الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس، منتج ومعد برامج تلفزيونية، باحث في علم اجتماع الاعلام

طالب المجتمع الصحفي بعد 2011، بأن تكون الصحافة “سلطة رابعة” لا “سلطة تابعة”، بالتوازي مع تركيز جهود الهيئات والنقابات المهنية على فصل “الإدارة عن التحرير”. لم تكن هذه المسائل في اجندة الفاعلين السياسيين والحكّام أبدا وعبر مختلف الحكومات المتعاقبة، فتيّار بقاء الإعلام جهازا أيديولوجيا وظيفيا لخدمة السلطة، كان أقوى من رهان بناء فضاء تداولي ديمقراطي تكون فيه الصحافة أحد أهمّ دعائمها.

في الحقيقة لا تنفرد السلطة لوحدها بفكرة الإبقاء على الوضع كما هو عليه قبل الثورة. فئة كبيرة من الصحفيين.ـات وخاصة من “النُخب” الصحفية ونجوم البلاتوهات لم تَستطع قطع الحبل السُرّي مع القوى المهيمنة بل إنّها أعادت التكيّف مع المنظومة القائمة، لذلك فقد اصطدم رهان إنجاح الانتقال الإعلامي وتجذير الديمقراطية الناشئة بجدار تطبّع ولائي أدّى إلى المرور من نظام إعلامي تحكمه السلطة نحو منظومة إعلامية تديرها الأحزاب والنقابات لتقاسم تركة النظام السلطوي سابقا أي رئاسة الجمهورية، عوضا عن الاعتصام بحبل أخلاقيات المهنة الصحفية ومواثيقِها.

الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس، منتج ومعد برامج تلفزيونية، باحث في علم اجتماع الاعلام

طالب المجتمع الصحفي بعد 2011، بأن تكون الصحافة “سلطة رابعة” لا “سلطة تابعة”، بالتوازي مع تركيز جهود الهيئات والنقابات المهنية على فصل “الإدارة عن التحرير”. لم تكن هذه المسائل في اجندة الفاعلين السياسيين والحكّام أبدا وعبر مختلف الحكومات المتعاقبة، فتيّار بقاء الإعلام جهازا أيديولوجيا وظيفيا لخدمة السلطة، كان أقوى من رهان بناء فضاء تداولي ديمقراطي تكون فيه الصحافة أحد أهمّ دعائمها.

في الحقيقة لا تنفرد السلطة لوحدها بفكرة الإبقاء على الوضع كما هو عليه قبل الثورة. فئة كبيرة من الصحفيين.ـات وخاصة من “النُخب” الصحفية ونجوم البلاتوهات لم تَستطع قطع الحبل السُرّي مع القوى المهيمنة بل إنّها أعادت التكيّف مع المنظومة القائمة، لذلك فقد اصطدم رهان إنجاح الانتقال الإعلامي وتجذير الديمقراطية الناشئة بجدار تطبّع ولائي أدّى إلى المرور من نظام إعلامي تحكمه السلطة نحو منظومة إعلامية تديرها الأحزاب والنقابات لتقاسم تركة النظام السلطوي سابقا أي رئاسة الجمهورية، عوضا عن الاعتصام بحبل أخلاقيات المهنة الصحفية ومواثيقِها.

تراجع ثقة الأفراد في وسائل الإعلام

تعرض الصحافيون.ـات وعلى امتداد أكثر من قرن، لكلّ ألوان السب والشتم والتشكيك سواء في الأنظمة المغلقة عندما يكون الإعلام جهاز دعاية إيديولوجي للسلطة القائمة بدواعي التحرر الوطني أو بناء الدولة الوطنية، أو حركات الانعتاق من الاستعمار وغيرها من المسوّغات التي “جعلت من الصحافة المكتوبة متغيّرا تابعا للتنمية والدولة”[1]، أو في الأنظمة الديمقراطية، حيث يقوم الإعلام بدوره كسلطة مضادّة وحقل صراع ديناميكي بين الصحفيين والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين وهو ما يكشفه باستمرار التراجع المطرد في ثِقة المواطن في وسائل الإعلام في تونس وفي العالم.

