الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس وباحث في علم الاجتماع

تولّد خلال السنوات الأخيرة وعي جمعي بضرورة ان تلتزم التلفزة التونسية بإنتاج اعمال ذات جودة. هذه القناعة مبنية على مبدأ حق الجمهور دافع الضرائب والممول الأساسي لمؤسسة التلفزة العمومية، في مضامين مجانية تلبّي انتظارات المواطن في الإخبار والترفيه والتثقيف. هذا يتطلب دون شك ميزانية كبيرة لتأثيث برمجة متكاملة إلى جانب توفر مهارات إبداعية وإنتاجية وإطار هيكلي وتشريعي متطور يواكب تحولات وتجدد الحقل الإنتاجي كمؤلف جماعي يتطلب انخراط وتعاون مجموعة من الفاعلين كالتقني والصحفي والإداري وصانع الديكور.

في الواقع وفي غياب نص واضح وصريح وفق “ماهو معمول به في الأنظمة الديمقراطية يضمن استقلالية الإعلام السمعي البصري العمومي عن السلطة بكافة أشكالها ومستوياتها”، فإننا يمكن أن نحصر ثلاث نصوص أساسية تسطر واجبات التلفزة التونسية في إنتاج المضامين وفق القواعد المعيارية للمهنة وحق الجمهور في اعلام مهني يضمن “الجودة والتنوع والتوازن والموضوعية.” تأتي هذه النصوص في إطار أعمّ وأشمل وهي المراسيم 115 و116 والمواثيق الوطنية والدولية المحددة للمهنة الصحفية ولدور مؤسسات الإعلام العمومي في الخدمة العامة.

الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس وباحث في علم الاجتماع

تولّد خلال السنوات الأخيرة وعي جمعي بضرورة ان تلتزم التلفزة التونسية بإنتاج اعمال ذات جودة. هذه القناعة مبنية على مبدأ حق الجمهور دافع الضرائب والممول الأساسي لمؤسسة التلفزة العمومية، في مضامين مجانية تلبّي انتظارات المواطن في الإخبار والترفيه والتثقيف. هذا يتطلب دون شك ميزانية كبيرة لتأثيث برمجة متكاملة إلى جانب توفر مهارات إبداعية وإنتاجية وإطار هيكلي وتشريعي متطور يواكب تحولات وتجدد الحقل الإنتاجي كمؤلف جماعي يتطلب انخراط وتعاون مجموعة من الفاعلين كالتقني والصحفي والإداري وصانع الديكور.

في الواقع وفي غياب نص واضح وصريح وفق “ماهو معمول به في الأنظمة الديمقراطية يضمن استقلالية الإعلام السمعي البصري العمومي عن السلطة بكافة أشكالها ومستوياتها”، فإننا يمكن أن نحصر ثلاث نصوص أساسية تسطر واجبات التلفزة التونسية في إنتاج المضامين وفق القواعد المعيارية للمهنة وحق الجمهور في اعلام مهني يضمن “الجودة والتنوع والتوازن والموضوعية.” تأتي هذه النصوص في إطار أعمّ وأشمل وهي المراسيم 115 و116 والمواثيق الوطنية والدولية المحددة للمهنة الصحفية ولدور مؤسسات الإعلام العمومي في الخدمة العامة.

تتطلب الأدوار الجديدة للتلفزة التونسية التي رسمتها وضعية الانتقال من الاعلام الحكومي إلى الإعلام العمومي نصوصا ترافق هذا الانتقال الإعلامي، وحوكمة أخرى وطرق تمويل تضمن من جهة استقلالية المؤسسة عن الأحزاب السياسية والسلطة التنفيذية وكل مراكز الضغط، وتضمن ديمومة المؤسسة وحرفية المشتغلين فيها من جهة ثانية.

النصوص القانونية والمعيارية المنظمة لصناعة المضامين وحوكمتها

يعود آخر نص قانوني منظم لعمل المؤسسات العمومية للقطاع السمعي البصري في تونس إلى عام 2007، (قانون عدد 33 لسنة 2007 مؤرخ في 4 جوان 2007 يتعلق بالمؤسسات العمومية للقطاع السمعي والبصري) الذي يحدد مهام التلفزة التونسية كمؤسسة تساهم في النهوض بالإعلام والتثقيف والتعريف بالسياسة العامة للدولة من منطلق مقومات الهوية الوطنية وإثراء المشهد السمعي والبصري وتطويره الى جانب إثراء المضامين الاتصالية السمعية والبصرية من خلال مواكبة الخبر وتوفير المعلومة على المستوى الوطني والجهوي وتسهيل النفاذ إليها ورصد الأحداث داخل البلاد وخارجها.
لا يتضمن هذا القانون تحديدا واضحا لمهام المرفق الإعلامي وحق الجمهور في الإعلام. كما بدت هذه المهام فضفاضة وعامة وبعيدة كل البعد عن المعايير التي حددتها اليونسكو من أجل إعلام الخدمة العامة وصون استقلاليته. من هذا المنطلق يمكن القول بأنّ هذا القانون كما خلصت إليه دراسة لليونسكو “كان بغاية المراقبة اللصيقة للمضامين التحريرية بغاية الدعاية للنظام السابق”.
ويمثل عقد الأهداف والوسائل الموقّع بين الحكومة ومؤسسة التلفزة التونسية (العمومية) في 2019، والذي تم إيقاف العمل به منذ إنهاء مهام المدير العام السابق، أهم نص شامل يحدد التزامات كل من مؤسسة التلفزة والحكومة. وقد جاء العقد في سبعة عناوين وهي الالتزامات العامة ومبادئ المرفق ودعم الإنتاج الوطني وتطوير المضامين وجودتها والتنظيم الوظيفي وتطوير التصرف في الموارد البشرية والدور المجتمعي للمؤسسة وتطوير علاقات التعاون، وطنيا، وإقليميا، ودوليا. أما بقية العناوين فقد خُصّصت لالتزامات الحكومة وآليات المتابعة والتقييم.

بقي تجسيد عقد الأهداف والوسائل على أرض الواقع رهين الإرادة السياسية التي تتحكم في “حنفية” التمويل والوسائل التي بدونها تبقى المؤسسة مرتهنة لأصحاب القرار وتفقد بذلك مبدأ أساسيا في حوكمة المؤسسة وهو الاستقلالية الشيء الذي دفع مجلس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري للتأكيد على “أهمية تنظيم العلاقة مع الحكومة وضرورة دعمها لهذه التجربة من خلال الالتزامات المنوطة بعهدتها بدعم المشاريع من الناحية المالية حسب ما يتضمنه العقد”

وتؤكد وثيقة السياسة التحريرية لمؤسسة التلفزة التونسية المعايير الأخلاقية والتحريرية للمؤسسة والعاملين في إنتاج المضامين، بكل وضوح على أنّ “مؤسسة التلفزة التونسية مرفق عمومي يتمتع بالاستقلالية، هدفه تقديم مادة شاملة، تلبي حق المواطن في إعلام حر ونزيه وشفاف، ملتزم بأخلاقيات ومعايير المهنة.”

