الكاتب : فطين حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

أتّمت الأزمة بين تونس والمغرب العام ونصف العام دون أن تتحرّك العلاقات الراكدة في أعقاب تبادل البلدين استدعاء السفراء للتشاور وبيانات الاتّهام والتوضيح والتفسير ثمّ “الرشق الإعلامي” المغربي على خلفية استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد الأمين العام لجبهة البوليساريو إبراهيم غالي للمشاركة في القمة الثامنة لمنتدى التعاون الإفريقي الياباني”تيكاد” التي انعقدت بتونس في 27 و 28 أوت/أغسطس 2022.

أحدث هذا الاستقبال الرسمي الأوّل من نوعه لممثل الصحراء الغربية عاصفة دبلوماسية بين البلدين. اعتبرت وقتها الرباط أنّ ما تمّ “عمل خطير وغير مسبوق” في حين ردّت تونس أنّها “تستغرب التحامل غير المقبول”، لكن على عكس الحروب التي لا تحدّد فاتورتها وقت المعارك فإنّه في الديبلوماسية ينطلق العدّ منذ اللحظة الأولى.

بعد هذه الفسحة الزمنية المهّمة وحالة الجمود السائدة، يستقيم استقراء هذا “الغموض” المحيط بالعلاقات بين الجمهورية التونسية والمملكة المغربية ومحاصرة كل علامات الاستفهام المرتبطة برقعة الشطرنج الإقليمية ومؤسّساتها ومنها اتحاد المغرب العربي والاتحاد المغاربي “مكرّر” الذي انبثق بشكل غير رسمي في الدورة 7 لمنتدى الدول المصدرة للغاز بالجزائر. غير أنّ التفكيك المرحلي يستدعي أولاّ مراجعة التاريخ باعتبار أنّ العلاقات المغاربية في مجملها بقيت أسيرة ضغائن الماضي.

الكاتب : فطين حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

أتّمت الأزمة بين تونس والمغرب العام ونصف العام دون أن تتحرّك العلاقات الراكدة في أعقاب تبادل البلدين استدعاء السفراء للتشاور وبيانات الاتّهام والتوضيح والتفسير ثمّ “الرشق الإعلامي” المغربي على خلفية استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد الأمين العام لجبهة البوليساريو إبراهيم غالي للمشاركة في القمة الثامنة لمنتدى التعاون الإفريقي الياباني”تيكاد” التي انعقدت بتونس في 27 و 28 أوت/أغسطس 2022.

أحدث هذا الاستقبال الرسمي الأوّل من نوعه لممثل الصحراء الغربية عاصفة دبلوماسية بين البلدين. اعتبرت وقتها الرباط أنّ ما تمّ “عمل خطير وغير مسبوق” في حين ردّت تونس أنّها “تستغرب التحامل غير المقبول”، لكن على عكس الحروب التي لا تحدّد فاتورتها وقت المعارك فإنّه في الديبلوماسية ينطلق العدّ منذ اللحظة الأولى.

بعد هذه الفسحة الزمنية المهّمة وحالة الجمود السائدة، يستقيم استقراء هذا “الغموض” المحيط بالعلاقات بين الجمهورية التونسية والمملكة المغربية ومحاصرة كل علامات الاستفهام المرتبطة برقعة الشطرنج الإقليمية ومؤسّساتها ومنها اتحاد المغرب العربي والاتحاد المغاربي “مكرّر” الذي انبثق بشكل غير رسمي في الدورة 7 لمنتدى الدول المصدرة للغاز بالجزائر. غير أنّ التفكيك المرحلي يستدعي أولاّ مراجعة التاريخ باعتبار أنّ العلاقات المغاربية في مجملها بقيت أسيرة ضغائن الماضي.

استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد الأمين العام لجبهة البوليساريو إبراهيم غالي

استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد الأمين العام لجبهة البوليساريو إبراهيم غالي

في 27 من جويلية/ تمّوز 2021 أي سويعات فقط بعد إعلان ما وصف آنذاك بالتدابير الاستثنائية من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد بمقتضى الفصل 80 من دستور 2014، تداعى على عجل إلى قصر قرطاج وزيرا الشؤون الخارجية للجزائر رمطان العمامرة والمغرب الناصر بوريطة كمبعوثين خاصين محمّل كلّ منهما برسالة شفوية من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون والملك المغربي محمد السادس ليكونا بذلك أوّل مسؤولين عربيين يحلاّن تباعا بتونس ما بعد التحوّل الحاصل في 25 جويلية.

