الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
“تزوّجت منذ ثماني سنوات، انتظرُ الى الآن مولودا لم يأت بعد… كان نموّ الجنين يقف في الأشهر الأولى من الحمل نتيجة للإجهاض المتكرّر. مررت بمراحل العلاج مع طبيبي المختصّ، من الحقن الاصطناعي إلى طفل الأنبوب إلى الحقن المجهري لكنّني لم أوفّق في الحمل”.
هكذا بدأت نادية (اسم مستعار) سرد قصّتها لموقع الكتيبة بحرقة تامّة، كانت أعينها تستذكر تارة وتدمع تارة أخرى كأنّها تمشي فوق وجع دفين.
الحُلم يولّد الإصرار، تسترسل نادية، “دفعني حدسي إلى البحث عن العلاج العربي، بقيت أعالج بالأعشاب لمدّة سنتين، ووفّقت في التجربة، حملت بعد سنوات انتظار لكن لم يُقدّر له البقاء. ورغم إجهاضي مازلت أؤمن أنّ الفضل يعود للعلاج بالأعشاب، وسأعيد الكرّة حتى أتمكّن من الإنجاب.”
الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
“تزوّجت منذ ثماني سنوات، انتظرُ الى الآن مولودا لم يأت بعد… كان نموّ الجنين يقف في الأشهر الأولى من الحمل نتيجة للإجهاض المتكرّر. مررت بمراحل العلاج مع طبيبي المختصّ، من الحقن الاصطناعي إلى طفل الأنبوب إلى الحقن المجهري لكنّني لم أوفّق في الحمل”.
هكذا بدأت نادية (اسم مستعار) سرد قصّتها لموقع الكتيبة بحرقة تامّة، كانت أعينها تستذكر تارة وتدمع تارة أخرى كأنّها تمشي فوق وجع دفين.
الحُلم يولّد الإصرار، تسترسل نادية، “دفعني حدسي إلى البحث عن العلاج العربي، بقيت أعالج بالأعشاب لمدّة سنتين، ووفّقت في التجربة، حملت بعد سنوات انتظار لكن لم يُقدّر له البقاء. ورغم إجهاضي مازلت أؤمن أنّ الفضل يعود للعلاج بالأعشاب، وسأعيد الكرّة حتى أتمكّن من الإنجاب.”
سوق البلاط وجهة الأعشاب الطبيعية
تأمل العديد من النساء اللواتي لم تُوفّقن في الإنجاب أن يتحقّق حُلمهنّ بالمداواة عبر “العلاج العربي” وذلك حسب الطرق التقليدية التي رسّخت في الذاكرة علاقة الإنسان بالطبيعة. هذا العلاج يكون الأمل الأخير للنساء اللواتي تتشبّثن به حتى آخر رمق. وكما تجري العادة يوجد نوعان من هذا العلاج : علاجٌ بالأعشاب يُباع في محلاّت سوق البلاط بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة، أو علاج سريّ أكثر ويوجد عند النساء العجائز في كلّ منطقة من ربوع تونس.
“أبلغ من العمر 26 سنة، كُنت عروسا في شهوري الأولى حينما حملت بأوّل جنين لي. وقف نموّ الجنين بعد شهر من الحمل، لكنّنا لم نيأس وانتظرنا محاولات لاحقة. بعد سنة ونصف من الزواج لجأت أنا وزوجي إلى طبيب متخصّص فلم نوفّق وتحوّل حُلمنا إلى سراب”.
في تلك الفترة، كانت نادية قد سمعت عن العلاج بالأعشاب الطبيعية -حسب قولها- المتمثّلة في حبق الظلّ والشندقورة (عجوقة Bugle) وبعض الأعشاب الأخرى. وتُضيف بأنّها حملت إثر تناولها لهذه الأعشاب لكنّ نموّ الجنين توقّف مرّة أخرى في شهره الأوّل. ورغم ذلك فهي مصرّة على إعادة الكرّة سواء عبر شُرب ماء الأعشاب أو عبر الرقية الشرعية أو الحجامة.
تُعتبر الحجامة طريقة للتخلّص من خلايا الدم القديمة والميّتة من الجسد ولا علاقة لها بآليات الإنجاب لكنّ أمل نادية وغيرها من النساء في الإنجاب يُغيّب عنهن التفكير المنطقي فتركضن وراء آمال وأحلام ترتقي في بعض الأحيان إلى أوهام. تُعلّق أخصائية أمراض النساء والتوليد دلندة الشلي على هذه الممارسات بأنّها تنتج عن وصول النساء إلى حالة من اليأس من الحلول الطبية والأمل في نجاح تجربة العلاج العربي، فـ”الحجامة مثلا لا يُمكن أن تكون أبدا طريقة لمعالجة مشاكل الإنجاب أو العقم إلاّ إذا كان الحُلم هو الحافز الوحيد”.
