الكاتب : يسرى بلالي

صحفية، صانعة محتوى، باحثة دكتوراه في الفلسفة الاجتماعية.

وُلد الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا Hartmut Rosa سنة 1965، وهو تلميذ الفيلسوف الألماني أكسال هونيث وينتمي إلى الجيل الرابع من المدرسة النقدية. وقد تأسّست نظريته التي عُرفت بنظرية التسارع على أعقاب مراجعة المشروع الحداثي الذي انتهجه كلّ من الجيل الأول والجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت.

نظرية التسارع الزمني من أهمّ اشتغالات هارتموت روزا، وهي براديغم يختلف عن ما قدّمه ممثّلي المدرسة بدءا من هوركايمر وصولا إلى أكسال هونيت، كما يُعتبر قراءة جديدة للمجتمع ما بعد الحديث الذي أصبح مهووسا بالزمن السريع رغم حفاظ الزمن على عدد ساعاته وأيامه.

يقول هارتموت روزا في هذا الصدد: “إنّ قيمة الزمن لا تتغيّر على مدار السّاعة. فالوقت لا يسير بسرعة ولا ببطء، اليوم أربع وعشرون ساعة، والعام ثلاث مائة وخمسة وستّون يومًا. لذا فإنّ الشعور بأنّ الوقت يمرّ بسرعة لا بدّ من تفسيره بأسباب نفسيّة، إنّها ظاهرة نفسية لها أسباب اجتماعيّة”.

الكاتب : يسرى بلالي

صحفية، صانعة محتوى، باحثة دكتوراه في الفلسفة الاجتماعية.

وُلد الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا Hartmut Rosa سنة 1965، وهو تلميذ الفيلسوف الألماني أكسال هونيث وينتمي إلى الجيل الرابع من المدرسة النقدية. وقد تأسّست نظريته التي عُرفت بنظرية التسارع على أعقاب مراجعة المشروع الحداثي الذي انتهجه كلّ من الجيل الأول والجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت.

نظرية التسارع الزمني من أهمّ اشتغالات هارتموت روزا، وهي براديغم يختلف عن ما قدّمه ممثّلي المدرسة بدءا من هوركايمر وصولا إلى أكسال هونيت، كما يُعتبر قراءة جديدة للمجتمع ما بعد الحديث الذي أصبح مهووسا بالزمن السريع رغم حفاظ الزمن على عدد ساعاته وأيامه.

يقول هارتموت روزا في هذا الصدد: “إنّ قيمة الزمن لا تتغيّر على مدار السّاعة. فالوقت لا يسير بسرعة ولا ببطء، اليوم أربع وعشرون ساعة، والعام ثلاث مائة وخمسة وستّون يومًا. لذا فإنّ الشعور بأنّ الوقت يمرّ بسرعة لا بدّ من تفسيره بأسباب نفسيّة، إنّها ظاهرة نفسية لها أسباب اجتماعيّة”.

من أهمّ مؤلفات هارتموت روزا: “جعل العالم غير متاح”، “التسارع الاجتماعي: نحو نظرية جديدة في الحداثة”، “الاغتراب والتسارع”، “الصدى: علم الاجتماع وعلاقتنا بالعالم”.
في هذا الحوار يحدّثنا عالم الاجتماع هارتموت روزا على نظرية التسارع وكيف ظهر مفهوم الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) وعلاقته بتشكّل الهويّة الحاضرة، كما يُقدّم لنا قراءة سوسيولوجية حول اختلاف قيمة الزمن من طبقة اجتماعية إلى أخرى وعلاقة ذلك بالتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية.