ومع العبارات البروتوكولية الصادرة في البلاغات الرسميّة للبلدان الثلاثة حول اللقاءين المنفصلين شبه المتزامنين مع رئيس الجمهورية التونسيّة، فإنّ الرسالة الجزائرية والمغربية لقصر قرطاج كانت واضحة وثلاثية: تأييد الحاضر، جس نبض الآتي، وضع المقادير الملائمة للجميع في المطبخ الإقليمي المعقّد.

مثّل الحضور المغربي الموازي لنظيره الجزائري في ذلك الوقت قراءة جديدة للمنعطف المفصلي في تونس فقامت الرباط بمقتضى تلك اللحظة بنوع من “المراجعة” السريعة في سباق الاستقطاب الثنائي المفتوح بينها وبين الجزائر نحو دول الجوار وفي أفضل الحالات تجديد ضمان الحياد التونسي في الصداع المشترك المتعلّق بالصحراء الغربية في ظلّ التقارب التونسي الجزائري الواضح منذ صعود الرئيس التونسي قيس سعيد إلى سدّة الرئاسة في العام 2019.

أما العقل الرئاسي التونسي في ذلك الوقت الذي بدأت فيه المواقف الدولية تتقاطر فقد كان يبلّغ ضمنيا الجزائر والرباط أنّ القمّة الديبلوماسية التونسيّة مسطّحة تتّسع للشقيقين فلطالما حافظت تونس على “مسافة الأمان” في المضمار الملتوي للعلاقات مع دول المغرب العربي وخصوصا في ما يتعلق بالمسائل الحدودية والطاقية وقضيتي الصحراء الغربية وجبهة البوليساريو وظلّ فهمها الخارجي للمسألة طيلة عقود ينتهج سياسة الحياد الإيجابي أو ما بات عُرفا تونسيا خاصا بهذه المسألة “نساعد ولا نصعّد”.

بعد أشهر كانت “زعزعة” الرئيس قيس سعيّد للتوازن المألوف في احتواء تناقضات الجيران في تجمع -التيكاد- والردّ المغربي الآني شديد اللهجة، خروجا عن “التاريخ المشترك” في العلاقات التي لم تشهد أزمة جفاء عنيفة منذ أزمة 1961 إلى حين 1965 حين اعترفت تونس البورقيبية بدولة موريتانيا الوليدة التي كانت الرباط تعتبرها “حقّا تاريخيّا” في خارطة المغرب الكبير.

وإثر ما يزيد عن ستة عقود ها أنّ العلاقات بين تونس والرباط تتحرّك مجدّدا خطوة في الفراغ: لا قطيعة تامة أو علاقات طبيعية منذ أكثر من 18 شهرا أو وجود ما يشير إلى بوادر “تطبيع”.

موقع الكتيبة حاول التواصل بشكل متزامن وعبر عديد القنوات المباشرة وغير المباشرة مع وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ومصادر دبلوماسية رسميّة من البلدين لسبر أغوار هذه الأزمة الصامتة المتواصلة وتقصي حالة اللاّحركة لكنّ هيئة التحرير اصطدمت باستراتيجية “الصمت المطبق” من الجانبين وإن اتفقا خارج دائرة التصريحات الرسميّة بأنّ السياق الحالي لا يسمح بأي “تشويش”.

يدفع هذا الصمت المتبادل إلى طرح سؤالين جوهريين أوّلهما متصل بالمغزى من إعلان الصمت المشترك بين البلدين بدل البحث عن تذويب الأزمة والثاني متعلّق بمن سيكون المبادر بالذهاب في مسار طويل تقتضيه كل العودة إلى الوضع الطبيعي؟

زيادة عن هذا، تأتي القمّة الثلاثية التونسيّة ـ الليبيّة ـ الجزائريّة، لتعمّق منحى التساؤلات الواخزة حول مستقبل اتحاد المغرب العربي الذي قد ينتهي به الأمر إلى كيان جديد هجين مقضوم من الكيان التاريخي الذي دخل منذ سنوات في حالة موت سريري.