كما تحدد السياسة التحريرية لمؤسسة التلفزة حق المواطن في الإعلام بكل تفرعاته من اخبار وتثقيف وترفيه انطلاقا من الضوابط الأخلاقية والتحريرية للمهنة الصحفية والتأكيد على أنّ خدمة الصالح العام من أهم “الخدمات التي تلتزم مؤسسة التلفزة التونسية بتقديمها للجمهور”.
حول مجمل هذه النقاط، يرى عمر الوسلاتي العضو السابق للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في لقائه معنا “أنّ مشاكل تنفيذ عقد الأهداف هو أنه جاء في سياق سياسي معين عندما بدأ الاعلام العمومي يحقق في مكاسب مثل الاستقلالية وتحوله من اعلام حكومي الى اعلام عمومي حقيقي والصحفيون أصبحوا يشعرون أنهم ليسوا ابواقا للسطلة الحاكمة وهذا يمثل عائقا أوّلى في تنفيذ عقد الأهداف باعتبار أن سلطة الاشراف هي رئاسة الحكومة وميزانية المؤسسة تأتي منها وبالتالي لم تكن هناك ارادة سياسية حقيقية لتنفيذ عقد الأهداف”.

“في الحقيقة المسالة لا تتعلق فقط بالإمكانيات وإنما متعلقة بفكرة فك الارتباط من اعلام حكومي إلى الإعلام المبني على خدمة قضايا المجتمع”

عمر الوسلاتي قاض وعضو سابق بمجلس الهايكا

إن هذا الالتزام الأخلاقي ومجموعة النصوص المؤطرة لعمل مؤسسة التلفزة وكيفية اشتغالها من أجل الوصول إلى برمجة متنوعة تعمل على تقديم مضامين ذات جودة تراعي حق الجمهور في الإعلام، لا يمكن أن يستقيم دون توفر حوكمة جديدة للمؤسسة بدءا بتغيير تركيبة مجلس الإدارة حتى يكون منفتحا على القطاعات المهنية وأصحاب الخبرة في قطاع السمعي البصري وفصل مهمة التخطيط والمراقبة التي يتمتع بها الرئيس المدير العام، و”إنهاء نمط الإدارة القائم على شخص واحد يمتلك صلاحيات مطلقة وهو الرئيس المدير العام” كما ذهبت الى ذلك الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال في تقريرها سنة 2012، لأن دور مجلس الإدارة هو “رسم الأهداف الواجب تحقيقها من قبل المؤسسة وتطبيقها من قبل مجلس تنفيذي يرأسه مدير عام تنفيذي” كما يُشير إلى ذلك ماهر عبد الرحمان في كتابه أزمة السمعي والبصري العمومي في تونس.
جمال ساسي، خبير محاسب مختص في المؤسسات العمومية، يقول في حديثنا معه، “المشكل في هذا النوع من المؤسسات التي تكتسي صبغة تجارية، هو انّ مجلس الادارة هو الخصم والحكم في نفس الوقت، خلافا للمؤسسات خفية الاسم مثلما ما هو معمول به في شركات عمومية اخرى او تجارب مؤسسات اعلامية دولية، حيث تجتمع الجلسة العامة أربع مرات في السنة لتراقب اعمال المدير العام وأعمال مجلس الإدارة. والجلسة العامة يعهد إليها اتخاذ القرارات الحاسمة ومنها المصادقة على الميزانية”.
بخصوص مراقبة رئاسة الحكومة والهيئات الرقابية التابعة لها لمؤسسة التلفزة يضيف الخبير المحاسب : “هذه أعمال مناسباتية لأنّ رئاسة الحكومة وهيئاتها الرقابية لا يمكن أن تتواجد بشكل دائم في المؤسسة في حين أنّ الجلسة العامة تراقب بصفة دائمة المؤسسات خفية الاسم كما أن تواجدها في البورصة يضفي عليها أكثر شفافية”.

مفارقات ميزانية الإنتاج

“لا برامج وانتاجات ذات جودة تجلب المشاهد والمستشهر دون مال”، هذا ما يردّده دائما المشتغلون في صناعة المضامين وخاصة في التلفزيون العمومي لأنّ المرفق الإعلامي وخاصة العمومي يجب أن “يتوفر على مصادر تمويل تكون متلائمة مع برمجته والأهداف التي وضعها” وفق تعريف اليونسكو.
تنقسم مصادر تمويل مؤسسة التلفزة الى منحة الدولة ونسبة من معلوم الآداء على مؤسسة الإذاعة والتلفزة ومداخيل الإشهار إلى جانب نسبة قليلة من بيع الأرشيف.
ومن مفارقات ميزانية الإنتاج التي تواجه انتقادات لاذعة من المختصين وكذلك من الرأي العام التونسي هو ارتفاع ميزانية التلفزة مقابل تراجع ميزانية الإنتاج الذي يمثل العمود الفقري لمؤسسات الإعلام السمعي البصري حيث تطورت ميزانية التلفزة العمومية من 55 مليون دينار سنة 2015 الى حدود 64 مليون دينار سنة 2022، فيما انخفضت ميزانية الإنتاج فيها من 11 مليون دينار سنة 2015، إلى حدود 6 مليون دينار منذ عام 2016.
هذه الفوارق الواضحة كانت نتيجة تنقيح بعض من فصول النظام الأساسي الخاص بأعوان مؤسستي الإذاعة والتلفزة (القطاع العام) حيث تمّ التنصيص على إلحاق نسبة من ميزانية الإنتاج إلى ميزانية التسيير وتُصرف كمنح تُسند لأعوان الإذاعة والتلفزة تحت عنوان “منحة العمل السمعي البصري ومنحة الإنتاج” تدفع لهم كل ثلاث أشهر.
عقب هذه التنقيحات توجهت عديد الأطراف والمتابعين للشأن الإعلامي في تونس بانتقادات لاذعة لهذا الإجراء الذي بموجبه أصبح ما يناهز الـ 82% من ميزانية التلفزة يذهب لسداد الأجور والمنح.

“يمكن اعتبار هذه النسب عالية جدا في الإنفاق على الأجور وعقبة رئيسية امام الإنتاج، إذ لا يبقى الا القليل لتطوير البرامج”.

عبد الرحمان ماهر في كتابه أزمة السمعي والبصري العمومي في تونس

هذا الرأي يؤيده هشام السنوسي عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في تصريح لموقع الكتيبة قائلا “لا يمكن تطوير الإعلام العمومي في ظلّ كتلة أجور مرتفعة من إجمالي الميزانية وهو ما يحول دون تطوير المضامين”.

غير أن المدافعين عن هذا الإجراء يعتبرون أن المنح المسندة هي أساسا منح تدخل في عملية الإنتاج بما أن الأعوان وأجورهم وامتيازاتهم هي مكون أساسي في العملية الإنتاجية التي هي من صميم عمل أعوان وإطارات مؤسسة التلفزة التونسية، كما أنها بمثابة تنظيم أو تعديل لعملية إسناد المكافآت والعقود الجزافية التي كانت سائدة من قبل.
من جانبه ينفي كاتب عام الجامعة العامة للثقافة والإعلام التابع للاتحاد العام التونسي للشغل محمد السعيدي مسؤولية النقابات في تحويل جزء من ميزانية الإنتاج للأجور، مؤكدا أن الحكومة هي من اختارت تحويل جزء من ميزانية الإنتاج إلى أجور ومنح.