يعيش العالم العربي بشكل خاص ومعظم شعوب العالم بشكل عام في نوع من النوستالجيا حيث أصبح يعاد بثّ أفلام وموسيقى فترة التسعينات والثمانينات، وكأنّها ظاهرة عالمية تبحث في الماضي القريب، وعادة ما نسمع كلمات من قبيل “الوقت مرّ بسرعة”، ماهو رأيكم في هذه الظاهرة خاصّة وانّكم تشتغلون على براديغم التسارع الزمني؟

لقد تطوّر المجتمع الغربي منذ القرن 18 ولكنّنا مازلنا نلاحظ وجود هذا النوع من الحنين إلى الماضي، حتّى في السنوات التي تسبق هذه الألفية فإنّنا نجد من هم يحنّون إلى العصور الوسطى. فكرة الحنين إلى الماضي ظهرت أيضا خلال عصر الأنوار سواء في التاريخ اليوناني أو العربي، على سبيل المثال حتى خلال العصر الروماني يوجد من كانوا يحنّون إلى العصور الوسطى.
في أوروبا أيضا كان هناك حنين لثورة 1968 وحتى في العالم العربي والولايات المتحدة الأمريكية وأعتقد أنّ هذا الأمر يتعلّق بشعورنا وكأنّ العالم لا يبقى على حاله وأنّ الواقع هو أمر لا يمكننا السيطرة عليه ويهرب منّا. حتى الأشياء التي استلهمنا منها هويّتنا هي أمور تعتبر من الماضي وعادة ما نضعها في متحف.

إنّ المتحف هو اختراع جديد نذهب إليه لنتذكّر كيف تطوّرنا وأصبحنا على ما نحن عليه اليوم، وهو فعلا نفس التأثير الذي يحدث عندما نشاهد أفلام الثمانينات أو التسعينات فنحن نشاهد أنفسنا ونقرأ تاريخنا من خلال هذه المشاهد.

هل من غير الممكن تشكيل الهوية اعتمادا على الحاضر فقط؟

تعريفي للهوية من خلال نظرياتي هو الإجابة عن سؤال من أنا؟ وهناك أيضا سؤال من نحن؟ والذي يعبّر عن الهويّة الجماعية سواء عند الأوروبيين أو العرب أو التونسيين أو المغاربة أو أي مكان في العالم.
إذن هو الجواب عن الهوية هو معرفة من نحن؟ يمكننا فقط الاجابة عن هذا السؤال من خلال النظر إلى الماضي. يمكننا التعرّف على هويتنا من خلال الرجوع إلى الماضي ولكن أيضا من خلال النظر إلى المستقبل.
هناك خطآن يجب الحذر منهما في هذا المجال:
يتمثّل الأوّل في مشكلة تجاهل الماضي، أعتقد أنّ عصر ما بعد الحداثة يشجّع على تجاهل الماضي واعتباره أمرا غير مهمّ مقارنة بالحاضر، وهذا ما يجعلنا ننسى من نحن ومن أين أتينا. أمّا الخطأ الثاني فيتمثّل في اعتبار أنّ الماضي هو مرحلة متجدّدة لما يحدث في المستقبل.
إنّ التشبّث بالماضي بطريقة كبيرة قد يؤدّي إلى حاضر متجمّد أو متكلّس، ما نحتاجه فعلا هو خلق رابط بين الماضي والحاضر والمستقبل، عندما نتعرّف على ماضينا ومن أين أتينا وما يؤثّر على وعينا وأجسادنا نستطيع أن نتقدّم. ونأخذ على سبيل المثال المجتمع الألماني، نحن الألمان، نعرف تاريخنا وحروبنا ولكنّنا لا نريد لذلك أن يتواصل أو يتكرّر.
وهذا ما أعرّفه بمفعول الصدى بين الحاضر والماضي، هناك صدى يتكوّن من الأجيال الماضية إلى القادمة، أصبح من الصعب جدّا خاصّة في العالم العربي البقاء على رابط قويّ متواصل بين الحاضر والماضي، لذلك هناك خطر على الإلمام بالمستقبل وبالتالي خسارته.