الصمت فضيلة أم شريك في الأزمة ؟

يُرجع المؤرخ التونسي عدنان منصر استراتيجية الصمت المتّبعة من البلدين إلى ما وصفه بالمكابرة وهي “إضافة إلى سياقات أخرى تجعل الطرفين يجمّدان أي مساع في طريق استئناف العلاقات الوديّة”، وفق تقديره. أمّا محمد الغالي أستاذ العلوم السياسيّة بجامعة القاضي عياض بمراكش فيحيلها إلى افتراضات أساسها “غياب وسيط موثوق به يتوفّر على الإمكانيات التي تساعده على لعب مثل هذا الدور خصوصا أنّ المسألة تتعلق بأمور سيادية”، بحسب ما جاء على لسانه.

وبما أنّ الديبلوماسية لا تخضع لقوالب أوتوماتيكية وقت الأزمات فإنّه يمكن بعد ردّة الفعل الآنية توخّي ما يعرف بالدبلوماسية الخلفيّة أو اتّخاذ موضع الانتظار والترقّب. فالصّمت الديبلوماسي في الحالة التونسية المغربية بعد كل هذا الوقت لم يمس العمق بقدر ما استدعى أدوات للحفاظ على حالة اللاّقطيعة واللاّصفاء وهو أمر له أسبابه للجانبين.

وقد يكون هذا “الصمت التكتيكي” أيضا مرحلة من مراحل تجميع الأفكار واستخلاص النتائج أو قراءة السياقات المختلفة لكسره في اللحظة المناسبة، لكنّ النقطة الإيجابية في ما يحصل وفق المؤرخ الجامعي عدنان منصر هي “عدم وجود تصعيد عدائي بينهما ما سيسهّل العودة الطبيعيّة للعلاقات عندما يحين الوقت”.

فخيار “التمترس” الحالي سبقته تصريحات متفائلة أطلقها وزير الشؤون الخارجية التونسي نبيل عمار في حوار نشر بصحيفة الشروق التونسية بتاريخ 11 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 حين أفاد أنّه “ليست هناك قطيعة مع المغرب الشقيق أو عداوة” تاركا مسألة عودة السفيرين إلى عامل الوقت، لكنّ العودة إلى الوضع الهادئ وانتهاء هذا الوقت المفتوح على الصّمت يبقى رهين “تصحيح الرئاسة التونسية لهذه الزلّة الديبلوماسية” استنادا إلى الدكتور محمد غالي.

استخدم وزير الشؤون الخارجية نبيل عمار في نفس التصريح عبارة “لا نلتفت إلى الوراء” في إشارة إلى ما حدث بين البلدين، غير أنّ الالتفاتة “إلى الأمام” باتت مشروطة منذ قرابة سنتين من الطرف المغربي باعتبار أنّ هذه القضية أصبحت “النظّارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم والمعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”، وفق صريح خطاب للعاهل المغربي محمد السادس في 20 أوت/آب 2022.

إنّ وضع الرباط ملف الصحراء كـ”وحدة قيس” للعلاقات وتكييف المواقف من الدول في هذه المسألة المتشعبة على قاعدة “من ليس معنا فهو ضدّنا” عقّد مناخ الثقة المهتزّ أصلا بين تونس والمغرب منذ سنوات لعوامل رافقت تحولاّت موجة الربيع العربي وصولا إلى مرحلة الرئيس قيس سعيد فالدبلوماسية التونسية حسب القائم عليها نبيل عمار بدورها قد دخلت “موجات أخرى وبحرا آخر”.

هذه الرؤية الديبلوماسية المختلفة للبلدين جعلت تونس كمن يمشي فوق “حبل سيرك” أوّله الجار الجزائري ونهايته عند الشقيق المغربي وأيّ عملية جذب لهذا الحبل ستفقد عامل التوازن لصالح طرف ما وفق المعادلة الفيزيائية. فرغم التفهّم الديبلوماسي التونسي التقليدي لحساسيّة المغاربة من ملف الصحراء حسب الأستاذ عدنان منصر فإنّ “الرئيس قيس سعيد ذهب في طريق معاكس تماما لهذا التفهّم”.

ويضيف منصر بنوع من التخمين بأنّ “سعينا لإرضاء الجزائريين حتّى على حساب توازناتنا الدبلوماسية التقليدية هو السبب في ما حصل وإزالة الرئاسة من موقعها الرسمي لصور استقبال الرئيس قيس سعيد الأمين العام لجبهة البوليساريو كان نوعا من الاعتراف بأنّنا أخطأنا التقدير”. أمّا ما يراه جيدا بعد كل هذا فهو عدم مضي تونس “خطوات إضافية في هذا الطريق الخاطئ”.