يشير التقرير الأخير لمعهد رويترز لسنة 2024،[2] الى تراجع ثقة الأفراد في وسائل الإعلام، خاصة بالنسبة الى الدول التي عرفت، مثل تونس، انتقالا إعلاميا وسياسيا. فلا تتجاوز نسبة الثقة في وسائل الإعلام في اليونان والمجر الـ 23 %. أمّا في تونس فتُبيّن دراسة حول الصحافة الاقتصادية والاجتماعية قام بها برنامج الاتحاد الأوروبي لدعم الإعلام (النسخة الثانية)، أنّ 70% من التونسيين غير راضين عن المحتوى، و87% يشعرون أنّ المواضيع لا علاقة لها بحياتهم اليومية. ويرى المستجوبون حسب الدراسة ذاتها، أنّ الصحفيين الاقتصاديين والاجتماعيين مُعتمدِون على السلطة السياسية بنسبة 47% والمال بنسبة 46%.[3]

تدعونا هذه المؤشرات وغيرها، كما يقول جاك لوبوهاك جاك Jacques Le Bohec الى إعادة النظر في “الأساطير المؤسسة لمهنة الصحافة والإعلام”[4]، وذلك عبر تفكيك وتحليل الخطاب الإعلامي للفاعل الصحفي والمؤسسات الإعلامية في تونس وتعاملها مع الأحداث ومدى التزامها بالضوابط والمعايير المهنية.

يفاجئنا بوهاك جاك، في كتابه “الأساطير المهنية للصحفيين” “Les mythes professionnels des journalistes”، بالقول بوجود هُوّة سحيقة بين تمثّلات الصحفيين المثالية لمِهنتهم والممارسة على أرض الواقع. هذا البونُ بين التمثُلات والواقع يعكس اعتقادنا في أساطير تؤسّس لخيالنا الجماعي كصحفيين.

من بين هذه الأساطير العزيزة على قلب المهنة يذكُر الباحث، معايير الموضوعية، الشفافية، حرية الصحافة وأسطورة التفريق الصارم بين الخبر والرأي. من خلال هذه المقاربة الحتمانية نَتبيّن، بأنّ نشأة وبناء وصيرورة الصحافة لم تكن أبدا في منأى عن ضُغوط السياسة والمال، وأنّ المعلومة هي نتاج لهذا الصراع التمييزي.[5]

ثالوث الرذائل المقدّسة في الصحافة.. المال والسلطة والجاه

الى جانب العلوم الإنسانية والاجتماعية فإنّ بعض الأعمال الأدبية والسينمائية تطرقت لثالوث الرذائل المقدسة في الصحافة وهي المال والسلطة والجاه.

يتتّبع الروائي الفرنسي بلزاك في روايته “أوهام ضائعة” les illusions perdues خطوات الشاعر الحالم “لوسيان”، في قلب الحياة الباريسية القاسية. ويرسم كيف تتكسَّر أحلام الشاب للتميّز في الشعر وسط مجتمع باريسي فرداني ووضيع. هذه الرحلة المُثقلة بالوعود المتكسّرة، يصوّرها المخرج “كزافييه جيانولي”، في فيلم سينمائي بالعنوان نفسه، حيث يَظهر بطل الفيلم في جلسة خمرية صاخبة أين يقع تنصيبه صحفيا “باسم سوء النية والشائعات والإشهار.”[6]

بعد فشله في الشعر يرتمي لوسيان في أحضان الصحافة حيث يعتقد بأنّ خَلاصه سيكون في امتهان السلطة الرابعة لأنّها تمثّل المال والسلطة والجاه الى جانب الربح السريع والكسب الجيّد. سيحاول بلزاك من خلال هذا الشاب المغامر، كشف خفايا الغرف الخلفية للطباعة والصحافة في باريس والتنديد بـ”أخلاق” الصحفيين، الانتهازيين والوصوليين في وقت بدأت فيه الصحافة المكتوبة بالانتشار والتأثير الكبير في الرأي العام.

ورغم أنّ “بالزاك” ذاته كان يمتهِنُ الصحافة وصاحب جريدة غير أنّ نظرته للصحافة والصحفيين اتّسمت بالعدائية والاحتقار، فهو يعتبر في الرواية ذاتها بأنّ الصحافة هي الجحيم، وسديم من الإثم والكذب والخيانة، لا يمكن أن نخلص منها دون نجاسة.

لم تكن العلاقة بين الرأي العام والصحفيين والنخب المثقفة في تناغم ووئام، وذلك منذ البدايات الأولى للصحافة. يُنظر للصحفي بكونه سجين ثالوث الرذائل المقدسة أي المال والسلطة والجاه. فهو يأتمر بأوامرها ولا يعدو أن يكون عونا Agent، في خدمة الحقلين الاقتصادي والسياسي، كما يفضح ذلك الكاتب الفرنسي موباسان Maupassant، في روايته Bel Ami.