ماهي الأصول التاريخية لبراديغم التسارع، ومن ملهمكم من الفلاسفة الذين سبقوكم خاصّة وأنّكم لا تتفقون مع فلسفة هيدغر رغم تقارب النظريات التي اشتغلتم عليها كالزمن والوجود؟

أشارك هيدغر الى فكرة أنّ الزمن والوجود هما أمران مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطا وثيقا. ومن أهمّ الأسئلة التي تُطرح على الإنسانية جمعاء وليس فلسفيا فقط هو كيف أعيش حياتي؟ أتّفق مع هيدغر في هذا الجانب ولكنّ هيدجر كان ميّالا إلى الجانب الفلسفي في الموضوع أمّا أنا فإنّني مهتمّ بالجانب الاجتماعي.
مسألة كيفية الاستمتاع بحياتنا في هذا العصر وكيفية قضاء الوقت تحمل نفس الهواجس -على ما أعتقد- في أوروبا وتونس. نحن نسرع دائما لنكون في الوقت المناسب. ولاحظت أنّ كيفية تحديث وتعصير العالم هي أيضا عملية تسريع للعالم وجعل كل شيء خاضع للسرعة في الانجاز. انّ الاستعارة أو التعبير المجازي الذي استعمله دائما هو:

الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر

الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر

إذا كان هناك مخلوقات فضائية تشاهدنا فسيرون أنّ البشر منذ القرن 18 قد جعلوا كل العالم في حركة دائمة. السفن التجارية والسكك الحديدية في العالم العربي والغربي الأطلنطي وجنوب أفريقيا والهند.

نرى أنّ هناك ازدياد في عدد السيارات والشاحنات والطائرات، وهذه الحركة لا تقتصر فقط على الحركة الجسدية وإنّما على حركة غير مرئية كحركة الأموال والأسواق المالية ومنصّات التواصل الاجتماعي.
هذه النزعة لتحديث العالم وتطويره هي التي تسبّبت في هذه السرعة. نلاحظ أيضا أنّ هذه السرعة في المواصلات أو التعاملات لا توفّر لنا وقتا أكثر وإنّما أصبح لدينا وقت أقلّ وعموما هذا ما نلاحظه في العالم العربي أكثر من العالم الغربي. أصبح لدينا إحساس بأنّنا نحتاج إلى القيام بنشاطات أكثر في حياتنا، الأمر كلّه يتعلّق بالتسريع في كلّ معاملاتنا في العالم، ولأننّي عالم اجتماع لا أعتمد كثيرا على كتابات هيدغر ولكنّني أجد نفسي متّفقا مع هوركهايمر وماركوز لأنّهما قد ناقشا فكرة الاغتراب.
فكلّما أصبحنا أسرع وتحصّلنا على معدّات وأساليب متطوّرة أكثر كلّما خسرنا ارتباطنا بأنفسنا لذلك أنا مهتمّ جدّا بمسألة الارتباط بين مفهومي التسارع والاغتراب.

ماهي الحلول التي تقترحها لمواجهة هذا التسارع وهل تعتقد بأنّ هذا المشكل متفاقم في المجتمعات الغنيّة أو النامية؟

هناك دراسة سويدية تؤكّد أنّ سكّان الدول الغنية يتمتّعون بوقت أقلّ، إذ هنالك علاقة عكسية بين الثريّ والوقت، فكلّما ازدادت الثروة قلّ الوقت، نجد أنّ الإنسان ثريّ لكنّه لم يعد يملك وقتا، أو أنّه يملك وقتا لأنّه لا يملك مالا، هناك دائما ضغط على الناس لكي يسرعوا ويكونوا في حركة مستمرة لتحقيق ازدهار اقتصادي.
عادة ما نلاحظ خارج أوروبا والمجتمع الغربي ما يسمّى بظاهرة عدم التزامن desynchronization حيث نجد عادات وتقاليد لا تنطوي تحت مفهوم التسارع. وتصطدم هذه العادات والتقاليد بواقع الحضارة والتطوّر المجتمعي، لذلك نلاحظ تكوّن صراع أو تصادم بين السياسات القديمة والسياسات الجديدة المتطوّرة. والحلّ بالنسبة إلي ليس الرجوع إلى الماضي وإنكار الواقع المتطوّر لأنّ أمرا مثل هذا هو غير ممكن.
فببساطة أصبح المجتمع خاضعا لما يسمّى بالاستقرار الديناميكي أو النشط Dynamic stabilisation حيث يفرض علينا النظام الرأسمالي البقاء دائما داخل دوّامة التسارع والابتكار الدائم لتقنيات جديدة، لذلك إذا ما أردنا محاربة هذا النظام فسنتسبّب في الإخلال بتوازن عميق. هذا ما يجعلنا نشعر أنّ هنالك تسارع دائم يدفعنا إلى فعل المزيد ويؤدي بنا إلى التسبّب في اغتراب سياسي واغتراب اجتماعي الذي بدوره قادر على التسبّب في خلق أزمة كساد عميقة حيث قد نخسر ارتباطنا بالماضي والمستقبل وخاصّة ارتباطنا بالناس وبحياتنا.