غير أنّ القمّة الثلاثية التي تعقد بتونس بتاريخ الاثنين 22 أفريل/ نيسان 2024 قد تحرّك الكثير من المياه الراكدة في الفترة القادمة على ضوء تقدير الموقف المغربي من هذه التحركات الدبلوماسيّة التونسيّة الجزائرية الليبيّة.

النافذة المتاحة دبلوماسيا

يترك عدم إعتراف تونس بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية وجبهة البوليساريو خيطا رفيعا بين تونس والرباط رغم القطيعة المتواصلة والاستنتاجات الواضحة أنّ تونس قيس سعيّد لا تتقاسم مع المغرب جملة مواقف وآراء حول قضايا مختلفة تنطلق من الإقليمي المغاربي نحو الشرق أوسطي فالمتوسطي فالإفريقي وصولا إلى الدولي.

يجب التذكير أيضا أن “البرود” في العلاقات على مستوى القمّة قديم جديد إذ لم يتبادل الرئيس قيس سعيّد والعاهل المغربي أيّ زيارة في حين تعود آخر زيارة لرئيس تونسي للمغرب إلى العام 2012 أجراها محمد المنصف المرزوقي في إطار جولة إقليمية له للمنطقة مقابل زيارة للملك محمد 6 لتونس في نهاية ماي/أيار 2014 وقبل ذلك تعود زيارة الرئيس السابق زين العابدين بن علي إلى المغرب إلى مارس/ آذار 1999 أي في عهد العاهل الراحل الحسن 2.

لم تمنع حالة “الموت السريري” الديبلوماسي بين البلدين من فتح واجهات بديلة، فبعد النفي المغربي السريع لتصريح أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط بعد أيام قليلة من اندلاع الخلاف بين الرباط وتونس حول تسوية الأزمة نقلت صحيفة “الصحيفة” المغربية المستقلّة في عددها الإلكتروني الصادر بتاريخ 2 ماي/أيار 2023 استنادا إلى مصادر دبلوماسية تونسية دخول “دول عربية ومشرقية على خط إصلاح ذات البين بين الدولتين وتقريب وجهات النظر على غرار المملكة العربية السعودية ومصر” دون النجاح في ذلك.

بدا تبعا لهذا الفشل أنّ بعض البلدان في حالة رضا بالوضع القائم باعتباره “الأقل سوءا” ما يؤشر إلى تواصل الدبلوماسية الباردة بين الرباط وتونس بعد الوساطات الفاشلة فحسب المؤرخ عدنان منصر “لا تبدو الأمور ناضجة لنجاح مثل هذه الوساطات أو لتغيّر الوضع قريبا باعتبار أنّ الرئيس قيس سعيد قد اختار أن يكون إلى جانب الجزائر في حلف واحد”.

أمّا أستاذ العلوم السياسية بجامعة مراكش محمد الغالي فيفيد بجزم كامل أنّ “العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها إذا لم تتراجع الرئاسة التونسية عن موقفها من قضيّة الصحراء التي تعتبرها الرباط قضية وحدتها الترابية”.

ومن الواضح أنّ تشعّب الوضع الإقليمي والدّولي بعد العدوان الصهيوني على غزّة وتشابك لعبة المحاور يعتبران عاملين مهمين في تأجيل الحلول. فتونس المحسوبة على محور “الممانعة التطبيعية” تبتعد بمسافة عن محور “نادي التطبيع” بعد أن دخلت المغرب اتفاقية إبراهيم منذ ديسمبر/كانون الأوّل من العام 2020 وطبّعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني على غرار عدد من الأقطار العربية الأخرى إثر “اقتلاع” اعتراف الكيان وحليفه الاستراتيجي الولايات المتحدة بمغربية الصحراء وهنا باتت الجزائر أكثر التصاقا بجارتها الشرقية وتخوّفا من تمدّد التطبيع نحو عمقها الاستراتيجي عبر البوابتين التونسية والموريتانية.