” عندما انطلقت المفاوضات سنة 2016، لتحسين الوضعية الاجتماعية للعاملين بالمؤسسة لم يكن الهدف تحويل ميزانية الإنتاج إلى منح ولكن السلطة آنذاك، ارتأت أن تحول جزء من ميزانية الانتاج الى اجور وهذا خطأ من الطرف الحكومي الذي لم يكن مستعدا للرفع من ميزانية مؤسسة الاذاعة ايضا التلفزة”

محمد السعيدي كاتب عام الجامعة العامة للثقافة والإعلام

كما أكّد السعيدي على ضرورة إصلاح مجلس الادارة والرفع من ميزانية الإنتاج حتى تكون متساوية مع ميزانية الأجور التي من المفروض أن لا تتجاوز 50 بالمائة لكن ليس عبر التخفيض في أجور الموظفين إذ يجب حسب قوله ” الانطلاق في عملية إصلاح شاملة عبر دعم ميزانية المؤسسة وإدخال إصلاحات صلب إدارة الموارد البشرية وإصلاحات أخرى تنهض بالإنتاج”.
بالتدقيق في تقارير المراقبة سواء تلك التي تمّ إنجازها من طرف محكمة المحاسبات أو من هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية، يلاحظ أن مسألة المكافآت وعقود الإنتاج المسترسلة التي يتمتع بها عدد من أعوان مؤسسة التلفزة كان دائما تثير حفيظة الهيئات الرقابية. إضافة الى ذلك فإن هذه المكافآت لم تكن تستند على دليل إجراءات يضبط بدقة المعايير المتعلقة بتقييم مكافآت الإنتاج التلفزي.

“تبين عـدم تضمّن دليل الإجراءات الخاص بمكافأة الإنتاج تعريفا واضحا لأعمال الإنتاج وضبط دقيـق لكيفيـة المشاركة فيها وهـو مـا ترتّب عنـه تسجيل تجاوزات عـلى مستوى التطبيق. كما لوحظ عدم اعتماد الدقة في ضبط طرق احتساب المكافآت خاصة وأن العديد من المقاييس المعتمدة في هذا الجانب تعتبر غـير موضوعية”

تقرير هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية الصادر في عام 2022

يصعب إذن تحقيق مهام الخدمة العامة كما عرفها اتحاد الإذاعات الأوروبية سنة 2013[، في ظل هذا الإرث البيروقراطي والتشريعي المنبت عن واقع سريع التغير في الميديا تكنولوجيا، وهيكليا وتشريعيا، إلى جانب العجز المالي المتراكم وارتفاع تكلفة الإنتاج الناجم عن ولوج هذه الثقافة الجديدة المرتكزة أساسا على آليات الصناعات الضخمة لصالح ما يصفه إدغار موران ب”كتلة اجتماعية”une masse sociale، (موران إدغار، مجلة روح العصر 196).

استراتيجية الإنتاج

وسط هذا الحقل الإعلامي المفكك والذي هو في مرحلة التشكل واعادة التشكل من جديد، بقيت مؤسسة التلفزة تفتقر الى استراتيجية إنتاج واضحة والى معايير لتقييم مضامين البرامج المقدمة و تكلفة إنتاجها. كما أن عدم الاستقرار على مستوى التسيير كانت له انعكاسات مباشرة على جودة البرمجة.
وفي عديد الأحيان ينطلق مدير القناة في التحضير للبرمجة وإنجاز الديكورات والاتصال بالمتعاونين الخارجين والخبراء ثم يقع استبداله ويعوض بآخر الذي يرمي بكل الذي أنجز في سلة المهملات وهذا يعني أن كل الميزانية التي تم صرفها في بناء البرمجة القديمة قد ذهبت أدراج الريح، وهذا ما من شأنه أن يطرح مسألة أخرى في غاية الأهمية وهي الحوكمة الرشيدة وترشيد إنفاق المال العام.
يمكن القول أن نتائج الأعمال الرقابية لمحكمة المحاسبات لسنتي 2009-2010، حول مؤسسة التلفزة في الجانب الإنتاجي ما تزال سارية المفعول حيث “لا تتوفر لدى المؤسسة معايير واضحة ولا محاسبة تحليلية تمكنها من تقدير كلفة الإنتاج سواء تعلق الأمر بإنتاجها الداخلي أو عن طريق المنتج المنفذ او اقتناء حقوق بث أو التعاقد مع متعاونين خارجين لإعداد برامج لصالح مؤسسة التلفزة” فيتم احتساب تكلفة الإنتاج بصفة جزافية بناء على مقارنة ببرامج وانتاجات مماثلة كانت المؤسسة قامت بإنتاجها في الماضي.
حول هذه النقطة يؤكد جمال ساسي الخبير المحاسب بأن المحاسبة التحليلية لا تكفي وإنما ضرورة يجب إرساء لوحات قيادة وتصرف تقديري une gestion prévisionnelle.
وتخصص ميزانية التلفزة جداول خاصة بالإنتاج تنقسم إلى برامج ثقافية ومنوعات ورياضة وخدمات وغيرها وفي اغلب الأحيان لا يتمكن مديرا القناتين من الاطلاع على الميزانية المحددة لكل نوع من البرامج أو يقوم بتحديد حاجياته حسب الأهداف المطلوبة من المرفق العام.
وتصنف إنتاجات التلفزة التونسية إلى ثماني فئات برامجية حسب ما يوفره الموقع الرسمي للتلفزة التونسية على الأنترنت إذا نجد أقسام البرامج الحوارية والرياضية والثقافية والوثائقية والإخبارية والخدماتية والدينية والمنوعات، ورغم أنه لا يوجد قسم خاص ببرامج الأطفال غير أننا نعثر على هذا النوع من البرامج ضمن قسم برامج الخدمات.
ويمتد بث القناتين الأولى والثانية على امتداد 12 ساعة وهي بذلك بحاجة الى ميزانية ضخمة من أجل تأثيث برمجة متنوعة تلبي أهداف الخدمة العامة وبجودة عالية تراعي شروط الجودة التقنية والتحريرية والمهنية.
وبحكم ضعف الميزانية المخصصة للإنتاج فقد ظل الإنتاج الدرامي يقتصر على شهر رمضان وما فتئ يواجه تحديات كبرى عاما بعد عام بسبب اشتداد المنافسة وارتفاع كلفة الإنتاج والتراجع في المداخيل الاشهارية. وفي الجانب التنظيمي تتطلب الانتاجات الرمضانية والأعمال المناسباتية الكبرى دليل إجراءات واضح يحكم عملية الإنتاج في مراحلها المختلفة بداية من تقبل المقترحات وحتى البث النهائي.
وبسبب كل هذه العوائق بقيت استراتيجية الإنتاج وصناعة المضامين الحلقة الأضعف والخاسر الأكبر في المؤسسة وذلك بالرغم من تغيير الإطار القانوني لمؤسسة التلفزة بما اضفى عليها مزيدا من المرونة في التصرف. كما ساهم غياب الهيكل التنظيمي وادلة الإجراءات وقانون أساسي حديث ،في تعميق جراح إنتاج المضامين ذات جودة تستجيب لتطلعات المواطن التونسي في حقه في الإعلام.
وفي هذا السياق، أكدت الأعمال الرقابية لمحكمة المحاسبات حول مؤسسة التلفزة أن خصوصية المؤسسة كهيكل عمومي موكول إليه القيام بالمرفق العمومي التلفزي “لا يعفيه من وضع استراتيجية إنتاج وتركيز آليات بغية ضمان جودة البرامج المقدمة”. وأوردت محكمة المحاسبات تقريرا لخبير ياباني في ديسمبر 2009، حول الإنتاج بمؤسسة التلفزة يضع الأصبع على “داء” العملية الإنتاجية لمؤسسة التلفزة التونسية.
يعدد الخبير الياباني الذي رافق عملية تركيز التجهيزات الحديثة لمؤسسة التلفزة، نقاط ضعف الإنتاج على مستوى التخطيط والإدارة والحوكمة والابداع، ويؤكد بأن “استعمال التجهيزات الحديثة لا يؤمن بالضرورة إنتاج برامج ذات جودة أكبر، بل يتطلب ذلك تخطيطا دقيقا للإنتاج وإحكام إدارته فضلا عن ضرورة إعطاء أهمية أكبر للإبداع واستعمال تقنيات حرفية جديدة للإنتاج.”
خلاصة القول فإن صناعة مضامين ذات جودة تؤثث لبرمجة تراعي أهداف المرفق العام يتطلب مجموعة مترابطة ومتكاملة من القوانين والتنظيم والهيكلة والمراقبة والتعديل والحوكمة يرفع من مهنية الفاعل الصحفي والمؤسسة الإعلامية حتى تكون في خدمة الجمهور، وهو ما دفع بالنقابة الوطنية للصحفيين الى الدعوة لإصلاح حوكمة الإعلام العمومي ودعم قدراته التنظيمية وموارده البشرية وإمكانياته المالية حتى يكون اعلاما مبتكرا ومجددا.
في الحقيقة، فقد جرت بعض المحاولات لحوكمة عملية الإنتاج وإضفاء الشفافية والنجاعة على العملية مثل تشكيل لجان قراءة للأعمال تكون الأغلبية فيها من خارج أبناء المؤسسة حتى لا تقع المؤسسة في خطأ تضارب المصالح، او من خلال إقرار مجلس تنفيذي توكل اليه مهمة اخذ القرارات الإنتاجية بصفة تشاركية وأيضا من خلال بعث لجنة من مصالح مختلفة بينها إدارة القناة والمالية من اجل مناقشة العروض المالية، لكن هذه التجارب لم تستمر لأنها كانت مرتبطة بمبادرة فردية من المدير العام عوضان تكون وليدة دليل إجراءات واضح.