هنالك علاقة عكسية بين الثريّ والوقت، فكلّما ازدادت الثروة قلّ الوقت، نجد أنّ الإنسان ثريّ لكنّه لم يعد يملك وقتا، أو أنّه يملك وقتا لأنّه لا يملك مالا

ويصبح السؤال هنا: ماهو الشكل الوجودي الذي لا يخضع لمفهوم الاغتراب؟ إجابتي عن هذا السؤال هي: يجب أن نتصالح مع فكرة مفادها أنّ وجودنا في العالم خاضع لمبدأ الصدى Resonance يعني أن أكون في تواصل دائم مع جسدي، مع الأشخاص الذين أعيش معهم في المجتمع، مع العادات والتقاليد ومع المستقبل أيضا والطبيعة.
مفهوم الصّدى هو مؤسّسة اجتماعية تجعلنا في ارتباط دائم مع أنفسنا ومع المجتمعات التي هي من حولنا. ومن هنا نلاحظ تغيّر نظرتنا للحياة ككلّ. فلسفيّا نحن نظنّ أنّ الحياة الجيّدة هي في اكتساب أشياء أكثر، نريد أن نصبح أثرى ونريد شراء كلّ ما نراه بحثا عن السعادة. وهذا ما يتسبّب في فقدان السيطرة على حياتنا وفي نفس الوقت نصبح مغتربين أكثر.
لذلك أرى أنّه يجب تغيير واقع الأسواق المالية والتخلّص من هذا الوضع المستمّر نحو تحقيق الأرباح والتسارع الاقتصادي.

تعاقبت تونس حكومات عديدة بعد ثورة 2011 ساهمت في التأخّر الاقتصادي وفي نفور المجتمع وسخطه، وأصبح هذا المجتمع يعبّر عن الحنين لزمن الديكتاتورية التي أسقطها بنفسه، كيف يمكن لبراديغم التسارع أن يفسّر هذا التناقض؟ وهل بإمكانه التأثير على مفهوم الاستقرار الاجتماعي؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعود إلى مفهوم انعدام التزامن بين المجتمعات والأفراد. لا يمكن لكلّ المجتمعات أن تكون على نفس وتيرة التسارع في نفس الوقت. وهذا ينطبق أيضا حتى على أجزاء معيّنة داخل نفس المجتمع، مثلا نجد تطوّرا وتسارعا في منصّات التواصل الاجتماعي ولكن لا نجد نفس هذا التطور في الساحة السياسية. دولة مثل تونس قد تواجه نوعين من انعدام التوازن: أوّلا، قد ينتاب المجتمع التونسي شعور بأنّ التطور الاقتصادي في بلدان أخرى سريع جدّا ما يتسبّب في إحساس بالتراجع، وثانيا هنالك انعدام للتوازن بين الأسواق المالية والديمقراطية والحياة السياسية لأنّ الديمقراطية هي عملية مستهلكة للوقت بالأساس.
لا تعني الديمقراطية استشارة المجتمع وإنّما يجب أن تنصت لكل الأصوات داخل المجتمع. إذن، العملية الديمقراطية هي الاستماع للناس ومحاولة الاجابة عن أسئلتهم وهذا يندرج ضمن مفهوم الصدى ولذلك هي بالفعل عملية مستهلكة للوقت.