غياب صحافة الجودة

أحدثت إعادة تشكَل المشهد الإعلامي، إبّان الثورة التونسية، إرباكا تنظيميا عمّق اختلال الحقل الصحفي وتعمّق تبعيّته للحقل الاقتصادي بعد أن كانت المِظلّة السياسية المتحكمَ الأوحد في المشهد برمّتهِ.

نتج عن هذه العوامل مُجتمعة ولادةُ مشهد أعرج غابت فيه صحافة الجودة، عدا جيوب مقاومة صغيرة أو ما يُسمّى بالإعلام البديل الذي شكّل قوة ضغط مُهمّة على الفاعلين السياسيين عبر التجدّد والعمل الجماعي والرغبة في التحرّك،[7] أمام اكتساح صحافة القمامة والصحافة الجالسة وسطوة وتأثير أصحاب الرأي والخبراء على النقاش العام. لذلك يتطلّب قلب هذه المعادلة الهجينة واستعادة ثقة الجمهور، حسب المديرة السّابقة لمعهد الصحافة وعلوم الإخبار حميدة البور، التمسّك بأخلاقيات المهنة الصحفية وإنتاج محتوى إعلامي ذي جودة[8].

يكشف الباحث “أوليفي كوش” Olivier Koch9 في دراسته حول دور الإعلام في الانتقال الديمقراطي، عن ملامح الفوضى التي يمكن أن تعقب التحولات الديمقراطية، ومسألة الازمة التي تواجه المهنيين والمؤسسات الإعلامية خلال هذه المراحل. تُفضي هذه التغييرات السياسية الى “فوضى” désorganisation، وهي أزمة معقّدة ومركّبة تقوم بتغيير طريقة اشتغال “الحقل الصّحفي” برمّته وتدفع الصحفيين الى إعادة تأسيس هويّة المهنة الصحفية وتحديد الدور الجديد الذي يجب أن يقوم به داخل المجتمع وذلك وسط حقل ملغّم بـ”النخب القديمة” ويتعرّض باستمرار لمحاولات السيطرة والتوظيف.[10]

الكرونيكورز المفسرون: الفلسفة الإخراجية

يُقدّم وول سوينكا في روايته “المفسرون[11]” لوحة ساخرة عن نخب نيجيرية تحاول جاهدة ان تمنح لحياتها معنى من خلال تفسيرات غريبة في بلد عشّشت فيه مظاهر الفساد والانتهازية. “ساجو” بطل الرواية يخاطب ساعي مكتبه مفسّرا فلسفته الإخراجية “لا صعوبة في الأمر يا مثياس، اسمع وستفهم فلسفة الخراء”، وحينما سأل الساعي كيف تعمل وسط هذا العفن، فأجابه: “آه يا سيدي، إنّ كلّ من يأتون يقولون هذا في البداية، لكنّ صحّتهم تتحسّن وبعد ذلك يتعوّدون”.

اقتبس أصحاب الرُّكن والخُبراء في تونس دور المفسرين، وهو ما دَفع مِهني القطاع، لطرح أسئلة مصيرية بالنسبة الى مستقبل الصحافة في تونس : الى أيّ مدى تُشكّل هذه الوظائف الجديدة خطرا على الإعلام والديمقراطية؟ ثم لمَ تَرك الصحفيون مواقعهم ولم يدافعوا عن قلاعهم خاصّة أنّ هذا الدور الجديد للكرونيكور والخبير أصبح يُسيطر على أجندة المؤسسات الإعلامية عوضا عن اجتماعات التحرير الغائبة تقريبا عن جل المؤسسات الإعلامية؟ كل هذا، وسط منوال اقتصادي هش يُسلّط سيف البطالة على الصحفيين، ومناخ سياسي معاد للصحافة نتج عنه تقزيم لدور الصحفي، وسيادة قانون الصمت.

للإجابة عن هذه الأسئلة، يقدّم الأستاذ المحاضر بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار الصادق الحمامي قراءة عميقة لجذور “سطوة الكرونيكور” على وسائل الإعلام، يُلخّصها في أربع فرضيات[12]. يخصّ الدكتور الصادق الحمامي، بالتحليل الكرونيكور السياسي ليؤكد أنّ حالة الاستقطاب السياسي التّي شهدتها تونس قد ساهمت في توفير الفرص الضرورية لصعود الكرونيكور وبسط سلطته على الصحافة السياسية.