بدأ تجربته المهنية من “أم المدارس” انطلاقا بالصحافة المكتوبة عبر صحيفة القدس الصادرة بالقدس المحتلّة ليطوف بوسائل إعلام محلية ودولية متنوّعة من صحف ومجلاّت قبل أن يحمل ميكروفون لقناة العربية ثم لقناة الجزيرة في العام 2004.

إعادة إحياء الوكالة الوطنية للنهوض بالإنتاج السمعي البصري

واجهت مؤسسة التلفزة التونسية بعد أحداث 2011، عدة تحديات إنتاجية أثرت بصفة مباشرة على جودة المضامين المنتجة فقد تراكم العجز المالي من سنة الى أخرى ليبلغ الى حدود موفى العام 2010، نحو 36 مليون دينار منها 11 مليون دينار راجعة لما قبل سنة 2008 تتعلق بديون مؤسستي الإذاعة والتلفزة والوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري. كما أثر غياب الإطار القانوني الخاص بالإنتاجات السمعية البصرية على الدور المنوط بعهدة المرفق العام من ترفيه وتثقيف وإخبار، هذا إلى جانب حل وكالة النهوض بالإنتاج السمعي البصري وعدم تعويضها بذراع انتاجي جديد يعمل لصالح التلفزة التونسية ويقوم بإشراك القطاع الخاص خاصة في الانتاجات الضخمة.

لقد اختارت السلطة حينها إحالة أدوار الوكالة لحساب شركة كاكتوس برود لمالكيها المقربين من النظام السابق.

على سبيل المثال فقد تم إلزام التلفزة التونسية باقتناء حق برنامج العاب “احنا هكا” من شركة كاكتيس برود، بمبلغ يفوق 6 مليون دينار أي ما يعادل 51 بالمائة من ميزانية الإنتاج على أساس تغطية كلفته عبر المستشهرين غير ان قيمة الاستشهار لم تتعد 1 مليون دينار مما انجر عنه عجز بأكثر من 5 مليون دينار بعنوان تمويل هذا الإنتاج. في المقابل شكلت الانتاجات الدرامية والبرامجية الضخمة التي كانت تنتجها الوكالة الوطنية للنهوض بالإنتاج السمعي البصري نقلة كمية وكيفية مهمة في صناعة مضامين ذات جودة يمكن لو أمكن لها الاستمرار والتطور في سياق الانتقال الإعلامي، أن تحقق الأهداف المنوطة بعهدة مؤسسة التلفزة أي أن تكون في خدمة الجمهور.
استطاعت الوكالة في ظرف وجيز من تحقيق عائدات اشهارية ضخمة سنة 2004 بـ “حوالي 24 مليون دينار وإنتاج 50 عملا دراميا بين مسلسلات وسلسلات قصيرة” وفق ما يوثقه ماهر عبد الرحمان في كتابه “أزمة السمعي والبصري العمومي في تونس” هذا الى جانب العشرات من المنوعات والسهرات والمساهمة في انتاج الاعمال السينمائية.
يؤكد مختار الرصاع الرئيس المدير العام لمؤسسة التلفزة التونسية سنة 2011، في لقائه معنا أن حل وكالة النهوض بالإنتاج السمعي البصري يعتبر خسارة للمشهد الإعلامي.

“أهم شي بالنسبة الى عملية الإنتاج هو تنظيمها وفق منهجية واضحة. يمكن التعامل مع شركات إنتاج خاصة في شكل منتج منفذ او اقتناء أعمال جاهزة للبث شريطة مطابقتها لكراس شروط واضح لاختيار أعمال كبرى لها قيمة فنية راقية وحسب ميزانية معقولة تراعي إمكانيات المؤسسة. هذا أيضا يسمح بخلق ديناميكية مع القطاع الخاص الذي سوف يجتهد لتقديم الأفضل والسعي لجلب المستشهرين”.

مختار الرصاع رئيس مدير عام سابق لمؤسسة التلفزة التونسية

ولو نظرنا إلى الأعمال التي أنتجتها الوكالة نلاحظ انها متنوعة بين الترفيه والتثقيف والدراما والوثائقيات ما عدى الأخبار والبرامج السياسية والخدماتية التي تنتجها و تبثها مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية تحت الرقابة الضيقة للسلطة السياسية آنذاك.

في هذا الإطار يشير مختار الرصاع بأن إنشاء شركة للنهوض بالإنتاج تابعة لمؤسسة التلفزة لا يجب ان يكرر أخطاء وكالة النهوض بالإنتاج السمعي البصري التي تحولت حسب قوله إلى بؤرة فساد بسبب تدخل مستشار سابق لبن علي في بعض البرامج الصغيرة والتي يمكن لمؤسسة التلفزة أن تنتجها بإمكانياتها الخاصة دون اللجوء للوكالة التي تنتجها بميزانية كبرى إرضاء لبعض المعدين والمعدات المقربين من القصر.
مسألة تنظيم الإنتاج سواء الخدماتي او الاخبار او الاعمال الدرامية والوثائقية الكبرى مهم جدا وله انعكاسات إيجابية على جودة المضامين المقدمة، فالبرمجة ليست عملية ملء فراغات البث اليومي وإنما هي مجموعة من المهارات والاستراتيجيات المتناغمة مع السياسات الاعلامية العمومية للدولة والتي من المفترض أن تنعكس على المخرجات النهائية لما يتلقاه المشاهد والمتابع. فمثلا عندما تراهن القناة الفرنسية العمومية على إعلام القرب والجهات يلمس المتابع ذلك في محتوى البرمجة اين يقع تكثيف الفضاءات الحوارية و الريبورتاجات والبورتريهات لتثمين الجهات وجعلها في قلب الحوار المجتمعي الفرنسي ككل. أيضا لما تراهن الإذاعة والتلفزة العمومية الكندية على شعار التنوع والثقافة فهذا ينعكس على البرمجة ويساهم في تشكل تمثلات الكنديين للمسألة الثقافية والعرقية.

يتذكر من هم في جيلي حينما كنا نتابع القناة الإيطالية الأولى RAI1، في الثمانيات وبداية التسعينات، كيف كانت اجندة هذه القناة مبنية على محاربة المافيا ومقاومة الفساد من نشرات الأخبار إلى الأعمال الدرامية والبوليسية لعل أهمها مسلسل ” La Piovra

يبقى أن نؤكد أن انخراط مؤسسات الإعلام العمومية في التوجهات الكبرى للدولة لا يعني انخراطها في ” الدعاية للسلطة التنفيذية القائمة بهدف التعريف بخيارات الحكومة وبرامجها وإنجازاتها داخليا وخارجيا او تطبيق سياسة الحكومة في مجال الإعلام وفق الخيارات الوطنية”، كما يُشير إلى ذلك الباحث في علم الإجتماع كمال التليلي في كتابه “الصحافة والإيديولوجيا التنموية تحت النظام التسلطي” وانما يجب ان تكون البرمجة خاضعة لشروط صارمة تحافظ على استقلالية المؤسسة تجاه كل الفاعلين في كنف احترام المعايير المهنية للعمل الصحفي وأدوار الإعلام العمومي كما حددتها اليونسكو تكون بمثابة “حجر الأساس لبناء مجتمع حر وديموقراطي ومحاربة الفساد وتشريك المواطن في إدارة الشأن العام وضمان للتنوع والتعددية وأخيرا كشرط للتنمية المستدامة”.

ولتجسيد هذه المبادئ الكبرى، كما تبينه أطروحة دكتوراه للباحثة ترويار بولين فإن تدخل دول مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في سير التلفزيون العمومي ينحصر في فعل الدولة الراعية أو الحاضنة لقيم يتقاسمها المجتمع مثل التضامن الوطني والاندماج المجتمعي وتقليص الفجوة الاجتماعية وذلك عبر إنتاج برامج متنوعة تشمل الاخبار والثقافة والمعرفة والترفيه والرياضة.

تعطل ماكينة الإنتاج

تعطلت ماكينة الإنتاجات الضخمة والقيمة إذا بعد حل وكالة النهوض بالإنتاج السمعي البصري ثم توقف تعامل مؤسسة التلفزة مع مؤسسات الإنتاج المقربة من العائلة الحاكمة، ووجدت مؤسسة التلفزة التونسية نفسها أمام فراغ لوجستي وتشريعي وهيكلي شل العملية الإنتاجية برمتها وحولها الى مبادرات شخصية عابرة تتعلق بهذا المسؤول او ذاك أو عن طريق اجتهادات فردية لصناع المضامين من المشتغلين في الحقل الإعلامي.
وتتمثل أهم العوائق في:

  • خلال سنة 2011، كانت الاستوديوهات الوحيدة الجاهزة للإنتاج والبث هو استوديو الاخبار والاستوديو الافتراضي المتأتي من تجهيزات تم اقتناءها سنة 2009 بقيمة 25 مليون دينار. اما بقية الاستوديوهات فإنها كانت اما فضاءات دون تجهيزات او بتجهيزات ضعيفة لا تسمح لها بالقيام بدورها على احسن وجه. وقد تم تدارك الامر تدريجيا بمناسبة المحطات الانتخابية التي كانت مؤسسة التلفزة التونسية تتحصل من خلالها على ميزانية استثنائية مكنتها من اقتناء بعض التجهيزات لتأثيث الاستوديوهات. كما تمكنت المؤسسة أواخر سنة 2015 من امضاء الجزء الثاني من القرض الياباني الخاص بتأثيث ستوديو 900 الكبير بتقنية HD واقتناء حافلتين للنقل التلفزي والإنتاج.
  • غياب هيكل تنظيمي ودليل الإجراءات الخاص بكل إدارة والعلاقة بينها “من يفعل ماذا؟”
  • عدم تنقيح او تغيير القانون الأساسي لمؤسستي الإذاعة والتلفزة التونسية المصادق عليه بالأمر عدد 1788 لسنة 1999 المؤرخ في 23 أوت 1999 أي عمره تجاوز العشرين سنة.
  • عدم إصدار الأمر الخصوص الخاص بالأعمال السمعية البصرية المضمن في قانون 2007 عدد 33.
  • محدودية الاعتمادات المرصودة للإنتاج وعدم الترفيع فيها بنحو يتناسب مع حاجيات البث بالقناتين.
  • غياب السياسة العمومية الإعلامية في سياق عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية بمسألة تحديث الإعلام العمومي
  • عدم مواكبة آخر المستجدات في الإعلام الجديد وبالتالي إهمال فئة الشباب والاكتفاء بفئة الكهول.