ينبع مفهوم انعدام التزامن من الضغط الاجتماعي المستمّر لتحقيق نوع من التطوّر يجعل المجتمع عالقا في حلقة التسارع.

ليس هناك وقت كاف لديمقراطية مصغية بالفعل. ونرى الآن أنّه حتى الديموقراطيات الغربية تخضع لضغط متواصل وكبير مثل ما يحدث في بريطانيا مثلا أو الولايات المتحدة. لذلك حتى الديمقراطيات العريقة تواجه مشكلا كبيرا يتمثل في انعدام التوازن والتناسق. لطالما حلم الناس بنحت عالمهم بأنفسهم من خلال الديموقراطية. ولكن في الحقيقة، العالم يخضع لقانون التسارع والرأسمالية، إذن، القوانين الدولية هي التي تسطّر سياساتنا وتُسطّر حتى الإطار البيئي لهذه القوانين.

ما هي الحلول التي تقترحونها لتحقيق توازن اجتماعي؟

الحلّ بالنسبة الي هو إيجاد طريقة للاستماع وثمّ الإجابة ثم إيجاد الحلول سياسيا. ولكن بما أنّنا نشعر دائما بالعجز تجاه تغيير الواقع فإنّنا نبحث عن قادة أقوياء ليجدوا حلولا لنا من خلال استغلال الجيش مثلا وهذا ما يدعو إليه الشعبويون من السياسيين اليمينيين.
وهذا ماهو الا حلم لإعادة التوازن والتناسق، لذلك اعتبر أنّ التحدي الحقيقي في الدول النامية هو تكوين نسخة من الديمقراطية التي من شأنها أن تصغي وتجيب وتجعل من المواطنين مجتمعا متّصلا فعلا ببعضه البعض وقد أحسسنا بهذا الأمر في ثورة 2011 حيث تجمّع الناس حول قضية واحدة. وهناك اتّصال بالماضي من أجل المضي نحو مستقبل أفضل. ولكن اكتشفنا في ما بعد أنّ هذا الأمر ليس سهلا ابدا.

كيف يعرّف هارتموت روزا المفارقة الذاتية للزمن؟

هناك مفارقتان اثنتان بالنسبة إلى الزمن: المفارقة الأولى تتمثّل في أمر كلّنا نعرفه وهو متعلّق بمعرفتنا بمرور الوقت. مثلا اذا ذهبنا في رحلة ممتعة نشعر بأنّ الوقت مرّ بسرعة لأنّنا استمتعنا بهذا الوقت، وفي الليل عندما نتذكّر ما استمتعنا به في ذلك اليوم نشعر أنّه كان يوما طويلا وحافلا.
الخلاصة أنّ الوقت قصير عندما نستمتع به ولكنّه يصبح طويلا عندما تذكّره. والأمر عكسي إذا ما كان يوما مملّا. في يوم عمل مملّ يمرّ الوقت ببطء شديد ولكنّه في الليل عندما نتذكّره نشعربأنّه مرّ بسرعة.
هذا الأمر متعلّق بمفهوم الصّدى، إذا عشت يوما ممتعا فإنّ هنالك العديد من الذكريات ولكن إذا كان مملّا لا توجد ذكريات ولا يتكوّن لدينا صدى عن ما حدث وهذا النوع من المفارقات قد تمّ تعريفه حتّى من قبل أن أذكره أنا.
أمّا المفارقة الثانية فهي ما أعرّفه بـ”النمط القصير” وذلك، عندما تريد مشاهدة التلفزيون لعشر دقائق وتجلس أمام التلفزيون لعدّة ساعات يمرّ الوقت بسرعة أثناء المشاهدة ولكن عند إطفاء التلفزيون فإنّك لا تستطيع تذكّر شيء لأنّ هذا الوقت المقضي لم يترك صدى داخل ذكرياتك ولم يترك فيك أثرا. إذن، عند قضاء اليوم في مشاهدة الفيديوهات نجد أنّ اليوم قصير وعند تذكّره أيضا يبدو كأنّه بضع دقائق وهذا هو مفهوم “النمط القصير القصير” Short short pattern.