يُرجع الباحث مكانة الكرونيكور في الحقل الصحفي التونسي الى التأثير الفرنسي، وضمور التنوّع في الصحافة السياسية. أمّا ثالث الفرضيات فهي انتشار صحافة منخفضة التكلفة يمكن أن تكون ذات عائدات سياسية جيدة، إذا تمّ استثمار البرنامج وطاقمه لخوض التحالفات السياسية.[13]

أمّا الفرضيّة الرابعة، بحسب الكاتب، فهي عُلوية صحافة الرأي في المخيال الصحفي. ويعود بروز الخبير كمُكوّن شبه قار في البرامج الحوارية الى حاجة الميديا لمتكلّمين إضافة إلى سياسيين على اعتبار أنّ الكلام هو المادة الأساسية التّي تؤثث البرامج الحوارية التونسية وهو الأقل تكلفة إنتاجيّا.

ضمن هذه السياقات العامة، انتشرت الفلسفة الإخراجية كرافعة للكذِب والتزييف، وكعُملة رابحة بالنسبة إلى العديد من الكرونيكور المفسرين، بالتوازي مع ظهور صفة الخبير الموسوعي، الذين وصفهم الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس Boniface Pascal بـ”المثقّفين المزوّرين”[14] الذين لا يُمكن التشكيك في صدقيّتهم مهما كذبوا وخدعوا الرأي العام حتّى أصبحوا يشكّلون تهديدا للإعلام وللديمقراطية.

نحن في واقع الأمر أمام اتّفاق غير معلن يَجمع الخبير والحزب ومُلاّك وسائل الإعلام تحت عنوان زبونية إعلامية تتحوّل الى ثقافة مشتركة بين المانح والممنوح فتوجّه عديد الفاعلين المتطبّعين بها[15] لتقاسم الأرباح الاعتبارية أو المادية.

وكنتيجة لهذه “الكتلة التاريخية” تضمنُ السلطة مكانة داخل وسائل الإعلام من أجل التأثير في الرّأي العام وتوجيه الناخبين. ويحظى الخبير والكرونيكور بالوجاهة الاجتماعية والمكانة الاعتبارية التّي تفتح أمامه أسواق الشّغل في حين يضمن مُلّاك وسائل الإعلام معيار ما يسمّى بالحياد ومفهوم الرأي والرأي الآخر المغشوش، لذلك اعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين[16] أنّ بعض المنابر أصبحت عبارة عن “أرخبيلات إعلامية ناطقة باسم أطراف سياسية ومالية”.

عمر الوسلاتي القاضي والعضو السابق في الهيئة العليا المستقلة للاتّصال السّمعي البصري يؤكّد أنّ الإعلام تحوّل “إلى أداة خاضعة لتحالفات المال والسلطة وأصحاب النفوذ. فبدلًا من أن يكون أداة لخدمة الصالح العام، أصبح وسيلة لتزييف الوعي الجماهيري وارباكه بقضايا هامشيّة تخدم أجندات ضيقة”[17].

خلال هذه الحركة الموسمية “للميركاتو” الإعلامي، للخبراء وأصحاب الرّكن، بين المنابر الإعلامية وعالم السياسة والمال والأعمال، أضحى المنبر الإعلامي الحواري خاصّة السياسي والاقتصادي وحتى الرياضي، وكأنّه منطقة عبور واستراحة للخبراء والكرونيكور من أجل “التّوْزير” أو ضمان مكان تحت قبة البرلمان أو الظفر بمهمّة خبير لدى أحد المنتظمات الأممية أو الجمعيات الرياضية. وبالفعل فقد شهدت السنوات العشر الماضية إعادة توظيف نواب ومسؤولين حكوميين كخبراء وكرونيكورز في المنابر الإعلامية. في المقابل شكًل الإعلام مِنّصة لانطلاق هذه الفئة المهنية نحو عالم المال والسياسة والرياضة.

لقد وَظّفت كل السُلط المتعاقبة في مرحلة الانتقال السياسي في تونس، “كلاب حراسة جدد”[18] “مدللين” لحماية مشروعها والترويج له، مع توفير الحماية لهؤلاء الفاعلين الوظيفيين مهما كانت فداحة الأخطاء المهنية المقترفة والانحرافات المعيارية بحق الأفراد والجماعات. لذلك لا تشكّل الانحرافات الأخلاقية والايتيقية لمهنة الخبير والكرونيكور في تونس حدثا عابرا، بل هي بِناء وتشكُّل عقلاني وواعي فرضته هشاشة ديمومة المؤسسات الإعلامية في تونس (تمويل حكومي أو خاص ريعي وظيفي)، واستراتيجية المتدخّلين في الحقل الإعلامي ورهاناتها الشخصية، وهي استراتيجية تأسّست على قيم الخلاص الفردي والانتهازيّة وغياب ذهنية تعمل من أجل صحافة الصالح العام.