الأمر الخاص بالأعمال السمعية البصرية

لا يأبه الرجل لحال يده اليمنى التي تستدعي تدخلا جراحيا مستعجلا للعودة إلى حركتها الطبيعية فيصرّح بعزمتعتمد التلفزة التونسية في انتاجاتها إلى جانب إنتاج الأخبار والبرامج الخدماتية والبرامج الصغرى، على اقتناء الأعمال السمعية البصرية من تونس والخارج وحقوق بث الأنشطة الرياضية واعتماد صيغة المنتج المنفذ خاصة بالنسبة للمسلسلات الرمضانية و السيتكومات. ونظرا لعدم صدور الأمر الخاص والمنظم لهذه العملية، فإن مؤسسة التلفزة تلتجئ الى اعتماد الأمر المنظم للصفقات العمومية لتنفيذ أو اقتناء انتاجاتها الكبرى.
أما بخصوص بعض المحطات الانتخابية او السياسية او الرياضية الكبرى فإنه يقع تصنيفها كأعمال استثنائية كبرى كما جاء في الفصل 63 من القانون الأساسي المنقح دون تحديد معايير وضوابط وقواعد دقيقة لمعنى “أعمال استثنائية كبرى”.

كما تضعنا مسألة غياب إجراءات خاصة بصناعة المضامين التلفزية أمام مشكل هيكلي، إذ أن الفاعل الإعلامي يشتغل في حقل ابداعي تتفاعل فيه مهن مختلفة وفق معايير “صناعة تحويلية تخضع الى نفس منطق الإنتاج الصناعي وتسويقه” كما يفسره ذلك الباحث جلال التليلي في كتابه “إرهاب يعلّم إعلام يرهّب، مقاربة سوسيولوجية في تقاطع الاستراتيجيات”.
وحتى تكون هذه الصناعة متناغمة مع متطلبات الإنتاج الإعلامي لا يجب إخضاعها “لإكراهات” قانون الصفقات العمومية الذي شكّل ويُشكل عطالة دائمة لجودة المضامين.
لقد تأرجح إصدار الأمر الخاص المنظم لشروط اقتناء حقوق البث وملكية الأعمال السمعية البصرية وتنفيذها لمدة سنوات بين أروقة مؤسسة التلفزة ومصالح رئاسة الحكومة دون أن يرى النور. وقد أرسلت مؤسسة التلفزة آخر نسخة من المشروع المذكور بداية سنة 2012 وهي تنتظر حسب تقرير هيئة الرقابة الإدارية والمالية، ما استقر عليه الرأي بخصوصه.

لقد شكل عدم صدور الأمر الخاص بالأعمال السمعية البصرية رغم مرور ستة عشر سنة على صدور الأمر المتعلق بالمؤسسات العمومية للقطاع السمعي البصري، نقطة استفهام كبرى في علاقة برغبة الحكومات المتعاقبة في إصلاح مؤسسة التلفزة. وقد أدى عدم إصدار الأمر الخاص الى عدم اعتماد مؤسسة التلفزة التونسية على إجراءات تمكن من الحفاظ على مصالحها المالية بالنسبة لهذا النوع من الشراءات.

كما طالبت الجامعة العامة للثقافة والإعلام مؤخرا، بتنقيح القانون الأساسي لمؤسستي الإذاعة والتلفزة وإعادة تركيب مجلس الإدارة للمؤسستين وتسهيل عملهما في علاقة بقانون الصفقات العمومية. وشدّدت الجامعة على ضرورة الإسراع بإحداث قانون خاص بالسمعي البصري العمومي.

الدائرة المفرغة للقنوات

طرحت بعد الثورة مسألة بعث قنوات متخصصة تدعم القناة الأولى والثانية بهدف تنويع المضامين واستهداف الجهات والتوجه نحو تقديم برمجة تستجيب لحاجيات فئات معينة مثل التربية والثقافة أو الرياضية… لكن أيضا بهدف إعادة توزيع الأعوان ورسكلة بعضهم حتى يصبح حجم الأعوان متناسبا مع عدد القنوات.
ارتبطت هذه المحاولات بشخصية المديرين العامين الذين تداولوا على رئاسة المؤسسة، أي أنها لم تكن نتاج استطلاع رأي الجمهور أو دراسة الجدوى الاقتصادية او النظر في الامكانية اللوجستية والبشرية الفعلية للخوض في هذه المغامرة، كما أن الحكومات المتعاقبة لم تتفاعل مع هذه المبادرات. وفي غياب هذه المحددات الكبرى والضرورية لبعث قنوات متخصصة تحولت المحاولات الى مجرد بناة أفكار تنسى بمجرد رحيل المسير الأول للمؤسسة.
تتالت “شهوات” المسيرين بين القناة الرياضية والقناة الإخبارية وقناة الجهات والقناة الثقافية والقناة البرلمانية، وآخر هذه المحاولات كانت إطلاق القناة التربوية بالشراكة مع وزارة التربية بعد موافقة الهايكا على إحداثها. يأتي ذلك “في وقت تشهد فيه القناتين عديد الصعوبات المادية واللوجستية والتنظيمية جعلتها عاجزة في عديد الأحيان في تحقيق “الأجر الأدنى” في تيمة الثالوث المقدس للإعلام العمومي وهو الإخبار والتثقيف والترفيه.

كرونولوجيا القنوات المتخصصة

تم في 2011، بمقتضى الأمر عدد 4249 المؤرخ في 24 نوفمبر 2011 إحداث قناة رياضية متخصصة بحاجيات مادية قدرت وقتها بـ 1.5 مليون دينار. وفي سنة 2015، تم العمل على توقيع اتفاق مع مجلس النواب من اجل ان يتكفل مجلس النواب بإنجاز قناة برلمانية على أن تتكفل مؤسسة التلفزة بالمساعدة في الإنجاز والمرافقة الا ان رئيس مجلس النواب آنذاك محمد الناصر لم يبد حماسة كبيرة للمشروع بما أن مؤسسة التلفزة تقوم بالمهمة على حساب ميزانيتها الخاصة. بعد ذلك تم التفكير في تحويل القناة الثانية الى قناة ثقافية ثم تم تعديل الفكرة نحو إرساء قناة الجهات استنادا على مبدأ أحقية الجهات المهمشة في قناة تهتم بمشاغلهم وتطرح قضايا الجهات التنموية والاقتصادية والاجتماعية.
مختار الرصاع الذي طرح فكرة انشاء اربع قنوات امام INRIC سنة 2011 يقول في حديثه معنا وخاصة حول مسألة صعوبة تمويل هذه القنوات:
“هذه القنوات تساعد على توزيع الأعوان. القناة الرياضية يمكن أن تساهم في تعبئة ميزانية المؤسسة والقناة الثقافية تساهم في التعريف بالمخزون الثقافي الكبير الذي تملكه المؤسسة كما يمكن لها ان تقوم بتغطية كل التظاهرات الثقافية. أما القناة التعليمية فهمي موجهة لكل الناس وخصوصا التلاميذ من أجل تقديم الدروس للمعوزين وغيرهم. وبالنسبة للقناة الدينية فإن المسألة الدينية والمحتوى الديني يجب أن يكون بين أيدي الدولة حتى لا تتلاعب به قنوات أخرى. طبعا هذا يتطلب إمكانيات والدولة إن أرادت ولها الرغبة في القيام بذلك فإن الأمر يصبح ممكنا”.

عاد الحديث حول بعث قنوات متخصصة بأكثر حدة مع الرئيس المدير العام لمؤسسة التلفزة التونسية (سابقا) محمد الأسعد الداهش الذي تعهد أمام الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري خلال جلسة محادثات مع المترشحين سنة 2018 “بتغيير صبغة القناة الثانية لتتحول إلى قناة إخبارية تواكب المستجدات الوطنية والجهوية والدولية وتكون مصدرا موثوقا للأخبار والتحليل والتفسير الموضوعي المهني.

غير أن إحداث قناة إخبارية لم تستند على دراسة جدوى تبين بدقة حاجة الجمهور للأخبار وهل من الاجدى ان نكتفي بإحداث منصة إخبارية رقمية ام فقط نقوم بتطوير قطاع الاخبار الموجود حاليا؟ كما “لا توجد معلومات تؤكّد أن مشروع إحداث القناة الإخبارية التلفزيونية الوطنية قد استند على دراسات تبيّن حاجة التونسيين إلى قناة إخبارية تزوّدهم بالأخبار على مدار الساعة.”

إضافة إلى ذلك فإن إحداث القنوات يدخل ضمن فلسفة السياسات العمومية الإعلامية للدولة بكونها وكما تعرفها منظمة المادة 19 ” المجموعة الموسعة للإجراءات القانونية والتنظيمية التي تعتمدها السلط العمومية ولا يمكنها أن تكون متماشية مع المعايير الدولية سوى عند قياس مدى مساهمتها في تحقيق هذا الهدف العام. وهي أيضا “القرارات التي تقدمها الدولة ذات العلاقة بمجال الإعلام والتي تتصل بوظائف الإعلام واستخداماتها.”
إن فكرة إحداث قناة فرنسا الإخبارية كان نتاج دعم “سياسي” انطلق مساره منذ حكومة ليونال جوسبان في 2001 حتى يتمكن الاعلام العمومي من القيام بدوره على أحسن وجه ويعيد تموقعه على الساحة الإعلامية خاصة بعد خصخصة قناة TF1، وبروز العديد من القنوات الإخبارية العامة التي أضحت تهدد الإعلام العمومي.
رأت هذه القناة الإخبارية النور بعد قرابة 15 سنة حتى لا تكون المعلومة التي يتداولها الجمهور “سلعة” بين يدي القطاع الخاص ناهيك أن شعار القناة كان” نحن لا نقدم المعلومة وحسب، وانما المعلومة الصحيحة Pas Juste l’info, l’info juste .

إن تقديم المعلومة الدقيقة والثابتة هو في صميم اعلام الجودة، وقد كان لنا لقاء مع رئيسة تحرير وكالة الأخبار التي تم احداثها بين غرفة أخبار الإذاعة الفرنسية والقناة الإخبارية، وقد أكدت ان اجتماع التحرير قرر ان يقوم بنشر الأخبار بشيء من التأخير، عوضا عن التسرع في النشر. تبدو الغاية إذن حسب هذا التمشي ” ليست في كسب أكبر عدد من المشاهدين وإنما تقديم مضامين موثوقة وذات جودة” حسب قولها.
من خلال استقراء المحطات الخاصة ببعث قناة إخبارية ، يظهر أن مسار احداث قناة إخبارية بمؤسسة التلفزة التونسية بغاية ” تطوير مهام الاخبار بالمرفق العمومي ” كما جاء في عقد الأهداف والوسائل بين مؤسسة التلفزة والحكومة، لم يكن مسارا تشاركيا لا من داخل المؤسسة و لا حتى بين المؤسسة ورئاسة الحكومة فكان مصيره الفشل.

في هذا السياق، يقول الرئيس المدير العام السابق محمد لسعد الداهش في جلسة امام مجلس الهايكا:

” رغم التقدّم في الالتزامات سابقة الذكر إلا أنّ الإشكاليات المتعلّقة بالمسائل المالية عطّلت مستوى إنجاز المشاريع وهو ما أثر على مدى تقدّم تنفيذ التعهّدات الواردة في عقد الأهداف والوسائل، ومن ذلك تعطُل إحداث القناة الإخبارية التي تبقى كل مراحل إنجازها مرتبطة برصد الاعتمادات المالية”.

هذا يجعلنا نطرح سؤال بديهي حول كيفية التفكير في مشروع والانطلاق في تجسيده دون ان رصد مسبق للتكلفة والميزانية؟

مؤسسة في عين عاصفة الانتقال الإعلامي

إن ما حققته التلفزة التونسية خلال العشر سنوات الماضية لما “يوصف” بالنجاحات في تغطية الانتخابات أو في مستوى البرمجة، يبقى رهين سياقات استثنائية لا ترتبط مباشرة بإصلاحات هيكلية عميقة لها قابلية التطور ومسائلة نفسها باستمرار réfléxive في سياق انتقال إعلامي وديموقراطي متعثر.

ومن هذا المنطلق فإنه لا يمكن تفكيك وقراءة المشهد الإنتاجي لمؤسسة التلفزة بأدوات تحليلية تستند على براديغم الاستقرار الديمقراطي وآليات الصناعة الثقافية والإعلامية وثقافة اقتصاد السوق التي تختلف عن الواقع التونسي حيث أن ” الفاعلين المحليين والمهنيين حديثي العهد بهذه التجربة في الانتقال الإعلامي، يقتصرون على تحسين وضعهم المهني وجودة انتاجاتهم والمحافظة على هامش حرية التعبير المكتسب”.

يرصد أوليفي كوش” (Olivier Koch) الذي اشتغل كثيرا على الانتقال الإعلامي في تونس في دراسة حول دور الإعلام في الانتقال الديموقراطي، أهم مقاربتين اهتمت بعلاقة الإعلام بالتحولات الديمقراطية. المقاربة الأولى تعالج بالدرس دور الإعلام في عملية الدمقرطة ومدى مساهمة المهنيين في تغيير المنظومة القديمة، في حين تقوم المقاربة الثانية على تحليل إصلاح المؤسسات الإعلامية القائمة في ظل عملية التحول الديمقراطي.

ركز الباحث على مسألتين في علاقة بدور الإعلام في ترسيخ الديموقراطية أو إحباط هذه “الديمقراطية الشابة”. المسألة الوظيفية المعيارية للإعلام في مواجهة المنظومة المغلقة القديمة، ومسألة الازمة التي تواجه المهنيين والمؤسسات الإعلامية خلال هذه المراحل والتي تفضي الى “التفكك”، كتلك التي حصلت في تونس، وهي أزمة معقدة ومركبة تقوم بتغيير طريقة اشتغال “الحقل الصحفي” برمته وتدفع الصحفيين الى إعادة تأسيس هُوية المهنة الصحفية وتحديد الدور الجديد الذي يجب أن يقوم به داخل المجتمع.

