباشر بالنفايات، كما يستنبط البعض تقييمات اعتباطية لهذه الفئة من قبيل وصفها بالعناصر الخطيرة والعنيفة ووضع احتمال حملها لسلاح.

إيناس الأبيض، عضو المنتدى التونسي

هذه النظرة تؤدي إلى تشكّل هويّة سلبية حول الذّات لدى هذه الفئة يغذّيها الشعور بعدم الاعتراف، وتعبّر فاطمة عن هذا الأمر بالقول: “الموت أفضل بالنسبة الى أمثالنا”.

استغلال اقتصادي يمتهنه الوسطاء

تتعدّد أوجه الهشاشة التي تعيشها النساء “البرباشة” لتمتدّ إلى الاستغلال الاقتصادي الذي يقابلنه بصمت وإذعان تفرضهما قلّة الخيارات وارتفاع معدلات البطالة إلى 16.4% خلال الرّبع الأخير من سنة 2023 مقارنة مع 15.2% قبل عام، حسب المعهد الوطني للإحصاء.
ورغم أنّ هذه المهنة مُغيّبة من سياسات الدولة ومن قوانينها، إلاّ أنّ عالم “التبربيش” يخضع لقوانين خاصّة به، يشرّعها أساسا “الوسطاء” الذين يغنمون أرباحا كبيرة من عمل البرباشة، وفقا لرئيس جمعية “من أجل تونس نظيفة” سامي بن يحيى.
وتنطلق دورة حياة النفايات البلاستيكية وغيرها من الموادّ القابلة للرسكلة من التجميع الذي يقوم به البرباشة، نساءً ورجالا وأطفالا، عبر الفرز في حاويات النفايات المنزلية أو داخل المصبّات المراقبة منها والعشوائية، نظير الحصول على مقابل زهيد يدفعه لهم الوسطاء الذين يبيعونها لاحقا إلى مصانع الرسكلة أو إلى الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات.

علاقة الوسطاء بالنّساء “البرباشة” تشبه إلى حدّ كبير علاقة الصرّار بالنملة، تُفني النّساء أيامهن بين أكداس القمامة ولظى أشعة الشمس ولسعات برد الشتاء باحثات عن قوتهن ومطبقات آذانهن عن متع الحياة من حولهن، ثم يأتي الوسطاء ليحصدوا شقائهنّ بأثمان بخسة لا تتجاوز 700 مليم للكيلوغرام الواحد من البلاستيك، وهو ما يجعل دخلهنّ اليومي لا يتجاوز 5 دنانير وأحيانا أقل.
هل تقتلع 5 دنانير عائلة من براثن الجوع والمرض؟ تختصر فاطمة الإجابة عن هذا السؤال بالقول:

تمرّ أيام أعجز فيها عن تأمين ما يسدّ جوعي .. لا يعرف اللحم طريقا إلى منزلي. أمّا المرض فأصبح أمرا ثانويا.

فاطمة، امرأة “برباشة”

ورغم أنّ الاستغلال الاقتصادي واقع فُرض على جميع أصناف “البرباشة”، إلاّ أنّ نصيب النّساء المشتغلات في هذا القطاع أكبر، فالدنانير الخمسة التي تتقاضاها النساء تقابلها أجرة يومية تتراوح بين 15 و20 دينارا للرّجل.
وتفسّر إيناس الأبيض، هذا الميز الجندري باستغلال الوسطاء لضعف النّساء وعدم قدرتهن على افتكاك حقوقهن المادية مقارنة بالرجال، تضاف إلى ذلك محدوديّة امكاناتهنّ واعتماد معظمهن على عربات صغيرة “كرّوسة” يدفعنها بأياديهن، وهو ما يقلل فرص جمع قدر أكبر من النفايات القابلة للرسكلة وإعادة الاستخدام.

وعادة ما تصمت النساء البرباشة عن حقوقهن الاقتصادية في ظلّ هيمنة الوسطاء على هذا القطاع وعجزهنّ عن التواصل المباشر مع المصانع المتخصصة في الرسكلة والتحويل التي تستقبل آلاف الأطنان من النفايات المتنوعة.
ويؤكد رئيس جمعية “من أجل تونس نظيفة” سامي بن يحيى، في معرض حديثه لـ “الكتيبة”، أنّ قلة قليلة من البرباشة يتمكّنون من الوصول إلى هذه المصانع والتعامل معها بشكل مباشر، نتيجة افتقارهم إلى وسائل النقل التي تخوّل لهم إيصال بضاعتهم، وهو ما يجبرهم على الخضوع إلى خدمة الوسيط.

فرض أسعار بخسة على البرباشة، ويستخدمون في ذلك حجة لا يمكن إثباتها وهي تدني أسعار البلاستيك عالميا.

سامي بن يحيى

ولضمان إحكام قبضتهم على قطاع “التبربيش”، يتعاضد الوسطاء في ما بينهم لتحديد سعر الاستقبال من البرباشة، وهو ما يضيّق عليهم الخناق ويضعهم تحت الأمر الواقع، أمام صمتٍ وإهمالٍ رسمييْن عن حماية حقوقهم.

لقمة عيش قاتلة

“نتّجه يوميا إلى مصب النفايات ولا نعلم إن كنّا سنعود منه على قيد الحياة”.. هي إحدى شهادات النساء البرباشة التي وثّقتها المخرجة السينمائية الشابة “مروى طيبة” في فيلم وثائقي قصير بعنوان “الوجه الآخر”، قبل أن تتحوّل لاحقا إلى واقع مفزع.
فإحدى الشخصيات التي مرّت في الفيلم فارقت الحياة قبل أشهر أثناء تشبّثها بشاحنة مخصصة لنقل النفايات المنزلية والمشابهة في مصب الرديّف بولاية قفصة، حيث ينتشر أكثر من 50 برباش.ـة ويتقاسمون رحلة البحث الخطرة عمّا يصلح للتدوير وأحيانا لسدّ رمق الجوع، بعيدا عن قواعد السلامة والاعتراف بانتهاء تاريخ الصلوحية.

تقول المخرجة السينمائية لـ”الكتيبة”، إنّ أمل الحياة يتضاءل في هذا المصبّ، حيث تختلط الرّوائح الخانقة بالغازات السّامة ولسعات الحشرات والمواد الحادة ودخان النفايات المحترقة، لتنتج مشهدا يوحي لك أنك في الجحيم.
وتتقاطع وضعية فاطمة مع وضعيات المئات من النساء في مصب الرديّف وبقية المصبات المنتشرة في مختلف جهات الجمهورية المصنّفة من قبل الدولة على أنّها “مراقبة”، فيما يؤكد خبراء في مجال البيئة أنّها بعيدة كلّ البعد عن هذه التسمية.
وتلاحظ طيبة أنّ مجال النّبش في النفايات لا يعترف بالتّقسيم العمري أو الجندري، مشيرة إلى أنّ الفتيات تنتشرن بكثافة داخل المصبات، بينهنّ منقطعات عن الدراسة وأخريات تجاهدن من أجل الموازنة بين إعالة عائلاتهن والتشبث بالتعليم الذي ترين فيه مصعدا اجتماعيا قد يقتلعهن من براثن الفقر والخصاصة.
وتتقاطع الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للنساء البرباشة مع أشكال أخرى من الهشاشة المناخية والبيئية والصحية، فالالتحام مع النفايات بأيادٍ عارية واستنشاق إفرازاتها السّامة، هو خطر لا بدّ منه بالنسبة الى هؤلاء “البرباشة”، ما يجعل إمكانية الإصابة بأحد الأمراض الجلدية والتنفسية أو التّعرض لجروح أو بتر لأحد الأعضاء واردة الحدوث في فضاء يصفه الناشط البيئي حسام حمدي بـ”الخطير و”غير الصحي”.

إنّ تعاطي “البرباشة” مع المواد الملوّثة يضعهم/هنّ في مواجهة مباشرة مع شتّى الأمراض والفيروسات والإعاقات وأحيانا مع الموت.