تعكس المؤشرات الكمية والكيفية للإعلام التونسي، تبعات سطوة مهنة الكرونيكور والخبراء على المنابر الإعلامية، إذ كشف بحث اجراه مجلس الصحافة سنة 2023،[19] ارتفاع انعدام الثقة في وسائل الإعلام بسبب المعلقين على الأحداث أو ما يعرف بـ”الكرونيكارات” بنسبة تتجاوز 82 بالمائة، وهو ما انعكس مجملا على انعدام الثقة في وسائل الإعلام التي بلغت 64 بالمائة منهم قرابة 78 بالمائة في صفوف الشباب. ويعتبر أكثر من ثلثي التونسيين أنّ المعلّقين يرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر، بأجندة مالية وسياسية.

انّ تمثّلات التونسيين للصحافة والصحفيين كأعوان تابعين لهيمنة السياسة والمال، لن يؤدّي الى كسر الثقة في وسائل الإعلام فحسب وانّما يَضع الِمهنة برمّتِها موضِع اتّهام وتشكيك كما “يتـمّ إغفـال مـا هـو أساسـي: الهشاشـة الشـديدة لقطـاع يكافـح، جنبـا إلـى جنـب، مـع طبقـة متميـّزة مـن أجـل تغطيـة نفقاتـه وأحيانـا لا يكـون لديـه خيـار سـوى مغـادرة القطـاع”[20].

لعنة الاشهار

سواء تعلّق الأمر بالمواعيد السياسية الكبرى أو بالحدث الاقتصادي أو بحملة ما سمّي بمحاربة الفساد، كانت هذه المحطّات مجالا لمعرفة مدى صدقية مقولات استقلالية الحقل الصحفي (بصفته مجالا لصناعة المعلومة وكشف الحقيقة) عن هيمنة الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين.

مثّل الإشهار السياسي كعبَ أخِيل الجسم (نقطة ضعف) الصحفي التّونسي حيث تجلّت تبعيّة المؤسّسات الإعلاميّة للخطاب السياسي والحزبي واستراتيجية الماسكين بالسلطة خلال كل المحطات الانتخابية التي عرفتها البلاد. تجسّدت هذه التبعيّة عن طريق بعث قنوات تلفزية وصحف موالية للأحزاب أو مرتبطة ارتباطا مباشرا بحرّاس المعبد القدامى أو الإدارة العميقة التي هي امتداد لما قبل الثورة.

يكشف تقرير مراقبة محكمة المحاسبات للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها لسنة2019 [21] ما ذهب إليه الباحث وأستاذ علم الاجتماع المولدي قسّومي، عندما أكّد على “استتباع الإعلام من قبل الأحزاب ولوبيات الاستثمار الإعلامي في شراكة مبنيّة على خدمة المصالح الضيّقة المعطّلة لمقتضيات الانتقال الإعلامي”[22] وخاصّة خلال المحطات السياسية الكبرى والأحداث الاقتصادية والمالية.

كما ساهمت وسائل الإعلام المرتبطة بالأحزاب السياسية وعالم المال والأعمال في رسم ملامح المجالس النيابية وتشكيل الحكومات المتعاقبة على امتداد أكثر من عقد من الزمن وهو ما دفع برئيس الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام، كمال العبيدي، الى القول، بعد ستّ سنوات من انتهاء أعمال الهيئة بأنّ “المنظومة الإعلامية في تونس أصبحت بشكل شبه كلي مُرتهنة للمال السياسي ولوبيات المال، وأصبحت تعمل تحت سطوة الأحزاب المُتنفّذة عن طريق ذات اللوبيات التي تجمع بين الاستثمار في المال والاستثمار في السياسة”.[23]

يدفعنا هذا التقرير إلى التفكير في مدى تهافت مقولات الاستقلالية والحياد والنزاهة الصحفية كما عالجها جاك لوبوهاك Jacques Le Bohec وذلك أمام فداحة عملية انخراط مؤسسات إعلامية وصحفيين في الإشهار السياسي ضمن سياق انتقال ديموقراطي تأسس على شعارات القطع مع الماضي وخاصة مع تبعية الإعلام لهيمنة السياسة والمال.