الخاتمة

حافظت مؤسسة التلفزة رغم المشاكل التنظيمية والهيكلية والمالية التي تعاني منها، على نسبة هامة من ثقة المشاهدين قد ترتفع أو تنخفض بحسب السياق السياسي لكنها تبقى مستقرة عموما خاصة بالنسبة لقطاع الأخبار.
في سبر آراء مؤسسة بر الأمان في شهر سبتمبر 2018، حول ثقة التونسيين من الاعلام، أكد 31 بالمائة من المستجوبين على أنهم يعتمدون على القناة الوطنية الأولى كمصدر رئيسي للأخبار. كما بينت دراسة لبرنامج دعم الإعلام في تونس PAMT1، حول مؤسسة التلفزة التونسية أن التلفزيون العمومي ما زال يحتل مكانة مرموقة لدى التونسيين فهو حسب تمثُلات العينة المُستجوبة “يستطيع لمَ شمل ِالعائلة ويؤسس لعلاقات أسرية وتواصلية صلبها وهو أيضا يوفر مباريات وافلام وتظاهرات ثقافية ومنوعات مجانية ويقوم ببناء الهوية الجماعية l’identité collective”.
يبقى الحفاظ على هذا الرصيد والبناء عليه ممكن إذ استثمرت المؤسسة في الفضاءات الخاصة بالإعلام العمومي في الإخبار والتثقيف ومزيد الاستثمار في صناعة الترفيه الراقي التي لا تنتمي لـ “الاه الخفي” لنسب المتابعة والمشاهدة audimat بحسب تعبير بورديو. هذا يتطلب ” التوجه نحو التحديث وإعادة البناء وفق المقاييس العالمية مع تعزيز الجانب المادي وتوفير الإمكانيات لتطوير العمل بهدف مواكبة الانتقال كما تفسر ذلك الصحفية عائشة غربي في ورقة بحثية نشرها معهد الجزيرة للإعلام تحت عنوان ” الإعلام العمومي والانتقال الديمقراطي التلفزيون التونسي دراسة حالة”.
وحتى يكون الانتقال ناجحا لا بد أن يكون تشاركيا بدأ بالإصغاء للجمهور والتفاعل مع حاجاته ومتطلبات جميع الشرائح الاجتماعية.
إن الحق في الإعلام الذي يتبلور في ما تنتجه مؤسسة التلفزة من مضامين خدمة للمصلحة العامة يجب ان تكون عملية تشاركية بالأساس من داخل وخارج المؤسسة، وهي ليست نشاطا خاصا بالمؤسسة وأعوانها واطاراتها، وإنما صناعة تفاعلية جماهيرية “تعيد تشكيل الرأي العام وأهم التمثلات الجماعية لمعظم الأحداث حسب التراتبية التي يصوغها الفاعل الإعلامي.كما يفسرها الباحث في عام الإجتماع جلال التليلي في كتابه “إرهاب يعلّم، إعلام يرهّب مقاربة سوسيولوجيا في تقاطع الاستراتيجيات”

التوصيات

  • الإسراع بإصدار الأمر الخاص بالأعمال السمعية البصرية كما نص عليه الفصل السابع من القانون عدد 33 من سنة 2007 المتعلق بالمؤسسات العمومية للقطاع السمعي البصري.
  • إحداث إدارة عامة للتكنولوجيات الحديثة والإعلام الجديد ودعمها بالعنصر البشري والتقني المؤهل.
  • تغيير الشكل القانوني لمؤسسة التلفزة التونسية لتصبح شركة خفية الاسم ويتم بموجب ذلك فتح فروع لها مثل المؤسسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري-الوكالة سابقا- والمؤسسة الوطنية للأرشيف السمعي البصري -ina-
  • تنقيح أو تغيير القانون الأساسي لمؤسسة الإذاعة والتلفزة الذي يعود الى نهاية التسعينات وجعله منفتحا على كل التغييرات في ميدان الإعلام
    إحداث مخبر الدراسات والبحوث حول الإعلام لمواكبة المستجدات وإرفاقه بنشرية شهرية رقمية يساهم فيها خبراء ومهنيون من داخل وخارج المؤسسة
  • اصدار كراس شروط لمؤسسة التلفزة يحدد بدقة مهام المؤسسة وواجباتها تجاه دافعي الضرائب من برمجة و خدمات والتزامات تجاه كل الفاعلين السياسيين.
  • إحداث مجلس استشاري للبرمجة متكون من مشاهدين يقع اختيارهم حسب معايير واضحة وشفافة مهمتهم تقديم تقييم سنوي للبرمجة المؤسسة ومقترحات لتطويرها وتعديلها.
  • احداث غرفة تحرير مشتركة بين الإذاعة والتلفزة بهدف تبادل المعلومات والاشتراك في التغطيات و المواكبات.
    احداث منصة تربوية تعنى بالتربية والتعليم في كل القطاعات عوضا عن قناة تربوية.
  • إعادة إحياء القناة الرياضية المحدثة في نوفمبر 2011، اقتناء حقوق بث المسابقات الرياضية الجماعية والعناية بالرياضات الفردية ورياضة المعوقين.
  • تحويل استوديو 900 الخاصة بالمنوعات الى استديو الاخبار والمجلات الإخبارية والنشرة الجوية والمناسبات السياسية الكبرى. مع الاستعانة بفضاء خارجي ضخم يليق بالمنوعات أو بناء فضاء وسط المؤسسة.
  • قيام مؤسسة التلفزة بإسداء بعض الخدمات كالتكوين عبر بعث مركز للتكوين في مهن السمعي البصري وكراء الأستوديوهات وبيع الأرشيف.
    تطوير الإنتاج المشترك مع القنوات الخاصة والجمعياتية والإذاعة الوطنية ومع القنوات العربية والأجنبية.
  • العمل على ضمان جودة البرامج المقدمة بما يساهم في استقطاب المشاهدين وبالتالي في جلب المستشهرين وتنمية الموارد الذاتية للمؤسسة.
  • تفعيل دور الموفق الإعلامي وإنتاج برنامج شهري يرصد ملاحظات الجمهور والاستجابة لها مع الحرص على إشراك الجمهور في النقاش.
  • إصدار بارومتر لرضا الجمهور.
  • تعزيز الدورات التكوينية في التنظيم الذاتي ونشر ثقافته.
كلمة الكتيبة:

مقال بحثي صادر عن "مركز تطوير الإعلام"، في إطار كتاب جماعي بعنوان"حق المواطن في الإعلام أساس الحقوق والحريات الإعلامية" تحت إشراف الأستاذ عبد الكريم الحيزاوي، منشورات مركز تطوير الاعلام، تونس 2023.

كلمة الكتيبة:
مقال بحثي صادر عن "مركز تطوير الإعلام"، في إطار كتاب جماعي بعنوان"حق المواطن في الإعلام أساس الحقوق والحريات الإعلامية" تحت إشراف الأستاذ عبد الكريم الحيزاوي، منشورات مركز تطوير الاعلام، تونس 2023.

الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس وباحث في علم الاجتماع

تطوير تقني : بلال الشارني
تطوير تقني : بلال الشارني

الكاتب : إيهاب الشاوش

صحفي رئيس وباحث في علم الاجتماع

iheb1-150x150