في حواركم مع كلاوديو جالو سنة 2015 ذكرتم أنّكم لا تعتبرون التكنولوجيات الحديثة محرّكا أساسيا للتسارع الزمني ولكن تعتبرون أنّ الانترنت دمّرت بطريقة ما انتروبولوجيا الفضاء The space، ألا ترون أنّ الانترنات جزء من هذه التكنولوجيا؟

أعتقد أنّني تغيّرت قليلا منذ سنة 2015. تعتبر الانترنت والرقمنة بعدا من أبعاد التسارع وهي أيضا مسرّع في حد ذاتها، إنّها تغيّر مفهومنا حول الفضاء والوقت. ولا أقصد هنا الفضاء بالفضاء العام فقط وإنّما نحن البشر نتواجد في عالم وأيضا نحن نتواجد بالنسبة إلى العالم.
وبالفعل، لقد غيّرت الانترنت تفاعلنا مع الواقع. أنا هنا في فيينا وأنا أيضا في تونس في نفس الوقت (في اشارة الى لقائنا عبر تطبيق زوم)، وقد تبيّن ذلك خاصّة مع أزمة كورونا والحجر الصحي الشامل، وأصبح يجب عليّ أن أجلس أمام الكاميرا وأتحدّث مع أصدقاء في تونس والهند والبرازيل في نفس الوقت، وهذا قد يخلق احساسا بالاغتراب عن محيطي المادي، في حين إذا كنّا في نفس الغرفة الآن فإنّنا سنشعر بحرارة الغرفة وسنشتمّ رائحة ما حولنا وسنسمع أصواتا محيطة بنا وبدون أن نتحدّث عن هذه الأمور.

نحن الآن نتشارك هذا التواجد في مكان واحد ونتشارك الأحاسيس لكن البعد الفيزيائي بيننا قد يخلق اغترابا وقد يؤدي هذا الاغتراب أيضا إلى الاغتراب الاجتماعي.

نرى الآن أنّ جلّ التطورات هي تطوّرات تكنولوجية ونجد أنّ التطور الاقتصادي والنمو يتحقق من خلال الهواتف الذكية والوسائل الذكية. وهنالك تطوّر أيضا في العادات والممارسات الاجتماعية. وما دمنا نغيّر في ممارستنا المجتمعية عبر الوسائل الحديثة، فإنّ هذه الوسائل أصبحت مسرّعا لحياتنا كالحوار الذي نقوم به الآن الذي كان يجب عليّ أن أسافر له في فترة لا تقلّ عن يومين أو ثلاثة، أمّا الآن فنحن باستطاعتنا أن نقوم به في ساعتين عبر التكنولوجيا.
لا تجبرنا التكنولوجيا على التسريع وإنّما نحن نلجأ إليها لأنّها تمكّننا من القيام بأشياء في وقت أقصر وأسهل بكثير، لذلك فإنّنا لا نجد أنّ التكنولوجيا هي العامل الرئيسي للتسارع وإنّما أيضا السياق الاجتماعي والثقافي الناتج عنها.

شهدت تونس اجراء استفتاء الكتروني أقرّه رئيس الجمهورية بعد أن حلّ البرلمان وكلّ مؤسسات الحكم تاركا الارادة للشعب -عبر استفتاء الكتروني- ومتخليّا عن أي أجسام وسيطة، كيف يحلّل براديغم التسارع التقني والتسارع في التغيير الاجتماعي هذا القرار؟