الأعوان التجاريون

أفضى تجميد أعمال الهيئة العليا المستقلة للاتّصال السّمعي البصري “الهايكا”، إلى تعطّل عملية التعديل والتعديل الذاتي صلب المؤسسات الإعلامية، بعدما مكّنت هذه الآلية التعديلية من كبح جِماح وسائل الإعلام التونسية في السعي المحموم وراء “دكتاتورية” نسب المشاهدة مهما كانت جودة المنتوج المقدّم.

وكنتيجة مباشرة لهذا الفراغ المؤسساتي، فقد تعمّقت تبعيّة فئة كبيرة من الصحفيين التونسيين لسوق الإشهار. ولم تعد بديهيات مِهنة الصحافة مثل الفصل بين الإشهار والإخبار محترَمة، في حين أصبح المرور مباشرة من الإخبار والإعلام الى تقديم منتوج تجاري في شكل إعلانات وتقارير اشهارية الخبزَ اليومي لجلّ المنابر الإعلامية التونسية، والحال أنّ هذه الممارسات تدخل في خانة تضليل المواطن ومغالطة الرأي العام بحسب المواثيق والنصوص المنظمة للقطاع[24].
كما يَمتلك عددٌ كبير من النُخب الإعلامية شركات اتّصال وعلاقات عامّة تعمل مع مؤسسات تجارية أو حكومية هم، مبدئيا، مطالبون بنقدها وتقييمها عند انحرافها عن مبادئ النزاهة والشفافية.

إلى جانب الآثار الكارثية التّي ارتهنت مصير الصحفيين التونسيين بكارتلات كبار المُعلنين فقد انعكس هذا الفراغ التعديلي مباشرة على برمجة القنوات التلفزيونية التي خصّصت جزءا كبيرا من برامجها لبيع مستلزمات المنزل أو ما يسمّى بـ «تلفزيون الشراءات”، وتمّ تخصيص بقية البرمجة للدراما الأجنبية أو التونسية وجزء لتلفزيون القمامة أو ما يوصف ببرامج الترفيه الهابط، وفضاءات أخرى تمّ استئجارها لتقديم منتوج إعلامي مقابل مساحات اشهارية يتكفّل المنتج أو الصّحفي بتوفيرها للمؤسسة الإعلامية.

في هذا السياق يفصل بورديو في كتابه “حول التلفزيون” بين فئتين من الصحفيين، فئة الصحفيين المدافعين عن مبادئ وقواعد المهنة الصحفية، وفئة الأعوان التجاريين المرتبطين بالحقل الاقتصادي والسياسي. ففي حين يستمدّ المهنيون مبادئ الاعتراف المهني من اعتراف زملائهم ومن مصداقيّتهم أمام الجمهور، يسعى الأعوان التجاريون لزيادة مبيعات انتاجاتهم الاعلامية والصحفية التي تدرّ عليهم الأرباح المالية[25].

ربّما تدُلّ عودة صحفيين ووسائل إعلام سريعا للممارسات الزبونية بعد تجميد أعمال “الهايكا” على عدم تشبّع الفاعل الصحفي في تونس بالمعايير التحريرية وأخلاقيات المهنة الصحفية. أمّا تأثير الدّورات التدريبية المكثّفة ورياح الحرية التي هبّت على وسائل الإعلام بعد الثورة فقد بقيت في مستوى سطحي ولم تُلامس في العمق أنماط اشتغال المهنة واستراتيجية الصحفيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية الولائية أو ما يوصف “بالتطبّع الخصوصي” إلى جانب ما يصفه أستاذ علم الإجتماع جلال التليلي، بـ”صعوبات تكييف الفاعل الصحفي مع الواقع الجديد لحرية الصحافة التي استفاق عليها فجأة (…) وذلك دون توفّر الضوابط القانونية والقواعد الديونتولوجية والمسؤولية الاجتماعية التّي كانت دائما مرافقة لحرية الصحافة والإعلام نظريا وإجرائيا”[26] .

ختاما وفي ظل غياب هيئة تعديلية والتغافل الرسمي عن بناء السياسات العمومية لمهنة الإعلام، وسنوات من التطبّع مع الولاءات لمراكز الهيمنة والقرار، ولِدت منظومة مقاولات إعلامية شبه مُنبتّة عن الواقع الاجتماعي للتونسيين ومُرتهَنة بالكامل للحقل السياسي والاقتصادي.