حسام حمدي

ويوضّح حسام حمدي أنّه “خلافا لخطر البلاستيك والمواد السامة والآلات القاطعة، يتعامل البرباشة مع مياه الرّشح، يلامسونها بأيديهم/ن العارية ويشمّون رائحتها.. هم فعليا محكومون.ـات بالموت قطرة قطرة”.
وتُعرّي منطقة العطّار، التي يتركّز فيها مصبّ برج شاكير بالضاحية الغربية للعاصمة، “كذبة العدالة الصحيّة والبيئية”، إذ يؤكد حمدي تسجيل حالات إصابة بالتهاب الكبد الفيروسي “c” في صفوف البرباشة المشتغلين في المصب، فضلا عن انتشار الأمراض المزمنة والنادرة في صفوف 60 بالمائة من تلاميذ المنطقة” وفق قوله.
وتتفاقم هذه المخاطر بسبب وجود نفايات طبية خطرة في المصبات العشوائية وحتى في المصبات المراقبة أين يتكثّف عمل البرباشة.

ويكشف تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2018 أنّ 40% من النفايات الطبية المصنّفة كنفايات خطرة تقع معالجتها كنفايات منزلية، حيث تقتصر منظومة التصرّف في النفايات الطبية على نصف المؤسسات الصحية العمومية، ولا تُغطِّ المنظومة نصف مراكز الدم العمومية و لا أيّا من المراكز الخاصة، لتظلّ كميات تفوق 2000 طن من هذه النفايات مجهولة المآل.
ولا تستجيب المصبات المراقبة لمعايير التصرّف في النفايات، حيث تشرف على إدارتها شركات خاصة يؤكد الباحث في علم الاجتماع منير حسين أنّ غالبيتها تحتكم إلى قانون “اللامبالاة” ولا تحترم كراسات الشروط وتتجاهل تصنيف النفايات وفقا لمخاطرها، بناء على ما توصّل إليه في دراسة حول منظومة التصرف في النفايات المنزلية والمشابهة نشرت في أكتوبر 2019.
ويؤكد حسين في تصريح للكتيبة، أنّ “النفايات التي يقع ردمها في المصبات المراقبة تشمل نفايات خطرة، وهو ما يفرض تحديات صحية كبيرة على البرباشة الذين يحتكّون بها مباشرة”.

الحلقة الأقوى في منظومة هشّة

تكرّس الدولة التونسية في قوانينها وخطابها الرسمي سياسة الفرز وإعادة التدوير، في بلد ينتج سنويا حوالي 2.6 مليون طن من النفايات المنزلية، وفقا لأرقام الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لعام 2023.
ويؤكد الناشط البيئي حسام حمدي أنّ 4 بالمائة فقط من هذه النفايات تخضع لعمليات الرسكلة التي تعتمد أساسا على نشاط “البرباشة”. هذا المعطى يعرّي بدوره اعتماد الدولة على هذه الفئات في تنفيذ سياسات الفرز وإعادة التدوير، رغم عدم اعترافها بمهنتهم وتجاهلها للمطالب المتصاعدة بهيكلتهم وإدماجهم في القطاع النظامي.
يستحضر حمدي مفارقة يصفها بالمضحكة ويقول :

البرباشة هم الحلقة الرئيسية والأقوى في عملية الفرز في تونس، ولكنهم في الوقت ذاته الحلقة الأضعف في هذه المنظومة الهشة.

حسام حمدي

ويرى محدّثنا أنّ اقتلاع البرباشة من براثن الهشاشة يتجاوز مجرّد منحهم قفازات أو كمّامات، ويتعدّى ذلك إلى الاعتراف الرسمي بهم/هن ودمجهم في منظومة الاقتصاد الدائري وسنّ قوانين تحفظ لهم حقوقهم الاقتصادية والصحية.
وتقترح المكلفة بالعدالة البيئية صلب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إيناس الأبيض بعث مراكز للفرز على مستوى البلديات في مختلف ولايات الجمهورية، يدمج فيها البرباشة بعقود عمل تضمن لهم/هن حقوقهن من تغطية اجتماعية وصحية وتحفظ لهم/هن كرامتهم/هن وتُنهي عقودا من التجاهل الرسمي لمهنتهم/هن ولأدوارهم/هن البيئية.

الكاتب : رحاب حوّات

صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري

تدقيق: وليد الماجري
فيديو: رأفت عبدلي
مونتاج: محمد علي منصالي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
فيديو : محمد علي منصالي
تطوير تقني: بلال الشارني
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك : منال بن رجب
فيديو : رأفت عبدلي

الكاتب : رحاب حوّات

صحفية ومختصة في الإتصال والإنتاج السمعي والبصري

rihab