تأسيس اتحاد المغرب العربي في 17 فيفري 1989

تأسيس اتحاد المغرب العربي في 17 فيفري 1989

الاتّحاد الجامد

لا يختلف الشارع المغاربي العادي عن الشارع السياسي في وصف اتّحاد المغرب العربي بالجهاز الوحدوي الميّت منذ العام 1994 تاريخ عقد آخر قمّة مغاربية بتونس لدرجة أنّ ذكرى تأسيسه في 17 من فيفري/شباط 1989 مرّت دون أي “ضجيج” بعد أن كان قادة دول الاتّحاد يحيونها بروتوكوليا كحالة عاطفية أكثر منها استراتيجية.

أصبح هذا الاتّحاد على هامش الخارطة الدبلوماسية للدّول المغاربية الخمس منذ سنين. وكشفت الأزمتان الجزائرية المغربية ثمّ التونسية المغربية عن معاكسة دُوَله لحركة التاريخ والجغرافيا، فالأرقام التالية تؤكد أنّه “كيان ثقيل”:

مساحة تقدّر بـ5 ملايين و782 كلم مربع وهي تشكلّ زهاء 42 % من مساحة الوطن العربي. وديمغرافيا تقدّر بما يفوق 110 مليون نسمة، فضلا عن بحر من الثروات الطاقية والباطنية كالبترول والغاز والفسفاط واليورانيوم وإمكانيات زراعية وبشرية كبيرة.

وفيما يكرّر الرئيس التونسي قيس سعيّد تمسكّ تونس باتحاد المغرب العربي “كخيار استراتيجي”، نعى الملك المغربي رسميّا هذا التكتل منذ فيفري/شباط 2017 بالقول إنّ “شعلته قد انطفأت”. أمّا أمين عام المنظمة الإقليمية نفسها التونسي الطيّب البكوش فقد نقل في بيان مقتضب حال اندلاع الخلاف بين تونس والمغرب أنّ هذه الأزمة “فاجأت مؤسّسته” لينضاف الامتحان العسير في العلاقات بينهما إلى “ما يعيشه الاتحاد من أزمات” بل إنّ الرجل تحدث في مفارقة ديبلوماسية أنّه كان يأمل في “نصح تونس للقيام بمبادرة صلح وساطة للأزمة الجزائرية المغربية”.

يتّفق منصر والغالي في تحليلهما على “موت الاتحاد” بدل استعمال عبارات التجمّد أو العطالة أو الفشل فيشدّد الأوّل على أنّه “لا يمكن بناء شيء قابل للبقاء في حضور أزمة مستمرّة بين المكوّنين الرئيسيين فيه وهما الجزائر والمغرب”.

ويؤكّد الثاني أنّ هذا الاتحاد “لم يقم بأية مبادرة وظلّت كل دولة داخله تبحث عن مصلحتها باستقلالية عن بقية دول الاتحاد الأخرى”.

من الثابت أيضا أنّ الجزائر والمغرب اللتين تعيشان ضغوطا وإكراهات داخلية وخارجية قد مدّدتا لوقت إضافي صراعهما المعلن بالزجّ بدول أخرى في هذه “المعمعة ” إن لم يكن بشكل مباشر فإنّه بشكل غير مباشر وذلك من طبيعة التغيرات في التعاطي النفعي للدول مع مصالحها، بحسب الدكتور الغالي.

القمة الثلاثية التونسية الجزائرية الليبية

القمة الثلاثية التونسية الجزائرية الليبية

الاتحاد المغاربي مكرّر

سبّب الجوار الجغرافي المعقّد في الخارطة المغاربية ما يشبه “إعادة الانتشار” لدوله بمنطق تحالفات وقرب جديدين. ففي القمة السابعة للدول المصدّرة للغاز التي عقدت بداية شهر مارس/آذار بالجزائر انبثق ” تجمّع” جديد وصفه عدد من المحلّلين بأنّه بناء فوق ركام اتّحاد المغرب العربي، في حين اعتبره آخرون عزلا ناعما للمغرب عن امتداده الشرقي في الشمال الإفريقي.

هذا التجمّع جاء في أعقاب مشاورات جمعت الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون والرئيس قيس سعيد ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي وتمّ فيها الاتفاق على عقد اجتماعات دورية كل 3 أشهر بداية من تونس كما أشّر لتقارب تونسي جزائري “غير مسبوق” سيُصعّب على الأقل في الوقت الراهن بوادر أي انفراج في العلاقات التونسية المغربية ولتشكيل حلف ثلاثي يمنح تونس والجزائر وطرابلس وضعا متقدّما يتعلق بالجوانب الحدودية والاقتصادية والأمنية ويزيد من ثقلها شمالا باتجاه الجار المتوسطي الأوروبي وجنوبا نحو العمق الإفريقي.