إنّ إعادة تشكيل الفضاء الإعلامي كقطاع مهني يحتكمُ لأخلاقيات المهنة الصحفية، يستدعي تغيير تمثّلات الفاعل الصحفي لدوره في الدّولة والمجتمع في سياق انتقال إعلامي. يكون ذلك أوّلا بتعديل منسوب الإكراهات الاقتصادية والسياسية المتداخلة مع الحقل الصحفي من خلال إصلاحات هيكلية عميقة، لأنّ أزمة الإعلام هي أزمة سياقية في علاقة باضطرابات التحوّل الديمقراطي وأيضا هيكلية تمسّ الإطار التشريعي والمنوال الاقتصادي والنمط الإنتاجي للمؤسسات الصحفية. وثانيا عن طريق تسلّح الصحفيين بثقافة المسؤولية الاجتماعية، وبذلك يُمكن التوفيق بين “مبدأ حرية الصحافة والحقّ في الإعلام والإتّصال وبين الإكراهات الاقتصادية والسياسية التي تؤثّر على اشتغال المؤسسات الإعلامية”.[27]

التوصيات

· إرساء مجلس لأخلاقيات المهنة داخل المؤسسات الصحفية بغاية مراقبة ومتابعة الانحرافات المهنية والعمل على تفاديها.

· بعث خطة موفق إعلامي وحيد لكل وسائل الإعلام مثل التجربة السويدية.

· العمل على تحيين المواثيق والسياسات التحريرية داخل وسائل الإعلام وتضمينها صراحة الفصل بين الإشهار والاخبار وقبول الهدايا ومنع القيام بتغطيات صحفية عندما تكون ممولة من خارج المؤسسة الصحفية.

· العمل على ضمان جودة المضامين الصحفية ببعث صندوق تمويل صحافة الجودة.

· العمل على تشريك الجمهور في إبداء الرأي واقتراح برامج ومضامين صحفية من خلال مجالس المشاهدين والمتابعين وتكون من بين مهامهم التقييم السنوي للبرمجة والمضامين الصحفية.

· إصدار بارومتر لرضا الجمهور عن طريق هيئة رسمية لمتابعة ورصد نسب المشاهدة.

· تعزيز الدورات التكوينية في التعديل والتعديل الذاتي وتعزيز أخلاقيات المهنة الصحفية.

· إصدار كراس شروط لمؤسسة التلفزة يحدّد بدقة مهام المؤسسة وواجباتها تجاه دافعي الضرائب من برمجة و خدمات والتزامات تجاه كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين.

المراجع:

[1] تليلي جلال الصحافة والإيديولوجية التنموية، تحت الناظم التسلطي دار نقوش عربية، تونس 2013،ص101.

[2] تقرير معهد رويترز لسنة 2024، https://larevuedesmedias.ina.fr/rapport-reuters-2024-medias-etablis-et-journalistes-de-plus-en-plus-concurrences، تاريخ الزيارة 10مارس2025.

[3] برنامج دعم وسائل الاعلام في تونس PAMT2، دراسة حول تقييم التغطية الإعلامية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية في تونس فيفري2023، ص81.

[4] Le Bohec Jacques, Les mythes professionnels des journalistes, Editions L’Harmattan , Collection «Communication», Paris, 2000, p55.

[5] Patrick Champagne, « À propos du Champ Journalistique », Questions de communication [En ligne], 10 | 2006, mis en ligne le 01 décembre 2006, consulté le 29 novembre 2021. URL : http://journals.openedition.org/questionsdecommunication/7700 ; DOI : https://doi.org/10.4000/questionsdecommunication.7700

[6] من فيلم Illusions Perdues، للمخرج Xavier Giannoli،فيلم مستوحى من رواية بلزاكHonoré de Balzac “أوهام ضائعة”، illusions perdues

[7] Vincent Goulet, « Cyril Lemieux, dir., La subjectivité journalistique », Questions de communication [En ligne], 21 | 2012, mis en ligne le 18 décembre 2012, consulté le 06 décembre 2021. URL: http://journals.openedition.org/questionsdecommunication/6769 ; DOI : https://doi.org/10.4000/questionsdecommunication.6769

[8]حميدة البور في تصريح لموزاييك، خلال ندوة دولية حول إعادة بناء الثقة في الإعلام، الاثنين 30 أكتوبر 2023، تم الوصول في 8فيفري 2025.