هذا القرار لا يمثّل ديمقراطية حقيقية أو تطبيقا لمفهوم الصدى لأنّه لا يوجد فعلا فضاء عام للنقاش وللحوار باستخدام وسائل الإعلام المكتوبة أو المرئية أين يلتقي الناس ويتناقشون فعليا.
لا يمثّل هذا الاستفتاء الرأي العام وإنّما يمثّل فقط الرأي الخاص. الرأي العام وفقا لما يعرّفه هابرماس هو عملية متواصلة لا يمكن قياسها والديموقراطية هي عملية مبنية على الاستماع إلى صدى الشارع وصدى الرأي العام. وعملية الصدى لا تنحصر فقط في الاستماع والإجابة وإنّما تعني أيضا تحويل تغيير وجهات النظر بعد إجراء الحوارات.
يجب على الجمهور أن يتحاور ليطوّر في وجهات النظر وليصل إلى حلّ جماعي. اذا اعتمدنا على استفتاء الكتروني فقط نجد أنّه لا توجد عملية حوار وتبادل وتغيّر في وجهات النظر، يصبح لدينا فقط أسئلة ونتيجة للإجابة عن هذه الأسئلة، هذا قد يؤدي إلى استقطاب وتنافر بدلا من التقاء وحوار وهو أمر خطير لأنّه قد يحرّض على كراهية الآخر.

على ضوء نقدكم للرأسمالية والاستلاب والسلطة، كيف تقرؤون الحرب الاوكرانية-الروسية (تمّ إجراء هذا الحوار قبل حدوث طوفان الأقصى)؟

أريد أن أقول بأنّي حزين جدّا جرّاء هذا الوضع. هذه ليست الحرب الأولى، فمنذ الحرب الباردة مررنا بالعديد من الحروب في العراق وليبيا ويوغسلافيا واليمن وأفغانستان. لطالما كانت هناك حروب. ومن الممكن أنّنا صُدمنا نوعا ما الآن لأنّها تحدث في دولة أوروبية كأكرانيا، الفكرة هي أنّنا من الممكن أن نتجاوز هذه الحروب. الآن نستمع إلى العديد من الدول الاوروبية التي لم تعد تؤمن بالسلم والمعاهدات الدولية، وأصبحنا نسمع دعوات للرجوع للحروب وللقتل بدلا من اللجوء إلى التفاوض والسلم.
في العادة أنا شخص متفائل ولكن هذا الوقت هو من العصور السوداوية والمقلقة، هنا في ألمانيا هناك إحساس وكأنّنا في بداية الحرب العالمية الأولى حيث أنّ الناس هنا متحمّسون لخوض الحرب.
وأظنّ أيضا أنّ هذه الحرب هي ردّة فعل لجائحة كورونا والأزمة المناخية، وهذه المشاكل العالمية تخلق العديد من المفارقات والنقاشات. المقلق في الأمر هو أنّه في هذا العصر أصبح التسلّح للحروب أولوية وأصبحت جرائم الحرب أمرا عاديا وموجودة في كل مكان.

أنا محبط الآن أكثر من أي وقت مضى، أتمنّى أن نصبح واعين أنّنا نعيش في هذا العالم معا ولا يمكن لأيّ دولة أن تبلغ السلام والتطوّر اللازم دون الدول الأخرى.

إذا ما حاول مثلا الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بلوغ الأمن والسلام اعتمادا فقط على أنفسهم لن يبلغوه أبدا. سيكون هنالك دائما ضحايا في الخارج يعانون وسيحاولون تحدّي العالم الغربي. إذن يجب التفكير في تحقيق سلام شامل.
المشاكل الوبائية والمناخية والانترنت هي قضايا عالمية. لطالما كان الاتحاد الأوروبي انانيا ولطالما فكّر في ازدهاره بصفة فردية ولكن إذا ما أردنا تحقيق سلام حقيقي فيجب أن يكون على الصعيد العالمي. نحن في خطر حدوث حرب نووية أو بيولوجية إذا ما استمّر الوضع على هاته الشاكلة.

الكاتب : يسرى بلالي

صحفية، صانعة محتوى، باحثة دكتوراه في الفلسفة الاجتماعية.

تدقيق: وليد الماجري
ترجمة: خبيب درعي
تطوير تقني: بلال الشارني
تطوير تقني: بلال الشارني
تدقيق: وليد الماجري
ترجمة: خبيب درعي

الكاتب : يسرى بلالي

صحفية، صانعة محتوى، باحثة دكتوراه في الفلسفة الاجتماعية.

YosraUpdated