يُعرف سوق البلاط على أنّه الوجهة الأولى للباحثين.ـات عن التّداوي بالأعشاب الطبيعية. هذا المكان الذي يقع في قلب مدينة تونس العتيقة والذي تعود شهرته إلى العهد الحفصي يُعدّ من أهمّ الأسواق التونسية إذ يعتبره البعض “صيدلية مدينة تونس” وملجأ الأطبّاء “الرعوانيين” قبل أن يُصبح مفهوم الطبّ الرعواني مُستهجنا في اللغة العامية.
اشتقّت كلمة الطب الرعواني حسب كتاب “الطبّ العربي التونسي في عشرة قرون” للحكيم أحمد بن ميلاد من فعل رعى أي أكل المرعى، والمرعى هو العشب. فالطب الرعواني بتونس هو الطب العربي بعينه ممزوجا بالطب التقليدي. وقد كان سوق البلاط من الأسواق المُتخصّصة في الطب بالأعشاب التي شيّدتها الدولة الحفصية حسب الباحثة في المعهد الوطني للتراث رجاء عودي، وتُنسب تسميته “بلاط” إلى البلاط الحفصي لكن هناك رواية أخرى تُفيد بأنّ المقصود بالبلاط هو اعتباره من أوّل الأسواق التي بُلّطت وهُيّئت.
تختلف طريقة المداواة بالأعشاب من مكان إلى آخر، فلئن تتّجه النساء في مدينة تونس نحو سوق البلاط متّبعات الموروث الاجتماعي والثقافي لحُكم الحفصيين والعثمانيين وسائرات على خطى خلطاتهن من أجل الإنجاب والمتمثّلة أساسا في الأعشاب الجبلية كالحبق والحلبة والرند وعدّة أعشاب أخرى عن طريق الشُرب، فإنّ الطريقة تختلف قليلا في الجنوب الشرقي التونسي أين تقوم النساء بـ”كبس الحزام” (الضغط على أسفل الحزام) أثناء شُرب مكونات لا تختلف كثيرا عن مكونات الحاضرة وتتمثّل أساسا في كلّ من الكليل، الزعتر، الحلبة، القرنفل، المرمرية، البردقوشة، الشيح ، القرفة، وحبّة الحلاوة وبعض المكوّنات الأخرى.
أمّا جزيرة جربة فقد اتّخذت من معبد الغريبة مكانا لتحقيق الآمال المرجوّة وعلى رأسها أمل الإنجاب، أين تذهب نساء الجزيرة المُسلمات منهن واليهوديات للكنيس حاملات لبيضة كُتب عليها ما يحلمُن في تحقيقه. هذا المعبد والذي هو امتداد للأقلّية اليهودية في تونس يُصبح أيضا مكانا لممارسة طقس الإنجاب. في حين يعتمد الجنوب الغربي على خيرات المدينة من التمور أين يُشرب “ذكّار النخل” كمسحوق يُخلط مع الماء والخلّ.
طبة ومقريناش الطب وموش عجب نداوو بدويات عرب
طبة مقريناش دروس ولا لينا في الطب علوم
احنا نداوو من غير فلوس احنا نبرّو الجسم المهموم
بضمايد من كل زنوس وعرعار جداري مرتوم
نضمّد عالصبع المدحوس نكمّد للجرح المعدوم
يحميه تقوفة مدحوس من اللسعة يبري المسموم
قبار على شمس الروس العلقة للعاقر مفهوم
الفيجل لوكانك منفوس الحرمل للنافس ملزوم
كانك في المعدة مكبوس أم الرّوب نداوي المحموم
وكانك مستبرد منكوس طقلها كليلة مغموم
كانك من وذنك محسوس الرمث يبريها معلوم
وكان عندك ريح المعكوس الشيح يجلي كل هموم
وهالشي مجرب ملموس وكان تحب تعالى للصحراء وجرّب
وطبة مقريناش الطب
الشاعر بلقاسم عبد اللطيف
وزّع سوق البلاط أيضا ثقافة “نبتة شجرة أمّنا مريم” على كامل ربوع تونس، وهي نبتة تُورّد من الحجّ تيمّنا بالسيّدة مريم التي أنجبت عيسى وهي عذراء. هكذا تختلط المعجزات الطبيعية بالوازع الديني وتزيد من شُحنة أمل الإنجاب داخل أنثروبولوجيا الولادة.