[9] Olivier Koch, « Les médias dans les « transitions démocratiques » : état des lieux et prospective », Questions de communication [En ligne], 28 | 2015, mis en ligne le 31 décembre 2017, consulté le 08 décembre 2021. URL : http://journals.openedition.org/questionsdecommunication/10108 ; DOI : https://doi.org/10.4000/questionsdecommunication.10108

[10] فارمان روسكتان، ” القطاع الخاص والقطاع العام، ومن يمارس السلطة الإعلامية؟”، في الاعلام في مراحل الانتقال السياسي: الحالة السياسية نموذجا، منشورات مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2015، ص131-178.

[11] “المفسرون”، رواية صدرت سنة 1965،للكاتب النيجري الحائز على جائزة نوبل للآداب وول سوينكا، سنة 1986.

[12] الحمامي الصادق، ديموقراطية مشهدية، الميديا والاتصال السياسي في تونس، دار محمد علي للنشر، تونس2022، ص120

[13] الحمامي الصادق، المرجع السابق ص122.

[14] Boniface Pascal, Les Intellectuels Faussaires, Le Triomphe Médiatique Des Experts en Mensonge, Jean-Claude Gwsewitch Éditeur, Paris, 2011 ;

[15] التليلي جلال، إرهاب يغلم اعلام يرهب، مقاربة سوسيولوجية في تقاطع الاستراتيجيات.

[16] لائحة العامة الصادرة عن الجلسة العامة العادية للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين،23 فيفري 2025

[17] تدوينة على صفحته الخاصة على الفايسبوك بتاريخ 15 مارس2025، تم استعمال المقطع بترخيص منه.

[18] Halimi Serge, Les nouveaux chiens de garde Raisons d’Agir Paris, 2005 ;

[19] دراسة جمعت بين الكمي والكيفي أنجزها مجلس الصحافة في سنة 2023، تاريخ الزيارة 5فيفري 2025. https://www.madania.tn

[20] برنامج دعم وسائل الاعلام في تونس PAMT2، تقييم التغطية الإعلامية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية في تونس فيفري 2023، ص60.

[21] من تقرير محكمة المحاسبات، أكتوبر 2020، ص41″ أفضت هذه الرقابة إلى الوقوف خاصة على عدم كفاية آليات ضمان التقيد بالمبادئ الأساسية للحملة الانتخابية فضلا عن تسجيل حالات للإشهار السياسي خصت به بعض وسائل الإعلام عددا من المترشحين وبث سبر للآراء وخرق الصمت الانتخابي.

[22] المرجع السابق، ص602.

[23] قيسومي المولدي، في مواجهة التاريخ، صدى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي في تونس. دار محمد علي للنشر، تونس2021، ص598.

[24] من بين المواثيق والنصوص المنظمة للفصل بين الإخبار والاشهار، ميثاق شرف المهنة للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الذي يدعو الصحفيين الى الامتناع عن إمضاء وإنتاج أعمال صحفية ذات محتوى أو طابع إشهاري دون التنصيص على ذلك كما يمتنعُ الصحفي عن صناعة مضامين إشهارية في صيغة أخبار. اما المرسوم عدد 115 لسنة 2011 مؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، فينص في الفصل 26 على– كل إشهار يصدر في شكل مقال يجب أن تسبقه أو تعقبه عبارة (إشهار) أو (إعلان) أو (بلاغ)، كما يجب أن يقع تقديمه في شكل بارز يميزه عن بقية الأخبار والمقالات، في حين يؤكد كراش الشروط الخاص بالحصول على إجازة احداث قناة او إذاعة تلفزية خاصة على التمييز بوضوح بين المادة الاشهارية وبقية البرامج كما يجب الإعلان عن بداية الإشهار ونهايته

[25] Bourdieu Pierre, Sur la télévision,Liber.Raisons d’Agir,Paris, 1996 ;P12 .

[26] التليلي جلال إرهاب يعلم اعلام يرهب، مقاربة سوسيولوجية في تقاطع الإستراتيجيات، شامة للنشر تونس 2020 ص319.

[27] التليلي جلال، في سوسيولوجيا الصحافة والإعلام الجماهيري، الأصول التأسيسية وتشكل النظريات المعاصرة لأمينة للنشر، تونس 2024،ص254.”نظرية المسؤولية الاجتماعية أسسها كل من بترسون،J.Peterson و سيبيرتF.Sebert وشرام، W.Schramm

كلمة الكتيبة:

إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

كلمة الكتيبة:
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتبة: إيهاب الشاوش

صحفي رئيس، منتج ومعد برامج تلفزيونية، باحث في علم اجتماع الاعلام

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس، منتج ومعد برامج تلفزيونية، باحث في علم اجتماع الاعلام

iheb