وقد قفز أمن الحدود والإرهاب إلى أعلى أولويات السلطات التونسية والجزائرية ما بعد 25 جويلية الى حدّ حديثهما عن “تعاون استراتيجي أمني تنموي اقتصادي سياسي” بكلّ ما تحمله هذه المفردات من كلمة و قطع الشك باليقين حول ما رشح من تأويلات بشأن الغياب المتطابق لتونس والجزائر عن الاجتماع 35 للجنة التوجيهية للمبادرة (5 زائد 5 دفاع) المنعقد بالرباط في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إذ فهمت مقاطعة قيادات الأركان العسكرية للبلدين لأحد أهم مساحات التشاور والتفاهم المتعدد الأطراف بين ضفتي غرب المتوسط حول القضايا الأمنية الحارقة على أنّها توجّه كامل الأركان لحفر خندق مشترك يستقطب بحتميّات الجغرافيا الحدودية والأمنية ليبيا.

يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش محمد الغالي بشأن التجمّع الثلاثي المنبثق من أرض الجزائر أنّ “للرباط منافذ أخرى فهي مطلّة على المتوسط والمحيط الأطلسي وبعد اقتناعها بأنّ الاتّحاد المغاربي لا يمكن أن يقدّم أيّ إضافة اشتغلت على إفريقيا وبنت شراكات مهمّة حتى باتت تقريبا المستثمر الأول في القارة”. في حين يذهب المؤرخ عدنان منصر إلى اعتبار أنّ “المغرب بذهابه في طريق التطبيع لم يعد فعليا معنيا بالمشروع المغاربي وأصبح جزءا من حلف سياسي وعسكري واقتصادي يقع محوره خارج المنطقة بل قدّم فرصة للجزائريين لمحاولة إقصائه تماما من أيّ دور محوري في السياق المغاربي ومبرّرا لتجميع التونسيين والليبيين مع الجزائريين في مشروع بديل يستثني وجوبا المغرب”.

ويستخدم منصر في قراءته لطبيعة التحوّلات توصيف وجود حرب ديبلوماسية حقيقية في المنطقة “يرى فيها قيس سعيّد مكان تونس إلى جانب الجزائر”، فضلا عن وجود صراع جزائري مغربي ذي امتداد إفريقي خصوصا عبر البوابة الموريتانية.

أمّا غالي فيعتبر أنّ السباق نحو العمق الإفريقي “بدأته بعض الدول ومنها الجزائر دون أن تستطيع إلى الآن أن تؤسّس لأيّ محور باعتبار أنّ ما تقدّمه لا يرتقي أو يمكن أن يؤسّس لشراكات صلبة ومستدامة”.

من المهم الإشارة إلى أنّه سبق لصيغ تنسيق ثلاثية وثنائية أن تمّت بأشكال مختلفة وتحت تسميات متعددة بين الدول المغاربية الخمس لكنّها بقيت نظريا إمّا لإنعاش اندماج ظلّ غائبا أو لتوازن حسابات وإن كان وزير الشؤون الخارجية نبيل عمار قد صرّح سابقا ردّا عن مثل هذه التقارير أنّ “تونس ليست حديقة خلفية لأحد”.

اليوم التالي

يترك البلدان (تونس والمغرب) “شعرة معاوية” إلى الآن رغم ارتدادات الخلاف العلني، فاستدعاء السفراء يصنّف في التقاليد الدبلوماسية بدء استجماع كل ملامح القطيعة الموضوعية وشكلا احتجاجيا قد يوجب بدوره خفض التمثيل الدبلوماسي من دولة معيّنة مثلما هي أزمة الحال بين تونس والمغرب من درجة السفير وهي الدرجة الديبلوماسية الأعلى إلى القائم بالأعمال وهي الأدنى من ذلك.

التخفيض في الدرجة الدبلوماسية التمثيليّة لا يعني بالضرورة إغلاق البعثات الديبلوماسية أو سحب طواقم الموظفين لكنّه خط ديبلوماسي استباقي لما “هو أسوأ ” من البلد الثاني أو نوع من الفرملة لأي خطوة من الجانبين.

فمنذ مغادرة السفيرين بقيت التمثيليات الديبلوماسية والقنصلية للبلدين تشتغل كعادتها بـ”صفر مشاكل” لتأمين كلّ الخدمات الخاصة بما يزيد عن 5000 تونسي في المغرب و6000 مغربي بتونس ومتابعة المصالح الاقتصادية والاستثمارية والتعليمية وبدأ نسق المشاركات الرياضية وفي المؤتمرات والملتقيات المنظمة يعود بين البلدين وإن بشكل محتشم أمّا الأهم فهو عدم دخول “رأس المال” ومشاريع الاستثمار والشراكة من الجانبين في حسابات الربح والخسارة السياسية.

فالمملكة المغربية تعدّ الشريك الاقتصادي الثالث لتونس في المنطقة المغاربية والعربية بحجم تبادل تجاري يبلغ 338 فاصل 7 مليون دولار استنادا إلى بيانات مغربية نشرت في العام 2021 بينها 215 فاصل 7 مليون دولار هي واردات للمغرب من تونس مقابل صادرات تقدر بنحو 123 مليون دولار. ويؤطّر كل هذا التعاون اتفاق تبادل حر منذ العام 1999.

أما تقنيّا فإنّ اللجنة العليا المشتركة بين البلدين ظلت تعقد اجتماعاتها بشكل دوري إلى حدود توقفها منذ العام 2017 مرة أخرى تاريخ عقد آخر اجتماع بسبب “صداع” فقرة في مسودة البيان الختامي المشترك تتعلق بـ”مغربية الصحراء” رفض الوفد التونسي تدوينها ما أدّى في أعقابها إلى إلغاء لقاء كان مبرمجا بين العاهل المغربي محمد 6 ورئيس الحكومة يوسف الشاهد بداعي عارض صحي أصاب ملك المغرب.

إنّ حركة الاقتصاد ولو كانت دون المأمول حسب تصريحات سابقة لمسؤولي البلدين بإمكانها أن تحقق اختراقا في جدار الصمت الديبلوماسي شريطة إرفاقها بـ”إشارات إيجابية جدّا” على هامش اللقاءات الإقليمية الدولية الكبرى على عكس ما حصل من إهدار فرص إذابة الجليد في أحداث قريبة كالقمّة الصينية العربية في الرياض والقمّة الأمريكية الإفريقية في واشنطن لكنّ الآمال تعقد أكثر الآن على القمة العربية الثالثة والثلاثين المرتقبة بالبحرين أواسط ماي/أيار القادم علّها تفلح في تسوية الأزمة.

من المهمّ الإشارة إلى أنّ دراسات أكاديمية وتقارير متخصّصة تشير إلى أنّ كلفة اللامغرب (عدم الاندماج المغاربي) تقدر سنويا بفقدان ما لا يقل عن 1 بالمائة في النمو الاقتصادي لكل بلد من بلدان المغرب الكبير.

في الأثناء تمضي تونس في تحالفها القوي والمثير للجدل مع الجزائر لاسيما بعد التحاق ليبيا بهذا التحالف الإقليمي المغاربي المنقوص من خلال عقد قمّة جديدة بدعوة من الرئيس قيس سعيّد ما قد يزيد في تغذية الأزمة مع المغرب.

قمّة ثلاثية لن تزيد -بحسب خبراء مستقليّن- سوى في تعميق الجفاء التونسي المغربي وتهميش دور موريطانيا القوّة الناعمة الصاعدة في المنطقة المغاربية برمّتها التّي تواجه تحديات متفاقمة وخطيرة في الآن ذاته بفعل المخاطر الارهابيّة و تأثيرات التغيّرات المناخية والهجرة غير النظامية والأزمات المستوردة من الصراعات العالميّة مثل الحرب الروسيّة الأوكرانيّة والعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزّة، فضلا عن التقلّبات التي تشهدها منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.

فهل يكون هذا التقارب الثلاثي الوثيق والذي تجسّد في قمة قرطاج التشاورية مقدمة لبناء كيان جديد على أنقاض اتحاد المغرب العربي؟

الكاتب : فطين حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

إشراف:محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
غرافيك : منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري

الكاتب : فطين بن حفصية

رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية

fatine