عشبة كف مريم أو التوت العفيفة أو فلفل الراهب أو الخزامى البرية، كلها أسماء مختلفة لعشبة واحدة اشتهرت بقدرتها على توازن الهرمونات في الجسم. خلال العصور الوسطى، ارتبطت بالآلهة اليونانية “هيرا” الحامية للمنزل والزواج والإخلاص، وديمتر إلهة الحصاد والخصوبة. اعتُقد بأنّها قادرة على كبح الرغبة الجنسية، فكان يتناولها الرهبان. كذلك استخدمها اليونان لعلاج أعراض الطمث ومتلازمة ما قبل الطمث ومشاكل العقم. أمّا في الطب التركي، فاستُخدمت لمساعدة الجهاز الهضمي ومحاربة للفطريات والقلق.
هذه العشبة موطنها الأساسي في البحر الأبيض المتوسط وآسيا، تتميّز بأنّها شجرة عطرية وجميلة المظهر. تمّ التعرف عليها على مر العصور، حيث نجد وصفاً لها في أعمال أبقراط، ديوسقوريدوس وثيوفراستوس. كما ظهرت كرمز للعفة في ملحمة الإلياذة لهوميروس.
القُطنة: حلم التوأم
“ليس مهمّا ما أستعمله في سبيل إنجاب مولود يخلق ضجّة في البيت”، هذا أوّل ما نطقت به سُندس (إسم مستعار) الأربعينية -المُنحدرة من الشمال الغربي التونسي- والتي يشعّ الأمل من عينيها دون خجل أو تردّد.
“نعم، أنا إمرأة متعلّمة ولي ثقافة واسعة لكنّني أردت أن أثق في حكايات العجائز ومعجزات الجدّات التي لم تتحقّق بعد. أضع القُطنة يوميا كلّما انتهت فترة الحيض وأنتظر كلّ شهر نتيجة إيجابية بعدما مررت بتجربة الحقن المجهري وما يتبعها من حُقن يومية في البطن وتشنّجات أثّرت سلبا على عملي. أنا الآن أقلّ ضغطا وأكثر أملا كما أنّني لا أحمل همّ مساعدة صناديق الضمان الاجتماعي التي تُقصي الأربعينيات من خانة المساعدة على الإنجاب وتحرمهنّ من الحق في تحقيق حُلم الأمومة.”
بكلمات مُختصرة وقاسية تطرّقت سُندس إلى حظوظ الأربعينيات المحدودة مع صناديق الضمان الاجتماعي، فهي تحرمهنّ من علاج تأخّر الإنجاب لأنّ نسبة نجاح التجربة ضئيلة مقارنة بالنساء الأصغر سنّا، كما أنهنّ لا يتمتّعن بحقّ الحصول على الأدوية التحفيزية للإنجاب أكثر من ثلاث مرّات وهي المُحاولات المنطقية للعديد من النساء اللواتي تُعانين التهابات على مستوى الرحم أو النسيج الداخلي. ما يُعيد طرح إشكال تعديل قانون تجميد البويضات الذي لا يُتيح لجميع النساء خاصّة العازبات منهنّ تجميد بويضاتهنّ إلى حين تقرّرن الإنجاب على عكس الرجال الذين بإمكانهم أن يقوموا بحفظ أو تجميد السائل المنوي دون أيّ حاجز قانوني.
صنعت عديد النساء المُسنّات بنية ثقافية متماسكة حول عالم الأمومة المتحقّقة وغير المتحقّقة، هنّ حاملات لأسرار النساء وخالقات لطقوس مُغلقة عن الإنجاب والولادة. هي طقوس تحمل التطبّب والقدسي والديني والكهانة وتحمل أيضا الفرجوي داخل حلقات مُغلقة لا تدخل إليها سوى الحالمات بالأمومة والمسلّمات لسلطة “العجوز الحكيمة”. ومن بين هذه الطقوس نجد العلاج عبر “القُطنة” وهي عبارة عن كرة بيضاء صغيرة مُتكوّنة من قماش أبيض Compresse محشي بأعشاب لا تعرفها سوى اليد التي أعدّتها، وهناك من يعتبر أنّ من بين هذه الأعشاب سائل منوي لرجل متطوّع.
تُوضع القُطنة في المهبل لمدّة عشرة أيام ويتم تغييرها كلّ يومين بعد المُجامعة، وتُعرف في ربوع تونس بتحقيقها لحُلم الإنجاب تحقيقا مضاعفا، إذ تكون نتائجها دائما إنجاب توأم.
تُعلّق الدكتورة دلندة الشلي أخصائية أمراض النساء والتوليد عن المُداواة بالقُطنة بأنّها مصدر للالتهابات والجراثيم، وفي بعض الأحيان تؤدّي إلى نتائج كارثية يُمكن أن تزيد من التسبّب في العقم، لكن ورغم هذه المخاطر الإنجابية والجنسية تُغامر النساء بصحتّهن على أمل نجاح التجربة.
“الصُوفة”: قُطنة الساحل
لا تختلف تقنيات الصوفة في الساحل التونسي عن القُطنة التي تحدّثت عنها سُندس حافرة في خبايا الشمال الغربي التونسي، لكنّ “صوفة” الساحل تنتمي انتماء وثيقا الى طقوس “الحمّام” إذ توضع قطعة القماش الصغيرة المحشوة بالمكوّنات التي “تسخّن الحزام” (تسخين الرحم) في المخيال الشعبي والمتمثّلة في العود والكروية والخزامة وخنفساء الرعد وبعض المكوّنات الأخرى داخل المهبل، ثمّ تبقى طالبة الإنجاب فترة طويلة في “البيت السخون” (الغرفة الدّافئة في الحمّام) ثمّ تعود أدراجها مُحافظة على الصوفة لمدّة 24 ساعة.
تعود المرأة بعد يوم للحمّام لإزالة الصوفة حتى تُحافظ على حرارة الرحم وتقوم بالجماع مع زوجها بعد أن تُمارس هذا الطقس لمدّة سبعة أيام متتالية وبمُتابعة يومية من العجوز التي أعدّت الصوفة، وهذا ما يُعيد للأذهان رمزية رقم 7 التي نجدها حاضرة في أغلبية الطقوس.
زخر الموروث الغنائي التونسي أيضا بدور المزارات والأضرحة في مُساعدة “العاقر” (النساء العقيمات) على الإنجاب. فنجد في نوبة سيدي مسعود الهذيلي التي أدّاها منير الطرودي والشيخ محمد بودية وعدّة فنّانين آخرين مقطعا يقول “يا سيدي مسعود تجيك العاقر وتروّح بالميلود” (يا سيدي مسعود تأتيك العقيمة وتعود بالمولود) وقد ارتبط ضريح سيدي مسعود في المخيال الشعبي بفكّ عقدة العاقر.
كما نجد أغان تطرّقت للنساء اللّواتي لم تُحقّقن حُلم الأمومة مثل أغنية “قالوا عاقر ماتضنيش” (قالوا عاقر لا تُنجب) التي عبّرت عن الإقصاء الاجتماعي للنساء العقيمات، وأغنية “يا جايبة الأولاد علاش، سعد العاقر ما تضناش” (لماذا تُنجبي الأولاد، من حظّ العاقر أنّها لا تُنجب) وهي أغنية غير واضحة المعنى لأنّنا لا نعرف بقية مقاطعها، إذ يكاد يكون تدوين هذه الأغاني منعدما ومخفيّا مع أسرار النساء في ذاكرة الحكيمات كما أنّها أغان متوارثة شفاهيّا وليس من السهل التوصّل إلى حافظاتها.
رغم ما يُشكّله “العلاج العربي / التقليدي” من خطر على الصحّة الإنجابية والجنسية للنساء باعتباره حاملا لمُكوّنات بإمكانها أن تُسبّب التهابات أو حروق للجهاز التناسلي، أو بإمكانها أن تتعارض مع بعض الأمراض المزمنة كالسكري أو ضغط الدم أو الحساسية وبالتالي تؤثّر على الصحّة الجسدية، إلاّ أنّ الجانب الثقافي أو الأنثروبولوجي منها يُوثّق علاقة النساء بالطبيعة وبالأمومة وبتشكيلهنّ لعوالم نسائية موازية حول الخلق والولادة وطقوس العبور داخل دورة الحياة.
هذا المقال هو مُحاولة لقراءة ثقافية لعالم العلاج التقليدي للعقم والمساعدة على الإنجاب، وهو فهم لإصرار النساء على تحقيق حُلم الأمومة لكنّه لا يُشجّع على خوض هذا النوع من التجارب وذلك لخطورتها على الصحّة الجنسية والإنجابية.
هذا المقال هو مُحاولة لقراءة ثقافية لعالم العلاج التقليدي للعقم والمساعدة على الإنجاب، وهو فهم لإصرار النساء على تحقيق حُلم الأمومة لكنّه لا يُشجّع على خوض هذا النوع من التجارب وذلك لخطورتها على الصحّة الجنسية والإنجابية.
الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
الكاتب : يسرى بلالي
صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية